الجزء الثاني - الليلة السابعة عشرة

الليلة السابعة عشرة

فلما عدت إلى المجلس قال: ما تحفظ في تفعال وتفعال، فقد اشتبها؟ وفزعت إلى ابن عبيد الكاتب فلم يكن عنده مقنع، وألقيت على مسكويه فلم يكن له فيها مطلع؛ وهذا دليلٌ على دثور الأدب وبوار العلم والإعراض عن الكدح في طلبه. فقلت: قال شيخنا أبو سعيد السيرافي الإمام - نضر الله وجهه -: المصادر كلها على تفعالٍ بفتح التاء، وإنما تجيىء تفعالٌ في الأسماء، وليس بالكثير. قال: وذكر بعض أهل اللغة منها ستة عشر اسماً لا يوجد غيرها. قال: هاتها. قلت: منها التبيان والتلقاء، ومر تهواءٌ من الليل؛ وتبراك، وتعشار، وترباع، وهي مواضع؛ وتمساح للدابة المعروفة؛ والتمساح الرجل الكذاب أيضاً.

وتجفاف وتمثال وتمراد بيت الحمام، وتلفاق، وهو ثوبان يلفقان. وتلقام: سريع اللقم.

ويقال: أتت الناقة على تضرابها، أي على الوقت الذي ضربها الفحل فيه، وتضراب كثير الضرب وتقصار، وهي المخنقة؛ وتنبال، وهو القصير.

قال: هذا حسنٌ، فما تقول في تذكار؟ فإن الخوض في هذا المثال إنما كان من أجل هذا الحرف، فإن أصحابنا كانوا في مجلس الشراب، فاختلفوا فيه؟ فقلت: هذا مصدرٌ، وهو مفتوح.

ثم قال: اجمع لي حروفاً نظائر لهذا من اللغة، واشرح ما ندر منها، وعرض الشك لكثير من الناس فيها.

فقلت: السمع والطاعة مع الشرف بالخدمة.

وقال أيضاً: حدثني عن شيء هو أهم من هذا لي وأخطر على بالي، إني لا أزال أسمع من زيد بن رفاعة قولاً ومذهباً لا عهد لي به وكنايةً عما لا أحقه، وإشارةً إلى ما لا يتوضح شيءٌ منه، يذكر الحروف ويذكر النقط، ويزعم أن الباء لم تنقط من تحت واحدةً إلا بسبب، والتاء لم تنقط من فوق اثنتين إلا لعلة، والألف لم تعر إلا لغرض. وأشباه هذا؛ وأشهد منه في عرض ذلك دعوى يتعاظم بها وينتفج بذكرها؛ فما حديثه؟ وما شأنه؟ وما دخلته؟ وما خبره؟ فقد بلغني أنك تغشاه وتجلس إليه، وتكثر عنده، وتورق له، ولك معه نوادر مضحكة، وبوادر معجبة. ومن طالت عشرته لإنسانٍ صدقت خبرته به، وانكشف أمره له، وأمكن اطلاعه على مستكن رأيه وخافي مذهبه وعويص طريقته.
فقلت: أيها الوزير، هو الذي تعرفه قبلي قديماً وحديثاً بالتربية والاختبار والاستخدام، وله منك الأخوة القديمة والنسبة المعروفة.

قال: دع هذا وصفه لي. قلت: هناك ذكاءٌ غالبٌ، وذهنٌ وقادٌ، ويقظةٌ حاضرة، وسوانح متناصرة، ومتسعٌ في فنون النظم والنثر، مع الكتابة البارعة في الحساب والبلاغة، وحفظ أيام الناس، وسماعٍ للمقالات، وتبصرٍ في الآراء والديانات، وتصرفٍ في كل فنٍ: إما بالشدو الموهم، وإما بالتبصر المفهم، وإما بالتناهي المفحم. فقال: فعلى هذا ما مذهبه؟ قلت: لا ينسب إلى شيء، ولا يعرف برهط، لجيشانه بكل شيء، وغليانه في كل باب. ولاختلاف ما يبدو من بسطة تبيانه، وسطوته بلسانه، وقد أقام بالبصرة زماناً طويلاً، وصادف بها جماعةً لأصناف العلم وأنواع الصناعة؛ منهم أبو سليمان محمد بن معشر البيستي، ويعرف بالمقدسي، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني والعوفي وغيرهم، فصحبهم وخدمهم؛ وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعشرة، وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهباً زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله والمصير إلى جنته، وذلك أنهم قالوا: الشريعة قد دنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات؛ ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفلة، وذلك لأنها حاويةٌ للحكمة الاعتقادية، والمصلحة الاجتهادية.

وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال؛ وصنفوا خمسين رسالةً في جميع أجزاء الفلسفة: علميها وعمليها، وأفردوا لها فهرستاً وسموها رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، وكتموا أسماءهم، وبثوها في الوراقين، ولقنوها للناس، وادعوا أنهم ما فعلوا ذلك إلا ابتغاء وجه الله عز وجل وطلب رضوانه ليخلصوا الناس من الآراء الفاسدة التي تضر النفوس، والعقائد الخبيثة التي تضر أصحابها، والأفعال المذمومة التي يشقى بها أهلها؛ وحشوا هذه الرسائل بالكلم الدينية والأمثال الشرعية والحروف المحتملة والطرق الموهمة.

فقال: هل رأيت هذه الرسائل؟ قلت: قد رأيت جملةً منها، وهي مبثبوتةٌ من كل فنٍ نتفاً بلا إشباعٍ ولا كفاية، وفيها خرافات وكنايات وتلفيقات وتلزيقات؛ وقد غرق الصواب فيها لغلبة الخطأ عليها؛وحملت عدةً منها إلى شيخنا أبي سليمان المنطقي السجستاني محمد بن بهرام وعرضتها عليه ونظر فيها أياماً واختبرها طويلاً؛ ثم ردها علي وقال: تعبوا وما أغنوا، ونصبوا وما أجدوا، وحاموا وما وردوا، وغنوا وما أطربوا، ونسجوا فهلهلوا، ومشطوا ففلفلوا؛ ظنوا ما لا يكون ولا يمكن ولا يستطاع؛ ظنوا أنهم يمكنهم أن يدسوا الفلسفة - التي هي علم النجوم والأفلاك والمجسطي والمقادير وآثار الطبيعة، والموسيقى التي هي معرفة النغم والإيقاعات والنقرات والأوزان، والمنطق الذي هو اعتبار الأقوال بالإضافات والكميات والكيفيات - في الشريعة، وأن يضموا الشريعة للفلسفة.

وهذا مرامٌ دونه حدد؛ وقد توفر على هذا قبل هؤلاء قوم كانوا أحد أنياباً، وأحضر أسباباً، وأعظم أقداراً، وأرفع أخطاراً، وأوسع قوىً، وأوثق عراً، فلم يتم لهم ما أرادوه، ولا بلغوا منه ما أملوه؛ وحصلوا على لوثاتٍ قبيحة، ولطخاتٍ فاضحة، وألقابٍ موحشة، وعواقب مخزية، وأوزارٍ مثقلة.

فقال له البخاري أبو العباس: ولم ذلك أيها الشيخ؟ قال: إن الشريعة مأخوذةٌ عن الله - عز وجل - بوساطة السفير بينه وبين الخلق من طريق الوحي، وباب المناجاة، وشهادة الآيات، وظهور المعجزات، إلى ما يوجبه العقل تارةً، ويجوزه تارةً، لمصالح عامةٍ متقنة، ومراشد تامةٍ مبينة؛ وفي أثنائها ما لا سبيل إلى البحث عنه، والغوص فيه؛ ولابد من التسليم للداعي إليه، والمنبه عليه؛ وهناك يسقط "لم" ويبطل "كيف"، ويزول "هلا" ويذهب "لو" و "ليت" في الريح، لأن هذه المواد عنها محسومة، واعتراضات المعترضين عليها مردودةٌ، وارتياب المرتابين فيها ضار، وسكون الساكنين إليها نافع؛ وجملتها مشتملةٌ على الخير، وتفصيلها موصولٌ بها على حسن التقبل، وهي متداولة بين متعلق بظاهرٍ مكشوف، ومحتجٍ بتأويلٍ معروفٍ؛ وناصر باللغة الشائعة، وحامٍ بالجدل المبين، وذابٍ بالعمل الصالح، وضاربٍ للمثل السائر، وراجعٍ إلى البرهان الواضح، ومتفقهٍ في الحلال والحرام، ومستندٍ إلى الأثر والخبر المشهورين بين أهل الملة، وراجع إلى اتفاق الأمة.

وأساسها على الورع والتقوى، ومنتهاها إلى العبادة وطلب الزلفى.

ليس فيها حديث المنجم في تأثيرات الكواكب وحركات الأفلاك ومقادير الأجرام ومطالع الطوالع ومغارب الغوارب.

ولا حديث تشاؤمها وتيامنها، وهبوطها وصعودها، ونحسها وسعدها، وظهورها واستسرارها، ورجوعها واستقامتها، وتربيعها وتثليثها، وتسديسها ومقارنتها.

ولا حديث صاحب الطبيعة الناظر في آثارها، وأشكال الأسطقسات، بثبوتها وافتراقها، وتصريفها في الأقاليم والمعادن والأبدان، وما يتعلق بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة؛ وما الفاعل وما المنفعل منها؛ وكيف تمازجها وتزاوجها، وكيف تنافرها وتسايرها؛ وإلى أين تسري قواها، وعلى أي شيء يقف منتهاها.

ولا فيها حديث المهندس الباحث عن مقادير الأشياء ونقطها وخطوطها وسطوحها وأجسامها وأضلاعها وزواياها ومقاطعها، وما الكرة؟ وما الدائرة؟ وما المستقيم؟ وما المنحنى؟ ولا فيها حديث المنطقي الباحث عن مراتب الأقوال، ومناسب الأسماء والحروف والأفعال؛ وكيف ارتباط بعضها ببعض على موضوع رجل من يونان حتى يصح بزعمه الصدق، وينبذ الكذب.

وصاحب المنطق يرى أن الطبيب والمنجم والمهندس وكل من فاه بلفظٍ وأم غرضاً فقراء إليه، محتاجون إلى ما في يديه.

قال: فعلى هذا كيف يسوغ لإخوان الصفاء أن ينصبوا من تلقاء أنفسهم دعوةً تجمع حقائق الفلسفة في طريق الشريعة؟ على أن وراء هذه الطوائف جماعة أيضاً لهم مآخذ من هذه الأغراض، كصاحب العزيمة وصاحب الطلسم وعابر الرؤيا ومدعي السحر وصاحب الكيمياء ومستعمل الوهم. قال: ولو كانت هذه جائزةً وممكنةً لكان الله تعالى نبه عليها، وكان صاحب الشريعة يقوم شريعته بها، ويكملها باستعمالها، ويتلافى نقصها بهذه الزيادة التي يجدها في غيرها، أو يخص المتفلسفين على إيضاحها بها ويتقدم إليهم بإتمامها، ويفرض عليهم القيام بكل ما يذب به عنها حسب طاقتهم فيها، ولم يفعل ذلك بنفسه، ولا وكله إلى غيره من خلفائه والقائمين بدينه؛ بل نهى عن الخوض في هذه الأشياء، وكره إلى الناس ذكرها، وتوعدهم عليها، وقال: من أتى عرافاً أو طارقاً أو حازياً أو كاهناً أو منجماً يطلب غيب الله منه فقد حارب الله، ومن حارب الله حرب، ومن غالبه غلب، حتى قال: لو أن الله حبس عن الناس القطر سبع سنين ثم أرسله لأصبحت طائفةٌ به كافرين.

