باب الميم - محمد بن يزيد بن الكبر بن عمير

محمد بن يزيد بن الكبر بن عمير

ابن حسان بن سليمان بن سعد بن عبدالله بن يزيد بن مالك ابن الحارث بن عامر بن عبد الله بن بلال بن عوف بن أسلم وهو ثمالة، ثم ينتهي إلى السد بن الغوث وهو الأزد، فهو الثمالي الأزدي البصري أبو العباس النحوي اللغوي الأديب، ولد بالبصرة يوم الاثنين غداة عيد الأضحى سنة عشرة ومائتين، وأخذ عن أبي عمر الجرمي وأبي عثمان المازني وقرأ عليهما كتاب سيبويه، وأخذ عن أبي حاتم السجستاني وأخذ عنه أبو بكر محمد بن يحيى الصولي ونفطوية وأبو علي الطوماري وغيرهم. وكان إمام العربية ببغداد وإليه انتهى علمها بعد طبقة الجرمي والمازني، وكان حسن المحاضرة فصيحاً بليغاً، مليح الأخبار ثقة فيما يرويه كثير النوادر فيه ظرافة ولباقة، وكان الإمام اسماعيل القاضي يقول: ما رأى محمد بن يزيد مثل نفسه، وإنما لقب بالمبرد لأنه لما صنف المازني كتاب الالف واللام سأل ه عن دقيقه وعويصه فأجابه بأحسن جواب، فقال له المازني: قم فأنت المبرد بكسر الراء، أي المثبت للحق، فحرفه الكوفيون وفتحوا الراء. وقال السيرافي: سمعت أبا بكر بن مجاهد يقول: مارأيت أحسن جواباً من المبرد في معاني القرآن فيما ليس فيه قول لمنقدم، ولقد فاتني منه علم كثير لقضاء ذمام ثعلب. وقال السيرافي أيضاً: سمعت نفطويه يقول: مارأيت أحفظ للأخبار بغير أسانيد من المبرد وأبي العباس بن الفرات. وقال المفجع البصري: كان المبرد لكثرة حفظه للغة وغريبها يتهم بالوضع فيها، فتواضعنا على مالة نساه عنها لاأصل لها لننظر ماذا يجيب؟ وكنا قبل ذلك تمارينا في عروض بيت الشاعر:

أبا منذر أفنيت فاستبق بـعـضـنـا

 

حنانيك بعض الشر أهون من بعض

فقال البعض: هو من البحر الفلاني، وقال آخرون: هو من البحر الفلاني، وتردد على أفواهنا من تقطيعه: القبعضنا، ثم ذهبنا إلى المبرد فقلت له: أيدك الله تعالى ما القبعض عند العرب؟ فقال هو القطن، وفي ذلك يقول الشاعر:

كان سنامها حشى القبعضا

قال: فقلت لأصحابي ترون الجواب والشاهد، فان كان صحيحاً فهو عجب، وإن كان مختلقاً على البديهة فهو أعجب وحكى ابن السراج قال: كان بين المبرد وثعلب ما يكون بين المعاصرين من المنافرة واشتهر ذلك حتى قال بعضهم:

كفى حزناً أنا جميعاً بـبـلـدة

 

ويجمعنا في أرضها شر مشهد

وكل لكل مخلص الود وامـق

 

ولكنه في جانب عنه مـفـرد

نروح ونغدو لاتزاور بـينـنـا

 

وليس بمضروب لنا يوم موعد

فابداننا في بلدة والـتـقـاؤنـا

 

عسير كلقيا ثعلب والمـبـرد

وكان أهل التجميل يفضلون المبرد على ثعلب. وفي ذلك يقول أحمد بن عبد السلام:

رأيت محمد بن يزيد يسمـو

 

إلى الخيرات في جاه وقدر

جليس خلائف وغذى ملـك

 

وأعلم من رأيت بكل أمـر

وفتيانية الـظـرفـاء فـيه

 

وأبهة الكبير بغير كـبـر

فينثر إن أجال الفكـر درا

 

وينثر لؤلؤاً من غير فكـر

وكان الشعر قد أودى فأحيا

 

أبو العباس داثر كل شعـر

وقالوا: ثعلب رجل عـلـيم

 

وأين النجم من شمس وبدر

وقالوا: ثعلب يفتي ويملـي

 

وأين الثعلبان من الهزبـر

وهذا في مقالك مستـحـيل

 

تشبه جدولاً وشلاً ببحـر؟

وقال بعضهم في المبرد وثعلب:

أيا طالب العلم لاتجهـلـن

 

وعذ بالمبرد أو ثـعـلـب

تجد عند هذين علم الـورى

 

فلا تك كالجمل الأجـرب

علوم الخـلائق مـقـرونة

 

