الجزء الثاني - الليلة التاسعة عشرة

الليلة التاسعة عشرة

ورسم بجمع كلماتٍ بوارع، قصارٍ جوامع، فكتبت إليه أشياء كنت أسمعها من أفواه أهل العلم والأدب على مر الأيام في السفر والحضر، وفيها قرعٌ للحس، وتنبيهٌ للعقل، وإمتاعٌ للروح، ومعونةٌ على استفادة اليقظة، وانتفاعٌ في المقامات المختلفة، وتمثلٌ للتجارب المخلفة؛ وامتثالٌ للأحوال المستأنفة.

من ذلك:  الحمد لله مفتاح المذاهب. البر يستعبد الحر. القناعة عز المعسر. الصدقة كنز الموسر. ما انقضت ساعةٌ من أمسك إلا ببضعةٍ من نفسك. درهمٌ ينفع خيرٌ من دينار يضر. من سره الفساد، ساءه المعاد. الشقي من جمع لغيره فضن على نفسه بخيره. زد من طول أملك في قصر عملك. لا يغرنك صحة نفسك، وسلامة أمسك، فمدة العمر قليلة، وصحة النفس مستحيلة. من لم يعتبر بالأيام، لم ينزجر بالملام. من استغنى بالله عن الناس، أمن من عوارض الإفلاس. من ذكر المنية، نسي الأمنية. البخيل حارس نعمته، وخازن ورثته. لكل امرىء من دنياه، ما يعينه على عمارة أخراه. من ارتدى بالكفاف، اكتسى بالعفاف. لا تخدعنك الدنيا بخدائعها، ولا تفتننك بودائعها. رب حجة، تأتي على مهجة؛ ورب فرصة، تؤدي إلى غصة. كم من دم، سفكه فم. كم إنسان، أهلكه لسان. رب حرف، أدى إلى حتف. لا تفرط، فتسقط. الزم الصمت، وأخف الصوت. من حسنت مساعيه، طابت مراعيه. من أعز فلسه، أذل نفسه. من طال عدوانه، زال سلطانه. من لم يستظهر باليقظة، لم ينتفع بالحفظة. من استهدى الأعمى عمي عن الهدى. من اغتر بمحاله، قصر في احتياله. زوال الدول، باصطناع السفل. من ترك ما يعنيه، دفع إلى ما لا يعنيه. ظلم العمال، من ظلمة الأعمال. من استشار الجاهل ضل، ومن جهل موضع قدمه زل. لا يغرنك طول القامة، مع قصر الاستقامة، فإن الذرة مع صغرها، أنفع من الصخرة على كبرها. تجرع من عدوك الغصة، إن لم تنل منه الفرصة، فإذا وجدتها فانتهزها قبل أن يفوتك الدرك، أو يصيبك الفلك، فإن الدنيا دولٌ تبنيها الأقدار، ويهدمها الليل والنهار. من زرع الإحن، حصد المحن. من بعد مطمعه، قرب مصرعه. الثعلب في إقبال جده، يغلب الأسد في استقبال شده. رب عطب، تحت طلب. اللسان، رق الإنسان. من ثمرة الإحسان، كثرة الإخوان، من سأل ما لا يجب، أجيب بما لا يحب، وأنشدت:

وليس لنا عيبٌ سوى أن جودنـا

 

أضر بنا والبأس من كل جانـب

فأفنى الندى أموالنا غير ظـالـمٍ

 

وأفنى الردى أعمارنا غير عائب

أبونا أبٌ لو كان للناس كـلـهـم

 

أبٌ مثله أغناهم بالـمـنـاقـب

قال حميد بن الصميري لابنه: اصحب السلطان بشدة التوقي كما تصحب السبع الضاري والفيل المغتلم والأفعى القاتلة؛ واصحب الصديق بلين الجانب والتواضع؛ واصحب العدو بالإعذار إليه والحجة فيما بينك وبينه؛ واصحب العامة بالبر والبشر واللطف باللسان.

وقع عبد الحميد الكاتب على ظهر كتاب: يا هذا، لو جعلت ما تحمله القراطيس من الكلام مالاً حويت جمالاً وحزت كمالاً.

ووقع السفاح مرة: ما أقبح بنا أن تكون الدنيا لنا وحاشيتنا خارجون منها، فعجل أرزاقهم، وزد على قدر كل رجل منهم إن شاء الله.

قال الحسن بن علي: عنوان الشرف، حسن الخلف.

وقال جعفر بن محمد: إن لم تجف، فقلما تصفو.

وقال أعرابي: النخلة جذعها نماء، وليفها رشاء، وكربها صلاء، وسعفها ضياء، وحملها غذاء.

وقال الأصمعي: سمعت كساحاً يقول لغلام له: ألم أضع إزارك، ألم أصنع عود مجرفتك؟ ألم أجعلك كساحاً على حمارين؟ وجد كتابٌ باليمن فيه: أنا فلانة بنت فلان التبعي، كنت آكل البقل الرطب من الهند وأنا باليمن، ثم جعنا حتى اشترينا مكوك برٍ بمكوك در، من يوسف بن يعقوب بمصر، فمن رآنا فلا يغتر بالدنيا.

