باب الميم - منذر بن سعيد أبو الحكم

منذر بن سعيد أبو الحكم

البلوطي الأندلسي، كان نحوياً فاضلاً وخطيباً مصقعاً وشاعراً بليغاً، ولد سنة خمس وستين ومائتين. ورحل فلقي جماعة من العلماء والأدباء، وجلب في رحلته كتاب الأشراف في اختلاف العلماء رواية عن مؤلفه ابن المنذر النيسابوري، وكتاب العين للخليل رواية أبي العباس بن ولاد، واتصل بعبد الرحمن الناصر فحظي عنده ثم عند ابنه الحكم من بعده، وكان سبب اتصاله بالناصر ما ظهر من بلاغته يوم الاحتفال بدخول رسول قسطنطين بن ليون صاحب قسطنطينية على الناصر موفداً إليه مع وفود سائر ملوك الافرنجة، وذلك أن الناصر جلس للقاء الوفود بقصر قرطبة، فلما تكامل المجلس ودخل عليه الوفود ورحب بهم، أحب أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه للتنويه بفخامة الخليفة، وماتهيأ من توطيد الخلافة في أيامه، وتقدم إلى ولي عهده الحكم بإعداد من يقوم بذلك من الخطباء، فقدم الحكم أبا علي القالي البغدادي وكان إذ ذاك ضيف الناصر، فقام أبو علي وحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فارتج عليه وانقطع وبهر، فلما رأى ذلك منذر بن سعيد وكان حاضراً قام من ذاته ووصل افتتاح أبي علي بكلام بهر العقول، فخرج الناس يتحدثون ببلاغته وحسن بيانه وثبات جنانه، وكان الناصر أشدهم تعجباً وإعجاباً به، فسأل عنه ابنه الحكم ولم يكن يعرفه فقال له: هذا منذر بن سعيد البلوطي فقال: والله لقد أحسن ما شاء، ثم قربه وولاه الصلاة والخطابة في المسجد الجامع بالزهراء، ثم ولاه قضاء الجماعة بقرطبة.

