باب الميم - مدرك بن علي الشيباني

مدرك بن علي الشيباني

أعبر أبي من بادية البصرة، دخل بغداد صغيراً أو نشأ بها فتفقه وحصل العربية والأدب، وكان شاعراً أديباً فاضلاً، وكان كثيراً مايلم بدير الروم في الجانب الشرقي ببغداد وكان بدير الروم غلام من أولاد النصارى يقال له عمرو ابن يوحنا، وكان من أحسن الناس صورة وأكملهم خلقاً، وكان مدرك بن علي يهواه، وكان لمدرك مجلس تجتمع فيه الأحداث، فإن حضر شيخ أو صاحب حرمة قال له مدرك: فبيح بك أن تختلط بالأحداث والصبيان، فقم في حفظ الله فيقوم وكان عمرو يحضر مجلسه فعشقه مدرك وهام به، فجاء عمرو يوماً إلى المجلس فكتب مدرك رقعة وطرحها في حجره فإذا فيها:

بمجالس العلم الـتـي

 

بك تم حسن جموعها

إلا رثـيت لـمـقـلة

 

غرقت بفيض دموعها

بيني وبينـك حـرمة

 

الله في تضـييعـهـا

فقرأ الأبيات ووقف عليها من كان في المجلس، فاستحيا عمرو وانقطع عن الحضور، وغلب الأمر على مدرك فترك مجلسه ولزم دير الروم، وجعل يتبع عمراً حيث سار وقال فيه شعراً كثيراً.

قال الحريري: - وقد رأيت عمراً أبيض الرأس واللحية - ومن شعر مدرك فيه المزدوجه المشهورة وهي:

