الجزء الأول - الليلة الثانية

الليلة الثانية

ثم حضرت ليلة أخرى، فقال: أول ما أسألك عنه حديث أبي سليمان المنطقي كيف كان كلامه فينا، وكيف كان رضاه عنا ورجاؤه بنا، فقد بلغني أنك جاره ومعاشره، ولصيقه وملازمه وقافي خطوه وأثره، وحافظ غاية خبره.

فقلت: والله أيها الوزير، ما أعرف اليوم ببغداد - وهي الرقعة الفسيحة الجامعة، والعرصة العريضة الغاصة - إنساناً أشكر لك، وأحسن ثناءً عليك، وأذهب في طريق العبودية معك، منه؛ ولقد سكر الآذان وملأ البقاع بالدعاء الصالح، رفعه الله إليه، والثناء الطيب أشاعه الله؛ وقد عمل رسالةً في وصفك ذكر فيها ما آتاك الله وفضلك به من شرف أعراقك، وكرم أخلاقك وعلو همتك، وصدق حدسك وصواب رأيك، وبركة نظرك، وظهور غنائك، وخصب فنائك، ومحبة أوليائك، وكمد أعدائك، وصباحة وجهك، وفصاحة لسانك، ونبل حسبك، وطهارة غيبك، ويمن نقيبتك، ومحمود شيمتك، ودقيق ما أودع الله فيك، وجليل ما نشر الله عنك، وغريب ما يرى منك، وبديع ما ينتظر لك من المراتب العلية، والخيرات الواسعة والدولة الوادعة، وهي تصل إلى مجلسكم في غد أو بعده - إن شاء الله - وكان هذا منه قياماً بالواجب، فإنك نعشت روحه وكان خفت، وبصرته وكان عشي؛ وأنبت جناحه وكان قد حص، بالرسم الذي وصل إليه لأنه كن قنط منه وهو قنوطٌ، وسمعته مراراً: من يذكرني وقد مضى الملك - رضوان الله عليه - ومن يخلفه في مصلحتي، ويجري على عادته معي؟ ومن يسأل عني، ويهتم بحالي؟ هيهات، فقد والله بالأمس من يطول تلفتنا إليه ويدوم تلهفنا عليه إن الزمان بمثله لبخيل كان والله شمس المعالي وغرة الزمن وحامل الأثقال، وملقتى القفال، ومحقق الأقوال والأفعال، ومجرى لجم الأحوال على غاية الكمال؛ كان والله فوق المتمنى، وأعلى من أن يلحق به نظير، أو يوجد له مماثل؛ لذته لمحٌ في تهذيب الأمور، وهواه وقفٌ على صلاح من في إصلاحه صلاح ونفي من في نفيه تطهير؛ ولولا أن عمر الفتى الأريحي قصير، لكنا لا نبتلى بفقده، ولا نتحرق على فوت ما كان لنا بحياته؛ الدنيا ظلوم، والإنسان فيها مظلوم.

فلما وصل إليه ذلك الرسم - وهو مائة دينار - وحاجته ماسة إلى رغيف، وحوله وقوته قد عجزا عن أجرة مسكنه، وعن وجه غدائه وعشائه عاش.

ومما زاد في حديث الرسم أنه وصل إليه مع العذر الجميل، والوعد العريض الطويل؛ ولو رأيته وهو يترفل ويتحنك لعجبت. فقال: سررتني لسروره بما كان مني، وإن عشت كففت الزمان عن ضيمه، وفللت عنه حد نابه، ولولا الضمانة مانعةٌ عن نفسه، وتمنع معها بنفسه؛ لغشي هذا المجلس فيكم فاستأنس وآنس، ولكنه على حال لا محتمل له عليها، ولا صبر عليه معها؛ أتحفظ ما قال البديهي فيه؟ قلت: نعم، قال: أنشدنيه، فرويت:

أبو سليمان عالمٌ فطـن

 

ما هو في علم بمنتقص

لكن تطيرت عـنـد رؤيتـه

 

من عورٍ موحش ومن برص

وبابنة مـثـل مـا بـوالـده

 

وهذه قصة من القـصـص

فقال: قاتله الله، فلقد أوجع وبالغ، ولم يحفظ ذمام العلم، ولم يقض حق الفتوة. حدثني عن درجته في العلم والحكمة، وعرفني محله فيهما من محل أصحابنا ابن زرعة وابن الخمار وابن السمح والقومسي ومسكويه ونظيف ويحيى بن عدي وعيسى بن علي. فقلت: وصف هؤلاء أمر متعذر، وبابٌ من الكلفة شاق؛ وليس مثلي من جسر عليه، وبلغ الصواب منه؛ وإنما يصفهم من نال درجة كل واحد منهم، وأشرف بعد ذلك عليهم؛ فعرف حاصلهم وغائبهم، وموجودهم ومفقودهم. فقال: هذا تحايلٌ لا أرضاه لك، ولا أسلمه في يدك، ولا أحتمله منك؛ ولم أطلب إليك أن تعرفهم بما هو معلوم الله منهم، وموهبة لهم، ومسوقه إليهم، ومخلوعه عليهم، على الحد الذي لا مزيد فيه ولا نقص؛ إنما أردت ان تذكر من كل واحد ما لاح منه لعينيك، وتجلى لبصيرتك، وصار له به صورةٌ في نفسك؛ فأكثر وصف الواصفين للأشياء على هذا يجري، وإلى هذا القدر ينتهي.