ويقولون: مطرنا بنوء المجدح، فهذا كما ترى، والمجدح: الدبران.

ثم قال: ولقد اختلفت الأمة ضروباً من الاختلاف في الأصول والفروع، وتنازعوا فيها فنوناً من التنازع في الواضح والمشكل من الأحكام، والحلال والحرام، والتفسير والتأويل، والعيان والخبر، والعادة والاصطلاح؛ فما فزعوا في شيء من ذلك إلى منجمٍ ولا طبيب ولا منطقيٍ ولامهندسٍ ولا موسيقي ولا صاحب عزيمةٍ وشعبذة وسحرٍ وكيمياء، لأن الله تعالى تمم الدين بنبيه صلى الله عليه وسلم ، ولم يحوجه بعد البيان الوارد بالوحي إلى بيانٍ موضوعٍ بالرأي.

قال: وكما لم نجد في هذه الأمة من يفزع إلى أصحاب الفلسفة في شيء من دينها، فكذلك أمة عيسى عليه السلام وهي النصارى، وكذلك المجوس.

قال: ومما يزيدك وضوحاً ويريك عجباً أن الأمة اختلفت في آرائها ومذاهبها ومقالاتها فصارت أصنافاً فيها وفرقاً؛ كالمرجئة والمعتزلة والشيعة والسنية والخوارج، فما فزعت طائفةٌ من هذه الطوائف إلى الفلاسفة، ولا حققت مقالتها بشواهدهم وشهادتهم، ولا اشتغلت بطريقتهم، ولا وجدت عندهم ما لم يكن عندها بكتاب ربها وأثر نبيها.

وهكذا الفقهاء الذين اختلفوا في الأحكام من الحلال والحرام منذ أيام الصدر الأول إلى يومنا هذا لم نجدهم تظاهروا بالفلاسفة فاستنصروهم، ولا قالوا لهم: أعينونا بما عندكم؛ واشهدوا لنا أو علينا بما قبلكم.

قال: فأين الدين من الفلسفة؟ وأين الشيء المأخوذ بالوحي النازل، من الشيء المأخوذ بالرأي الزائل؟ فإذ أدلوا بالعقل فالعقل موهبةٌ من الله جل وعز لكل عبد، ولكن بقدر ما يدرك به ما يعلوه، كما لا يخفى به عليه ما يتلوه، وليس كذلك الوحي، فإنه على نوره المنتشر، وبيانه الميسر.

قال: وبالجملة، النبي فوق الفيلسوف، والفيلسوف دون النبي؛ وعلى الفيلسوف أن يتبع النبي، وليس على النبي أن يتبع الفيلسوف، لأن النبي مبعوث، والفيلسوف مبعوثٌ إليه.

قال: ولو كان العقل يكتفى به لم يكن للوحي فائدةٌ ولا غناءٌ، على أن منازل الناس متفاوتةٌ في العقل، وأنصباؤهم مختلفةٌ فيه؛ فلو كنا نستغني عن الوحي بالعقل كيف كنا نصنع، وليس العقل بأسره لواحدٍ منا، وإنما هو لجميع الناس، فإن قال قائل بالعبث والجهل: كل عاقل موكولٌ إلى قدر عقله، وليس عليه أن يستفيد الزيادة من غيره، لأنه مكفي به، وغير مطالبٍ بما زاد عليه.

قيل له: كفاك تمادياً في هذا الرأي أنه ليس لك فيه موافق، ولا عليه مطابق؛ ولو استقل إنسانٌ واحدٌ بعقله في جميع حالاته في دينه ودنياه لاستقل أيضاً بقوته في جميع حاجاته في دينه ودنياه، ولكان وحده يفي بجميع الصناعات والمعارف، وكان لا يحتاج إلى أحدٍ من نوعه وجنسه؛ وهذا قولٌ مزدول ورأيٌ مخذول.

قال البخاري: وقد اختلفت أيضاً درجات النبوة بالوحي، وإذا ساغ هذا الاختلاف في الوحي ولم يكن ذلك ثالماً له، ساغ أيضاً في العقل ولم يكن مؤثراً فيه.

فقال: يا هذا، اختلاف درجات أصحاب الوحي لم يخرجهم عن الثقة والطمأنينة بمن اصطفاهم بالوحي، وخصهم بالمناجاة، واجتباهم للرسالة، وأكملهم بما ألبسهم من شعار النبوة؛ وهذه الثقة والطمأنينة مفقودتان في الناظرين بالعقول المختلفة، لأنهم على بعدٍ من الثقة والطمأنينة إلا في الشيء القليل والنزر اليسير؛ وعوار هذا الكلام ظاهر، وخطل هذا المتكلم بين.

قال الوزير: أفما سمع شيئاً من هذا المقدسي؟ قلت: بلى قد ألقيت هذا وما أشبهه بالزيادة والنقصان، والتقديم والتأخير، في أوقات كثيرة بحضرة حمزة الوراق في الوراقين، فسكت، وما رآني أهلاً للجواب؛ لكن الحريري غلام ابن طرارة هيجه يوماً في الوراقين بمثل هذا الكلام، فاندف فقال: الشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء، والأنبياء يطبون للمضرى حتى لا يتزايد مرضهم، وحتى يزول المرض بالعافية فقط. فأما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة على أصحابها حتى لا يعتريهم مرضٌ أصلاً، فبين مدبر المريض ومدبر الصحيح فرقٌ ظاهر وأمرٌ مكشوف، لأن غاية مدبر المريض أن ينتقل به إلى الصحة، هذا إذا كان الدواء ناجعاً، والطبع قابلاً، والطبيب ناصحاً. وغاية مدبر الصحيح أن يحفظ الصحة، وإذا حفظ الصحة فقد أفاده كسب الفضائل، وفرغه لها، وعرضه لاقتنائها؛ وصاحب هذه الحال فائزٌ بالسعادة العظمى، ومتبوىءٌ الدرجة العليا؛ وقد صار مستحقاً للحياة الإليهة؛ والحياة الإلهية من الخلود والديمومة والسرمدية.

فإن كسب من يبرأ من المرض بطب صاحبه الفضائل أيضاً؛ فليست تلك الفضائل من جنس هذه الفضائل، لأن إحداهما تقليدية، والأخرى برهانية؛ وهذه مظنونةٌ، وهذه مستيقنة، وهذه روحانية، وهذه جسمية، وهذه دهرية، وهذه زمانية.

وقال أيضاً: إنما جمعنا بين الفلسفة والشريعة لأن الفلسفة معترفةٌ بالشريعة، وإن كانت الشريعة جاحدةً لها؛ وإنما جمعنا أيضاً بينهما لأن الشريعة عامة، والفلسفة خاصة، والعامة قوامها بالخاصة، كما أن الخاصة تمامها بالعامية؛ وهما متطبقتان إحداهما على الأخرى، لأنها كالظهارة التي لا بد لها من البطانة، وكالبطانة التي لابد لها من الظهارة.

فقال له الحريري: أما قولك طب المرضى وطب الأصحاء وما نسقت عليه كلامك فمثلٌ لا يعبر به غيرك ومن كان في مشكل، لأن الطبيب عندنا الحاذق في طبه هو الذي يجمع بين الأمرين، أعني أنه يبرىء المريض من مرضه، ويحفظ الصحيح على صحته؛ فأما أن يكون ها هنا طبيبان يعالج أحدهما الصحيح، والآخر يعالج المريض، فهذا ما لم نعهده نحن ولا أنت؛ وهو شيءٌ خارجٌ عن العادة، فمثلك مردودٌ عليك، وتشنيعك فاضحٌ لك، وكل أحد يعلم أن التدبير في حفظ الصحة ودفع المرض - وإن كان بينهما فرق - واحد، فالطب يجمعهما، والطبيب الواحد يقوم بهما وبشرائطهما.

وأما قولك في الفصل الثاني: إن أحدى الفضيلتين تقليدية، والأخرى برهانية، فكلامٌ مدخول، لأنك غلطت على نفسك؛ ألا تعلم ان البرهانية هي الواردة بالوحي، الناظمة للرشد، الداعية إلى الخير، الواعدة بحسن المآب؛ وأن التقليدية هي المأخوذة من المقدمة والنتيجة، والدعوى التي يرجع فيها إلى من ليس بحجة، وإنما هو رجلٌ قال شيئاً فوافقه آخر وخالفه آخر، فلا الموافق له يرجع إلى الوحي، ولا المخالف له يستند إلى حق؛ والعجب أنك جعلت الشريعة من باب الظن، وهي بالوحي، وجعلت الفلسفة من باب اليقين، وهي من الرأي.

وأما قولك: هذه روحانية - تعني الفلسفة - وهذه جسمية - تعني الشريعة - فزخرفة لا تستحق الجواب، ولمثل هذا فليعمل المزخرفون؛ على أنا لو قلنا: بل الشريعة هي الروحانية، لأنها صوت الوحي، والوحي من الله عز وجل، والفلسفة هي الجسمية، لأنها برزت من جهة رجل باعتبار الأجسام والأعراض، وما هذا شأنه فهو بالجسم أشبه، وعن لطف الروح أبعد لما أبعدنا.

وأما قولك: الفلسفة خاصةٌ والشريعة عامة، فكلام ساقط لا نور عليه، لأنك تشير به إلى أن الشريعة يعتقدها قوم - وهم العامة - والفلسفة ينتحلها قوم - وهم الخاصة - فلم جمعتم رسائل إخوان الصفاء ودعوتم الناس إلى الشريعة وهي لا تلزم إلا للعامة، ولم تقولوا للناس: من أحب أن يكون من العامة فليتحل بالشريعة، فقد ناقضتم، لأنكم حشوتم مقالتكم بآياتٍ من كتاب الله تزعمون بها أن الفلسفة مدلولٌ عليها بالشريعة، ثم الشريعة مدلولٌ عليها بالمعرفة، ثم هأنت تذكر أن هذه للخاصة؛ وتلك للعامة؛ فلم جمعتم بين مفترقين، ومزقتم بين مجتمعين؛ هذا والله الجهل المبين، والخرق المشين.

وأما قولك: إنا جمعنا بين الفلسفة والشريعة لأن الفلسفة معترفةٌ بالشريعة، وإن كانت الشريعة جاحدةً للفلسفة، فهذه مناقضة أخرى، وإني أظن أن حسك كليل، وعقلك عليل، لأنك قد أوضحت عذر أصحاب الشريعة، إذ جحدوا الفلسفة، وذلك أن الشريعة لا تذكرها، ولا تخص على الدينونة بها؛ ومع ذلك فليس لهم علمٌ بأن الفلسفة قد حثت على قبول الشريعة، ونهت عن مخالفتها، وسمتها بالناموس الحافظ لصلاح العالم.