ولما توفي في الناصر وولى ابنه الحكم أقره على القضاء واستعفى غير مرة فما أعفاه، وكان وقوراً صلباً في الحكم مقدماً على إقامة العدل والحق، وإزهاق الجور والباطل، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، له كتب في السنة والورع، والرد على أهل الأهواء والبدع. ومن مصنفاته المتداولة: أحكام القرآن، وكتاب الناسخ والمنسوخ، وله رسائل وخطب مجموعة، وأشعار متفرقة مطبوعة، ومن خطبه الخطبة التي ألقاها بحضرة الناصر في الاحتفال الذي تقدم ذكره ونصها: أما بعد حمد الله والثناء عليه، والتعداد لأسمائه والشكر لنعمائه، والصلاة والسلام على محمد صفيه وخاتم أنبيائه، فان لكل حادثة مقاماً، ولكل مقام مقالاً، وليس بعد الحق إلا الضلال، وإني قد قمت في مقام كريم بين يدي ملك عظيم، فأصغوا إلى معشر الملاء بأسماعكم، وافقهوا عني بافئدتكم، وإن من الحق أن يقال للمحق صدقت وللمبطل كذبت، وإن الجليل - تعالى في سمائه، وتقدس بصفاته وأسمائه - أمر كليمه موسى صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع أنبيائه، أن يذكر قومه بأيام الله جل وعز عندهم، وفيه وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وإني أذكركم بأيام الله عندكم، وتلافيه لكم بخلافة أمير المؤمنين التي لمت شعثكم، وأمنت سربكم ورفعت قوتكم، كنتم قليلا فكثركم، ومستضعفين فقواكم، ومستذلين فنصركم، ولاه الله رعايتكم، وأسند إليه إمامتكم أيام ضربت الفتنة سرادقها على الآفاق، وأحاطت بكم شعل النفاق، حتى صرتم في مثل حدقة البعير من ضيق الحال ونكد العيش، فاستبدلتم بخلافته من الشدة بالرخاء، وانتقلتم بيمن سياسته إلى تمهيد كنف العافية بعد استيطان البلاء، أنشدكم الله معاشر الملاء: ألم تكن الدماء مسفوكة فحقنها؟ والسبل مخوفة فآمنها؟ والآموال منتهبة فأحرزها وحصنها؟ ألم تكن البلاد خراباً فعمرها، وثغور المسلمين مهتضمة فحماها ونصرها؟ فاذكرو آلاء الله عليكم بخلافته، وتلافيه جمع كلمتكم بعد افتراقها بإمامته، حتى أذهب الله عنكم غيظكم وشفى صدوركم، وصرتم يدا على عدوكم بعد أن كان بأسكم بينكم، فأنشدكم الله: ألم تكن خلافته قفل الفتنة بعد انطلاقها من عقالها؟ ألم يتلافى صلاح الأمور بنفسه بعد اضطراب أحوالها ولم يكل ذلك إلى القواد والأجناد؟ حتى باشره بالقوة والمهجة والأولاد، واعتزل النسوان وهجر الأوطان، ورفض الدعة وهي محبوبة، وترك الركون إلى الراحة وهي مطلوبة، بطوية صحيحة، وعزيمة صريحة، وبصيرة نافذة ثاقبة، وريح هابة عالية، ونصرة من الله واقعة واجبة، وسلطان قاهر، وجد ظاهر، وسيف منصور تحت عدل مشهور، متحملاً للنصب، مستقلاً لما ناله في جانب الله من التعب، حتى لانت الأحوال بعد شدتها، وانكسرت شوكة الفتنة بعد حدتها، فلم يبق لها غارب إلا جبه، ولا ظهر لأهلها قرن إلا جده فأصبحتم بنعمة الله إخوانا، وبلم أمير المؤمنين لشعثكم على أعدائه أعوانا، حتى تواترت لديكم الفتوحات، وفتح الله عليكم بخلافته أبواب الخيرات والبركات، وصارت وفود الروم وافدة عليه وعليكم، وآمال الأقصين والأدنين متجهة إليه وإليكم، يأتون من كل فج عميق وبلد سحيق للأخذ بحبل بينكم وبينه جملة وتفصيلا، ليقضي الله أمراً كان مفعولا، ولن يخلف الله وعده، ولهذا الأمر ما بعده، وتلك أسباب ظاهرة بادية، تدل على أمور باطنة خافية، دليلها قائم، وجفنها غير نائم (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم). وليس في تصديق ما وعد الله ارتياب، ولكل نبأ مستقر، ولكل أجل كتاب، فاحمدوا الله أيها الناس على الائه، واسألوا المزيد من نعمائه، فقد أصبحتم بين خلافة أميرالمؤمنين - أيده الله بالسداد، والهمه التوفيق إلى سبيل الرشاد - أحسن الناس حالا، وأنعمهم بالا، وأعزهم قرارا، وأمنعهم دارا، وأوثفهم جمعا، وأجملهم صنعا، لاتهاجمون ولاتذادون وأنتم بحمد الله على أعدائكم ظاهرون، فاستعينوا على صلاح احوالكم بالمناصحة لإمامكم، والتزام الطاعة لخليفتكم وابن عم نبيكم صلى الله عليه وسلم، فإن من نزع يداً من الطاعة، وسعى في تفريق الجماعة، ومرق من الدين فقد خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين، وقد علمتم أن في التعلق بعصمتها والتمسك بعروتها حفظ الأموال وحقن الدماء، وصلاح الخاصة والدهماء، وأن بقيام الطاعة تقام الحدود وتوفي العهود، وبها وصلت الارحام، ووضحت الاحكام، وبها سدد الله الخلل، وأمن السبل، ووطأ الأكناف، ورفع الاختلاف، وبها طاب لكم القرار، واطمأنت بكم الدار، فاعتصموا بما أمركم الله بالاعتصام به، فإنه تبارك وتعالى يقول: (أطيعو الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). وقد علمتم ما أحاط بكم في جزيرتكم هذه من ضروب المشركين وصنوف الملحدين، الساعين في شق عصاكم وتفريق ملئكم، الآخذين في مخاذلة دينكم وهتك حريمكم وتوهين دعوة نبيكم صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع النبيين والمرسلين، أقول قولي هذا واختم بالحمد الله رب العالمين، مستغفراً الله الغفور الرحيم فهو خير الغافرين.