من عاشق نـاء هـواه دانـي

ناطق دمع صامت اللـسـان

معذب بالصـد والـهـجـران

موثق قلب مطلق الجسـمـان

من غير ذنب كـسـبـت يداه

غير هوى نمت بـه عـينـاه

شوقاً إلى رؤية مـن أشـقـاه

كأنما عافـاه مـن أضـنـاه

يا ويحه من عاشق مـايلـقـى

من أدمع منهـلة مـا تـرقـا

ناطقة وما أجـادت نـطـقـا

تخبر عن حب له اسـتـرقـا

لم يبق منه غير طرف يبكـي

بأدمع مثل نظـام الـسـلـك

تطفئ نيران الهوى وتـذكـي

كأنها قطر السماء تـحـكـي

إلى غزال من بني النصـارى

عذار خديه سبـى الـعـذارى

وغـادر الأسـد بـه حـيارى

في ربقة الحب لـه أسـارى

رئم بدار الروم رام قـتـلـي

بمقلة كحلاء لامـن كـحـل

وطرة بها استطار عـقـلـي

وحسن وجه وقـبـيح فـعـل

رئم به أي هزبـر لـم يصـد؟

يقتل باللحظ ولا يخشى القـود

متى يقل ها قالت الألحاظ قـد

كأنها ناسوتـه حـين اتـحـد

ما أبصر الناس جميعـا بـدرا

ولارأوا شمساً وغصناً نضـرا

أحسن من عمرو فديت عمـرا

ظبي بعينه سقانـي خـمـرا

هأنـذا بـقـده مــقـــدود

والدمع في خدي لـه أخـدود

ما ضر من فقري به موجـود

لولم يقبح فعـلـه الـصـدود

إن كان ذنبي عـنـده الإسـلام

فقد سعت في نقصـه الآثـام

واختلت الـصـلاة والـصـيام

وجاز في الدين له الـحـرام

يا ليتني كنـت لـه صـلـيبـا

أكـون مـنـه أبـداً قـريبـا

أبصر حسـنـاً وأشـم طـيبـاً

لاواشياً أخشـى ولا رقـيبـا

يا ليتني كنـت لـه قـربـانـاً

ألثم منه الثغـر والـبـنـانـا

أوجا ثليقا كنت أو مـطـرانـاً

كيما يرى الطاعة لي إيمـانـا

يا ليتني كنت لعمرو مصحـفـاً

يقرأ مني كـل يوم أحـرفـا

أو قلماً يكتب بـي مـاألـفـا

من أدب مستحسن قد صنـفـا

يا ليتني كنت لعـمـرو عـوذه

أوحلة يلبـسـهـا مـقـدوده

أو تركةً باسـمـه مـعـدوده

أوبـيعةً بـداره مـشـهـوده

يا ليتنـي كـنـت لـه زنـاراً

يديرني في الخصر كيف دارا

حتى إذا الليل طوى النـهـارا

صرت لـه حـينــئذ إزارا

قد والذي يبقيه لي أفـنـانـي

وابتز عقلي والضنا كسـانـي

ظبي على البعاد والـتـدانـي

حل محل الروح من جثمانـي

وا كبدي من خده المـضـرج

وا كبدي من ثغره المـفـلـج

لاشيء مثل الطرف منه الأدعج

اذهب للنسك ولـلـتـحـرج

إليك أشكـو ياغـزال الأنـس

مابي من الوحشة بعد الأنـس

يامن هلالي وجهه وشمـسـي

لاتقتل النفس بغير الـنـفـس

جدلي كما جدت بحسـن الـود

وارع كما أرعى قديم العهـد

واصدد كصدى عن طويل الصد

فليس وجد بك مثـل وجـدي

هأنا في بحر الهـوى غـريق

سكران من حـبـك لا أفـيق

محترق ما مـسـنـي حـريق

يرثي لي العـدو والـصـديق

فليت شعري فيك هل ترثى لي

من سقم ومن ضنـاً طـويل؟

أم هل إلى وصلك من سـبـيل

لعاشق ذي جـسـد نـحـيل؟

في كل عضو منه سقـم وألـم

ومقلة تبكـي بـدمـع وبـدم

شوقاً إلى شمس وبدر وصـنـم

منه إليه المشتكـي إذا ظـلـم

أقول إذا قام بقلبـي أو قـعـد

ياعمر ويا عامر قلبي بالكمـد

أقسم بالله يمين الـمـجـتـهـد

أن امرأ واصلته لقـد سـعـد

يا عمرو ناشدتك بـالـمـسـيح

إلاسمعت القول من فـصـيح

يخبر عن قـلـب لـه جـريح

باح بما يلقى من الـتـبـريح

يا عمرو بالحق من اللاهـوت

والروح روح القدس والناسوت

ذاك الذي في مهده المنـحـوت

عوض بالنطق عن السكـوت

بحق ناسوت بـبـطـن مـريم

حل محل الريق منها في الفـم

ثم استحال في قـنـوم الأقـدم

فكلم النـاس ولـمـا يفـطـم

بحق من بعد الممات قمـيصـاً

ثوباً على مقداره ما قصـصـا

وكان لله تـقـياً مـخـلـصـاً

يشفي ويبري أكمهاً وأبرصـا

بحق محبي صورة الـطـيور

وباعث الموتى من الـقـبـور

ومن إلـيه مـرجـع الأمـور

يعلم مافي البـر والـبـحـور

بحق من في شامخ الصوامـع

من ساجـد لـربـه وراكـع

