الجزء الأول - الليلة الخامسة

الليلة الخامسة

قال لي ليلة أخرى: ألا تتمم ما كنا به بدأنا. قلت: بلى. قأما أبو إسحاق فإنه أحب الناس للطريقة المستقمية، وأمضاهم على المحجة الوسطى، وإنما ينقم عليه قلة نصيبه من النحو؛ وليس ابن عباد في النحو بذاك؛ ولا كان أيضاً ابن العميد إلا ضعيفاً؛ وكان يذهب عنه الشيء اليسير. وأبو إسحاق معانيه فلسفية، وطباعه عراقية، وعادته محمودة؛ لا يثب ولا يرسب، ولا يكل ولا يكهم، ولا يلتفت وهو متوجه، ولا يتوجه وهو ملتفت. وقال لنا: إمام ابن عبدكان، وهو قد أوفى عليه، وإن كان احتذى على مثاله؛ وفنونه أكثر، ومأخذه أخفى، وخاطره أوقد، وناظره أنقد، وروضه أنضر، وسراجه أزهر، ويزيد على كل من تقدم بالكتاب التاجي، فإنها أبان عن أمور وكنى في مواضع، وشن الغارة في الصبح المنير مع الرعيل الأول، ودل على التفلسف، وعلى الاطلاع على حقائق السياسة ولو لم يكن له غيره لكان به أعرق الناس في الخطابة، وأعرق الكتاب في الكتابة، هذا ونظمه منثوره، ومنثوره منظومه؛ إنما هو ذهبٌ إبريزٌ كيفما سبك فهو واحد، وإنما يختلف بما يصاغ منه ويشكل عليه؛ هذا مع الظرف الناصع والتواضع الحسن، واللهجة اللطيفة، والخلق الدمث، والمعرفة بالزمان، والخبرة بأصناف الناس؛ وله فنونٌ من الكلام ما سبقه إليها أحد، وما ماثله فيها إنسان. وإني لأرحم من لا يسلم له هذا الوصف، لأنه إما أن يكون جاهلاً، وإما عالماً فإن كان جاهلاً فهو معذور، وإن كان عالماً فهو ملوم، لأنه يدل من نفسه - بدافع ما يعلمه - على حسده، والحاسد مهين.

قال: هل كان في زمان هؤلاء من يلحق بهم، ويدخل في زمرتهم؟ قلت: نعم، أبو طالب الجراحي من آل علي بن عيسى كتب للمرزبان ملك الديلم بعد ما انتجع فناء ابن العميد أبي الفضل، فحسده وطرده، وعض بعد ذلك على ناجذه ندماً على سوء فعله، ولقي منه ابن ببأأبي طالب الأمرين؛ ورسائله مبثوثة.

وأبو الحسن الفلكي، وكان من أهل البصرة، ووقع إلى المراغة ونواحيها وهو حسن الديباجة، رقيق حواشي اللفظ؛ وهو أحدهم غرباً، وأغزرهم سكباً، وأبعدهم مناحاً وأعذبهم نقاخاً، وأعطفهم للأول على الآخر وأنشرهم للباطن من الظاهر. وقرأت له: فإن رأى أن ينظر نظر راحم متعطف، إلى نادم متلهف؛ ويجعل العفو عن فرطته وكفرانه، صدقةً عن بسطته وسلطانه؛ فأجدر الناس بالاغتفار أقدرهم على الانتصار؛ فعل - إن شاء الله تعالى -.

وله مكاتبات واسعة بينه وبين رجل من أهل المراغة يقال له: محمد بن إبراهيم، من أهل سر من رأى وفي الجملة، الفضل في الناس مبثوث، وهم منه على جدود؛ والمرذول هو العاري من لبوسه، المتردد بين تخلفه ونقصه.

قال: فكيف يتم له ما هو فيه مع هذه الصفات التي تذكرها؟ قلت: والله لو أن عجوزاً بلهاء، أو أمةً ورهاء أقيمت مقامه، لكانت الأمور على هذا السياق. قال: وكيف ذاك؟ قلت: قد أمن أن يقال له: لم فعلت، ولم لم تفعل؟ وهذا باب لا يتفق لأحدٍ من خدم الملوك إلا بجد سعيد، ولقد نصح صاحبه الهروي في أموال تاوية، وأمورٍ من النظر عارية؛ فقذف بالرقعة إليه حتى عرف ما فيها، ثم قتل الراقع خنقاً. هذا وهو يدين بالوعيد، وله نظائر، ولنظائره نظائر، ولكن ليس له ناظر، ولا فيه مناظر. وقال لي الثقة من أصحابه: ربما شرع في أمر يحكم فيه بالخطأ فيلقبه جده صواباً، حتى كأنه عن وحي؛ وأسرار الله في خلقه عند الارتفاع والانحطاط خفيةٌ في أستار الغيب، لا يهتدي إليها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي مهذب؛ ولو جرت الأمور على موضوع الرأي وقضية العقل، لكان معلماً في مصطبة على شاعر، أو في دار؛ فإنه يخرج الإنسان بتفيهقه وتشادقه، واستحقاره واستكباره، وإعادته وإبدائه، وهذه أشكال تعجب الصبيان ولا تنفرهم من المعلمين، ويكون فرحهم بها سبباً للملازمة والحرص على التعلم والحفظ والرواية والدراسة.

قال: هذا قدرٌ كافٍ إلى أن تبيض الرسالة؛ هات ملحة الوداع. قلت: قال أبو العيناء: قال أبو دعلج: قال المهدي: بايع؛ قلت: أبايعكم علام؟ قال: على ما بويع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم صفين. قال كريز أبو سيار المسمعي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدرك صفين، إنما كانت صفين بين علي ومعاوية. فقال دوست بن رباط الفقيمي أبو شعيب: قد علم الأمير هذا، ولكن أحب التسهيل على الناس، وانصرفت.