وكان منذر بن سعيد شديداً في دينه لاتأخذه في الله لومة لائم، وكانت له مقامات بين يدي الخليفة الناصر يتناوله فيها بالعظات والزواجر غير هياب ولا محتشم، من ذلك أن الناصر كان كلفاً بعمارة الارض، وتخليد الآثار الدالة على قوة الملك وعزة السلطان وعلو الهمة، فأفضى به الافراط في ذلك إلى أن ابتنى الزهراء البناء الشائع ذكره، واستفرغ جهده في إتقان قصورها وزخرفة دورها، حتى ترك شهود الجمعة بالمسجد الجامع ثلاث جمع متواليات، فأراد القاضي منذر تنبيهه بما يتناوله به من الموعظة، وتذكيره بالانابة والرجوع، فابتدأ خطبته في الجمعة الرابعة بقوله تعالى: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون)، ثم وصله بقوله تعالى: (قل متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى)، وهي دار القار ومكان الجزاء، ومضى في ذم تشييد البناء وزخرفته، والاسراف في الإنفاق عليه بكل كلام جزل، ثم أتى بما يناسب المقام من التخويف بالموت، والدعاء إلى الزهد في الدنيا، والإقصار عن اللذات والشهوات وإتباع الهوى، وأورد أحاديث وآثارا تشاكل ذلك، حتى خشى الناس وبكوا وأعلنوا بالتوبة والاستغفار، وأخذ الناصر من ذلك بأوفر حظ، وقد علم أنه المقصود بالموعظة فبكى وندم على ما أفرط وفرط، إلا أنه وجد على منذر لما قرعه به، فشكا ذلك لولده الحكم بعد أنصراف منذر فقال: والله لقد تعمدني منذر بخطبته وما عني بها غيري، فأسرف وافرط في تقريعي، قم اقسم ألا يصلي خلفه إلا الجمعة خاصة، فكان يصلي بقرطبة وراء أحمد بن مطرف صاحب الصلاة، وترك الصلاة بالزهراء فقال له الحكم: ما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلاة بك والاستبدال به إذا كرهته؟ فزجره وانتهره وقال له: أمثل منذر ابن سعيد في فضله وخيره وعلمه - لا أم لك - يعزل؟ لارضاء نفس ناكبة عن الرشد، سالكة غير القصد، هذا مايكون، وإني لاستحي من الله ألا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعا مثل منذر في ورعه وصدقه، ولكنه أحرجني فاقسمت، ولوددت أني أجد سبيلاً إلى كفارة يميني بملكي، بل يصلي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله تعالى، فما أظننا نعتاض منه أبداً. وكان منذر على متانته وصلابته حسن الخلق كثير الدعابة، فربما ساء ظن من لايعرفه به لدعابته، فإذا رأى ما يخل بالدين قدر شعرة ثار ثورة الأسد الضاري وتبدلت بشاشته عبوساً، ومر في رحلته بمصر فحضر يوماً مجلس أبي جعفر النحاس وهو يملي أخبار الشعراء، فأملى شعر القيس مجنون بني عامر وهو قوله:

خليلي هل بالشام عين حزينة

 

تبكي على نجد لعلي أعينها

قد أسلمها الباكون إلاحمامةً

 

مطوقةً باتت وبات قرينهـا

تجاوبها أخرى على خيزرانة

 

يكاد يدنيها من الأرض لينها

فقال له منذر: يا أباجعفر، ماذا باتا يصنعان؟ فقال له: وكيف تقول أنت ياأندلسي؟ فقلت له: بانت وبان قرينها، فسكت. قال منذر: ومازال يستثقلني بعد ذلك حتى منعني كتاب العين، وكنت ذهبت للاستنساخ من نسخته، فلما يئست منه قيل لي: أين أنت من أبي العباس بن ولاد؟ فقصدته فلقيت رجلاً كامل العلم حسن المرؤة، فسألته الكتاب فأخرجه إلي، ثم ندم أبو جعفر حين بلغه إباحة أبي العباس الكتاب لي وعاد إلى ماكنت أعرفه منه.
ومن شعر منذر بن سعيد ماكتب به إلى أبي علي القالي يستعير كتاباً من الغريب:

بحق رئم مهفـهـف

 

وصدغه المتعطـف

ابعث إلـي بـجـزء

 

من الغريب المصنف

فأرسل إليه الكتاب وأجابه بقوله:

وحـق در مـؤلــف

 

بفـيك أي تـألــف

لأبعـثـن بـمـا قـد

 

حوى الغريب المصنف

ولو بعثت بنـفـسـي

 

إليك ماكنـت أسـرف

وقال أيضاً:

مقالي كحد السيف وسط المحافل

 

أميز به مابـين حـق وبـاطـل

بقلب ذكـي قـد تـوقـد نـوره

 

كبرق مضئ عند تسكاب وابـل

فما زلقت رجلي ولا زل مقولـي

 

ولا طاش عقلي عند تلك الزلازل

وقد حدقت حولي عيون إخـالـهـا

 

كمثل سهام أثبتت في المـقـاتـل

أخـير إمـام كـان أوهـو كـائن

 

بمقتل أوفي الـعـصـور الاوائل؟

وفود ملوك الـروم حـول فـنـائه

 

مخـافة بـأس أو رجـاء لـنـائل

فعش سالماً أقصى حـياة مـؤمـلاً

 

فأنت رجاء الكل حـاف ونـاعـل

ستملكها مابين شـرق ومـغـرب

 

إلى أرض قسطنطين أو أرض بابل

توفي منذر بن سعيد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة.