الجزء الأول - الليلة الثامنة

الليلة الثامنة

وقال لي مرة أخرى: أوصل وهب بن يعيش الرقي اليهودي رسالةً يقول في عرضها بعد التقريظ الطويل العريض: إن هنا طريقاً في إدراك الفلسفة مذللةً مسلوكةً مختصرة فسيحة، ليس على سالكها كد ولا شق في بلوغ ما يريد من الحكمة ونيل ما يطلب من السعادة وتحصيل الفوز في العاقبة؛ وإن أصحابنا طولوا وهولوا وطرحوا الشوك في الطريق، ومنعوا من الجواز عليه غشاً منهم وبخلاً ولؤم طباع وقلة نصح وإتعاباً للطالب وحسداً للراغب، وذلك أنهم اتخذوا المنطق والهندسة وما دخل فيهما معيشةً ومكسبة، ومأكلة ومشربة، فصار ذلك كسور من حديد لطلاب الحكمة والمحبين للحقيقة والمتصفحين لأثناء العالم وكلاماً هذا معناه، وإلى هذا يرجع مغزاه.
فكان من الجواب: قد عرفت مذهب ابن يعيش في هذا الباب، وهو جاري، وكتب هذه الرسالة على هذا الطراز بالأمس إلى الملك السعيد سنة سبعين، وتقرب بها، ونفعته بالمسألة والتفقد له، فإنه شديد الفقر، ظاهر الخصاصة، لاصق بالدقعاء؛ وللذي قاله وادعاه، وقصده وانتحاه، وجه واضح وحجة ظاهرة؛ وللذي قاله أصحابنا - أعني مخالفيه - وجهٌ أيضاً وتأويل وللقولين أنصار وحماة، وحفظة ورعاة. قال: هات - على بركة الله - فإني أحب أن أسمع في هذا الخطب كل ما فيه وأكثر ما يتصل به؛ فكان من الجواب أن ابن يعيش يريد بهذه الخطبة أن عمر الإنسان قصير، وعلم العالم كثير، وسره مغمور؛ وكيف لا يكون كذلك وهو ذو صفائح مركبة بالوضع المحكم، وذو نضائد مزينة بالتأليف المعجب المتقن؛ والإنسان الباحث عنه وعما يحتويه ذو قوى متقاصرة، وموانع معترضة، ودواعٍ ضعيفة، وإنه مع هذه الأحوال منتبه بالحس، حالمٌ بالعقل، عاشقٌ للشاهد، ذاهل عن الغائب، مستأنسٌ بالوطن الذي ألفه ونشأ فيه، مستوحشٌ من بلد لم يسافر إليه ولم يلم به وإن كان صدر عنه، فليس له بذلك معرفة باقية ولا ثقةٌ تامة، وإن الأولى بهذا الإنسان المنعوت بهذا الضعف والعجز أن يلتمس مسلكاً إلى سعادته ونجاته قريباً ويعتصم بأسهل الأسباب على قدر جهده وطوقه؛ وإن أقرب الطرق وأسهل الأسباب هو في معرفة الطبيعة والنفس والعقل والإله تعالى، فإنه متى عرف هذه الجملة بالتفصيل، واطلع على هذا التفصيل بالجملة، فقد فاز الفوز الأكبر ونال الملك الأعظم، وكفى مؤونة عظيمة في قراءة الكتب الكبار ذوات الورق الكثير، مع العناء المتصل في الدرس والتصحيح والنصب في المسألة والجواب، والتنقير عن الحق والصواب؛ وهذا الذي قاله ابن يعيش ليس بحيف ولا خارجٍ عن حومة الحق، وإن كان الأمر فيه أيضاً صعباً وشاقاً وهائلاً وعاملاً، ولكن ليس لكل أحد هذه القوة الفائضة، وهذه الخصوصية الناهضة؛ وهذا الاستبصار الحسن، وهذا الطبع الوقاد، والذهن المنقاد، والقريحة الصافية والاستبانة والتأمل، لأن هذه القوة إلهية، فإن لم تكن إلهية فهي ملكية؛ وإن لم تكن ملكية فهي في أفق البشرية؛ وليس يوجد صاحب هذا النعت إلا في الشاذ النادر، وفي دهر مديدٍ بين أمة جمة العدد؛ والفائق من كل شيء والبائن من كل صنف عزيزٌ في هذا العالم الوحشي، كما أن الرديء والفاسد معدوم في هذا العالم الإلهي، ويمكن أن يقال بالمثل الأدنى: إن من يتكلم بالإعراب والصحة ولا يلحن ولا يخطىء ويجري على السليقة الحميدة والضريبة السليمة، قليل أو عزيز، وإن الحاجة شديدة لمن عدم هذه السجية وهذا المنشأ إلى أن يتعلم النحو ويقف على أحكامه، ويجري على منهاجه، ويفي بضروطه في أسماء العرب وأفعالها وحروفها وموضوعاتها ومستعملاتها ومهملاتها؛ ومتى اتفق إنسانٌ بهذه الحلية وعلى هذا النجار، فلعمري إنه غني عن تطويل النحويين كما يستغني قارض الشعر بالطبع عن علم العروض، وهكذا يستغني صاحب تلك القوة التي أشار إليها ابن يعيش عن ذلك، ولكن أين ذاك الفرد والشاذ والنادر؟ فإن حضر فما تفعل معه إلا أن تقلده وتأخذ عنه وتتبعه.

وإنما المدار على أن تكون أنت بهذا الكمال حائزاً لهذه الغاية، ولا سبيل لك إليها من تلقاء نفسك، وإنما هو شيء يأتي من تلقاء غيرك، فإذن بالضرورة وبالواجب ينبغي أن تخطو على آثار المنطقيين والطبيعيين والمهندسين بالزحف والعناء والتكلف الدءوب حتى تصير متشبهاً بذلك الرجل الفاضل والواحد الكامل والبديع النادر؛ فقد بان من هذا القدر صواب ما أشار إليه ابن يعيش وانكشف أيضاً وجه ما حث عليه مخالفوه؛ ولا عيب على المنقوص أن يطلب الزيادة ببذل المجهود، وإن الكامل مربوط بما منح من العطية من غير طلب.

وأما قوله في صدر كلامه: إن القوم صدوا عن الطريق وطرحوا الشوك فيه، واتخذوا نشر الحكمة فخاً للمثالة العاجلة، فما أبعد، بل قارب الحق فإن متى كان يملي ورقةً بدرهم مقتدريٍ وهو سكران لا يعقل، ويتهكم، وعنده أنه في ربح، وهو من الأخسرين أعمالاً، الأسفلين أحوالاً.

ثم إني أيها الشيخ - أحياك الله لأهل العلم وأحيى بط طالبيه - ذكرت للوزير مناظرةً جرت في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بين أبي سعيد وأبي بشر متى واختصرتها؛ فقال لي: اكتب هذه المناظرة على التمام فإن شيئاً يجري في ذلك المجلس النبيه بين هذين الشيخين بحضرة أولئك الأعلام ينبغي أن يغتنم سماعه، وتوعى فوائده، ولا يتهاون بشيء منه. فكتبت: حدثني أبو سعيد بلمع من هذه القصة. فأما علي بن عيسى الشيخ الصالح فإنه رواها مشروحة. لما انعقد المجلس سنة ست وعشرين وثلاثمائة، قال الوزير ابن الفرات للجماعة - وفيهم الخالدي وابن الأخشاد والكتبي وابن أبي بشر وابن رباح وابن كعب وأبو عمرو قدامة بن جعفر والزهري وعلي بن عيسى الجراح وابن فراس وابن رشيد وابن عبد العززي الهاشمي وابن يحيى العلوي ورسول ابن طغج من مصر والمرزباني صاحب آل سامان -: ألا ينتدب منكم إنسان لمناظرة متى في حديث المنطق، فإنه يقول: لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل والصدق من الكذب والخير من الشر والحجة من الشبهة والشك من اليقين إلا بما حويناه من المنطق وملكناه من القيام به، واستفدناه من واضعه على مراتبه وحدوده، فأطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه. فأحجم القوم وأطرقوا قال ابن الفرات: والله إن فيكم لمن يفي بكلامه ومناظرته وكسر ما يذهب إليه وإني لأعدكم في العلم بحاراً، وللدين وأهله أنصاراً، وللحق وطلابه مناراً؛ فما هذا الترامز والتغامز اللذان تجلون عنهما؟ فرفع أبو سعيد السيرافي في رأسه فقال: اعذر أيها الوزير، فإن العلم المصون في الصدر غير العلم المعروض في هذا المجلس على الأسماع المصيخة والعيون المحدقة والعقول الحادة والألباب الناقدة؛ لأن هذا يستصحب الهيبة، والهيبة مكسرة، ويجتلب الحياء، والحياء مغلبة؛ وليس البراز في معركة خاصة كالمصاع في بقعة عامة.