ثم قال الحريري: حدثني أيها الشيخ: على أي شريعةٍ دلت الفلسفة؟ أعلى اليهودية، أم على النصرانية، أم على المجوسية، أم على الإسلام، أم ما عليه الصابئون؟ فإن ها هنا من يتفلسف وهو نصراني كابن زرعة وابن الخمار وأمثالهما، وها هنا من يتفلسف وهو يهودي، كأبي الخير بن يعيش، وها هنا من يتفلسف وهو مسلم، كأبي سليمان والنوشجاني وغيرهما؛ أفتقول إن الفلسفة أباحت لكل طائفة من هذه الطوائف أن تدين بذلك الدين الذي نشأت عليه؟ ودع هذا ليخاطب غيرك، فإنك من أهل الإسلام بالهدى والجبلة والمنشأ والوراثة؛ فما بالنا لا نرى واحداً منكم يقوم بأركان الدين، ويتقيد بالكتاب والسنة يراعي معالم الفريضة ووظائف النافلة؟ وأين كان الصدر الأول من الفلسفة؟ أعني الصحابة، وأين كان التابعون منها؟ ولم خفي هذا الأمر العظيم - مع ما فيه من الفوز والنعيم - على الجماعة الأولى والثانية والثالثة إلى يومنا هذا وفيهم الفقهاء والزهاد والعباد وأصحاب الورع والتقى، والناظرون في الدقيق ودقيق الدقيق وكل ما عاد بخيرٍ عاجل وثوابٍ آجل، هيهات لقد أسررتم الحشو في الارتغاء واستقيتم بلا دلو ولا رشاء، ودللتم على فسولتكم وضعف منتكم وأردتم أن تقيموا ما وضعه الله، وتضعوا ما رفعة الله، والله لا يغالب؛ بل هو غالبٌ على أمره، فعال لما يريد.

قد حاول هذا الكيد خلقٌ في القديم والحديث، فنكصوا على أعقابهم خائبين، وكبوا لوجوههم خاسرين؛ منهم أبو زيد البلخي؛ فإنه ادعى أن الفلسفة مقاودة للشريعة، والشريعة مشاكلة للفلسفة، وأن إحداهما أم والأخرى ظئر، وأظهر مذهب الزيدية، وانقاد لأمير خراسان الذي كتب له أن يعمل في نشر الفلسفة بشفاعة الشريعة، ويدعو الناس إليها باللطف والشفقة والرغبة، فشتت الله كلمته، وقوض دعامته، وحال بينه وبين إرادته، ووكله إلى حوله وقوته، فلم يتم له من ذلك شيء.

وكذلك رام أبو تمام النيسابوري، وخدم الطائفة المعروفة بالشيعية ولجأ إلى مطرف بن محمد وزير مرداويج الجيلي ليكون له به قوة، وينطق بما في نفسه من هذه الجملة، فما زادته إلا صغراً في قدره، ومهانةً في نفسه، وتوارياً في بيته؛ وهذا بعينه قصد العامري فما زال مطروداً من صقع إلى صقع ينذر دمه ويرتصد قتله، فمرةً يتحصن بفناء ابن العميد، ومرةً يلجأ إلى صاحب الجيش بنيسابور، ومرةً يتقرب إلى العامة بكتبٍ يصنفها في نصرة الإسلام، وهو على ذلك يتهم ويقرف بالإلحاد؛ وبقدم العالم واللاكم في الهيولى والصورة والزمان والمكان، وما أشبه هذا من ضروب الهذيان التي ما أنزل الله بها كتابه، ولا دعا إليها رسوله، ولا أفاضت فيها أمته.

ومع ذلك يناغي صاحب كل بدعة؛ ويجلس إليه كلٌ منهم؛ ويلقي كلامه إلى كل من ادعى باطناً للظاهر وظاهراً للباطن.

وما عندي أن الأئمة الذين يأخذ عنهم ويقتبس منهم، كأرسطوطاليس وسقراط وأفلاطون، رهط الكفر ذكروا في كتبهم حديث الظاهر والباطن، وإنما هذا من نسج القداحين في الإسلام، الساترين على أنفسهم ما هم فيه من التهم؛ وهذا بعينه دبره الهجريون بالأمس، وبهذا دندن الناجمون بقزوين وبثوا الدعاة في أطراف الأرض، وبذلوا الرغائب وفتنوا النفوس.

وقد سمعنا تأويلات هذه الطوائف لآيات القرآن في قوله عز وجل: "انطلقوا إلى ظلٍ ذي ثلاث شعبٍ" وفي قوله تعالى: "عليها تسعة عشر" وفي قوله تعالى: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" إلى غير ذلك مما يطول ويعول فدعونا من التورية والحيلة والإيهام والكناية عن شيء لا يتصل بالإرادة، والإرادة لشيء لا يتصل بالتصريح، فالناس ألقد لأديانهم وأحرص على الظفر ببغيتهم من الصيارفة لدنانيرهم ودراهمهم. فلما انبهر المقدسي بما سمع وكاد يتفرى إهابه من الغيظ والعجز وقلة الحيلة قال: الناس أعداء ما جهلوا، ونشر الحكمة في غير أهلها يورث العداوة ويطرح الشحناء ويقدح زند الفتنة.

ثم كر الحريري كر المدل وعطف عطفة الواثق بالظفر، فقال: يا أبا سليمان، من هذا الذي يقر منكم أن عصا موسى انقلبت حية، وأن البحر انفلق، وأن يداً خرجت بيضاء من غير سوء، وأن بشراً خلق من تراب، وأن آخرته ولدته أنثى من غير ذكر، وأن ناراً مؤججةً طرح فيها إنسانٌ فصارت له برداً وسلاماً، وأن رجلاً مات مائة عامٍ ثم بعث فنظر إلى طعامه وشرابه على حاليهما لم يتغيرا، وأن قبراً تفقأ عن ميتٍ حيى، وأ طيناً دبر فنفخ فيه فطار، وأن قمراً انشق، وأن جذعاً حن، وأن ذئباً تكلم، وأن ماءً نبع من أصابع فروى منه جيشٌ عظيم، وأن جماعةً شبعت من ثريدةٍ في قدر جسم قطاة؟ وعلى هذا، إن كنتم تدعون إلى شريعة من الشرائع التي فيها هذه الخوارق والبدائع فاعترفوا بأن هذه كلها صحيحة ثابتة كائنة لا ريب فيها ولا مرية، من غير تأويل ولا تدليس، ولا تعليل ولا تلبيس، وأعطونا خطكم بأن الطبائع تفعل هذا كله، والمواد تواتى له، والله تعالى يقدر عليه؛ ودعوا التورية والحيلة والغيلة والظاهر والباطن، فإن الفلسفة ليست من جنس الشريعة، ولا الشريعة من فن الفلسفة، وبينهما يرمي الرامي ويهمي الهامي؛ على أنا ما وجدنا الديانين من المتألهين من جميع الأديان يذكرون أن أصحاب شرائعهم قد دعوا إلى الفلسفة وأمروا بطلبها واقتباسها من اليونانيين هذا موسى وعيسى وإبراهيم وداود وسليمان وزكريا ويحيى إلى محمد صلى الله عليه وسلم لم نحق من يعزو إليهم شيئاً من هذا الباب، ويعلق عليهم هذا الحديث.

قال الوزير: ما عجبي من جميع هذا الكلام إلا من أبي سليمان في هذا الاستحقار والتغضب، والاحتشاد والتعصب؛ وهو رجل يعرف بالمنطقي، وهو من غلمان يحيى بن عدي النصراني، ويقرأ عليه كتب يونان، وتفسير دقائق كتبهم بغاية البيان.

فقلت: إن أبا سليمان يقول: إن الفلسفة حقٌ لكنها ليست من الشريعة في شيء، والشريعة حقٌ لكنها ليست من الفلسفة في شيء، وصاحب الشريعة مبعوث، وصاحب الفلسفة مبعوث إليه، وأحدهما مخصوص بالوحي، والآخر مخصوص ببحثه، والأول مكفي، والثاني كادح، وهذا يقول: أمرت وعلمت، وقيل لي، وما أقول شيئاً من تلقاء نفسي؛ وهذا يقول: رأيت ونظرت واستحسنت واستقبحت؛ وهذا يقول: نور العقل أهتدي به؛ وهذا يقول: معي نور خالق الخلق أمشي بضيائه؛ وهذا يقول: قال الله تعالى، وقال الملك؛ وهذا يقول: قال أفلاطن وسقراط؛ ويسمع من هذا ظاهر تنزيل، وسائغ تأويل، وتحقيق سنة، واتفاق أمة؛ ويسمع من الآخر الهيولى والصورة والطبيعة والأسطقس والذاتي والعرضي والأيسي والليسي، وما شاكل هذا مما لا يسمع من مسلمٍ ولا يهودي ولا نصراني ولا مجوسي ولا مانوي.

ويقول أيضاً: من أراد أن يتفلسف فيجب عليه أن يعرض بنظره عن الديانات، ومن اختار التدين فيجب عليه أن يعرد بعنايته عن الفلسفة ويتحلى بهما مفترقين في مكانين على حالين مختلفين، ويكون بالدين متقرباً إلى الله تعالى، على ما أوضحه له صاحب الشريعة عن الله تعالى، ويكون بالحكمة متصفحاً لقدرة الله تعالى في هذا العالم الجامع للزينة الباهرة لكل عين، المحيرة لكل عقل، ولا يهدم أحدهما بالآخر. أعني لا يجحد ما ألقي إليه صاحب الشريعة مجملاً ومفصلاً، ولا يغفل عما استخزن الله تعالى هذا الخلق العظيم على ما ظهر بقدرته، واشتمل بحكمته، واستقام بمشيئته، وانتظم بإرادته واستتم بعلمه؛ ولا يعترض على ما يبعد في عقله ورأيه من الشريعة، وبدائع آيات النبوة بأحكام الفلسفة، فإن الفلسفة مأخوذة من العقل المقصور على الغاية، والديانة مأخوذة من الوحي الوارد من العلم بالقدرة.

قال: ولعمري إن هذا صعب، ولكنه جماع الكلام، وأخذ المستطاع، وغاية ما عرض له الإنسان المؤيد باللطائف، المزاح بالعلل وبضروب التكاليف.

قال: ومن فضل نعمة الله تعالى على هذا الخلق أنه نهج لهم سبيلين ونصب لهم علمين، وأبان لهم نجدين ليصلوا إلى دار رضوانه إما بسلوكهما وإما بسلوك أحدهما. فقال له البخاري: فهلا دل الله على الطريقين اللذين رسمتهما في هذا المكان؟ قال: ودل وبين، ولكنك عمٍ، أما قال: "وما يعقلها إلا العالمون"؟ وفي فحوى هذا وما يعلمها إلا العالمون؟ فقد وصل العقل بالعلم، كما وصل العلم بالعقل، لأن كمال الإنسان بهما، ألا ترى أن العاقل متى عري من العلم قل انتفاعه بعقله؟ كذلك العالم متى خلي من العقل بطل انتفاعه بعلمه، أما قال: "وما يتذكر إلا أولوا الألباب"؟ أما قال: "فاعتبروا يا أولي الأبصار"؟ أما قال: "أفلا يتدبرون القرآن"؟ أما ذم قوماً حين قال: "يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون"؟ أفما قال: "أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارجٍ منها"! أما قال: "وكأين من آيةٍ في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون"؟ أما قال: "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيدٌ"؟ وكتاب الله عز وجل محيطٌ بهذا كله، وإنما تقاد إلى طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بعد هذا فيما لا يناله عقلك، ولا يبلغه ذهنك، ولا يعلو إليه فكرك، فأمرك باتباعه والتسليم له، وإنما دخلت الآفة من قومٍ دهريين ملحدين ركبوا مطية الجدل والجهل، ومالوا إلى الشغب بالتعصب، وقابلوا الأمور بتحسينهم وتقبيحهم وتهجينهم، وجهلوا أن وراء ذلك ما يفوت ذرعهم، ويتخلف عن لحاقه رأيهم ونظرهم، ويعمي دون كنه ذلك بصرهم؛ وهذه الطائفة معروفة، منهم صالح بن عبد القدوس، وابن أبي العوجاء، ومطر بن أبي الغيث، وابن الراوندي، والحصري، فإن هؤلاء طاحوا في أودية الضلالة، واستجروا إلى جهلهم أصحاب الخلاعة والمجانة.

فقال البخاري: فما الذي تركت بهذا الوصف للذين جمعوا بين الفلسفة والديانة؛ ووصلوا هذه بهذه على طريق الظاهر والباطن، والخفي والجلي، والبادي والمكتوم؟ قال: تركت لهم الطويل العريض، القوم زعموا أن الفلسفة مواطئةٌ للشريعة، والشريعة موافقةٌ للفلسفة؛ ولا فرق بين قول القائل: قال النبي، وقال الحكيم، وأن أفلاطون ما وضع كتاب النواميس إلا لنعلم كيف نقول؟ وبأي شيء نبحث، وما الذي نقدم ونؤخر، وأن النبوة فرعٌ من فروع الفلسفة، وأن الفلسفة أصل علم العالم، وأن النبي محتاجٌ إلى تتميم ما يأتي به من جهة الحكيم، والحكيم غنيٌ عنه؛ هذا وما أشبهه؛ وأن صاحب الدين له أن يعين ويوري ويشير ويكني حتى تتم المصلحة، وتنتظم الكلمة، وتتفق الجماعة، وتثبت السنة، وتحلو المعيشة، وحتى قال قائل منهم: أوائل الشريعة أمورٌ مبتدعة، ووسائطها سننٌ متبعة، وأواخرها حقوقٌ منتزعة، وإن هذا النعت من قولي: إن الشريعة إلهية، والفلسفة بشرية، أعني أن تلك بالوحي، وهذه بالعقل، وأن تلك موثوقٌ بها ومطمأنٌ إليها، وهذه مشكوكٌ فيها مضطربٌ عليها.

قال له البخاري: فلم لم ينهج صاحب الشريعة هذه الطريق، وكان يزول هذا الخصام، وينتفي هذا الظن، وتكسد هذه السوق؟ فقال: إن صاحب الشريعة مستغرقٌ بالنور الإلهي، فهو محبوس على ما يراه ويبصره، ويجده وينظره، لأنه مأخوذ بما شهده بالعيان وأدركه بالحس وناله بوديعة الصدر عن كل ما عداه، فلهذا يدعو إلى اقتباس كماله الذي حصل له، ولا يسعد بدعوته إلا من وفق لإجابته، وأذعن لطاعته، واهتدى بكلمته، والفلسفة كمال بشري، والدين كمالٌ إلهي، والكمال الإلهي غنيٌ عن الكمال البشري، والكمال البشري فقيرٌ إلى الكمال الإلهي، فهذا هذا، وما أمر الله عز وجل بالاعتبار، ولا حث على التدبير، ولا حرك القلوب إلى الاستنباط، ولا حبب إلى القلوب البحث في طلب المكنونات، إلا ليكون عباده حكماء ألباء أتقياء أذكياء، ولا أمر بالتسليم ولا حظر الغلو والإفراط في التعمق إلا ليكون عباده لاجئين إليه متوكلين عليه، معتصمين به، خائفين منه، راجين له، يدعونه خوفاً وطمعاً، ويعبدونه رغباً ورهباً، فبين ما بين حرصاً على معرفته وعبادته، وطاعته وخدمته، وأخفى ما أخفى لتدوم حاجتهم إليه، ولا يقع الغنى عنه، وبالحاجة يقع الخضوع والتجرد، وبالاستغناء يعرض التجبر والتمرد؛ وهذه أمورٌ جاريةٌ بالعادة، وثابتة بالسيرة الجائرة والعادلة؛ ولا سبيل إلى دفعها ورفعها وإنكارها وجحدها، فلهذا لزم كل من أدرك بعقله شيئاً أن يتمم نقصه بما يجده عند من أدرك ما أدرك بوحيٍ من ربه. وقال أيضاً: مما يؤكد هذه الجملة أن الشريعة قد أتت على معقولٍ كثير، بنور الوحي المنير، ولم تأتي الفلسفة على شيء من الوحي لا كثيرٍ ولا قليل: قال: وليس ليونان نبيٌ يعرف، ولا رسولق من قبل الله صادق، وإنما كانوا يفزعون إلى حكمائهم في وضع ناموسٍ يجمع مصالح حياتهم ونظام عيشهم ومنافع أحوالهم في عاجلتهم، وكانت ملوكهم تحب الحكمة وتؤثر أهلها، وتقدم من تحلى بجزء من أجزائها، وكان ذلك الناموس يعمل به ويرجع إليه، حتى إذا أبلاه الزمان، وأخلقه الليل والنهار، عادوا فوضعوا ناموساً آخر جديداً بزيادة شيء على ما تقدم أو نقصانٍ، على حسب الأحوال الغالبة على الناس، والمغلوبة بين الناس، ولهذا لا يقال: إن الإسكندر في أيام ملكه حين سار من المغرب إلى المشرق كانت شريعته كذا وكذا، وكان يذكر نبياً يقال له: فلان، أو قال: أنا نبي، ولقد واقع داراً وغيره من الملوك على طريق الغلبة في طريق الغلبة في طلب الملك، وحيازة الديار وجباية الأموال والسبي والغارة، ولو كان للنبوة ذكرٌ وللنبي حديثٌ لكان ذلك مشهوراً مذكوراً، ومؤرخاً معروفاً.

قال الوزير: هذا كلامٌ عجيبٌ ما سمعت مثله على هذا الشرح والتفصيل، قلت: إن شيخنا أبا سليمان غزير البحر، واسع الصدر، لا يغلق عليه في الأمور الروحانية والأنباء الإلهية والأسرار الغيبية، وهو طويل الفكرة، كثير الوحدة، وقد أوتي مزاجاً حسن الاعتدال، وخاطراً بعيد المنال، ولساناً فسيح المجال، وطريقته هذه التي اجتباها مكتنفةٌ بمعارضاتٍ واسعة، وعليها مداخل لخصمائه، وليس يفي كل أحدٍ بتلخيصه لها، لأنه قد أفرز الشريعة من الفلسفة، ثم حث على انتحالهما معاً، وهذا شبيهٌ بالمناقضة. وقد رأيت صاحباً لمحمد بن زكرياء ي هذه الأيام ورد من الري يقال له: أبو غانم الطبيب يشاده في هذا الموضع ويضايقه، ويلزمه القول بما ينكره على الخصم، وإذا أذنت رسمت كلامهما في ورقات. فقال الوزير: قد بان الغرض الذي رمي إليه، وتقليبه بالجدل لا يزيده إلا إغلاقاً، والقصد معروف، والوقوف عليه كافٍ، ومع هذا فليت حظنا منه كان يتوفر بالتلاقي والاجتماع، لا بالرواية والسماع، هات فائدة الوداع، فقد بلغت في المؤانسة غاية الإمتاع.

قلت: أكره أن أختم مثل هذه الفقرة الشريفة بما يشبه الهزل وينافي الجد، فإن أذنت رويت ما يكون أساساً ودعامة لما تقدم. قال: هات ما أحببت، فما عهدنا من روايتك إلا ما يشوقنا إلى رؤيتك.

قلت: قال ابن المقفع: عمل الرجل بما يعلم أنه خطأٌ هوىً، والهوى آفة العفاف، وتركه العمل بما يعلم أنه صوابٌ تهاون، والتهاون آفة الدين، وإقدامه على ما لا يعلم أصوابٌ هو أم خطأٌ لجاج، واللجاج آفة الرأي.

فقال - حرس الله نفسه -: ما أكثر رونق هذا الكلام! وما أعلى رتبته في كنه العقل! اكتبه لنا، بل اجمع لي جزءاً لطيفاً من هذه الفقر، فإنها تروح العقل في الفينة بعد الفينة، فإن نور العقل ليس يشع في كل وقت؛ بل يشع مرةً ويبرق مرةً، فإذا شع عم نفعه، وإذا برق خص نفعه وإذا خفي بطل نفعه. قلت: أفعل. فقال: إن كان معك شيءٌ آخر فاذكره، فإن الحديث الحسن لا يمل، وما أحسن ما قال خالد بن صفوان، فإنه قيل له: أتمل الحديث؟ قال: إنما يمل العتيق. قال: صدق خالد: إن الحديث لا يمل من الزمان إلا فيما يليه، وإلا يمل في أول زمانه وفاتحة أوانه، وإنما الملل يعرض بتكرر الزمان وضجر الحس ونزاع الطبع إلى الجديد، ولهذا قيل: لكل جديدٍ لذة.
فحكيت أنه لما تقلد كسرى أنوشروان مملكته عكف على الصبوح والغبوق، فكتب إليه وزيره رقعةً يقول فيها: إن في إدمان الملك ضرراً على الرعية، والوجه تخفيف ذلك والنظر في أمور المملكة. فوقع على ظهر الرقعة بالفارسية بما ترجمته: يا هذا، إذا كانت سبلنا آمنة، وسيرتنا عادلة، والدنيا باستقامنا عامرة، وعمالنا بالحق عاملة، فلم نمنع فرحةً عاجلة؟.قال: من حدثك بهذا؟ قلت: أبو سليمان شيخنا، قال: فكيف كان رضاه عن هذا الملك في هذا القول؟ فقلت: اعترض فقال: أخطأ من وجوه، أحدها أن الإدمان إفراط، والإفراط مذموم؛ والآخر أنه جهل أن أمن السبيل وعدل السيرة وعمارة الدنيا والعمل بالحق متى لم يوكل بها الطرف الساهر ولم تحط بالعناية التامة، ولم تحفظ بالاهتمام الجالب لدوام النظام، دب إليها النقص والنقص بابٌ للانتقاض، مزعزعٌ للدعامة، والآخر أن الزمان أعز من أن يبذل في الأكل والشرب والتلذذ والتمتع، فإن في تكميل النفس الناطقة باكتساب الرشد لها وإبعاد الغي عنها ما يستوعب أضعاف العمر، فكيف إذا كان العمر قصيراً، وكان ما يدعو إليه الهوى كبيراً؟! والآخر أنه ذهب عليه أن الخاصة والعامة إذا وقفت على استهتار الملك باللذات، وانهماكه في طلب الشهوات، ازدرته واستهانت به، وحدثت عنه بأخلاق الخنازير وعادات الحمير واستهانة الخاصة والعامة بالناظر في أمرها والقيم بشأنها متى تكررت على القلوب تطرقت إلى اللسان، وانتشرت في المحافل، والتفت بها بعضهم إلى بعض وهذه مكسرةٌ للهيبة، وقلة الهيبة رافعةٌ للحشمة، وارتفاع الحشمة باعثٌ على الوثبة، والوثبة غير مأمونةٍ من الهلكة؛ وما خلا الملك من طامعٍ راصدٍ قط وليس ينبغي للملك الحازم أن يظن أنه لا ضد له ولا منازع، وقد ينجم الضد والمنازع من حيث لا يحتسب، وما أكثر خجل الواثق! وما أقل حزم الوامق! وما أقل يقظة المائق!.