يبكي إذا ما نام كـل هـاجـع

خوفاً من الله بدمـع هـامـع

بحق قوم حلـقـوا الـرءوسـا

وعالجوا طول الحياة بـوسـا

وقرعوا في البيعة النـاقـوسـا

مشمعلين يعـبـدون عـيسـى

بحق مـاري مـريم وبـولـس

بحق شمعون الصفا وبطـرس

بحـق دانـيل بـحـق يونـس

بحق حزقيل وبيت المـقـدس

ونينـوى إذ قـام يدعـو ربـه

مطهراً من كل سوء قـلـبـه

ومستـقـيلاً فـأقـيل ذنـبـه

ونال عند الـلـه مـا أحـبـه

بحق مافـي قـلة الـمـيرون

من نافع للـداء والـجـنـون

بحق ما يؤثر عن شـمـعـون

من بركات الخوص والزيتـون

بحق أعياد الصلـيب الـزهـر

وعيد شمعون وعيد الفـطـر

وبالشعانين العـظـيم الـقـدر

وعيد ما ماري الرفيع الذكـر

وعيد شعـياء وبـالـهـياكـل

والدخن اللاتي بكف الحـامـل

يشفي بها من خبل كل خـابـل

ومن دخيل السقم في المفاصل

بحق سبعـين مـن الـعـبـاد

قاموا بدين الله فـي الـبـلاد

وأرشدوا الناس إلـى الـرشـاد

حتى اهتدى من لم يكن بـهـاد

بحق ثنتي عشـرة مـن الأمـم

ساروا إلى الأقطار يتلون الحكم

حتى إذا صبح الدجى جلا الظلم

ساروا إلى الله ففازوا بالنـعـم

بحق مافي محكـم الإنـجـيل

من محكم التحريم والتحـلـيل

مع خبـر ذي نـبـأ جـلـيل

يرويه جيل قد مضى عن جيل

بحق مارعيد الشفيق النـاصـح

بحق لوقا ذي الفعال الصالـح

بحق تمليخا الحكـيم الـراجـح

والشهداء بالفلا الصحـاصـح

بحـق مـعـمـودية الأرواح

والمذبح المشهور في النواحي

ومن به من لابـس الأمـسـاح

وعـابـد بـاك ومـن نـواح

بحق تقـريبـك فـي الأعـياد

وشربك القهوة كالـفـرصـاد

وطول تفـتـيتـك لـلأكـبـاد

بما يعـنـيك مـن الـسـواد

بحق مـا قـدس شـعـيا فـيه

بالحمد لـلـه وبـالـتـنـزيه

بحق نـسـطـور ومـايرويه

عن كل نامـوس لـه فـقـيه

شيخان كانا من شيوخ العـلـم

وبعض أركان التقى والحـلـم

لم ينطقا قـط بـغـير فـهـم

موتهما كان حياة الـخـصـم

بحرمة الأسقف والـمـطـران

والجاثليق العالـم الـربـانـي

والقس والشمـاس والـديرانـي

 والبطرك الأكبر والـرهـبـان

بحرمة المحبوس في أعلى الجبل

 ومار قولا حين صلى وابتهـل

وبالكنيسات الـقـديمـات الأول

 وبالمسيح المرتضى وما فعـل

بحرمة الأسقـوفـيا والـبـيرم

 وماحوى مفـرق رأس مـريم

بحرمة الصوم الكبير الأعـظـم

 وحق كـل كـاهـن مـقـدم

بحق يوم الذبـح ذي الإشـراق

 وليلة الـمـيلاد والـتـلاقـي

والذهب المذهـب لـلـنـفـاق

 والفصح يا مهـذب الأخـلاق

بكـل قـداس عـلـى قـداس

 قدسه القس مـع الـشـمـاس

وقربوا يوم الخميس الـنـاسـي

 وقدموا الكأس لكـل حـاسـى

الا رغبـت فـي رضـا أديب

 باعده الحب عـن الـحـبـيب

فذاب من شوق إلـى الـمـذيب

 أعلى مناه أيسـر الـتـقـريب

فانظر أميري في صلاح أمري

 محتسباً فـي عـظـيم الأجـر

مكتسباً في جمـيل الـشـكـر

 في نثر ألفاظ ونظـم شـعـر

ثم إن مدركاً وسوس وسل جسمه وذهب عقله وانقطع عن إخوانه ولزم الفراش.

حكى حسان بن محمد بن عيسى قال: حضرته عائدا مع جماعة من أصحابه فقال: الست صاحبكم القديم العشرة لكم؟ أما منكم أحد يسعدني بنظرة إلى وجه عمرو؟ قال فمضينا بأجمعنا إلى عمرو وقلنا له: إن كان قتل هذا الرجل ديناً فإن إحياءه مروءة، قال وما فعل؟ قلنا قد صار إلى حال مانحسبك تلحقه، قال فلبس ثيابه ثم نهض معنا، فلما دخلنا عليه سلم عليه عمرو وأخذ بيده فقال: كيف تجدك ياسيدي؟ فنظر إليه ثم أغمي عليه، ثم أفاق وهو يقول:

أنا في عـافـية إل

 

لا من الشوق اليكا

أيها العائد مـابـي

 

منك لايخفى عليكا

لاتعد جسماً وعد قل

 

باً رهيناً في يديكا

كيف لايهلك مرشو

 

ق بسهمي مقلتيكا

ثم إنه شهق شهقة فارق فيها الدنيا، فما برحنا حتى دفناه.