فقلت: إذا قنع مني بهذا، فإني أخدم بما عندي، وأبلغ فيه أقصى جهدي. أما شيخنا أبو سليمان فإنه أدقهم نظراً، وأقعرهم غوصاً، وأصفاهم فكراً، وأظفرهم بالدرر، وأوقفهم على الغرر؛ مع تقطع في العبارة، ولكنةٍ ناشئة من العجمة وقلة نظرٍ في الكتب، وفرط استبداد بالخاطر، وحسن استنباط للعويص، وجرأة على تفسير الرمز، وبخلٍ بما عنده من هذا الكنز.

وأما ابن زرعة فهو حسن الترجمة، صحيح النقل، كثير الرجوع إلى الكتب، محمود النقل إلى العربية، جيد الوفاء بكل ما جل من الفلسفة؛ ليس له في دقيقها منفذ، ولا له من لغزها مأخذ، ولولا توزع فكره في التجارة، ومحبته في الربح، وحرصه على الجمع؛ وشدته في المنع؛ لكانت قريحته تستجيب له، وغائمته تدر عليه؛ ولكنه مبدد مندد، وحب الدنيا يعمي ويصم.

وأما ابن الخمار ففصيح، سبط الكلام، مديد النفس، طويل العنان، مرضي النقل، كثير التدقيق، لكنه يخلط الدرة بالبعرة ويفسد السمين بالغث، ويرقع الجديد بالرث؛ ويشين جميع ذلك بالزهو والصلف، ويزيد في الرقم والسوم، فما يجديه من الفضل يرتجعه بالنقص؛ وما يعطيه باللطف يسترده بالعنف؛ وما يصفيه بالصواب، يكدره بالإعجاب. ومع هذا يصرع في كل شهر مرة أو مرتين.

وأما ابن السمح، فلا ينزل بفنائهم، ولا يسقى من إنائهم؛ لأنه دونهم في الحفظ والنقل والنظر والجدل، وهو بالمتبع أشبه، وإلى طريقة الدعي أقرب، والذي يحطه عن مراتبهم شيئان: أحدهما بلاده فهمه، والآخر حرصه على كسبه؛ فهو مستفرغ مح البال مأسور العقل، يأخذ الدانق والقيراط والحبة والطسوج والفلس بالصرف والوزن والتطفيف؛ والقلب متى لم ينق من دنس الدنيا لم يعبق بفوائح الحكمة، ولم يتفوح بردع الفلسفة، ولم يقبل شعاع الأخلاق الطاهرة المفضية إلى سعادة الآخرة.

وأما القومسي أبو بكر، فهو رجل حسن البلاغة، حلو الكناية، كثير الفقر العجيبة، جماعةٌ للكتب الغريبة؛ محمود العناية في التصحيح والإصلاح والقراءة، كثير التردد في الدراسة؛ إلا أنه غير نصيح في الحكمة؛ لأن قريحته ترابية، وفكرته سحابية؛ فهو كالمقلد بين المحققين، والتابع للمتقدمين؛ مع حبٍ للدنيا شديد، وحسد لأهل الفضل عتيد.

وأما مسكويه، ففقير بين أغنياء، وعيي بين أبنياء، لأنه شاذ، وأنا أعطيته في هذه الأيام صفو الشرح لإبساغوجي وقاطيغورياس، من تصنيف صديقنا بالري. قال: ومن هو؟ قلت: أبو القاسم الكاتب غلام أبي الحسن العامري، وصححه معي؛ وهو الآن لائذ بابن الخمار، وربما شاهد أبا سليمان وليس له فراغ، ولكنه محسن في هذا الوقت للحسرة التي لحقته فيما فاته من قبل. فقال: يا عجباً لرجل صحب ابن العميد أبا الفضل ورأى من كان عنده وهذا حظه! قلت: قد كان هذا، ولكنه كان مشغولاً بطلب الكيمياء مع أبي الطيب الكيميائي الرازي، مملوك الهمة في طلبه والحرص على إصابته مفتوناً بكتب أبي زكرياء، وجابر بن حيان؛ ومع هذا كان إليه خدمة صاحبه في خزانة كتبه؛ هذا مع تقطيع الوقت في حاجاته الضرورية والشهوية؛ والعمر قصير، والساعات طائرة، والحركات دائمة والفرص بروق تأتلق، والأوطار في غرضها تجتمع وتفترق، والنفوس على فواتها تذوب وتحترق؛ ولقد قطن العامري الري خمس سنين جمعة ودرس وأملى وصنف وروى فما أخذ مسكويه عنه كلمة واحدة، ولا وعى مسألة، حتى كأنه بينه وبينه سد؛ ولقد تجرع على هذا التواني الصاب والعلقم، ومضغ بفمه حنظل الندامة في نفسه، وسمع بأذنه قوارع الملامة من أصدقائه حين لم ينفع ذلك كله. وبعد فهو ذكي حسن الشعر نقي اللفظ، وإن بقي فعساه يتوسط هذا الحديث، وما أرى ذلك مع كلفة بالكيمياء، وإنفاق زمانه وكد بدنه وقلبه في خدمة السلطان، واحتراقه في البخل بالدانق والقيراط والكسرة والخرقة؛ نعوذ بالله من مدح الجود باللسان، وإيثار الشح بالفعل، وتمجيد الكرم بالقول ومفارقته بالعمل؛ وهذا هو الشقاء المصبوب على هامة من بلي به، والبلاء المعصوب بناصية من غلب عليه.

وأما عيسى بن علي، فله الذرع الواسع والصدر الرحيب في العبارة، حجة في النقل والترجمة، والتصرف في فنون اللغات، وضروب المعاني والعبارات؛ وقد تصفح ما لم يتصفح كثير من هذه الجماعة، وقلب بخزائن الكبراء والسادات، وأعين بالعمر الطويل والفراغ المديد؛ ولكنه مع هذا الفضل الكثير بخيل بكلمة واحدة، ونصيحٌ على ورقة فارغة، لسودائه الغالبة عليه، ومزاجه المتشيط بها.

وأما نظيف، فإنه متوسط، لا يسفل عن أقلهم حظاً ولا يعلو على أكثرهم نصيباً؛ ويده في الطب أطول، ولسانه في المجالس أجول؛ ومعه رفق وحذق في الجدل.

وأما يحيى بن عدي، فإنه كان شيخاً لين العريكة فروقة، مشوه الترجمة، رديء العبارة، لكنه كان متأتياً في تخريج المختلفة وقد برع في مجلسه أكثر هذه الجماعة، ولم يكن يلوذ بالإلهيات، كان ينبهر فيها ويضل في بساطها، ويستعجم عليه ما جل، فضلاً عما دق منها؛ وكان مبارك المجلس.

فقال: ما قصرت في وصف هذه الطائفة، وتقريب البغية التي كانت داخلة في نفسي منهم.

حدثني عن مذاهبهم في النفس وما يقولون فيها؛ وإلى أين ينتهون من يقينهم بشأنها، وكيف ثقتهم ببقائها بعد فناء أبدانها؟ فقلت: علمت أني لا أجد ما أريد من حديث النفس عند أصحابنا الباقين، أعني أبا الوفاء علي بن يحيى السامري والمعري والقوهي والصوفي وغلام زحل والصاغاني، وكذلك غيرهم أعني ابن عبدان وابن يعقوب وابن لالا وابن بكش وابن قوسين والحراني، لأن هؤلاء ليسوا يحرثون هذه الأرض، ولا يرقمون هذا البز ولا يجهزون هذا المتاع ولا يتعاملون به؛ هذا ينظر في المرض والصحة والداء والدواء، وهذا يعتبر الشمس والقمر، وليس فيهم من يذكر كلمة في النفس والعقل والإله، حتى كأنه محظور عليهم، أو قبيح عندهم.

وقلت: إن هؤلاء القوم - أعني الطائفة الأولى - متفقون في الاعتراف بأنها جوهر باقٍ خالد؛ فأما اليقين فما الحكم به لهم، لأنهم لو كانوا على ذلك - أعني واجدين لليقين ذائقين لحلاوته - لما كدحوا للدنيا التي تزول عنهم ويزولون عنها مضطرين؛ فلو أنهم كانوا على ثلج من النفس، ويقظة من العقل، واستبصار من القلب، وسكون من البرهان، لما تعجلوا هذه اللذات المنقوصة، والأوطار الفاضحة، والشهوات الخسيسة، مع التبعات الكثيرة والأوزار الثقيلة؛ ولا عجب فإنه إذا كانت الركاكة العائقة تمنع الإنسان من العدو والسفر، ومن سرعة الخطو، لأن الحركة قد بطلت بالركاكة الداخلة عليه في أعضائه وآلائه، فأي عجب من أن تكون النفس التي استعبدتها الشهوات الغالبة، والعقيدة الرديئة، والأفعال القبيحة معوقةً ممنوعةً من الصعود إلى معانق الفلك ومخارق النجوم وعالم الروح ومقعد الصدق ومقام الأمن ومحل الكرامة ومراد الخلد وبلد الأبد ومعان السرمد.