فقال ابن الفرات: أنت لها يا أبا سعيد، فاعتذارك عن غيرك يوجب عليك الانتصار لنفسك، والانتصار في نفسك راجع إلى الجماعة بفضلك.

فقال أبو سعيد: مخالفة الوزير فيما رسمه هجنة، والاحتجاز عن رأيه إخلاد إلى التقصير؛ ونعوذ بالله من زلة القدم، وإياه نسأل حسن المعونة في الحرب والسلم؛ ثم واجه متى فقال: حدثني عن المنطق ما تعني به؟ فإنا إذا فهمنا مرادك فيه كان كلامنا معك في قبول صوابه ورد خطئه على سننٍ مرضيٍ وطريقة معروفة.

قال متى: أعني به أنه آلة من آلات الكلام يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه، كالميزان، فإني أعرف به الرجحان من النقصان، والشائل من الجانح.

فقال أبو سعيد: أخطأت، لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالنظم المألوف والإعراب المعروف إذا كنا نتكلم بالعربية؛ وفاسد المعنى من صالحه يعرف بالعق إذا كنا نبحث بالعقل؛ وهبك عرفت الراجح من الناقص من طريق الوزن، فمن لك بمعرفة الموزون أيما هو حديد أو ذهب أو شبه أو رصاص؟ فأراك بعد معرفة الوزن فقيراً إلى معرفة جوهر الموزون وإلى معرفة قيمته وسائر صفاته التي يطول عدها؛ فعلى هذا لم ينفعك الوزن الذي كان عليه اعتمادك، وفي تحقيقه كان اجتهادك، إلا نفعاً يسيراً من وجه واحد، وبقيت عليك وجوه، فأنت كما قال الأول:

حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء

وبعد، فقد ذهب عليك شيء هاهنا، لي كل ما في الدنيا يوزن، بل فيها ما يوزن، وفيها ما يكال، وفيها ما يذرع، وفيها ما يمسح وفيها ما يحرز وهذا وإن كان هكذا في الأجسام المرئية، فإنه على ذلك أيضاً في المعقولات المقررة؛ والإحساسات ظلال العقول تحكيها بالتقريب والتبعيد، مع الشبه المحفوظ والمماثلة الظاهرة. ودع هذا؛ إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها، فمن أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذوه قاضياً وحكماً لهم وعليهم، ما شهد لهم به قبلوه، وما أنكره رفضوه؟ قال متى: إنما لزم ذلك لأن المنطق بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدركة، وتصفح للخواطر السانحة والسوانح الهاجسة؛ والناس في المعقولات سواء ألا ترى أن أربعةً وأربعة ثمانية سواءٌ عند جميع الأمم، وكذلك ما أشبهه. قال أبو سعيد: لو كانت المطلوبات بالعقل والمذكورات باللفظ ترجع مع شعبها المختلفة وطرائقها المتباينة إلى هذه المرتبة البينة في أربعة وأربعة وأنهما ثمانية، زال الاختلاف وحضر الاتفاق، ولكن ليس الأمر هكذا، ولقد موهت بهذا المثال، ولكم عادة بمثل هذا التمويه؛ ولكن مع هذا أيضاً إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف، أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة؟ قال: نعم. قال: أخطأت، قل في هذا الموضع: بلى. قال: بلى، أنا أقلدك في مثل هذا. قال: أنت إذاً لست تدعونا إلى علم المنطق، إنما تدعونا إلى تعلم اللغة اليونانية وأنت لا تعرف لغة يونان، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها؟ وقد عفت منذ زمان طويل، وباد أهلها، وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها، ويتفاهمون أغراضهم بتصاريفها؛ على أنك تنقل من السريانية، فما تقول في معان متحولة بالنقل من لغة يونان إلى لغةٍ أخرى سريانية، ثم من هذه إلى أخرى عربية؟ قال متى: يونان وإن بادت مع لغتها، فإن الترجمة حفظت الأغراض وأدت المعاني، وأخلصت الحقائق.

قال أبو سعيد: إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت، وقومت وما حرفت، ووزنت وما جزفت، وأنها ما التاثت ولا حافت، ولا نقصت ولا زادت، ولا قدمت ولا أخرت، ولا أخلت بمعنى الخاص والعام ولا بأخص الخاص ولا بأعم العام - وإن كان هذا لا يكون، وليس هو في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني - فكأنك تقول: لا حجة إلا عقول يونان، ولا برهان إلا ما وضعوه، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه.

قال متى: لا، ولكنهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه، وعن كل ما يتصل به وينفصل عنه، وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر وانتشر ما انتشر وفشا ما فشا ونشأ ما نشأ من أنواع العلم وأصناف الصنائع، ولم نجد هذا لغيرهم.

قال أبو سعيد: أخطأت وتعصبت وملت مع الهوى، فإن علم العالم مبثوث في العالم بين جميع من في العالم، ولهذا قال القائل:

العلم في العالم مبثوث

 

ونحوه العاقل محثوث

وكذلك الصناعات مفضوضة على جميع من على جدد الأرض؛ ولهذا غلب علمٌ في مكان دون علم، وكثرت صناعة في بقعة دون صناعة؛ وهذا واضح والزيادة عليه مشغلة؛ ومع هذا فإنما كان يصح قولك وتسلم دعواك لو كانت يونان معروفةً من بين جميع الأمم بالعصمة الغالبة، والفطنة الظاهرة، والبنية المخالفة، وأنهم لو أرادوا أن يخطئوا لما قدروا، ولو قصدوا أن يكذبوا ما استطاعوا وأن السكينة نزلت عليهم، والحق تكفل بهم، والخطأ تبرأ منهم؛ والفضائل لصقت بأصولهم وفروعهم، والرذائل بعدت من جواهرهم وعروقهم؛ وهذا جهلٌ ممن يظنه بهم، وعنادٌ ممن يدعيه لهم؛ بل كانوا كغيرهم من الأمم يصيبون في أشياء ويخطئون في أشياء، ويعلمون أشياء ويجهلون أشياء، ويصدقون في أمور ويكذبون في أمور، ويحسنون في أحوال ويسيئون في أحوال؛ وليس واضع المنطق يونان بأسرها، إنما هو رجل منهم، وقد أخذ عمن قبله كما أخذ عنه من بعده؛ وليس هو حجةً على هذا الخلق الكثير والجم الغفير، وله مخالفون منهم ومن غيرهم؛ ومع هذا فالاختلاف في الرأي والنظر والبحث والمسألة والجواب سنخٌوطبيعة، فكيف يجوز أن يأتي رجل بشيء يرفع به هذا الخلاف أو يحلحله أو يؤثر فيه؟ هيهات هذا محال، ولقد بقي العالم بعد منطقه على ما كان عليه قبل منطقه؛ فامسح وجهك بالسلوة عن شيء لا يستطاع لأنه منعقد بالفطرة والطباع؛ وأنت لو فرغت بالك وصرفت عنايتك إلى معرفة هذه اللغة التي تحاورنا بها، وتجارينا فيها، وتدارس أصحابك بمفهوم أهلها وتشرح كتب يونان بعادة أصحابها، لعلمت أنك غني عن معاني يونان كما أنك غني عن لغة يونان. وها هنا مسألة، تقول: إن الناس عقولهم مختلفة، وأنصباؤهم منها متفاوتة. قال: نعم. قال: وهذا الاختلاف والتفاوت بالطبيعة أو بالاكتساب؟ قال: بالطبيعة. قال: فكيف يجوز أن يكون هاهنا شيء يرتفع به هذا الاختلاف الطبيعي والتفاوت الأصلي؟ قال متى: هذا قد مر في جملة كلامك آنفاً. قال أبو سعيد: فهل وصته بجواب قاطع وبيانٍ ناصع؟ ودع هذا؛ أسألك عن حرف واحد، وهو دائر في كلام العرب، ومعانيه متميزة عند أهل العقل؛ فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الذي تدل به وتباهي بتفخيمه، وهو الواو ما أحكامه؟ وكيف مواقعه؟ وهل هو على وجه أو وجوه؟ فبهت متى وقال: هذا نحو، والنحو لم أنظر فيه، لأنه لا حاجة بالمنطقي إليه، وبالنحوي حاجة شديدة إلى المنطق، لأن المنطق يبحث عن المعنى والنحو يبحث عن اللفظ، فإن مر المنطقي باللفظ فبالعرض، وإن عثر النحوي بالمعنى فبالعرض والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضع من المعنى.

فقال أبو سعيد: أخطأت، لأن الكلام والنطق واللغة واللفظ والإفصاح والإعراب والإبانة والحديث والإخبار والاستخبار والعرض والتمني والنهي والحض والدعاء والنداء والطلب كلها من واد واحد بالمشاكلة والمماثلة، ألا ترى أن رجلاً لو قال: نطق زيد بالحق ولكن ما تكلم بالحق، وتكلم بالفحش ولكن ما قال الفحش، وأعرب عن نفسه ولكن ما أفصح، وأبان المراد ولكن ما أوضح، أو فاه بحاجته ولكن ما لفظ، أو أخبر ولكن ما أنبأ، لكان في جميع هذا محرفاً ومناقضاً وواضعاً للكلام في غير حقه، ومستعملاً اللفظ على غير شهادة من عقله وعقل غيره؛ والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية والمنطق نحو، ولكنه مفهوم باللغة، وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى أن اللفظ طبيعي والمعنى عقلي؛ ولهذا كان اللفظ بائداً على الزمان، لأن الزمان يقفو أثر الطبيعة بأثر آخر من الطبيعة ولهذا كان المعنى ثابتاً على الزمان، لأن مستملى المعنى عقل، والعقل إلهي؛ ومادة اللفظ طينية، وكل طيني متهافت؛ وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها، وآلتك التي تزهى بها، إلا أن تستعير من العربية لها اسماً فتعار، ويسلم لك ذلك بمقدار؛ وإذا لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة فلا بد لك أيضاً من كثيرها من أجل تحقيق الترجمة واجتلاب الثقة والتوقي من الخلة اللاحقة.

فقال متى: يكفيني من لغتكم هذا الاسم والفعل والحرف، فإني أتبلغ بهذا القدر إلى أغراض قد هذبتها لي يونان.

قال أبو سعيد: أخطأت، لأنك في هذا الاسم والفعل والحرف فقير إلى وصفها وبنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها؛ وكذلك أنت محتاج بعد هذا إلى حركات هذه الأسماء والأفعال والحروف، فإن الخطأ والتحريف في الحركات كالخطأ والفساد في المتحركات، وهذا باب أنت وأصحابك ورهطك عنه في غفلة؛ على أن ها هنا سراً ما علق بك، ولا أسفر لعقلك؛ وهو أن تلعم أن لغة من اللغات لا تطابق لغةً أخرى من جميع جهاتها بحدود صفاتها، في أسمائها وأفعالها وحروفها وتأليفها وتقديمها وتأخيرها، واستعارتها وتحقيقها، وتشديدها وتخفيفها، وسعتها وضيقها ونظمها ونثرها وسجعها، ووزنها وميلها، وغير ذلك مما يطول ذكره؛ وما أظن أحداً يدفع هذا الحكم أو يشك في صوابه ممن يرجع إلى مسكةٍ من عقل أو نصيبٍ من إنصاف، فمن أين يجب أن تثق بشيء ترجم لك على هذا الوصف؟ بل أنت إلى تعرف اللغة العربية أحوج منك إلى تعرف المعاني اليونانية؛ على أن المعاني لا تكون يونانية ولا هندية، كما أن اللغات تكون فارسية وعربية وتركية؛ ومع هذا فإنك تزعم أن المعاني حاصلة بالعقل والفحص والفكر، فلم يبق إلا أحكام اللغة، فلم تزري على العربية وأنت تشرح كتب أرسطوطاليس بها، مع جهلك بحقيقتها؟ وحدثني عن قائل قال لك: حالي في معرفة الحقائق والتصفح لها والبحث عنها حال قومٍ كانوا قبل واضع المنطق، أنظر كما نظروا، وأتدبر كما تدبروا، لأن اللغة قد عرفتها بالمنشأ والوراثة، والمعاني نقرت عنها بالنظر والرأي والاعتقاب والاجتهاد. ما تقول له؟ أتقول: إنه لا يصح له هذا الحكم ولا يستتب هذا الأمر، لأنه لا يعرف هذه الموجودات من الطريق التي عرفتها أنت؟ ولعلك تفرح بتقليده لك - وإن كان على باطل - أكثر مما تفرح باستبداده وإن كان على حق؛ وهذا هو الجهل المبين، والحكم المشين.

ومع هذا، فحدثني عن الواو ما حكمه؟ فإني أريد أن أبين أن تفخيمك للمنطق لا يغني عنك شيئاً، وأنت تجهل حرفاً واحداً في اللغة التي تدعو بها إلى حكمة يونان، ومن جهل حرفاً أمكن أن يجهل حروفاً جاز أن يجهل اللغة بكمالها، فإن كان لا يجهلها كلها ولكن يجهل بعضها، فلعله يجهل ما يحتاج إليه، ولا ينفعه فيه علم ما لا يحتاج إليه. وهذه رتبة العامة أو رتبة من هو فوق العامة بقدر يسير؛ فلم يتأبى على هذا ويتكبر، ويتوهم أنه من الخاصة وخاصة الخاصة، وأنه يعرف سر الكلام وغامض الحكمة وخفي القياس وصحيح البرهان؟ وإنما سألتك عن معاني حرف واحد، فكيف لو نثرت عليك الحروف كلها، وطالبتك بمعانيها ومواضعها التي لها بالحق، والتي لها بالتجوز؛ سمعتكم تقولون: إن في لا يعرف النحويون مواقعها، وإنما يقولون: هي للوعاء كما يقولون: إن الباء للإلصاق؛ وإن في تقال على وجوه: يقال الشيء في الإناء والإناء في المكان و السائس في السياسة و السياسة في السائس.

أترى أن هذا التشقيق هو من عقول يونان ومن ناحية لغتها؟ ولا يجوز أن يعقل هذا بعقول الهند والترك والعرب؟ فهذا جهلٌ من كل من يدعيه، وخطلٌ من القول الذي أفاض فيه؛ النحوي إذا قال في للوعاء فقد أفصح في الجملة عن المعنى الصحيح، وكني مع ذلك عن الوجوه التي تظهر بالتفصيل؛ ومثل هذا كثير، وهو كافٍ في موضع التكنية.

فقال ابن الفرات: أيها الشيخ الموفق، أجبه بالبيان عن مواقع الواو حتى تكون أشد في إفحامه، وحقق عند الجماعة ما هو عاجز عنه، ومع هذا فهو مشنع به.

فقال أبو سعيد: للواو وجوه ومواقع: منها معنى العطف في قولك: أكرمت زيداً وعمراً ومنها القسم في قولك: والله لقد كان كذا وكذا ومنها الاستئناف في قولك: خرجت وزيد قائم لأن الكلام بعده ابتداء وخبر ومنها معنى رب التي هي للتقليل نحو قولهم: وقاتم الأعماق خاوي المخترق ومنها أن تكون أصلية في الاسم، كقولك: واصلٌ واقدٌ وافدٌ، وفي الفعل كذلك، كقولك: وجل يوجل؛ ومنها أن تكون مقحمة نحو قول الله عز وجل: "فلما أسما وتله للجبين وناديناه"، أي ناديناه؛ ومثله قول الشاعر:

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

المعنى: انتحى بنا؛ ومنها معنى الحال في قوله عز وجل: "ويكلم الناس في المهد وكهلاً" أي يكلم الناس في حال كهولته؛ ومنها أن تكون بمعنى حرف الجر، كقولك: استوى الماء والخشبة أي مع الخشبة.

فقال ابن الفرات: لمتى: يا أبا بشر: أكان هذا في نحوك.

ثم قال أبو سعيد: دع هذا، ها هنا مسألة علاقتها بالمعنى العقلي أكثر من علاقتها بالشكل اللفظي، ما تقول في قول القائل: زيد أفضل الإخوة؟ قال: صحيح. قال: فما تقول إن قال زيد أفضل إخوته؟ قال: صحيح. قال: فما الفرق بينهما مع الصحة فبلح وجنح وغص بريقه.

فقال أبو سعيد: أفتيت على غير بصيرة ولا استبانة؛ المسألة الأولى جوابك عنها صحيح وإن كنت غافلاً عن وجه صحتها؛ والمسألة الثانية جوابك عنها غير صحيح وإن كنت أيضاً ذاهلاً عن وجه بطلانها.

قال متى: بين لي ما هذا التهجين؟ قال أبو سعيد: إذا حضرت العسة استفدت، ليس هذا مكان التدريس هو مجلس إزالة التلبيس، مع من عادته التمويه والتشبيه؛ والجماعة تعلم أنك أخطأت، فلم تدعي أن النحوي إنما ينظر في اللفظ دون المعنى، والمنطقي ينظر في المعنى لا في اللفظ؟ هذا كان يصح لو أن المنطقي كان يسكت ويجيل فكره في المعاني، ويرتب ما يريد بالوهم السانح والخاطر العارض والحدس الطارىء؛ فأما وهو يريغ أن يبرر ما صح له بالاعتبار والتصفح إلى المتعلم والمناظر، فلابد له من اللفظ الذي يشتمل على مراده، ويكون طباقاً لغرضه، وموافقاً لقصده.

قال ابن الفرات لأبي سعيد: تمم لنا كلامك في شرح المسألة حتى تكون الفائدة ظاهرةً لأهل المجلس، والتبكيت عاملاً في نفس أبي بشر.

فقال: ما أكره من إيضاح الجواب عن هذه المسألة إلا ملل الوزير، فإن الكلام إذا طال مل.

فقال ابن الفرات: ما رغبت في سماع كلامك وبيني وبين الملل علاقة؛ فأما الجماعة فحرصها على ذلك ظاهر. فقال أبو سعيد: إذا قلت: زيد أفضل إخوته لم يجز، وإذا قلت: زيد أفضل الإخوة جاز؛ والفصل بينهما أن إخوة زيد هم غير زيد، وزيدٌ خارج عن جملتهم. والدليل على ذلك أنه لو سأل سائل فقال: من إخوة زيد. لم يجز أن تقول: زيد وعمرو وبكر وخالد وإنما تقول: بكر وعمرو وخالد ولا يدخل زيدٌ في جملتهم، فإذا كان زيد خارجاً عن إخوته صار غيرهم، فلم يجز أن تقول: أفضل إخوته، كما لم يجز أن تقول: إن حمارك أفره البغال لأن الحمير غير البغال، كما أن زيداً غير إخوته، فإذا قلت: زيد خير الإخوة جاز، لأنه أحد الإخوة، والاسم يقع عليه وعلى غيره، فهو بعض الإخوة، ألا ترى أنه لو قيل: من الإخوة؟ عددته فيهم، فقلت: زيد وعمرو وبكر وخالد فيكون بمنزلة قولك: حمارك أفره الحمير لأنه داخل تحت الاسم الواقع على الحمير. فلما كان على ما وصفنا جاز أن يضاف إلى واحد منكور يدل على الجنس، فتقول: زيد أفضل رجل وحمارك أفره حمار فيدل رجل على الجنس كما دل الرجال؛ وكما في عشرين درهماً ومائة درهم.

فقال ابن الفرات: ما بعد هذا البيان مزيد، ولقد جل علم النحو عندي بهذا الاعتبار وهذا الإسفار.

فقال أبو سعيد: معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته، وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير وتوخي الصواب في ذلك وتجنب الخطأ من ذلك، وإن زاغ شيء عن هذا النعت فإنه لا يخلو من أن يكون سائغاً بالاستعمال النادر والتأويل البعيد، أو مردوداً لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم. فأما ما يتعلق باختلاف لغات القبائل فذلك شيء مسلم لهم ومأخوذ عنهم، وكل ذلك محصور بالتتبع والرواية والسماع والقياس المطرد على الأصل المعروف من غير تحريف، وإنما دخل العجب على المنطقيين لظنهم أن المعاني لا تعرف ولا تستوضح إلا بطريقهم ونظرهم وتكلفهم، فترجموا لغةً هم فيها ضعفاء ناقصون. وجعلوا تلك الترجمة صناعة، وادعوا على النحويين أنهم مع اللفظ لا مع المعنى.

ثم أقبل أبو سعيد على متى فقال: أما تعرف يا أبا بشر أن الكلام اسم واقع على أشياء قد ائتلفت بمراتب، وتقول بالمثل: هذا ثوب والثوب اسم يقع على أشياء بها صار ثوباً، لأنه نسج بعد أن غزل، فسداته لا تكفي دون لحمته ولحمته لا تكفي دون سداته، ثم تأليفه كنسجه، وبلاغته كقصارته ورقة سلكه كرقة لفظه، وغلظ غزله ككثافة حروفه، ومجموع هذا كله ثوب، ولكن بعد تقدمة كل ما يحتاج إليه فيه.

قال ابن الفرات: سله يا أبا سعيد عن مسألة أخرى، فإن هذا كلما توالى عليه بان انقطاعه، وانخفض ارتفاعه، في المنطق الذي ينصره، والحق الذي لا يبصره.

قال أبو سعيد: ما تقول في رجل يقول: لهذا على درهم غير قيراط؛ ولهذا الآخر على درهم غير قيراط. قال: ما لي علم بهذا النمط. قال: لست نازعاً عنك حتى يصح عند الحاضرين أنك صاحب مخرقة وزرق، ها هنا ما هو أخف من هذا، قال رجل لصاحبه: بكم الثوبان المصبوغان، وقال آخر: بكم ثوبان مصبوغان وقال آخر: بكم ثوبان مصبوغين بين هذه المعاني التي تضمنها لفظٌ لفظ.

قال متى: لو نثرت أنا أيضاً عليك من مسائل المنطق أشياء لكان حالك كحالي.

قال أبو سعيد: أخطأت، لأنك إذا سألتني عن شيء أنظر فيه، فإن كان له علاقة بالمعنى وصح لفظه على العادة الجارية أجبت، ثم لا أبالي أن يكون موافقاً أو مخالفاً، وإن كان غير متعلق بالمعنى رددته عليك، وإن كان متصلاً باللفظ ولكن على وضعٍ لكم في الفساد على ما حشوتم به كتبكم رددته أيضاً لأنه لا سبيل إلى إحداث لغة في لغة مقررة بين أهلها.

ما وجدنا لكم إلا ما استعرتم من لغة العرب كالسبب والآلة والسلب والإيجاب والموضوع والمحمول والكون والفساد والمهمل والمحصور وأمثلة لا تنفع ولا تجدي، وهي إلى العي أقرب، وفي الفهاهة أذهب.

ثم أنتم هؤلاء في منطقكم على نقصٍ ظاهر، لأنكم لا تفون بالكتب ولا هي مشروحة، فتدعون الشعر ولا تعرفونه وتذكرون الخطابة وأنتم عنها في منقطع التراب؛ وقد سمعت قائلكم يقول: الحاجة ماسة إلى كتاب البرهان. فإن كان كما قال فلم قطع الزمان بما قبله من الكتب، وإن كانت الحاجة قد مست إلى ما قبل البرهان، فهي أيضاً ماسةٌ إلى ما بعد البرهان، وإلا فلم صنف ما لا يحتاج إليه ويستغنى عنه. هذا كله تخليط وزرق وتهويل ورعد وبرق. وإنما بودكم أن تشغلوا جاهلاً، وتستذلوا عزيزاً؟ وغايتكم أن تهولوا بالجنس والنوع والخاصة والفصل والعرض والشخص، وتقولوا: الهلية والأينية والماهية والكيفية والكمية والذاتية والعرية والجوهرية والهيولية والصورية والأيسية والليسية والنفسية؟ ثم تتطاولون فتقولون: جئنا بالسحر في قولنا: "لا" في شيء من "ب" و "ج" في بعض "ب"، ف "لا" في بعض "ج" و "لا" في كل "ب" و "ج" في كل "ب" فإذن "لا" في كل "ج"؛ هذا بطريق الخلف، وهذا بطريق الاختصاص.

وهذه كلها خرافات وترهات، ومغالق وشبكات؛ ومن جاد عقله وحسن تمييزه ولطف نظره وثقب رأيه وأنارت نفسه استغنى عن هذا كله - بعون الله وفضله - وجودة العقل وحسن التمييز ولطف النظر وثقوب الرأي وإنارة النفس من منائح الله الهنية، ومواهبه السنية، يختص بها من يشاء من عباده وما أعرف لاستطالتكم بالمنطق وجهاً، وهذا الناشىء أبو العباس قد نقض عليكم وتتبع طريقتكم، وبين خطأكم، وأبرز ضعفكم، ولم تقدروا إلى اليوم أن تردوا عليه كلمة واحدة مما قال، وما زدتم على قولكم: لم يعرف غرضنا ولا وقف على مرادنا، وإنما تكلم على وهم. وهذا منكم تجاجزٌ ونكول ورضىً بالعجز وكلول، وكل ما ذكرتم في الموجودات فعليكم فيه اعتراض هذا قولكم في "يفعل وينفعل" لم تستوضحوا فيهما مراتبهما ومواقعهما، ولم تقفوا على مقاسمهما، لأنكم قنعتم بوقوع الفعل من "يفعل" وقبول الفعل من "ينفعل"، ومن وراء ذلك غاياتٌ خفيت عليكم، ومعارف ذهبت عنكم وهذا حالكم في الإضافة.

فأما البدل ووجوهه، والمعرفة وأقسامها، والنكرة ومراتبها، وغير ذلك مما يطول ذكره، فليس لكم فيه مقال ولا مجال.

وأنت إذا قلت لإنسان: "كن منطقياً"، فإنما تريد: كن عقلياً أو عاقلاً أو اعقل ما تقول لأن أصحابك يزعمون أن النطق هو العقل؛ وهذا قولٌ مدخول، لأن النطق على وجوه أنتم عنها في سهو.

وإذا قال لك آخر: "كن نحوياً لغوياً فصيحاً" فإنما يريد: افهم عن نفسك ما تقول، ثم رم أن يفهم عنك غيرك.

وقدر اللفظ على المعنى فلا يفضل عنه، وقدر المعنى على اللفظ فلا ينقص منه؛ هذا إذا كنت في تحقيق شيء ما هو به. فأما إذا حاولت فرش المعنى وبسط المراد فأجل اللفظ بالروداف الموضحة والأشباه المقربة، والاستعارات الممتعة، وبين المعاني بالبلاغة، أعني لوح منها لشيء حتى لا تصاب إلا بالبحث عنها والشوق إليها، لأن المطلوب إذا ظفر به على هذا الوجه عز وحلا، وكرم وعلا؛ واشرح منها شيئاً حتى لا ميكن أن يمترى فيه أو يتعب في فهمه أو يعرج عنه لاغتماضه؛ فهذا المذهب يكون جامعاً لحقائق الأشباه ولأشباه الحقائق؛ وهذا بابٌ إن استقصيته خرج عن نمط ما نحن عليه في هذا المجلس؛ على أني لا أدري أيؤثر فيك ما أقول أو لا؟ ثم قال: حدثنا هل فصلتم قط بالمنطق بين مختلفين، أو رفعتم الخلاف بين اثنين؛ أتراك بقوة المنطق وبرهانه اعتقدت أن الله ثالث ثلاثة، وأن الواحد أكثر من واحد، وأن الذي هو أكثر من واحد هو واحد، وأن الشرع ما تذهب إليه، والحق ما تقوله؟ هيهات، ها هنا أمور ترتفع عن دعوى أصحابك وهذيانهم، وتدق عن عقولهم وأذهانهم.

ودع هذا، ها هنا مسألة قد أوقعت خلافاً، فارفع ذلك الخلاف بمنطقك.

قال قائل: "لفلانٍ من الحائط إلى الحائط" ما الحكم فيه؟ وما قدر المشهود به لفلان؟ فقد قال ناس: له الحائطان معاً وما بينهما. وقال آخرون: له النصف من كلٍ منهما. وقال آخرون: أحدهما. هات الآن آيتك الباهرة، ومعجزتك القاهرة، وأنى لك بهما، وهذا قد بان بغير نظرك ونظر أصحابك.

ودع هذا أيضاً؛ قال قائل: "من الكلام ما هو مستقيم حسن، ومنه ما هو مستقيم محال، ومنه ما هو مستقيم قبيح، ومنه ما هو محال كذب، ومنه ما هو خطأ". فسر هذه الجملة. واعترض عليه عالمٌ آخر، فاحكم أنت بين هذا القائل والمعترض وأرنا قوة صناعتك التي تميز بها بين الخطأ والصواب، وبين الحق والباطل؟ فإن قلت: كيف أحكم بين اثنين أحدهما قد سمعت مقالته، والآخر لم أحصل اعتراضه؟ قيل لك: استخرج بنظرك الاعتراض إن كان ما قاله محتملاً له، ثم أوضح الحق منهما، لأن الأصل مسموع لك، حاصلٌ عندك وما يصح به أو يرد عليه يجب أن يظهر منك، فلا تتعاسر علينا، فإن هذا لا يخفى على أحد من الجماعة. فقد بان الآن أن مركب اللفظ لا يحوز مبسوط العقل؛ والمعاني معقولة ولها اتصال شديد وبساطة تامة؛ وليس في قوة اللفظ من أي لغة كان أن يملك ذلك المبسوط ويحيط به، وينصب عليه سوراً، ولا يدع شيئاً من داخله أن يخرج، ولا شيئاً من خارجه أن يدخل، خوفاً من الاختلاط الجالب للفساد، أعني أن ذلك يخلط الحق بالباطل، ويشبه الباطل بالحق؛ وهذا الذي وقع الصحيح منه في الأول قبل وضع المنطق، وقد عاد ذلك الصحيح في الثاني بعد المنطق؛ وأنت لو عرفت تصرف العلماء والفقهاء في مسائلهم، ووقفت على غورهم في نظرهم وغوصهم في استنباطهم، وحسن تأويلهم لما يرد عليهم، وسعة تشقيقهم للوجوه المحتملة والكيانات المفيدة والجهات القريبة والبعيدة، لحقرت نفسك، وازدريت أصحابك، ولكان ما ذهبوا إليه وتابعوا عليه أقل في عينك من السها عند القمر، ومن الحصا عند الجبل. أليس الكندي وهو علم في أصحابك يقول في جواب مسألة "هذا من باب عد". فعد الوجوه بحسب الاستطاعة على طريق الإمكان من ناحية الوهم بلا ترتيب، حتى وضعوا له مسائل من هذا الشكل وغالطوه بها وأروه أنها في الفلسفة الداخلة، فذهب عليه ذلك الوضع، فاعتقد فيه أنه صحيح وهو مريض العقل فاسد المزاج حائل الغريزة مشوش اللب.

قالوا له: أخبرنا عن اصطكاك الأجرام، وتضاغط الأركان؟ هل يدخل في باب وجوب الإمكان؟ أو يخرج من باب الفقدان إلى ما يخفى عن الأذهان؟ وقالوا له أيضاً: ما نسبة الحركات الطبيعية إلى الصور الهيولاتية؟ وهل هي ملابسة للكيان في حدود النظر والبيان، أو مزايلةٌ له مزايلة على غاية الإحكام؟ وقالوا له: ما تأثير فقدان الوجدان في عدم الإمكان عند امتناع الواجب من وجوبه في ظاهر ما لا وجوب له لاستحالته في إمكان أصله؟ وعلى هذا فقد حفظ جوابه عن جميع هذا على غاية الركاكة والضعف والفساد والفسالة والسخف. ولولا التبوقي من التطويل لسردت ذلك كله، ولقد مر بي في خطه: التفاوت في تلاشي الأشياء غير محاطٍ به، لأنه يلاقي الاختلاف في الأصول والاتفاق في الفرزع؛ وكل ما يكون على هذا النهج فالنكرة تزاحم عليه المعرفة، والمعرفة تناقض النكرة، على أن النكرة والمعرفة من باب الألبسة العارية من ملابس الأسرار الإلهية، لا من باب الإلهية العارضة في أحوال البشرية.

ولقد حدثنا أصحابنا الصابئون عنه بما يضحك الثكلى ويشمت العدو ويغ الصديق، وما ورث هذا كله إلا من بركات يونان وفوائد الفلسفة والمنطق ونسأل الله عصمة وتوفيقاً نهتدي بهما إلى القول الراجع إلى التحصيل، والفعل الجاري على التعديل، إنه سميع مجيب.

هذا آخر ما كتبت عن ابن عيسى الرماني الشيخ الصالح بإملائه.

وكان أبو سعيد قد روى لمعاً من هذه القصة.

وكان يقول: لم أحفظ عن نفسي كل ما قلت، ولكن كتب ذلك أقوامٌ حضروا في ألواح كانت معهم ومحابر أيضاً؛ وقد اختل علي كثير منه.

قال علي بن عيسى: وتقوض المجلس وأهله يتعجبون من جأش أبي سعيد الثابت ولسانه المتصرف ووجهه المتهلل وفوائده المتتابعة.

وقال الوزير ابن الفرات: عين الله عليك أيها الشيخ، فقد نديت أكباداً وأقررت عيوناً، وبيضت وجوهاً، وحكت طرازاً لا يبليه الزمان، ولا يتطرق إليه الحدثان.

قلت لعلي بن عيسى: وكم كان سن أبي سعيد في ذلك الوقت؟ قال: مولده سنة ثمانين ومائتين، وكان له يوم المناظرة أربعون سنة، وقد عبث الشيب بلهازمه مع السمت والوقار والدين والجد، وهذا شعار أهل الفضل والتقدم، وقل من تظاهر به أو تحلى بحليته إلا جل في العيون وعظم في النفوس، وأحبته القلوب، وجرت بمدحه الألسنة.

وقلت لعلي بن عيسى: أما كان أبو علي الفسوي النحوي حاضر المجلس؟ قال: لا، كان غائباً، وحدث بما كان، فكان يكتم الحسد لأبي سعيد على ما فاز به من هذا الخبر المشهور، والثناء المذكور.

فقال لي الوزير عند منقطع هذا الحديث: ذكرتني شيئاً قد دار في نفسي مراراً، وأحببت أن أقف على واضحه؛ أين أبو سعيد من أبي علي، وأين علي بن عيسى منهما، وأين ابن المراغي أيضاً من الجماعة؟ وكذلك المرزباني وابن شاذان وابن الوراق وابن حيويه؟  فكان من الجواب، أبو سعيد أجمع لشمل العلم، وأنظم لمذاهب العرب وأدخل في كل باب، وأخرج من طل طريق، وألزم للجادة الوسطى في الدين والخلق، وأروى في الحديث، وأقضى في الأحكام، وأفقه في الفتوى، وأحضر بركة على المختلفة، وأظهر أثراً في المقتبسة. ولقد كتب إليه نوح بن نصر - وكان من أدباء ملوك آل سامان - سنة أربعين كتاباً خاطبه فيه بالإمام وسأله عن مسائل تزيد على أربعمائة مسألة، الغالب عليها الحروف، وباقي ذلك أمثال مصنوعة على العرب شك فيها فسأل عنها؛ وكان هذا الكتاب مقروناً بكتاب الوزير البلعمي خاطبه فيه بإمام المسلمين، ضمنه مسائل في القرآن وأمثالاً للعرب مشكلة.

وكتب إليه المرزبان بن محمد ملك الديلم من أذربيجان كتاباً خاطبه فيه بشيخ الإسلام، سأله عن مائة وعشرين مسألة، أكثرها في القرآن، وباقي ذلك في الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضوان الله عليهم.

وكتب إليه ابن خنزابة من مصر كتاباً خاطبه فيه بالشيخ الجليل، وسأله فيه عن ثلاثمائة كلمة من فنون الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف.

وقال لي الدارقطني سنة سبعين: أنا جمعت ذلك لابن خنزابة على طريق المعونة.

وكتب إليه أبو جعفر ملك سجستان على يد شيخنا أبي سليمان كتاباً يخاطبه فيه بالشيخ الفرد، سأله عن سبعين مسألة في القرآن، ومائة كلمة في العربية وثلاثمائة بيت من الشعر، هكذا حدثني به أبو سليمان؛ وأربعين مسألة في الأحكام وثلاثين مسألة في الأصول على طريق المتكلمين.

قال لي الوزير: وهذه المسائل والجواب عنها عندك؟ قلت: نعم. قال: في كم تقع؟ قلت: لعلها تقع في ألف وخمسمائة ورقة، لأن أكثرها في الظهور. قال: ما أحوجنا إلى النظر فيها والاستمتاع بها والاستفادة منها! وأين الفراغ وأين السكون؟ ونحن كل يوم ندفع إلى طامةٍ تنسى ما سلف، وتوعد بالداهية، اللهم ناصيتي بيدك، فتولني بالعصمة، واخصصني بالسلامة، واجعل عقباي إلى الحسنى.

ثم قال: صل حديثك.

قلت: وأما أبو علي فأشد تفرداً بالكتاب وأشد إكباباً عليه، وأبعد من كل ما عداه مما هو علم الكوفيين، وما تجاوز في اللغة كتب أبي زيد، وأطرافاً مما لغيره؛ وهو متقد بالغيظ على أبي سعيد، وبالحسد له، كيف تم له تفسير كتاب سيبويه من أوله إلى آخره بغريبه وأمثاله وشواهده وأبياته "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"، لأن هذا شيء ما تم للمربد ولا للزجاج ولا لابن السراج ولا لابن درستويه مع سعة علمهم، وفيض كلامهم.

ولأبي علي أطراف من الكلام في مسائل أجاد فيها ولم يأتل، ولكنه قعد على الكتاب على النظم المعروف.

وحدثني أصحابنا أن أبا علي اشترى شرح أبي سعيد في الأهواز في توجهه إلى بغداد سنة ثمان وستنين - لاحقاً بالخدمة المرسومة به، والندامة الموقوفة عليه - بألفي درهم؛ وهذا حديث مشهور، وإن كان أصحابه يأبون الإقرار به إلا من زعم أنه أراد النقض عليه، وإظهار الخطأ فيه.

وقد كان الملك السعيد - رضي الله عنه - هم بالجمع بينهما فلم يقض له ذلك، لأن أبا سعيد مات في رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة.

وأبو علي يشرب ويتخالع ويفارق هدى أهل العلم وطريقة الربانيين وعادة المتنسكين.

وأبو سعيد يصوم الدهر، ولا يصلي إلا في الجماعة، ويقيم على مذهب أبي حنيفة، ويلى القضاء سنين، ويتأله ويتحرج، وغيره بمعزل عن هذا؛ ولولا الإبقاء على حرمة العلم، لكان القلم يجري بما هو خافٍ ويخبر بما هو مجمجم ولكن الأخذ بحكم المروءة أولى، والإعراض عما يجلب اللائمة أحرى.

وكان أبو سعيد حسن الحظ، ولقد اراده الصيمري أبو جعفر على الإنشاء والتحرير فاستعفى وقال: هذا أمر يحتاج فيه إلى دربة وأنا عارٍ منها، وإلى سياسةٍ وأنا غريب فيها

ومن العناء رياضة الهرم

وحدثنا النصري أبو عبد الله - وكان يكتب النوبة للمهلبي - بحديث مفند لأبي سعيد هذا موضعه، قال: كنت أخط في بيدي الصيمري أبي جعفر محمد بن أحمد بن محمد، فالتمسني يوماً لأن أجيب ابن العميد أبا الفضل عن كتاب فلم يجدني، وكان أبو سعيد السيرافي بحضرته؛ فظن أنه بفضل علمه أقوم بالجواب من غيره، فتقدم إليه أن يكتب ويجيب، فأطال في عمل نسخة كثر فيها الضرب والإصلاح، ثم أخذ يحرر، والصيمري يقرأ ما يكتبه، فوجده مخالفاً لجاري العادة لفظاً، مبايناً لما يريده ترتيباً. قال: ودخلت في تلك الحال، فتمثل الصيمري بقول الشاعر:

يا باري القوس برياً ليس يصلحـه

 

لا تظلم القوس، أعط القوس باريها

ثم قال لأبي سعيد: خفف عليك أيها الشيخ وادفع الكتاب إلى أبي عبد الله تلميذك ليجيب عنه، فخجل من هذا القول، فلما اتبدأت الجواب من غير نسخة تحير مني أبو سعيد ، ثم قال: أيها الأستاذ، ليس بسمتنكرٍ ما كان مني، ولا بمستكثرٍ ما كان منك، إن مال الفيء لا يصح في بيت المال إلا بين مستخرج وجهبذٍ، والكتاب جهابذة الكلام، والعلماء مستخرجوه. فتبسم الصميري وأعجبه ما سمع، وقال: على كل حال ما أخليتنا من فائدة.

وكان أبو سعيد بعيد القرين، لأنه كان يقرأ عليه القرآن والفقه والشروط والفرائض والنحو واللغة والعروض والقوافي والحساب والهندسة والحديث والأخبار وهو في كل هذا إما في الغاية وإما في الوسط.

وأما علي بن عيسى فعالي الرتبة في النحو واللغة والكلام والعروض والمنطق، وعيب به، إلا أنه لم يسلك طريق واضع المنطق، بل أفرد صناعة، وأظهر براعة، وقد عمل في القرآن كتاباً نفيساً، هذا مع الدين الثخين، والعقل الرزين.

وأما ابن المراغي فلا يلحق بهؤلاء، مع براعة اللفظ، وسعة الحفظ، وعزة النفس، وبلل الريق، وغزارة النفث، وكثرة الرواية؛ ومن نظر في كتاب البهجة له عرف ما أقول، واعتقد فوق ما أصف، ونحل أكثر مما أبذل.

وأما المرزباني وابن شاذان وابن القرمسيني وابن حيويه فهم رواة وحملة ليس لهم في ذلك نقطٌ ولا إعجام، ولا إسراج ولا إلجام.

فقال: فصل حديثك عن هؤلاء بحديث أصحابنا الشعراء، صف لي جماعتهم، واذكر لي بضاعتهم، وما خص كل واحد منهم. قلت: لست من الشعر والشعراء في شيء، وأكره أن أخطو على دحض، وأحتسي غير محض. قال: دع هذا القول، فما خضنا في شيء إلى هذا الوقت إلا على غاية ما كان في النفس، ونهاية ما أفاد من الأنس، فكان من الوصف: أما السلامي فهو حلو الكلام، متسق النظام، كأنما يبسم عن ثغر الغمام خفي السرقة، لطيف الأخذ، واسع المذهب، لطيف المغارس، جميل الملابس؛ لكلامه ليطةٌ بالقلب، وعبثٌ بالروح، وبردٌ على الكبد.

وأما الحاتمي فغليظ اللفظ، كثير العقد، يحب أن يكون بدوياً قحاً، وهو لم يتم حضرياً؛ غزير المحفوظ، جامعٌ بين النظم والنثر، على تشابهٍ بينهما في الجفوة وقلة السلاسة، والبعد من المسلوك، بادي العورة فيما يقول، لكأنما يبرز ما يخفي، ويكدر ما يصفي، له سكرة في القول إذا أفاق منها خمر وإذا خمر سدر؛ يتطاول شاخصاً، فيتضاءل متقاعساً؛ إذا صدق فهو مهين، وإذا كذب فهو مشين.

وأما ابن جلبات فمجنون الشعر، متفاوت اللفظ، قليل البديع، واسع الحيلة، كثير الزوق، قصير الرشاء، كثير الغثاء؛ غره نفاقه ونفقه نفاقه.

وأما الخالع فأديب الشعر، صحيح النحت، كثير البديع، مستوي الطريقة، متشابه الصناعة، بعيدٌ من طفرة المتحير، قريبٌ من قرصة المتخير؛ كان ذو الكفايتين يقدمه بالري، ويقبله على النشر والطي.

وأما مسكويه فلطيف اللفظ، رطب الأطراف، رقيق الحواشي، سهل المأخذ، قليل السكب، بطيء السبك؛ مشهور المعاني، كثير التواني؛ شديد التوقي، ضعيف الترقي؛ يرد أكثر مما يصدر، ويتطاول جهده ثم يقصر؛ ويطير بعيداً ويقع قريباً، ويسقي من قبل أن يغرس، ويمتح من قبل أن يميه؛ وله بعد ذلك مآخذ كشدوٍ من الفلسفة، وتأتٍ في الخدمة، وقيامٍ برسوما لندامة؛ وسلة في البخل، وغرائب من الكذب؛ وهو حائل العقل لشغفه بالكيمياء.

وأما ابن نباتة فشاعر الوقت، لا يدفع ما أقول إلا حاسد أو جاهل أو معاند، قد لحق عصابة سيف الدولة وعدا معهم ووراءهم، حسن الحذو على مثال سكان البادية، لطيف الائتمام بهم، خفي المغاص في واديهم، ظاهر الإطلال على ناديهم؛ هذا مع شعبة من الجنون وطائفٍ من الوسواس.

وأما ابن حجاج فليس من هذه الزمرة بشيء، لأنه سخيف الطريقة بعيدٌ من الجد، قريعٌ في الهزل؛ ليس للعقل من شعره منال، ولا له في قرضه مثال؛ على أنه قويم اللفظ، سهل الكلام، وشمائله نائيةٌ بالوقار عن عادته الجارية في الخسار؛ وهو شريك ابن سكرة في هذه الغرامة؛ وإذا جد أقعى، وإذا هزل حكى الأفعى. وله مع ذي الكفايتين مناظرة طيبة. قال: ما هي؟ قلت: لما ورد ذو الكفايتين سنة أربع وستين وهزم الأتراك مع أفتكين، وكان من الحديث ما هو مشهور، سأل عن ابن حجاج - وكان متشوقاً له لما كان يقرأ عليه من قوافيه، فأحب أن يلقاه، لأنه الخبر كالمعاينة، والمسموع والمبصر كاأنثى والذكر؛ ينزع كل واحد منهما إلى تمامه؛ فلما حضره أبو عبد الله احتبسه للطعام، وسمع كلامه، وشاهد سمته، واستحلى شمائله، فقام من مجلسه؛ فلما خلا به قال: يا أبا عبد الله، لقد والله تهت عجباً منك، فأما عجبي بك فقد تقدم؛ لقد كنت أفلي ديوانك، فأتمنى لقاءك، وأقول: من صاحب هذا الكلام، أطيش طائش، وأخف خفيف، وأغرم غارم؛ وكيف يجالس من يكون في هذا الإهاب؟ وكيف يقارب من ينسلخ من ملابس الكتاب واصحاب الآداب؛ حتى شاهدتك الآن، فتهالكت على وقارك وسكون أطرافك، وسكوت لفظك، وتناسب حركاتك، وفرط حيائك وناضر ماء وجهك، وتعادل كلك وبعضك؛ وإنك لمن عجائب خلق الله وطرف عباده؛ والله ما يصدق واحد أنك صاحب ديوانك، وأن ذلك الديوان لك، مع هذا التنافي الذي بين شعرك وبينك في جدك. فقال ابو عبد الله: أيها الأستاذ، وكان عجبي منك دون عجبك مني، لو تقارعنا على هذا لفلجت عليك بالتعجب منك. قال: لأني قلت: إذا ورد الأستاذ فسألقى منه خلقاً جافياً وفظاً غليظاً وصاحب رواسير وآكل كوامخ وجبلياً ديلمياً متكائباً متعاظماً، حتى رأيتك الآن وأنت ألطف من الهواء، وأرق من الماء، وأغزل من جميل بن معمر، وأعذب من الحياة، وأرزن من الطود، وأغزر من البحر، وأبهى من القمر، وأندى من الغيث، وأشجع من الليث، وأنطق من سحبان، وأندى من الغمام، وأنفذ من السهام، وأكبر من جميع الأنام.

فقال أبو الفتح وتبسم: هذا أيضاً من ودائع فضلك، وبواعث تفضلك.

ووصله وصرفه.

قال: لم يكن هذا الحديث عندي.

وأما بشر بن هارون فليس من هذه الطبقة في شيء، لكنه يقرص فيحز ويشم فيهز، ويجرح فيجهز؛ والمدهوون منه كثير؛ واصحابنا يستحسنون قول ابن الحجاج في الوزير حين يقول:

لله در الحسين من قمـر

 

ردت إليه وزارة الشمس

فقال: إن قبلت هذا منهم خفت أن يقال: مادح نفسه يقرئك السلام؛ وما أصنع بهذا البيت وهو مضموم إلى كل بيت سخيف في القصيدة.

ثم قال: وجب أن نصف قبل هذا عصابة العلماء، فلم تركنا ذكرهم ونحن لا نخلو في حديثهم من غرة لائحة، وفائدة نافعة، وصوابٍ زائد في العقل وفضيلة على الأدب، وحلمٍ يزدان به في وقت الحاجة، وحكمةٍ يستعان بها في داهمة؛ ورأى يكون مقيلاً للتمييز عند تهجيرنا به.

قلت: أما أبو عبد الله الجعل فقد شاهدته. قال: صدقت، ولكن لم أقف على مذهبه ودخلته وسيرته في اعتقاده.

قلت: كان الرجل ملتهب الخاطر، واسع أطراف الكلام، مع غثاثة اللفظ، وكان يرجع إلى قوة عجيبة في التدريس، وطول نفس في الإملاء، مع ضيق صدر عند لقاء الخصم ومعاركة القرن، بعيد العهد بالمصاع والدفاع والوقاع؛ وكان سبب هذا الجبن والخور قلة الضراوة على هذه الأحوال؛ ولقد خزي في مشاهد عظيمة.

وأما يقينه فكان ضعيفاً؛ وأما سيرته فكانت واقفةً على حب الرياسة وبذل المال والجاه إذا حضرا، مع تعصب شديد لمن قدمه وأحبه، وإنحاءٍ مفرط على من عاداه، وكان خوضه في الدول والولايات - ولهذا رغب عنه الواسطي وكان أخا ورع ودين - وقال: هذا منفر عن الدين والمذهب، ودافعٌ للناس عن القول بالحق، وطارح للشبهة في القلوب.

وكان يجهر بهذا وأشباهه، ولكن كان جاه الرجل لا ينتقص بهذا القدر وركنه لا يتخلخل على هذا الهد، لأسباب انعقدت له، وأصحاب ذابوا عنه.

وأما ابن الملاح فشيخ حسن المعرفة بالمذهب، شديد التوقي، محمود القناعة ظاهر الرضا؛ تدل سيرته الجميلة على أنه حسن العقيدة.

وأما ابن المعلم فحسن اللسان والجدل، صبور على الخصم، كثير الحيلة ظنين السر، جميل العلانية.

وأما أبو إسحق النصيبي فدقيق الكلام، يشك في النبوات كلها، وقد سمعت منه فيها شبهاً، ولغته معقدة، وله أدب واسع؛ ولقد أضل بهمذان كاتب فخر الدولة ابن المرزبان. وحمله على قلة الاكتراث بظلم الرعية، وأراه أنه لا حرج عليه في غبنهم لأنهم بهائم، وما خرج من الجبل حتى افتضح.

وأما ابن خيران فشيخ لا يعدو الفقه، وفيه سلامة. وأما الداركي فقد اتخذ الشهادة مكسبة، وهو يأكل الدنيا بالدين، ويغلب عليه اللواط، ولا يرجع إلى ثقة وأمانة؛ ولقد تهتك بنيسابور قديماً، وببغداد حديثاً؛ هذا مع الفدامة والوخامة؛ ولقد ند بجعل غلام، وهو اليوم قاضي الري. وابن عباد يكنفه ويقربه ليكون داعية له ونائباً عنه، وليس له أصل وهو من سواد همذان، وأبوه كان فلاحاً، ولقد رأيته، إلا أنه يأتي لابن عباد في سمته ولزوم ناموسه حتى خف عليه، وهو اليوم قارون؛ وقد علت رتبته في الكلام حتى لا مزيد عليها، إلا أنه مع ذلك نغل الباطن، خبيث الخبء، قليل اليقين؛ وذلك أن الطريقة التي قد لزموها وسلكوها لا تفضي بهم إلا إلى الشك والارتياب، لأن الدين لم يأت بكمٍ وكيفٍ في كل باب، ولهذا كان لأصحاب الحديث أنصار الأثر، مزية على أصحاب الكلام وأهل النظر؛ والقلب الخالي من الشبهة أسلم من الصدر المحشو بالشك والريبة، ولم يأت الجدل بخير قط. وقد قيل: من طلب الدين بالكلام ألحد، ومن تتبع غرائب الحديث كذب، ومن طلب المال بالكيمياء افتقر. وما شاعت هذه الوصية جزافاً، بل بعد تجربة كررها الزمان، وتطاولت عليها الأيام؛ يتكلم أحدهم في مائة مسألة ويورد مائة حجة ثم لا ترى عنده خشوعاً ولا رقة، ولا تقوى ولا دمعة؛ وإن كثيراً من الذين لا يكتبون ولا يقرءون ولا يحتجون ولا يناظرون ولا يكرمون ولا يفضلون خيرٌ من هذه الطائفة وألين جانباً، وأخشع قلباً، وأتقى لله عز وجل، وأذكر للمعاد، وأيقن بالثواب والعقاب، وأقلق من الهفوة، وألوذ بالله من صغير الذنب، وأرجع إلى الله بالتوبة؛ ولم أر متكلماً في مدة عمره بكى خشية، أو دمعت عينه خوفاً، أو أقلع عن كبيرة رغبة؛ يتناظرون مستهزئين ويتحاسدون متعصبين، ويتلاقون متخادعين، ويصنفون متحاملين؛ جذ الله عروقهم، واستأصل شأفتهم، وأراح العباد والبلاد منهم؛ فقد عظمت البلوى بهم، وعظمت آفتهم على صغار الناس وكبارهم؛ ودب داؤهم، وعسر دواؤهم، وأرجو ألا أخرج من الدنيا حتى أرى بنيانهم متضغضعاً، وساكنه متجعجعاً.

قال: فما تقول في ابن الباقلاني؟. قلت:

فما شر الثلاثة أم عمـرو

 

بصاحبك الذي لا تصبحينا

يزعم أنه ينصر السنة ويفحم المعتزلة وينشر الرواية؛ وهو في أضعاف ذلك على مذهب الخرمية، وطرائق الملحدة. قال: والله إن هذا لمن المصائب الكبار والمحن الغلاظ، والأمراض التي ليس لها علاج.

ثم قال: إن الليل قد ولى، والنعاس قد طرق العين عابثاً؛ والرأي أن نستجم لننشط، ونستريح لنتعب؛ وإذا حضرت في الليلة القابلة أخذنا في حديث الخلق والخلق - إن شاء الله - وأنا أزودك هذا الإعلام ليكون باعثاً لك على أخذ العتاد بعد اختماره في صدرك، وتحيل الحال به عند خوضك وفيضك ولا تجبن جبن الضعفاء، ولكن قل واتسع مجاهراً بما عندك، منفقاً مما معك.

وانصرفت.