بهذين في الشرق والمغرب

 وقال أبو بكر بن الأزهر: حدثني أبو العباس المبرد قال: قال لي المازني: بلغني أنك تنصرف من مجلسنا فتصير إلى مواضع المجانين والمعالجين فما معنى ذلك؟ فقلت: أعزك الله تعالى، إن لهم طرائف من الكلام قال: فأخبرني بأعجب مارأيت من المجانين، قال فقلت: صرت يوما إليهم فمررت على شيخ منهم وهو جالس على حصير قصب فجاوزته إلى غيره فقال: سبحان الله تعالى أين السلام؟ من المجنون أنا أو أنت؟ فاستحيت منه وقلت: السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال: لو كنت ابتدأت لأوجبت علينا حسن الرد، علي أنا نصرفسوء أدبك إلى أحسن جهاته من العذر، لأنه كان يقال: إن للداخل على القوم دهشة، أجلس - أعزك الله تعالى عندنا وأومأ إلى موضع من الحصير، فجلست إلى ناحية منه استرعى مخاطبته فقال لي وقد رأى معي محبرتي: أرى معك آلة رجلين أرجو ألا تكون أحدهما: أصحاب الحديث الأغثاث، أو الأدباء أصحاب النحو والشعر؟ قلت الأدباء، قال: أتعرف أبا عثمان المازني؟ قلت نعم، قال أتعرف الذي يقول فيه؟:

وفتىً من مـازن

 

أستاذ أهل البصرة

أمـه مـعــرفة

 

وأبـوه نـكـره

فقلت لا أعرفه فقال: أتعرف غلاماً له قد نبغ في هذا العصر معه له ذهن وحفظ، وقد برز في النحو يعرف بالمبرد؟ فقلت: أنا والله الخبير به، قال: فهل أنشدك شيئا من شعره؟ قلت: لا أحسبه يحسن قول الشعر، فقال: ياسبحان الله، أليس هو القائل:

حبذا ماء العناقـي

 

د بريق الغانيات

بهما ينبت لحمـي

 

ودمي أي نبـات

أيها الطالب أشهى

 

من لذيذ الشهوات

كل بماء المزن تفا

 

ح خدود الفتيات

قلت: سمعته ينشد هذا في مجلس أنس فقال: ياسبحان الله، ألايستحي أن ينشد مثل هذا حول الكعبة؟! ثم قال: ألم تسمع ما يقولون في نسبه؟ قلت: يقولون هو من الأزد ازدشنوءة، ثم من ثمالة، قال: أتعرف القائل في ذلك؟:

سألنا عن ثمالة كل حـي

 

فقال القائلون ومن ثماله

فقلت: محمد بن يزيد منهم

 

فقالوا: زدتنا بهم جهـالة

فقال لي المبرد خل قومي

 

فقومي معشر فيهم نذالة

فقلت أعرفه، هذا عبد الصمد بن المعذل يقولها فيه فقال: كذب فيما أدعاه، هذا كلام رجل لانسب له، يريد أن يثبت له بهذا الشعر نسباً، فقلت له أنت أعلم، فقال ياهذا: قد غلبت خفة روحك على قلبي، وقد أخرت ماكان يجب تقديمه، ما الكنية أصلحك الله؟ فقلت: أبو العباس. قال: فما الاسم؟ قلت محمد: قال فالأب؟ قلت يزيد، قال: قبحك الله، أحوجتني إلى الاعتذار مما قدمت ذكره، ثم وثب وبسط يده فصافحني فرأيت القيد في رجله فأمنت غائلته، فقال: يا أبا العباس، صن نفسك من الدخول في هذه المواضع، فليس يتهيأ في كل وقت أن تصادف مثلي على مثل حالتي ثم قال: أنت المبرد، أنت المبرد، وجعل يصفق وانقلبت عيناه واحمرت وتغيرت حالته، فبادرت مسرعاً خوف أن تبدر إلي منه بادرة، وقبلت منه الله نصحه ولم أعاود بعدها إلى تلك المواضع أبداً.

وقال الزجاج: لما قدم المبرد بغداد جئت لأناظره وكنت أقرأ على أبي العباس ثعلب فعزمت على أعناته فلما باحثته الجمني بالحجة، وطالبني بالعلة، وألزمني إلزامات لم أهتد إليها، فاستيقنت فصله، واسترجحت عقله، وأخذت في ملازمته، وكان المبرد يحب الاجتماع بأبي العباس ثعلب للمناظرة، وثعلب يكره ذلك.

حكى أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي وكان صديقهما قال: قلت لأبي عبد الله الدينسوري ختن ثعلب: لم يأبى ثعلب الاجتماع بالمبرد؟ فقال: لأن المبرد حسن العبارة، حلو الإشارة، فصيح اللسان، ظاهر البيان، وثعلب مذهبه مذهب المعلمين، فإذا اجتمعا في محفل حكم للمبرد على الظاهر إلى أن يعرف بالباطن.