قال: هذا كلام تام؛ وسأسألك بعد هذا عن النفس وما تحفظ عنهم فيها لكن تعم لي ما كنا فيه، كيف علم أبي سليمان بالنجوم وأحكامها؟ قلت: لا يتجاوز التقويم. ثم قال: فما تقول في الأحكام؟ قلت: أنشدت منذ أيام:  

علم النجوم على العقول وبال

 

وطلاب حق لا ينال محال

وقلت أيضاً: علم الأحكام لا يجوز في الحكمة أن يكون مدركاً مكشوفاً مخاطباً به معروفاً؛ ولا يجوز أن يكون مقنوطاً منه مطرحاً مجهولاً؛ بل الحكمة توجب أن يتوسط هذا الفن بين الإصابة والخطأ حتى لا يستغنى عن اللياذ بالله أبداً، ولا يقع اليأس من قبله أبداً؛ وعلى هذا سخر الله الإنسان وقيضه وخيره بين الأمر وفوضه؛ ومنع من الثقة والطمأنينة إلا في معرفته وتوحيده وتقديسه وتمجيده، والرجوع إليه؛ انظر إلى حديث الطب فإن عنده الصناعة توسطت الصواب والخطأ، لتكون الحكمة سارية فيها، واللطف معههوداً بها؛ لأن الطب كما يبرأ به العليل، قد يهلك معه العليل؛ فليس بسبب أن بعض المدبرين بالطب لا ينبغي أن ينظر في الطب؛ وليس بسبب أن بعض المرضى برأ بالطب وجب أن يعول عليه؛ انظر إلى هذا التوسط في هذه الحال ليكون التدبير الإلهي والأمر الربوبي نافذين في هذه الخلائق بوساطة ما بينه وبينها؛ ولتكون المصلحة بالغة غايتها؛ وهذه سياسة دار الفناء، الجامعة لسكانها على البأساء والنعماء؛ وهكذا، فانظر إلى حديث البحر وركوب البأس المتيقن فيه، وجوب الطول والعرض وإصابة الربح، وطلب العلم، كيف توسط بين السلامة والعطب، والنجاة والهلكة، فلو استمرت السلامة حتى لا يوجد من يغرق ويهلك، لكان في ذلك مفسدة عامة؛ ولو استمرت الهلكة حتى لا يوجد من يسلم وينجو، لكان في ذلك مفسدة عامة؛ فالحكمة إذاً ما توسط هذا الأمر حتى يشكر الله من ينجو، ويسلم نفسه لله من يهلك. قلت: وبعد هذا فهذا العلم عويص غامض عميق، وقد فقد العلماء به، الملهون فيه؛ ومعول أهله على الحدس والظن، وعلى بعض التجارب القديمة التي تكذب مرة وتصدق مرة؛ وبالصدق يعبر الإنسان، وبالكذب يعرى من فوائده؛ فالنقص قد دخله، والخلل قد شمله؛ وليس يجب أن يوهب له زمانٌ عزيز، فوراءه ما هو أهم منه وأجدر، وأرشد وأهدى.

قال: هذا حسن، حدثني بالذي أفدت اليوم. قلت: قال أبو سليمان: العلم صورة المعلوم في نفس العالم، وأنفس العلماء عالمةٌ بالفعل، وأنفس المتعلمين عالمة بالقوة. والتعليم هو إبراز ما بالقوة إلى الفعل. والتعلم هو بروز ما هو بالقوة إلى الفعل. والنفس الفلكية عالمةٌ بالفعل، والنفس الجزئية علامة بالقوة؛ وكل نفس جزئية تكون أكثر معلوماً وأحكم مصنوعاً فهي أقرب إلى النفس الفلكية تشبهاً بها، وتصيراً لها.

قال: هذا في الحسن نهاية، وقد اكتهل الليل، وهذا يحتاج إلى بدء زمان، وتفريغ قلب، وإصغاء جديد. هات خاتمة المجلس. قلت له: قرأنا يوم الجمعة على أبي عبيد الله المرزباني لعبد الله بن مصعب.

إذا استتعت منك بلحظ طرفـي

 

حيي نصفي ومات عليك نصفي

تلذذ مقلتي ويذوب جـسـمـي

 

وعيشي منك مقرون بحتـفـي

فلو أبصرتـنـي والـلـيل داج

 

وخدي قد توسط بطن كـفـي

ودمعي يستهل من الـمـآقـي

 

إذاً لرأيت ما بي فوق وصفـي

وانصرفت.