ثم قال: وعلى الضد متى كان السائس ذا تحفظٍ وبحثٍ، وتتبعٍ وحزمٍ وإكبابٍ على لم الشعث وتقويم الأود وسد الخلل وتعرف المجهول وتحقق المعلوم ورفع المنكر وبث المعروف، احترست منه العامة والخاصة، واستشعرت الهيبة، والتزمت بينها النصفة، وكفيت كثيراً من معاناتها ومراعاتها، وإن كان للدولة راصدٌ للغرة يئس من نفوذ الحيلة فيها، لأن اللص إذا رأى مكاناً حصيناً وعهد عليه حراساً لم يحدث نفسه بالتعرض له، وإنما يقصد قصرا فيه ثلمة، وباباً إليه طريق، والأعراض بالأسباب، وإذا ضعف السبب ضعف العرض، وإذا انقطع السبب انقطع العرض.

فقال - أدام الله أيامه -: هذا كلامٌ كافٍ شافٍ. وقال بعد ذلك: حدثني عما تسمع من العامة في حديثنا.

قلت: سمعت بباب الطاق قوماً يقولون: اجتمع الناس اليوم على الشط فلما نزل الوزير ليركب المركب صاحوا وضجوا وذكروا غلاء القوت وعوز الطعام وتعذر الكسب وغلبة الفقر وتهتك صاحب العيال، وأنه أجابهم بجوابٍ مرٍ مع قطوب الوجه وإظهار التبرم بالاستغاثة: بعد لم تأكلوا النخالة.

فقال: والله ما قلت هذا، ولا خطر لي على بال، ولم أقابل عامةً جاهلةً ضعيفةً جائعةً بمثل هذه الكلمة الخشناء، وهذا يقوله من طرح الشر وأحب الفساد وقصد التشنيع علي والإيحاش مني، وهو هذا العدو الكلب، يعني ابن يوسف كفاني الله شره، وشغله بنفسه، ونكس كيده على رأسه؛ والله لأنظرن لها وللفقراء بمالٍ أطلقه من الخزانة، وأرسم ببيع الخبز ثمانية بدرهم، ويصل ذلك إلى الفقراء في كل محلةٍ على ما يذكر شيخها، ويبيع الباقون على السعر الذي يقوم لهم، ويشتريه الغني الواجد؛ ففعل ذلك - أحسن الله جزاءه - على ما عرفت وشاهدت، وأبلغته بنشر الدعاء له في الجوامع والمجامع بطول البقاء ودوام العلاء وكبت الأعداء ونصر الأولياء. ثم كتبت جزءاً من الفقر على ما رسم من قبل، فلما أوصلته إليه قال لي: اقرأ، فقرأته عليه، فقال: صل هذا الجزء بجزء آخر من حديث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وبجزء من الشعر، وبشيء من معاني القرآن، فإنه مقدمٌ على كل شيء بحسب ما رفع الله من خطره، وأحوج إلى فهمه، وندب إلى العمل به، وأثاب على التفكر فيه والتعجب منه.

وعظ رجلٌ من "جهينة" "عمرو بن العاص" في قصة الحكومة، فقال عمرو له: ما أنت وذاك يا تيس جهينة؟ فوالله ما ينفعك الحق، ولا يضرك الباطل، فاسكت فإن الظلف لا يجري مع الخف.

وقال بعض الحكماء: إن المدن تبنى على الماء والمرعى والمحتطب والحصانة.

وقال الشاعر:

لاح سهيلٌ في الظلام الدامس

 

كأنه نارٌ بكف الـقـابـس

قال ربيعة بن عامر بن مالك في عمرو بن الإطنابة - حين دفع أخته وأخذ أخاه وكان أسيراً في قومه، وجعل دفع أخيه إليه صداق أخته، وهو الذي تسميه العرب المساهاة -: فقد حزمى الذي هديت له، وعزمى الذي أرشدت إليه. وقال الشاعر:

وساهى بها عمرٌو وراعى إفاله

 

فزبدٌ وتمرٌ بعـد ذاك كـثـير

وكانت دية العربي مائة وسقٍ، ودية الهجين خمسين وسقاً، ودية المولى عشرة أوسق؛ وكانت العرب تجعل دية المعم المخول مائة بعيرٍ، ودية المولى خمسةً وعشرين بعيراً.

وقال جرير:

رأيت بني نبهان أذنـاب طـيىءٍ

 

وللناس أذنابٌ تـرى وصـدور

ترى شرط المعزى مهور نسائهم

 

وفي شرط المعزى لهن مهور

وقال خالد بن جعفر بن كلاب:

بل كيف تكفرني هوازن بعدما

 

أعتقتهم فتـوالـدوا أحـرارا

وقتلت ربهم زهيراً بعـدمـا

 

جدع الأنوف وأكثر الأوتـارا

وجعلت مهر نسائهم ودياتهـم

 

عقل الملوك هجائناً وبكـارا

وقال جندل بن صخرٍ، وكان عبداً:

وما فك رقى ذات دلٍ خـدلـجٌ

 

ولا ساق مالي صدقةٌ وعقـول

ولكن نماني كل أبيض خضـرمٍ

 

فأصبحت أدري اليوم كيف أقول

وقتل الكلبي عبد الله بن الجوشن الغعطفاني بقتله ابنه الجراح بن عبد الله رواد، وكانوا عرضوا عليه الدية، فقال:

شفيت بروادٍ غلـيلاً وجـدتـه

 

على القلب منه مستسرٌ وظاهر

ألا ليت قبراً بين أدمي ومطرقٍ

 

يحدثه عني الأحاديث خـابـر

وقالوا نديه من أبيه ونـفـتـدي

 

فقلت: كريمٌ ما تديه الأبـاعـر

ألم تر أن المال يذهـب دثـره

 

وتغبر أقوالٌ وتبقى المـعـاير

أدمى ومطرق غديران بين فدك وبلاد طىء.

سئلت ابنة اخس هل يلقح البازل؟ قالت: نعم وهو رازم، أي وإن كان لا يقدر على القيام من الضعف والهزال. يقال: جملٌ بازلٌ وناقةٌ بازلٌ، ويقال: ضربه فبركعه إذا أبركه، وتبركع، ويقال: شم لي هذه الإبل، أي انظر لي خبرها.

ويقال لولد كل بهيمةٍ إذا ساء غذاؤه: جحنٌ ومحثلٌ وجذعٌ، وكل ما غذي بغير أمه يقال له: عجيٌ، وكذلك الجحن والوغل والسغل كله السيء الغذاء.

سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل، فقال: ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل من الشجر حتى يأتيها ربها.

سئل - عليه السلام - عن ضالة الغنم، فقال: هي لك أو لأخيك أو للذئب.

قيل له عليه السلام: فاللقطة؟ قال: تعرفها سنة وتحصي وكاءها ووعاءها وعفاصها وعددها؛ فإن جاء صاحبها فأدها إليه.

وقال أبي بن كعبٍ: أصبت مائة دينارٍ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: " احفظ عفاصها ووكاءها وعددها فإن جاء صاحبها فأخبرك بعددها وعفاصها ووكائها فأدها إليه وإلا فعرفها سنة، ثم استمتع بها".

قال علي بن الحسن: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان يقف النخلتين قال له الأنصار: يا رسول الله، هل لك في السباق؟ قال: نعم وهو يومئذ على النواضح - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في أخريات الناس، وأسامة بن زيدٍ على العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في أول الناس - فقال: أين أسامة؟ فتنادى الناس حتى بلغ أسامة الصوت، فوضع السوط في الناقة فأقبلت، فلما دنت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن إخواننا من الأنصار قد أرادوا السباق فأنخ ناقتك حتى ترعو، ثم علق الخطام ثم سابقهم؛ ففعل واستبقوا، فسبقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل أسامة يكبر ويقول: سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله يقول: سبق أسامة، فلما أكثر من ذلك قال له: أقصر يا أسامة، فإن إخواننا من الأنصار فيهم حياءٌ وحفيظة. قال: وليس لشيء من الحيوان سنامٌ إلا البعير، ولبعض البخاتي سنامان، ولبعض البقر شيء صغيرٌ على موضع الكاهل. والجمل يبول إلى خلفٍ، وكذلك الأسد. وقضيب الجمل من عصبٍ، وقضيب الإنسان من لحمٍ وغضروفٍ، وقضيب الذئب والثعلب من عظمٍ، وقضيب ذكر الأرانب من عظمٍ على صورة الثقب كأنه نصف أنبوبةٍ مشقوقة. وفي قلب الثور عظم، وربما وجد في قلب الجمل. والمرأة تلد من قبل، والناقة من خلف. وزمان نزو الجمال في شباط. والإناث من الإبل تحمل اثني عشر شهراً وتضع واحداً وتلقح إذا بلغت ثلاث سنين، وكذلك الذكر، ثم تقيم الأنثى سنةً ثم ينزى عليها.

وزعم صاحب المنطق أن الجمل لا ينزو على أمه، وإن اضطر كرهه.

قال: وقد كان رجلٌ في الدهر السالف ستر الأم بثوبٍ ثم أرسل بكراً عليها، فلما عرف ذلك لم يتم وقطع، وحقد على الجمال فقتله.

قال: وقد كان لملكٍ فرسٌ أنثى، وكان لها أفلاءٌ، فأراد أن تحمل من أكرمها، فصد عنها وكرهها، فلما سترت وثب فركبها، فلما رفع الثوب ورآها هرب ومر حضراً حتى ألقى نفسه في بعض الأودية فهلك.....

هذا كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ كرم الله وجهه.

قال حذيفة: كن في الفتنة كابن البون، لا ظهر فيركب، ولا لبن فيحلب.

قال ديوجانس: إن المرأة تلقن الشر من المرأة، كما أن الأفعى تأخذ السم من الأصلة.

وقال فيثاغورس: إن كثيراً من الناس يرون العمى الذي يعرض لعين البدن فتأباه أنفسهم، فأما عمى عين النفس فإنهم لا يرونه ولا تأباه أنفسهم، فلذلك لا يستحيون.

وقال أيضاً: كما أن الذي يسلك طريقاً لا يعرفه لا يدري إلى أي موضعٍ يؤديه، كذلك الذي يسمع كلاماً لا يعرف الغرض فيه لا يربح منه إلا التعب.

قيل لديوجانس: أيهما أولى، طلب الغنى، أم طلب الحكمة؟ فقال: للدنيا الغنى، وللآخرة الحكمة.

وقيل له: متى تطيب الدنيا؟ قال: إذا تفلسف ملوكها وملك فلاسفتها.