 وحكى أن بعض الأكابر من بني طاهر سأل أبا العباس ثعلباً أن يكتب له مصحفاً على مذهب أهل التحقيق، فكتب: والضحى بالياء، ومذهب الكوفيين أنه إذا كان كلمة من هذا النحو أو الهاضمة أو كسرة كتبت بالياء وإن كانت من ذوات الواو، والبصريون يكتبون بالألف، فنظر المبرد في ذلك المصحف فقال: ينبغي أن يكتب والضحا بالألف لأنه من ذوات الواو، فجمع ابن طاهر بينهما فقال المبرد لعلي: لم كتبت والضحى بالياء؟ فقال: لضمه أوله. فقال له: ولم إذا ضم أوله وهو من ذوات الواو تكتبه بالياء؟ فقال: لأن الضمة تشبه الواو، وما أوله واو يكون آخره ياء فتوهموا أن أوله واو. فقال المبرد: أفلا يزول هذا التوهم إلى يوم القيامة؟. ولبعضهم في مدح المبرد:

وإذا يقال من الفتى كل الفتـى

 

والشيخ والكهل الكريم العنصر

والمستضاء بعلـمـه وبـرأيه

 

وبعقله قلت: ابن عبد الاكبـر

ولآخر في مدحه أيضاً:

وأنت الذي لايبلغ المدح وصفـه

 

وإن أطنب المداح مع كل مطنب

رأيتك والفتح بن خاقان راكـبـاً

 

فأنت عديل الفتح في كل موكب

وكان أميرالمـؤمـنـين إذا رنـا

 

إليك يطيل الفكر بعد التعـجـب

وأوتيت علماً لايحيط بكـنـهـه

 

علوم بني الدنيا ولاعلم ثعـلـب

يروح إليك الناس حتى كأنـهـم

 

ببابك في أعلى منىً والمحصب

مات أبو العباس المبرد في شوال، وقيل في ذي القعدة سنة خمس وثمانين ومائتين في خلافة المعتضد، وصلى عليه أبو محمد يوسف بن يعقوب القاضي ودفن في دار في مقابر باب الكوفة، ولما مات قال فيه ثعلب هذه الأبيات، وقيل هي لأبي بكر بن العلاف:

ذهب المبرد وانقـضـت أيامـه

 

وليذهبن إثر المبـرد ثـعـلـب

بيت من الآداب أضحى نصـفـه

 

خراباً وباقي النصف منه سيخرب

فابكوا لما سلب الزمان ووطنـوا

 

للدهر أنفسكم على مـا سـلـب

وتزودوا من ثعلب فبـكـأس مـا

 

شرب المبرد عن قريب يشـرب

أوصيكم أن تكتـبـوا أنـفـاسـه

 

إن كانت الأنفاس ممـا يكـتـب

ومن شعر المبرد وقد بلغه أن ثعلباً نال منه:

رب من يعنيه حالي

 

وهو لايجري ببالي

قلبه ملآن مـنـي

 

وفؤادي منه خالي

ولأبي العباس المبرد من التصانيف الكامل في الأدب وهو أشهر كتبه، والمقتضب في النحو وهو أكبر مصنفاته وأنفسها إلا أنه لم ينتفع به أحد.

قال أبو علي الفارس: نظرت في المقتضب فما انتفعت منه بشيء إلا بمسأل ة واحدة، وهي وقوع إذا جواباً للشرط في قوله تعالى: (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون)، ويزعمون أن سبب عدم الانتفاع به، أن هذا الكتاب أخذه ابن الرواندي الزنديق عن المبرد، وتناوله الناس من يد ابن الرواندي فكأنه عاد عليه شؤمه فلا يكاد ينتفع به.

ومن تصانيفه أيضاً: الروضة، والمدخل في كتاب سيبويه، وكتاب الاشتقاق، وكتاب المقصور والممدود، وكتاب المذكر والمؤنث، ومعاني القرآن ويعرف بالكتاب التام، وكتاب الخط والهجاء، وكتاب الأنواء والأزمنة، وكتاب احتجاج القراء وإعراب القران، وكتاب الحروف في معاني القرآن إلى سورة طه، وكتاب صفات الله جل وعلا، وكتاب العبارة عن أسماء الله تعالى، وشرح شواهد كتاب سيبويه، وكتاب الرد على سيبويه ومعنى كتاب الأوسط للأخفش، وكتاب الزيادة المنتزعة من كتاب سيبويه، ومعنى كتاب سيبويه، وكتاب الحروف، والمدخل في النحو، وكتاب الإعراب، وكتاب التصريف، وكتاب العروض، وكتاب القوافي، وكتاب البلاغة، والرسأل ة الكاملة، والجامع لم يتم، وقواعد الشعر، وكتاب ضرورة الشعر، وكتاب الفاضل والمفضول، والرياض المونقة، وكتاب الوشي، وكتاب شرح كلام العرب وتخليص ألفاظها ومزاوجة كلامها وتقريب مبانيها، وكتاب الحث على الأدب والصدق، وأدب الجليس، وكتاب الناطق، وكتاب الممادح والمقابح، وكتاب أسماء الواهي عند العرب، وكتاب ما اتفقت ألفاظه واختلفت معانيه في القرآن، وكتاب التعازي، وكتاب قحطان وعدنان، وطبقات التحو يين البصريين وأخبارهم وغير ذلك.