الجزء الأول - الليلة الثالثة

الليلة الثالثة

قال لي ليلة أخرى: حدثني أبو الوفاء عنك حديث الخراساني، فأريد أن أسمعه منك. قال: كنت قائماً علشية على زنبرية الجسر في الجانب الشرقي والحاج يدخلون، وجمالهم قد سدت عرض الجسر - أنتظر جوازها وخفة الطريق منها، فرأيت شيخاً من أهل خراسان ذكر لي أنه من أهل سنجان واقفاً خلف الجمال يسوقها، ويحفظ الرحال التي عليها، حتى نظر إلى الجانب الغربي فرأى الجذع عليه ابن بقية - وكان وزيراً صلبه الملك لذنوب كانت له - فقال: لا إله إلا الله، ما أعجب أمور الدنيا وما أقل المفكر في عبرها وغيرها، عضد الدولة تحت الأرض وعدوه فوق الأرض!.

قال: هكذا حدثني أبو الوفاء، ولذلك استأذنت في دفنه، وكان كلام الشيخ سبباً في ذلك. قال: بلغني أن أبا سليمان يزور في أيام الجمعة رسل سجستان لما ويظل عندهم طاعماً ناعماً، ويأنس بأنك معه، فمن يحضر ذلك المكان؟ فقلت: جماعة؛ وآخر من كان في هذا الأسبوع الماضي ابن جبلة الكاتب، وابن برمويه، وابن الناظر أبو منصور وأخوه، وأبو سليمان وبندار المغني وغزال الراقص، وعلم وراء الستارة. فقال: ما الذي حفظت من حديث عنهم، ومأثور أن يلقى إلينا منهم؟ فقلت: سمعت أشياء، ولست أحب أن أسم نفسي بنقل الحديث وإعادة الأحوال فأكون غامزاً وساعياً ومفسداً. قال: معاذ الله من هذا، إنما تدل على رشد وخير، وتضل عن غي وسوء، وهذا يلزم كل من آثر الصلاح الخاص والعام لنفسه وللناس، واعتقد الشفقة، وحث على قبول النصيحة؛ والنبي صلى الله عليه وسلم قد سمع مثل هذا وسأل عنه، وكذلك الخلفاء من بعده، وكل أحد محتاج إلى معرفة الأحوال إذا رجع إلى مرتبة عاليةٍ أو محطوطة. فقلت وجدت ابن برمويه يذكر أشياء هي متعلقة بجانبك، ويرى أنها لو لم تكن لكان مجلسك أشرف، ودولتك أعز، وأيامك أدوم، ووليك أحمد، وعدوك أكمد. قال: ما هذا الاسترسال كله إلى ابن شاهويه؟ وما هذا الكلف ببهرام؟ وما هذا التعصب لابن مكيخا؟ وما هذا السكون إلى ابن طاهر؟ وما هذا التعويل على ابن عبدان؟ وما من هؤلاء أحد إلا يريش عدوه ويبريه ويضل صاحبه ويغويه. أما ابن شاهويه فشيخ إزراء وصاحب مخرقة وكذبٍ ظاهر، كثير الإيهام، شديد التمويه، لا يرجع إلى ودٍ صادق، ولا إلى عقد صحيح وعهدٍ محفوظ؛ وإنما كان الماضي يقربه لغرض كان له فيه من جهة هؤلاء المخربين القرامطة، وكان أيضاً مذموم الهيئة، فكان لا ينبس إلا بما يقويه ويحرس حاله، واليوم هو رخي اللبب، جاذب لكل سبب؛ وليس هناك كفاية ولا صيانة ولا ديانة ولا مروءة؛ وبعد، فهو مشئوم نكد، ثقيل الروح، شديد البهت قوله الإفساد وعادته تأجيل المهنأ والشماتة بالعاثر والتشفي من المنكوب.

وأما بهرام فرجل مجوسي معجب ذميم، لا يعرف الوفاء ولا يرجع إلى حفاظ، غرضه أن يتبجح في الدنيا بجاهه، ولا يبالي أين صار بعاقبته؛ وهو يحض مع ذلك عليه في كل ما هو مديره ومدبره.

وأما ابن مكيخا، فرجل نصراني أرعن خسيس، ما جاء يوماً بخير قط لا في رأي ولا في عمل، ولا في توسط؛ وأصحابنا يلقبونه بقفا وهو منهمك بين اللذائذ همه أن يتحسى دن الشراب في نفس أو نفسين، ثم يسقط كالجذع اليابس لا لسان ولا إنسان.

وأما ابن طاهر فرجل يدعي للناس أنه لولا مكانته وكفايته وحسبه ورأيه ومشورته لكانت هذه الوزارة سراباً، وهذه المملكة خراباً؛ هذا مع الشر الذي في طبعه وعادته؛ فإن جرى خيرٌ انتحله، وزعم أنه من نتائج رأيه؛ وإن وقع شرٌ عصبه برأس صاحبه، وادعى أنه استبد به؛ ومع هذا فهو يعيب هذه المراءاة.

وما أدري كيف استكفى هذه الجماعة حوله؟ وكيف يظاهر هو بها ويسكن إليها؟ وما فيهم إلا من وكده الرجس والإفساد والأخذ بالمصانعة وإغراء الأولياء بما يعود بالوبال على البريء والسقيم وعلى الزكي والظنين؛ هؤلاء سباع ضارية، وكلاب عاوية؛ وعقارب لساعة، وأفاعٍ نهاشة، وقى الله هذا الإنسان الحر المبارك الكريم الرحيم، فإنه شريف النفس طاهر الطوية، لين العريكة، كثير الديانة، وهذه أخلاق لا تصلح اليوم مع الناس، قال الشاعر:

ومن لا يذد عن حوضه الناس أو يكن

 

له جانب يشـتـد إن لان جـانـب

يطأ حوضه المستوردون وتغـشـه

 

شوائب لا تبقى عليها الـنـقـائب

وما ضاع قولهم: لا تكن حلواً فتؤكل، ولا مراً فتعاف. ليس الحذر يقي فكيف التهور، أههنا لحىً تسحب كل يوم، وطوارق تتوقع كل ليلة! والتوكل والاستسلام يلقيان بأهل الدين في طلب الآخرة؛ فأما أصحاب الدنيا وأرباب المراتب، فيجب أن يدعوا الهوينا جانباً، ويشمروا للنفع والضر؛ والخير والشر ويكون ضرهم أكثر، وشرهم أغلب؛ ورهبوت خير من رحموت.

ولهذا قال الأعرابي:

أنا الغلام الأعسر

 

الخير في والشر

والشر في أكثر

 

 

وهذا معنى بديع، ولم يرد أن البداءة بالشر خير من الخير، وإنما اراد أني أتقي بالشر، وإذا أقبل الشر قلت له: مرحباً، وأدفع الشر ولو بالشر، والحديد بالحديد يفلح. وقد قال الآخر:

وفي الشر نجاة حي

 

ن لا ينجيك إحسان

وقال ابن دارة:  

إذا كنت يوماً طالب القوم فاطرح

 

مقالتهم واذهب بهم كل مذهـب

وقارب بذي حلم وباعد بجـاهـل

 

جلوب عليك الشر من كل مجلب

فإن حدبوا فاقعس وإن هم تقاعسوا

 

ليستمسكوا مما يريدون فاحـدب

وإن حلبوا خلقين فاحلـب ثـلاثة

 

وإن ركبوا يوماً لك الشر فاركب

وقال الحجاج بن يوسف أبو محمد - وهو من رجالات العرب وقد قهر العجم بالدهاء والزكانة - لو أخذت من الناس مائة ألف، كان أرضى عني من أن أفرق فيهم مائة ألف. كان الناس بالأمس مزمومين مخطومين، يقوم كل واحد بنفسه على نفسه، ويتهم غده لما جناه في أمسه؛ لأن الملك السعيد ساسهم، وقوم زيغهم، وقلم أظافرهم؛ وشغلهم بالحاجة عن البطر والأشر، وبالكفاية عن القلق والضجر؛ وتقدم إليهم بترك الخوض فيما لا مرجوع له بخير؛ وكانوا لا يشكرون الله على نعمته عليهم به، وإحسانه إليهم بمكانه، فسلبوه فتنفس خناقهم، واتسع نطاقهم، فامتطى كل واحد هواه، ويوشك أن يقع في مهواه.

قال: وههنا أشياء أخرى غير هذه، ولكن من يسمع ويقبل؟ ومع هذا فالأمور صائرةٌ إلى مصايرها، كما أنها صادرة عن مصادرها.

فقال له ابن جبلة: ما عندي إلا أن الوزير - أبقاه الله - عارفٌ بهم ومستبطن لأمرهم؛ مع العشرة القديمة، والملابسة المتصلة، والخبرة الواقعة؛ ولكن لابد لمن كان في محله ورقعته من جماعةٍ يقربهم، ويرجع إليهم ويسمع منهم، وينظر بأعينهم، ويصغي بآذانهم، ويتناول بأيديهم. فقال له مجاوباً: إن كان عارفاً بهم، ومستبطناً لأمرهم، وخبيراً بشأنهم؛ فلم سلطهم وبسطهم، وحدد أنيابهم، وقوى أسنانهم، وفتح أشداقهم، وطول أعناقهم، وقطع أرباقهم؛ وأبطرهم فأسكرهم، حتى صاروا يجهلون أقدارهم، وينسون ما كانوا فيه من القلة والذلة؟ هلا رتب كل واحد منهم فيما تظهر به كفايته ولا يرفعه إلى ما يظن معه الظن الفاسد، ولم يضحك في وجوههم، ويغضي على جنايتهم؟ أما بلغه أن ابن يوسف قال: تشبثه بابن شاهويه لأنه قد أعده للهرب إلى القرامطة إن دهمه أمر؟ وأنسه ببهرام إنما هو لاستمداد الفساد منه وتقديمه لابن الحجاج للسخف، ولهجه بابن هرون للهزء واللعب.

قال له ابن جبلة: من أراد أن يحسن القبيح عند رضاه، ويقبح الحسن عند سخطه فعل، ولا يخلو أحد تهب ريحه، ويعلو شأنه، وينفذ أمره ونهيه من حاسد وقارف، ومدخل ومرجف، على هذه الأمور بنيت الدار، وعليها جرت الأقدار، إن كنت تنكر هذا الرهط، فاعرف له الرهط الآخر؛ فإنك تعرف بذلك حسن اختياره وجميل انتقائه ومحمود رأيه.

قال: من هم؟. قال: أبو الوفاء المهندس، وابن زرعة المتفلسف، وابن عبيد الكاتب، ومسكويه، والأهوازي والعسجدي فأين هؤلاء الغامطة؟ قومٌ همهم أن يأكلوا رغيفاً ويشربوا قدحاً، لا هم ممن يقتبس من علمهم ولا هم يتكلفون له نصحاً، وهيبته تعوقهم عن ذكر شيء في الدولة من تلقائهم إلا أن يكون شيء يتعلق بهم على معنى خاص؛ فهو ينود هكذا وهكذا حتى يبلغ منهم ما قدر عليه.

فلما سمع الوزير هذا كله قال: سألقي إليك في جواب هذه المسألة ما تخدمني به إن لاقيتهم في مجلس آخر على وجه يخفي أنك له ملقن محمل كأنك ساهٍ عنه غير حافل به؛ وقد تقطع الليل، ويحتاج في هذا الحديث إلى استئناف زمان، بعد استيفاء حمام؛ ثم أنشدت قول الشاعر:

إني لأصفح عن قومي وألبسهم

 

على الضغائن حتى تبرأ المثر

ثم قال: ما المئر؟ قلت: هي الضغائن التي ذكرها في حشو البيت، واحدها مئرةٌ، كأنه أراد وألبسهم على الضغائن حتى تبرأ الضغائن فرجع من لفظ إلى لفظ ضرورة القافية لما كان معناهما واحداً؛ قال: لمن هذا البيت؟ قلت: لا أحفظ اسم شاعره، ولكن أحفظ معه أبياتاً. قال: هاتها؛ فأنشدت أول ذلك:

يا أيها الرجل الـمـزجـى أذيتـه

 

هل أنت عن قولك العوراء مزدجر

إني إذا عد مـبـطـاءٌ إلـى أمـد

 

لا يستطيع حضاري المقرف البطر

لاقى قناتي مصـراراً عـشـوزنةً

 

لا قادح قد تبـغـاهـا ولا خـور

إني لأصفح عن قومي وألبسـهـم

 

على الضغائن حتى تبرأ الـمـئر

قال: اكتبها. قلت: أفعل، وانصرفت، فما أعاد علي بعد ذلك شيئاً مما كان.