فقال الوزير - أسعده الله - عندي أن هذا الكلام مدخول، لأن الفلسفة لا تصح إلا لمن رفض الدنيا وفرغ نفسه للدار الآخرة، فكيف يكون الملك رافضاً للدنيا وقالياً لها، وهو محتاجٌ إلى سياسة أهلها والقيام عليها باجتلاب مصالحها ونفي مفاسدها، وله أولياء يحتاج إلى تدبيرهم وإقامة أبنيتهم والتوسعة عليهم ومواكلتهم ومشاربتهم ومداراتهم والإشراف على سرهم وعلانيتهم، والملك أتعب من الطبيب الذي يجمع معالجةً كثيرةً بضروب الأدوية المختلفة والأغذية المتباينة؛ هذا والطبيب فقيرٌ إلى تقديم النظر في نفسه وبدنه، ونفي الأمراض والأغراض عن ظاهره وباطنه، ومن كان هكذا ومن هو أكثر منه وأشد حاجةً وعلاقةً كيف يستطيع أن يكون ملكاً وحكيماً؟! ولعل قائلاً يظن هذا ممكناً، ويكون الملك واعياً في الحكمة بالدعوى، وقائماً بالملك على طريق الأولى، وهذا إلى التياث الأمر واختلاله واختلاطه في الملك والفلسفة أقرب منه إلى إحكام الأصل وإثبات الفرع. قال: ولهذا لم نجد نحن في الإسلام من نظر في أمر الأمة على الزهد والتقى وإيثار البر والهدى إلا عداداً قليلاً، والمجوس تزعم أن الشريعة معرجةٌ عن الملك، أي الذي يأتي بها ليس له أن يعرج على الملك، بل له أن يكل الملك إلى من يقوم به على أحكام الدين، ولهذا قال ملكنا الفاضل: الدين والملك أخوان، فالدين أسٌ، والملك حارس، فما لا أس له فهو مهدوم، وما لا حارس له فهو ضائع.

فقلت له: هذا باب إن توزع القول فيه طال، وإن رمي بالقصد جاز، واللائمة كلامٌ كثيرٌ في الإمامة والخلافة وما يجري مجرى النيابة عن صاحب الديانة على فنونٍ مختلفة، وجمل متعددة، إلا أن الناظر في أحوال الناس ينبغي أن يكون قائماً بأحكام الشريعة، حاملاً للصغير والكبير، على طرائقها المعروفة، لأن الريعة سياسة الله في الخلق، والملك سياسة الناس للناس، على أن الشريعة متى خلت من السياسة كانت ناقصة، والسياسة متى عريت من الشريعة كانت ناقصة، والملك مبعوث، كما أن صاحب الدين مبعوث، إلا أن أحد البعثين أخفى من الآخر، والثاني أشهر من الأول. قال - أطال الله بقاءه - كنت أحب أن أعلم من أين قلت: إن الملك مبعوث أيضاً؟ فإن هذه الكلمة ما ثبتت في أذني قط، ولا خطرت لي على بال؛ قلت: قال الله عز وجل في تنزيله: "إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً". فعجب وقال: كأني لم أسمع بهذا قط. وذكر للإسكندر سوء أحوال رؤساء مذهبه لما كان أبوه احتاز أموالهم وسلب أحوالهم. فقال: يجب للآباء على الأبناء إزالة الذم عنهم، ومحو الإثم، واستعطاف القلوب عليهم، ونشر المحامد عنهم؛ وأمر برد أموالهم عليهم، وزاد في الإحسان إليهم. وقال: قد بلغ من فرط شفقة الآباء على الأبناء أن يسيئوا إلى أنفسهم لتكون الإساءة سبباً للإحسان إلى أولادهم، لأنهم يرون أولادهم كأنفسهم لأنهم من أنفسهم.

فقلت: أيها الوزير، إني لأعجب من الإسكندر في الفعل الرشيد والقول السديد، فهذا المنصور أبو جعفر صاحب الشهامة والصرامة أخذ من وجوه العراق أموالاً بخواتيم أصحابها وأفقرهم، وجعلها في خزائنه بعد أن كتب على تلك الخرائط والظروف أسماء أهلها، ثم وصى المهدي بردها على أصحابها بعد موته، ووكد ذلك عليه، وقال: يا بني، إنما أريد بهذا أن أحببك إلى الناس، ففعل المهدي ذلك؛ فانتشر له الصيت وكثر الدعاء وعجت الأصوات، وقال الناس: هذا هو المهدي الذي ورد في الأثر. فقال: هذا عجب.

وقال سقراط: ينبغي لمن علم أن البدن هو شيء جعل نافعاً للنفس مثل الآلة للصانع أن يطلب كل ما يصير البدن به أنفع وأوفق لأفعال النفس التي هي فيه، وأن يهرب من كل ما يصير البدن غير نافعٍ ولا موافق لاستعمال النفس له.

قال أوميروس: لا ينبغي لك أن تؤثر علم شيء إذا عيرت به غضبت، فإنك إذا فعلت هذا كنت أنت القاذف لنفسك.

وقال ديوجانس: من القبيح أن تتحرى في أغذية البدن ما يصلح له ولا يكون ضاراً، ولا تتحرى في غذاء النفس الذي هو العلم لئلا يكون ضاراً.

وقال أيضاً: من القبيح أن يكون الملاح لا يطلق سفينته في كل ريح، ونحن نطلق أنفسنا في غير بحث ولا اختبار.

ذكر لنا أبو سليمان أن فيلسوفاً ورد مدينةً فيها فيلسوف، فوجه إليه المدني كأساً ملآى، يشير بها إلى أن الاستغناء عنه واقعٌ عنده، فطرح القادم في الكأس إبرةً، يعلمه أن معرفته تنفذ في معرفته.

وقال فيلسوفٌ يوناني: التقلب في الأمصار، والتوسط في المجامع، والتصرف في الصناعات، واستماع فنون الأقوال، مما يزيد الإنسان بصيرةً وحكمةً وتجربةً ويقظةً ومعرفةً وعلماً.

قال الوزير: ما البصيرة؟ قلت: لحظ النفس الأمور. قال: فما الحكمة؟ قلت: بلوغ القاصية من ذلك اللحظ. قال: فما التجربة؟ قلت: كمال النفس بلحاظ مالها. قال: هذا حسن.

قال أنكساغورس: كما أن الإناء إذا امتلأ بما يسعه من الماء ثم تجعل فيه زيادة على ذلك فاض وانصب، ولعله أن يخرج معه شيءٌ آخر؛ كذلك الذهن ما أمكنه أن يضبطه فإنه يضبطه، وإن طلب منه ضبط شيء آخر أكثر من وسعه تحير، ولعل ذلك يضيع عليه شيئاً مما كان الذهن ضابطاً له، وهذا كلام صحيح، وإني لأتعجب من أصحابنا إذا ظنوا وقالوا: إن الإنسان يستطيع حفظ جميع فنون العلم والقيام بها والإبقاء عليها، ولو كان هذا مقدوراً عليه لوجد، ولو وجد لعرف، ولو عرف لذكر، وكيف يجوز هذا وقلب الإنسان مضغة، وقوته مقصورةٌ، وانبساطه متناهٍ، واقتباسه وحفظه وتصوره وذكره محدودٌ؟ ولقد حدثني علي بن المهدي الطبري قال: قلت ببغداد لأبي بشر: لو نظرت في شيء من الفقه مع هذه البراعة التي لك في الكلام، ومع هذا اللسان الذي تحير فيه كل خصم. قال: أفعل، قال: فكنت أقرأ عليه بالنهار مع المختلفة الكلام، وكان يقرأ علي بالليل شيئاً من الفقه، فلما كان بعد قليل أقصر عن ذلك، فقلت له: ما السبب؟ قال: والله ما أحفظ مسئلةً جليلةً في الفقه إلا وأنسي مسئلةً دقيقةً في الكلام، ولا حاجة لي في زيادة شيء يكون سبباً لنقصان شيء آخر مني.

وسأل رجلٌ آخر أن يقرضه مالاً، فوعده ثم غدر به، فلامه الناس، فقال: لأن يحمر وجهي مرةً أحب إلي من أن يصفر مراراً كثيرة.

وولي أريوس ولايةً فقال أصدقاؤه: الآن يظهر فضلك. فقال: ليست الولاية تظهر الرجل، بل الرجل يظهر الولاية.

وقال ديوجانس. الدنيا سوق المسافر، فليس ينبغي للعاقل أن يشتري منها شيئاً فوق الكفاف.

وقيل لاسطفانس: من صديقك؟ قال: الذي إذا صرت إليه في حاجةٍ وجدته أشد مسارعةً إلى قضائها مني إلى طلبها.

وقال أفلاطون: إن للنفس لذتين: لذةً لها مجردةً عن الجسد، ولذةً مشاركة للجسد، فأما التي تنفرد بها النفس فهي العلم والحكمة، وأما التي تشارك فيها البدن فالطعام والشراب وغير ذلك. وقيل لسقراط: كيف ينبغي أن تكون الدنيا عندنا؟ قال: لا تستقبلوها بتمنٍ لها، ولا تتبعوها بتأسف عليها؛ فلا ذلك مجدٍ عليكم، ولا هذا راجعٌ إليكم.

وقال سقراط: القنية مخدومة، ومن خدم غير نفسه فليس بحر.

وقال بعض ندماء الإسكندر له: إن فلاناً يسيء الثناء عليك، فقال: أنا أعلم أن فلاناً ليس بشرير، فينبغي أن ينظر هل ناله من ناحيتنا أمرٌ دعاه إلى ذلك، فبحث عن حاله فوجدها رثةً، فأمر له بصلةٍ سنية، فبلغه بعد ذلك أنه يبسط لسانه بالثناء عليه في المحافل؛ فقال: أما ترون أن الأمر إلينا أن يقال فينا خيرٌ أو شر.

قيل لطيماثاوس: لم صرت تسيء القول في الناس؟ قال: لأنه يمكنني أن أسيء إليهم بالفعل. وكان مرة في صحراء، فقال له إنسان: ما أحسن هذه الصحراء! قال: لو لم تحضرها أنت.

وقال غالوس: ما وجه الاهتمام بما إن لم يكن أجزىء فوته، وإن كان فالمنفعة به وبحضوره قليلة منقطعة.

وقال سقراط: ينبغي إذا وعظت ألا تتشكل بشكل منتقمٍ من عدو، ولكن بشكل من يسعط أو يكوى بعلاجه داءً بصديق له، وإذا وعظت أيضاً بشيء فيه صلاحك، فينبغي أن تتشكل بشكل المريض للطبيب.

ركب مقاريوس في حاجة، فمر بزيموس وقد تعلق به رجل يطالبه بمال اختدعه عنه وعليهما جماعةٌ من الناس، وهو يسأله تنجيم ذلك المال عليه نجوماً ليؤديه، ويتضرع أشد التضرع. فقال منقاروس: ما طلبتك عند هذا الرجل. فقال: أتاني فخدعني بالزهد والنسك عن مالي، ووعدني أن يملأ بيتي ذهباً من صنعته، فلم أزل في الاسترسال إلى ظاهره السليم حتى أفقرني باطنه السقيم. فقال له مقاريوس: إن كل من بذل شيئاً إنما يبذله على قدر وسعه؛ وكان زيموس أتاك على حاله التي هو عليها، ولم يكن ليتسع لأكثر من ذلك القول؛ وعمل الذهب فبين ظاهر، لأن فقره يدل على عجزه وضعفه عنه، ومن أمل الغني عند الفقير فغاية ما يمكن أن يبلغه أن يصير مثله؛ وآخر ما يؤمل عند الفقير نيل الفقر.

