باب الياء - يحيى بن خالد بن برمك

يحيى بن خالد بن برمك

ابو الفضل البرمكي الوزير السري الجواد، كان سيد بني برمك وأفضلهم جودا وحلما ورأيا، وكان من أكمل أهل زمانه أدبا وفصاحة وبلاغة، وأخباره في الكرم وشرف الخلال مشهورة. وإنما دخل في شرط كتابنا من جهة بلاغته وتقدمة على أكثرأهل عصره في الإنشاء والكتابة، وما صدرعنه من الحكم ولأقوال التي تداولها الواة وملئت بها الدفاتر فأنا أورد منها جملة صالحة، وأما أخباره فما يتسع لها كتابنا وليست من شرطه، فمما ورى عنه أنه قال: مارأت رجلا إلا هبته حتى يتكلم، فإن كان فصيحا عظم في عيني وصدري وإن قصر سقط من عيني. وحدث محمد بن صالح الواقدي قال: دخلت على يحيى ابن خالد البرمكي فقلت: إن ههنا قوما جاءوا يشكرون لك معروفا، فقال يامحمد: هولاء جاءوا يشكرون معروفنا فكيف لنا شكر شكرهم.

وقال: مسأل ة الملوك عن حالها من سجية النوكي، فاذا أردت أن تقول: كيف أصبح الأميرفقل: صبح الله الأميربالنعمة والكرامة، وإذا كان عليلا فأردت أن تسأل ه عن حاله فقل: أنزل الله على الأميرالشفاء والرحمة فإن الملوك لاتسأل ولا تشمت ولاتكيف وأنشد:

إن الملوك لايخاطبونـا

 

ولا إذا ملوا يعاتبـونـا

وفي المقال لاينازعونـا

 

وفي العطاس لايشمتونا

وفي الخطاب لايكيفونا

 

يثني عليهم وبجلـونـا

وافهم وصاتي لاتكن مجنونا وقيل له: أي الأشياء أقل؟ قال: قناعة ذي الهمة البعيدة بالعيش الدون، وصديق كثير الآفات قليل الإمتاع، وسكون النفس إلى المدح. وقيل له ما الكرم؟ فقال ملك في زي مسكين. قيل له فما اللؤم؟ قال: مسكين في بطش عفريت. قيل فما الجود؟ قال عفو بعد قدرة. وقال: من ولي ولاية فتاه فيها فقدره دونها وقال: إذا فتحت بينك وبين المعروف فاحذر أن تغلقه ولو بالكلمة الجميلة، إذا أردت أن تنظر مروءة المرء فانظر الي، كانت حسنة فاحكم له بالشرف، وإن رأيت فما وراءها خير. وقال: أحسن جبلة الولاة إصابة السياسة، ورأس إصابة السياسة العمل لطاعة الله وفتح بابين للرعية، أحدهما رأفة ورحمة وبدل وتحنن، والآخر غلظة ومباعدة وإمساك ومنع. وقال: العذر الصادق مع النية الحسنة يقومان مقام النجح. وقال: ما سقط غبار موكبي على أحد إلا وجب علي حقه. وقال الفضل له:  يا أبت، مالنا نسدي إلى الناس المعروف فلا يتبين فيهم كتبينه ببر غيرنا؟ قال آ مال الناس فينا أعظم من آ مالهم في غيرنا، وإنما يسر الإنسان ما بلغه أمله. وقال: أنا مخير في الإحسان إلي أحسن إليه، ومرتهن بالإحسان إلى من أحسنت إليه، لأنى إن وصلته فقد أتمته، وإن قطعته فقد أهدرته. وقال: الخط صورة روحها البيان، ويدها السرعة، وقدمها التسوية، وجوارحها معرفة الفصول. وركب يوما مع الرشيد فرأى الرشيد في طريقه أحمالا فسأل عنها فقيل له: هذه هدايا خراسان بعث بها علي بن عيسى بن ماهان، وكان ابن ماهان وليها بعد الفضل بن يحيى، فقال الرشيد ليحيى: أين كانت هذه الأحمال في ولاية ابنك؟ فقال يحيى كانت في بيوت أصحابها فأفحم الرشيد وسكت ولما كان الفضل بن يحيى واليا على خراسان كتب صاحب البريد إلى الرشيد كتابا يذكر فيه: أن الفضل تشاغل بالصيد واللذات عن النظر في أمور الرعية، فلما قرأه الرشيد رمى به ليحيى وقال له: يا ابت اقرأ هذا الكتاب واكتب إلى الفضل كتابا يردعه عن مثل هذا. فمد يحيى يده إلى دواة الرشيد وكتب إلى ابنه على ظهر الكتاب الذيورد من صاحب البريد: حفظك الله يا بني وأمتع بك، قد انتهى إلى أمير المؤمنين ما أنت عليه من التشاغل بالصيد ومداومة اللذات عن النظر في أمور ارعية ما أنكره، فعاود ماهو أزين بك، فإنه من عاد إلى ما يزينه لم يعرفهأهل زمانه إلا به والسلام. وكتب تحته هذه الأبيات:

إنصب نهارا في طلاب العلا

 

واصبر على فقد لقاء الحبيب

حتى إذا الليل بدا مـقـبـلا

 

وغاب فيه عنك وجه الرقيب

فبادر الليل بما تـشـتـهـي

 

فإنما الليل نـهـار الأريب

كم من فتى تحسبه ناسـكـا

 

يستقبل الليل بأمنر عجـيب

ألقى عليه اللـيل أسـتـاره

 

فبات في لهو وعيش خصيب

ولذة الأحمـق مـكـشـوفة

 

يسعى بها كل عدو مـريب

وكان يقول لولده: اكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون، وتحدثوا بأحسن ما تحفظون. وقال: أنفق من الدنيا وهي مقبلة، فإن الإتفاق لاينقص منها شيئا، وأنفق منها وهي مدبرة، فإن الإمساك لا يبقى منها شيئا. وقال: الدنيا دول، والمال عارية، ولنا فيمن قبلنا أسوة، ونحن لمن بعدنا عبرة. قال القاضي يحيى بن أكثم: سمعت المأمون يقول: لم يكن كيحيى بن خالد وكولده أحد في البلاغة والكفاية، والجود والشجاعة، وكان يحيى يجري على سفيان الثوري رضي الله عنه ألف درهم في كل شهر، فكان إذا صلى سفيان يقول في سجوده: اللهم إن يحيى كفاني أمر دنياي فاكفه أمر آخرته. فلما مات يحيى رؤى في المنام فقيل له: مافعل الله بك؟ قال: غفر لي بدعاء سفيان. مات يحيى في سجن الرشيد في الرافقة في أوائل المحرم سنة تسعين ومائة.