فقد أصبت ما كنت تحب أن تجده عند زيموس؛ وهو حظٌ إن تمسكت به لم يغل بما تلف من مالك، ولئن كان وعدك أن يفيدك مالاً باطلاً فلقد أفادك معدناً حقاً، من غير قصدٍ إلى نفعك. ثم أقبل على زيموس وقال له: ما أبعد شبه معدنك من المعادن الطبيعية! إن المعادن تلفظ الذهب، ومعدنك هذا يبتلع الذهب؛ ومن جاور معدناً منها أغناه، ومن جاور معدنك أفقره؛ والمعادن الطبيعية تثمر من غير قول، ومعدنك يقول من غير إثمار. فقال زيموس: أجل، ولا آخرهم ولا أوسطهم، لكنك من الجهال الذين لقي الناس منهم الأذى.

فقال - أعلى الله قوله -: فهل لهذا الأمر - أعني الكيمياء - مرجوع؟ وهل له حقيقة؟ وما تحفظ عن هذه الطائفة؟ فكان الجواب، أما يحيى بن عدي - وهو أستاذ هذه الجماعة - فكان في إصبعه خاتمٌ من فضةٍ يزعم أن فضته عملت بين يديه، وأنه شاهد عملها عياناً، وأنه لا يشك في ذلك.

وأما أصحابه كابن زرعة وابن الخمار، فذكروا أن ذلك تم عليه من فعلٍ لم يفطن له من بعض من اغتره من هؤلاء المحتالين الخداعين.

وأما شيخنا أبو سليمان فحصلت من جوابه على أنه ممكن، ولم يذكر سبب إمكانه ولا دليل حقيقته.

وأما أبو زيد البلخي - وهو سيد أهل المشرق في أنواع الحكمة - فذكر أنه محالٌ ولا أصل له، وأن حكمة الله تعالى لا توجب صحة هذا الأمر، وأن صحته مفسدةٌ عامة، "والله لا يحب الفساد".

وأما مسكويه - وها هو بين يديك - فيزعم أن الأمر حقٌ وصحيح، والطبيعة لا تمنع من إعطائه، ولكن الصناعة شاقة، والطريق إلى إصابة المقدار عسرة، وجمع الأسرار صعبٌ وبعيد، ولكنه غير ممتنع؛ فقد مضى عمره في الإكباب على هذا بالري أيام كان بناحية أبي الفضل وأبي الفتح ابنه مع رجل يعرف بأبي الطيب، شاهدته ولم أحمد عقله، فإنه كان صاحب وسواسٍ وكذبٍ وسقط، وكان مخدوعاً في أول أمره، خادعاً في آخر عمره. وأبين ما سمعته في هذا الحديث أن الطبيعة فوق الصناعة، وأن الصناعة دون الطبيعة، وأن الصناعة تتشبه بالطبيعة ولا تكمل، والطبيعة لا تتشبه بالصناعة وتكمل، وأن الطبيعة قوة إلهية ساريةٌ في الأشياء واصلةٌ إليها، عاملةٌ فيها بقدر ما للأشياء من القبول والاستحالة والانفعال والمواتاة، إما على التمام، وإما على النقصان. وقيل: إن الطبيعة لا تسلك إلى إبراز ما في المادة أبعد الطرق، ولا تترك أقرب الطرق، فلما كانت المعادن هي التي تعطى هذه الجواهر على قدر المقابلات العلوية والأشكال السماوية والمواد السفلية والكائنات الأرضية، لم يجز أن تكون الصناعة مساويةً لها، كما لم يجز أن تكون مستعليةً عليها، لأن الصناعة بشريةٌ مستخرجةٌ من الطبيعة التي هي إلهية، ولا سبيل لقوةٍ بشريةٍ أن تنال قوةً إلهيةً بالمساواة؛ فأما بالتشبيه والتقريب والتلبيس، فيمكن أن يكون بالصناعة شيءٌ كأنه ذهبٌ أو فضة، وليس هو في الحقيقة، لا ذهبٌ ولا فضة؛ وإذا كان ظهور القطن بالطبيعة وظهور الثوب بالصناعة فليس لهذه أن تعرض لهذه، ولا لهذه أن تعرض لهذه؛ والأمور موزونة، والصناعات متناهية؛ فإن ادعى في شيءٍ من الصناعة ما يزيد عليها حتى تكون كأنها الطبيعة، احتيج إلى برهانٍ واضح، وإلى عيان مصرح، لأنا نعلم أنه ما من صناعةٍ ولا علمٍ ولا سياسةٍ ولا نحلةٍ ولا حاٍ إلا وقد حمل عليها، وزيد فيها وكذب من أجلها بما إذا طلبت صحته بالبرهان لم تجد، أو بالعيان لم تقدر.

فأما أصحاب النسك ومن عرف بالعبادة والصلاح؛ فقد ادعى لهم أن الصفر يصير لهم ذهباً، وشيئاً آخر يصير فضة، وأن الله عز وجل يزلزل لهم الجبل وينزل لهم القطر، وينبت لهم الأرض، وغير ذلك مما هو كالآيات للأنبياء الذين يأتون من قبل الله بالكتب والوصايا والأحكام والمواعظ والنصائح، وربما يسمى كثيرٌ من الناس ما يظهر للزهاد والعباد من هذا الضرب كرامات ولا يسميها معجزات، والحقائق لا تنقلب بالأسماء، فإن المسمى بالكرامة هو المسمى بالمعجزة والآية.

والخوض في هذا الطرف قديم، وفصله في الحق شاقٌ، والتنازع فيه قائم، والظن يعمل عمله، واليقين غير مظفور به، ولا موصولٍ إليه؛ والطبيعة قد أولعت الناس بادعاء الغرائب، وبعثتهم على نصرتها بالوفق والخرق، والتسهيل واللجاج، والمواتاة والمحك، ولله في طي هذا العالم العلوي أسرارٌ وخفايا وعيوبٌ ومكامن لا قوة لأحد من البشر بالحس ولا بالعقل أن يحوم حولها، أو يبلغ عمقها، أو يدرك كنهها، ومن تصرف عرف، ومن عرف سلم، والسلام.

وحكى لنا أبو سليمان أن أرسطوطاليس كتب إلى رجل لم يشفعه في رجل سأله الكلام له في حاجة: إن كنت أردت ولم تقدر فمعذور، وإن كنت قدرت ولم ترد فسوف يجيىء وقتٌ تريد ولا تقدر.

وقال بعض الحكماء: لا ترفهوا السفلة فيعتادوا الكسل والراحة، ولا تجرئوهم فيطلبوا السرف والشغب، ولا تأذنوا لأولادهم في تعلم الأدب فيكونوا لرداءة أصولهم أذهن وأغوص، وعلى التعلم أصبر؛ ولا جرم فإنهم إذا سادوا في آخر الأمر خربوا بيوت العلية أهل الفضائل.

وقال فيلسوف: للنفس خمس قوى: الحس والوهم والذهن والاختبار والفكر.

فأما الحس فلحاق الأشياء بلا فحص، ولا يحتاج في ذلك اللحاق إلى شيء آخر، إلا أن يكون ممنوعاً بمانع، وذلك إذا وجد شيئاً أبيض حكم بأنه أبيض بلا فكر ولا قياس.

وأما الوهم، فإنه يقع على الأشياء بتوسط الحس.

وأما الاختبار فيوافق الفكر، كقولك: النفس لا تموت، فهذا قولٌ اختباريٌ بعد الفكر، فإن كان هذا هكذا فالاختبار ليس بقياس، ولكنه أفق القياس.

وأما الذهن فإنه لا يهجم على أوائل الأشياء.

وقال آخر شبيهاً بهذا الكلام، ولابأس أن يكون مضموماً إليه، ليكون شمل الفائدة أكثر نظاماً وأقرب مراماً.

قال: ليس للحواس والحركات فعلٌ دون أن تبعثها القوة المميزة، فلذلك لا يحس السكران ولا النائم، وكذلك أيضاً البهائم فإنها لا تصيح إلا بعد أن يعرض في فكرها شيء، ولا تتحرك إلا بانبعاث القوة المميزة.

ولكل واحد من الحيوان ثلاثة أرواحٍ في ثلاثة أعضاء رئيسة: نفسيةٌ في الدماغ، وحيوانية في القلب، وطبيعية في الكبد. وفي كل واحد منها قوةٌ مميزةٌ بها يتم عمله، فالتي في الدماغ هي العقل المميز الحارس للبدن، ومنه ينبعث الحس والحركة، والتي في القلب تنبعث منها الحرارة الغريزية في جميع البدن؛ وزعموا أن تلك الحرارة هي الروح؛ والتي في الكبد هي موضع الهضم والنضج، وهي التي تنضج الطعام وتغيره وتحيله دماً وتوزع في كل عضو ما هو ملائمٌ له، وبالجاذبة تجذب، وبالحابسة تحبس، وبالهاضمة تهضم، وبالدافعة تدفع.

فأما الدماغ فينقسم ثلاثة أقسام يحجز بينها أغشية، أحدها في مقدم الرأس موضع التخيل، والثاني في وسط الرأس موضع العقل والفكر والتمييز، والثالث في مؤخر الرأس موضع الحفظ والذكر والقبول؛ فكل واحد مما ذكرنا يخدم الآخر، وإن ضعف أحدها ضعف لضعفه الآخر، وباعتدالهن وسلامتهن قوام البدن والنفس.

ولكل واحدٍ منها آلةٌ بها يستعين على خدمة الآخر.

قال: فكما أن الرحى إذا نقضت شيئاً منها أو زدت أفسد الطحن؛ إما بزيادة أو نقصان، كذلك سائر خدمه وآلاته.

وقال: الدماغ مسكن العقل، وخدمه الحس والحركة؛ والقلب مسكن الحرارة الغريزية، وخدمه العروق الضوارب؛ والكبد مسكن النضج والهضم، وخدمها العروق غير الضوارب.

وقال: النار تحرق، فإذا كانت موجودةً فالدخان والرماد موجودان، والدخان رمادٌ لطيف، والرماد دخانٌ كثيف.

وقال أبو سليمان: ذكر بعض البحاثين عن الإنسان أنه جامعٌ لكل ما تفرق في جميع الحيوان، ثم زاد عليها وفضل بثلاث خصالٍ: بالعقل والنظر في الأمور النافعة والضارة، وبالمنطق لإبراز ما استفاد من العقل بوساطة النظر، وبالأيدي لإقامة الصناعات وإبراز الصور فيها مماثلةً لما في الطبيعة بقوة النفس.

ولما انتظم له هذا كله جمع الحيل والطلب والهرب والمكايد والحذر، وهذا بدل السرعة والخفة التي في الحيوان، واتخذ بيده السلاح مكان الناب والمخلب والقرن، واتخذ الجنن لتكون وقايةً من الآفات، والعقل ينبوع العلم، والطبيعة ينبوع الصناعات، والفكر، بينهما قابلٌ منهما، مؤدٍ من بعض إلى بعض، فصواب بديهة الفكر من صحة العقل، وصواب روية الفكر من صحة الطباع.

وقال أبو العباس: الناس في العلم على ثلاث درجات، فواحد يلهم فيعلم فيصير مبدأ، والآخر يتعلم ولا يلهم فهو يؤدي ما قد حفظ، والآخر يجمع له بين أن يلهم وأن يتعلم. فيكون بقليل ما يتعلم مكثراً بقوة ما يلهم.

وقال: الإنسان بين طبيعته - وهي عليه - ونفسه - وهي له - منقسمٌ؛ فإن اقتبس من العقل قوي نوره ما هو له من النفس، وأضعف ما هو عليه من الطبيعة، فإن لم يكن يقتبس بقي حيران أو متهوراً.

وقال سقراط: الكلام اللطيف، ينبو عن الفهم الكثيف.

وحكى لنا أبو سليمان قال: قيل لفيلسوف: ما بال المريض إذا داواه الطبيب ودخل عليه فرح به وقبل منه وكافأه على ذلك، والجاهل لا يفعل ذلك بالعالم إذا علمه وبين له؟ فقال: لأن المريض عالمٌ بما عند الطبيب، وليس الجاهل كذلك، لأنه لا يعلم ما عند العالم.

وقال ديوجانس لصاحبه: أما تعلم أن الحمام إذا كان سمائياً كان أغلى ثمناً، وإذا كان أرضياً كان أقل ثمناً.

قال - أبقاه الله - هذا مثلٌلا في غاية الحسن والوضوح.

وقال ديوجانس: المأكول للبدن، والموهوب للمعاد، والمحفوظ للعدو.

وقال فيلسوف: التهاون باليسير أساسٌ للوقوع في الكثير.

وقال أفلاطون: مثل الحكيم كمثل النملة تجمع في الصيف للشتاء، وهو يجمع في الدنيا للآخرة.

وقال فيلسوف: من يصف الحكمة بلسانه ولم يتحل بها في سره وجهره فهو في المثل كرجل رزق ثوباً فأخذ بطرفه فلم يلبسه.

وقال السيد المسيح: إن استطعت أن تجعل كنزك حيث لا يأكله السوس، ولا تدركه اللصوص، فافعل.

قال فيلسوف: إذا نازعك إنسانٌ فلا تجبه، فإن الكلمة الأولى أنثى وإجابتها فحلها، وإن تركت إجابتها بترتها وقطعت نسلها، وإن أجبتها ألقحتها؛ فكم من ولدٍ ينمو بينهما في بطنٍ واحد.

وقال فيلسوف: إن البعوضة تحيا ما جاعت وإذا شبعت ماتت.

وقال ديوجانس: من أين تأكل؟ فقال: من حيث يأكل عبدٌ له رب.

وقال ديوجانس: كن كالعروس تريد البيت خالياً.

قيل لأرسطوطاليس: إن فلاناً عاقلٌ. قال: إذاً لا يفرح بالدنيا.

وقيل لفيثاغورس: ما أملك فلاناً لنفسه! قال: إذاً لا تصرعه شهوته، ولا تخدعه لذته.

وقيل لأسقلبيوس: فلانٌ له همة. قال إذاً لا يرضى لنفسه بدون القدر. ومدح رجل ثيودوروس على زهده في المال قال: وما حاجتي إلى شيء البخت يأتي به، واللؤم يحفظه، والنفقة تبدده، إن قل غلبك الهم بتكثيره، وإن كثر تقسمك في حفظه، يحسدك من فاته ما عندك، ويخدعك عنه من يطمع فيه منك.

وقال سقراط: ما أحب أن تكون النفس عالمةً بكل ما أعد لها؛ قيل: ولم؟ قال: لأنها لو علمت طارت فرحاً ولم ينتفع بها.

وقال ديوجانس: القلب ذو لطافة، والجسم ذو كثافة، والكثيف يحفظ اللطيف كضوء المصباح في القنديل.

وقال أفلاطون: العلم مصباح النفس، ينفي عنها ظلمة الجهل، فما أمكنك أن تضيف إلى مصباحك مصباح غيرك فافعل.

قال أبو سليمان: ما أحسن المصباح إذا كان زجاجة نقياً، وضوءه ذكياً، وزيته قوياً، وذباله سوياً.

قيل لسقراط: ما أحسن بالمرء أن يتعلمه في صغره؟ قال: ما لا يسعه أن يجهله في كبره.

قال أبو سليمان: ومن ها هنا أخذ من قال: يحسن بالمرء التعلم ما حسنت به الحياة.

قيل لهوميروس: ما أصبرك على عيب الناس لك! قال: لأنا استوينا في العيب، فأنا عندهم مثلهم عندي.

وقيل للإسكندر: أي شيء أنت به أسر؟. قال: قوتي على مكافأة من أحسن إلي بأحسن من إحسانه.

وقال ديوجانس: إن إقبالك بالحديث على من لا يفهم عنك بمنزلة من وضع المائدة على مقبرة.

ورأى ديوجانس رجلاً يأكل ويتذرع ويكثر، فقال له: يا هذا، ليست زيادة القوة بكثرة الأكل، وربما ورد على بدنك من ذلك الضرر العظيم، ولكن الزيادة في القوة بجودة ما يقبل بدنك منه على الملاءمة.

وقال ديوجانس: الذهب والفضة في الدار بمنزلة الشمس والقمر في العالم.

قال أبو سليمان: هذا مليح، ولكن ينبغي أن تبقى الشمس والقمر فإنهما يكسفان فيكونان سبباً لفسادٍ كثير، ويذوبان ويحميان فيكونان ضارين.

وقال أفلاطون: موت الرؤساء أصلح من رآسة السفلة.

وقال: إذا بخل الملك بالمال كثر الإرجاف به.

وقال سولون: العلم صغير في الكمية، كبيرٌ في الكيفية.

وقال أبو سليمان: يعني أن القليل منه إذا استعملته على وجهه كان له إناء ونفع فائض ودرٌ سائحٌ، وغايةٌ محمودةٌ، وأثرٌ باق. وهذه كلها كيفيات من تلك الكمية.

وقال أفلاطون: لا يسوس النفوس الكثيرة على لاحق والواجب من لا يمكنه أن يسوس نفسه الواحدة.

وقال سقراط: النفس الفاضلة لا تطغى بالفرح، ولا تجزع من الترح، لأنها تنظرفي كل شيء كما هو، لا تسلبه ما هو له ولا تضيف إليه ما ليس منه؛ والفرح بالشيء إنما يكون بالنظر في محاسن الشيء دون مساوئه، والترح إنما يكون بالنظر في مساوىء الشيء دون محاسنه؛ فإذا خلص النظر من شوب الغلط فيما ينظر فيه انتفى الطغيان والجزع، وحصل النظام وربع.

قال ديوجانس: ينبغي للإنسان أن ينظر في المرآة، فإن كان وجهه حسناً استقبح أن يضيف إليه فعلاً قبيحاً، وإن كان وجهه قبيحاً استقبح أن يضيف قبيحاً إلى قبيح حتى يتضاعف القبح.

وقال إبقراط: منزلة لطافة القلب في الأبدان بمنزلة لطافة الناظر في الأجفان.

وقال: للقلب آفتان: وهما الغم والهم، فالغم يعرض منه النوم، والهم يعرض منه السهر، وذلك أن الهم فيه فكرٌ في الخوف مما سيكون، فمنه يغلب السهر؛ والغم لا فكر فيه، لأنه إنما يحدث لما قد مضى وكان.

وقال أفلاطون: من يصحب السلطان فلا يجزع من قسوته، كما لا يجزع الغواص من ملوحة البحر. قال أبو سليمان: هذا كلامٌ ضره أكثر من نفعه، وإنما نفقه صاحبه بالمثال، والمثال يستجيب للحق كما يستجيب للباطل، والمعول على ما ثبت بالدليل، لا على ما يدعى بالتمثيل، وقد يجب أن يجتنب جانب السلطان بغاية الاستطاعة والإمكان، إلا إذا كان الدهر سليماً من الآفات الغالبة. فقال له الأندلسي: وما صورة الزمان الخالي من الآفات؟ فقال: أن يكون الدين طرياً، الدولة مقبلة، والخصب عاماً، والعلم مطلوباً، والحكمة مرغوباً فيها، والأخلاق طاهرة، والدعوة شاملة، والقلوب سليمة، والمعاملات متكافئة، والسياسة مغروسة، والبصائر متقاربة. فقال: هذا لو صح لارتفع الكون والفساد اللذان وهما سوس هذا المكان، فقال: غلطت يا أبا عبد الله، فإن الكون والفساد يكونان على حاليهما، ولكنهما يقعان على معلومين للصورة الثابتة، والسياسة العامة الغالبة، كأنك لا تحس بالفرق بين زمان خصب الأرض وجدبها؛ وكما أن للأرض خصباً وجدباً؛ كذلك للأحوال والأديان وللدول صلاحٌ وفساد، وإقبالٌ وإدبار، وزيادةٌ ونقصان؛ ولو كان ما خلته لازماً، لكنا لا نتمنى ملكاً عادلاً، ولا سائساً فاضلاً، ولا ناظراً ناظماً، ولا مدبراً عالماً؛ وكان هذا لا يعرف ولا يعهد، ويكون في عرض المحال كونه ووجدانه؛ وليس الأمر هكذا فقد عهدنا مثل أبي جعفر بسجستان، وكان والله بصيراً خبيراً، عالماً حكيماً، يقظاً حذراً، يخلق ويفري، ويريش ويبري، ويكسو ويعري، ويمرض ويبري، وهكذا مثل أبي جعفر بالأمس ملك العراق في حزامته وصرامته وقيامه في جميع أموره، بنظره وتدبيره؛ وكذلك قد عهد الناس قبلنا مثل هذا، فلم يقع التعجب من شيء عليه مدار الليل والنهار.

وقال ديوجانس لصاحب له: اطلب في حياتك هذه العلم والمال تملك بهما الناس، لأنك بين الخاصة والعامة، فالخاصة تعظمك لفضلك، والعامة تعظمك لمالك.

وقال أفلاطون: إن الله تعالى بقدر ما يعطي من الحكمة يمنع الرزق؛ قال أبو سليمان: لأن العلم والمال كضرتين قلما يجتمعان ويصطلحان، ولأن حظ الإنسان من المال إنما هو من قبيل النفس الشهوية والسبعية، وحظه من العلم إنما هو من قبيل النفس العاقلة، وهذان الحظان كالمتعاندين والضدين.

قال: فيجب على الحصيف والمميز أن يعلم بأن العالم أشرف في سنخه وعنصره، وأوله وآخره، وسفره وحضره، وشهادته ومغيبه من ذي المال؛ فإذا وهب له العلم فلا يأس على المال الذي يجزىء منه اليسير، ولا يلهب نفسه على فوته حسرةً وأسفاً؛ فالعلم مدبر، والمال مدبر؛ والعلم نفسي، والمال جسدي، والعلم أكثر خصوصيةً بالإنسان من المال، وآفات صاحب المال كثيرةٌ وسريعة، لأنك لا ترى عالماً سرق علمه وترك فقيراً منه؛ وقد رأيت جماعةً سرقت أموالهم ونهبت وأخذت، وبقي أصحابها محتاجين لا حيلة لهم؛ والعلم يزكو على الإنفاق ويصحب صاحبه على الإملاق؛ ويهدي إلى القناعة، ويسبل الستر على الفاقة؛ وما هكذا المال.