وقال علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - لرجل من بني تغلب يوم صفين: أآثرتم معاوية؟ فقال: ما آثرناه، ولكنا آثرنا القسب الأصفر، والبر الأحمر، والزيت الأخضر.

قيل للحسن بن عليٍ - رضي الله عنه - لما صالح معاوية: يا عار المؤمنين. فقال: العار خيرٌ من النار.

نظر الحجاج يوماً على المائدة إلى رجل وجاأ عنق رجل آخر، فدعا بهما، فقال للواجىء: علام صنعت؟ فقال: غص بعظمٍ فخفت أن يقتله، فوجأ عنقه فألقاه؛ فسأل الآخر فقال: صدق؛ فدعا بالطباخ فقال له: أتدع العظام في طعامك حتى يغص بها؟ فقال: إن الطعام كثير، وربما وقع العظم في المرق فلا يزال. قال: تصب المرق على المناخل. فكان يفعل. قال سلمة بن المحبق: شهدت فتح الأبلة، فوقع في سهمي قدر نحاس، فنظرت فإذا هي ذهبٌ فيها ثمانون ألف مثقال، فكتبت في ذلك إلى عمر، فأجاب بأن يحلف سلمة بأنه أخذها يوم أخذها وهي عنده، فإن حلف سلمت إليه، وإلا قسمت بين المسلمين، قال: فحلفت فسلمت إلي، فأصول أموالنا اليوم منها.

قال بعض الحكماء: لا يصبر على المروءة إلا ذو طبيعةٍ كريمة.

أصاب عبد الرحمن بن مدين - وكان رجل صدق بخراسان - مالاً عظيماً فجهز سبعين مملوكاً بدوابهم وأسلحتهم إلى هشام بن عبد الملك، ثم أصبحوا معه يوم الرحيل، فلما استوى بهم الطريق نظر إليهم فقال: ما ينبغي لرجل أن يتقرب بهؤلاء إلى غير الله. ثم قال: اذهبوا أنتم أحرارٌ، وأذل لقدرك عزه.

كتب زياد بن عبد الله الحارثي إلى المهدي:

أنا ناديت عفوك من قريبٍ

 

كما ناديت سخطك من بعيد

وإن عاقبتني فلسوء فعلـي

 

وما ظلمت عقوبة مستقيد

وإن تصلح فإحسانٌ جـديدٌ

 

عطفت به على شكرٍ جديد

وقال رجل لمحمد بن نحرير: أوصني؛ فقال: اسمع ولا تتكلم، واعرف ولا تعرف، واجلس إلى غيرك ولا تجلسه إليك.


وقال رجل لابن أسيد القاضي: إن أمي تريد أن توصي فتحضر وتكتب؛ فقال: وهل بلغت مبلغ النساء؟ ودخل صاحب المظالم بالبصرة على رجلٍ مبرسم وعنده طبيبٌ يداويه، فأقبل على الطبيب وأهل المريض، وقال: ليس دواءٌ المبرسم إلا الموت حتى تقل حرارة صدره، ثم حنيئذ يعالج بالأدوية الباردة حتى يستبل.

واجتاز به بائع دراجٍ فقال: بكم تبيع الدراجة؟ فقال: بدرهم؛ فقال له: أحسن. قال: كذا بعت. قال: نأخذ منك اثنتين بثلاثة. قال: هما لك. قال: يا غلام خذ منه، فإنه يسهل البيع.

ودخل حجاج بن هارون على نجاحٍ الكاتب، فذهب ليقبل رأسه؛ فقال له: لا تفعل، فإن رأسي مملوءٌ بالدهن، فقال: والله لو أن عليه ألف رطلٍ خراءً لقبلته.

قدم لابن الحسحاس سكباجةٌ فقال لصديق له: كل فإنها أم القرى.

وعزى ابن الحسحاس صديقاً له ماتت ابنته، فقال: من أنت حتى لا تموت ابنتك البظراء! قد ماتت عائشة بنت النبي صلى الله عليه وسلم.

أخذ يعقوب بن الليثي في أول أمره رجلاً فاستصفاه، ثم رآه بعد زمان، فقال له: أبا فلان، كيف أنت الساعة؟ قال له: كما كنت أنت قديماً. قال وكيف كنت أنا؟ قال: كما أنا الساعة؛ فأمر له بعشرة آلاف درهم.

قال ابن المبارك: إذا وضع الطعام فقد أذن للآكل.

وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إن العرب لا تصلح ببلاد لا تصلح بها الإبل.

وقال إبراهيم بن السندي: نظر رجلٌ من قريش إلى صاحب له قد نام في غداةٍ من غدوات الصيف طيبة النسيم، فركضه برجله وقال: ما لك تنام عن الدنيا في أطيب وقتها، نم عنها في أخبث حالاتها، نم في نصف النهار لبعدك عن الليلة الماضية والآتية، ولأنها راحةٌ لما قبلها من التعب، وجمامٌ لما بعدها من العمل، نمت في وقت الحوائج، وتنبهت في وقت رجوع الناس؛ وقد جاء: قيلوا فإن الشياطين لا تقيل.

وقال إبراهيم بن السندي أيقظت أعرابيةٌ أولاداً لها صغاراً قبل الفجر في غدوات الربيع وقالت: تنسموا هذه الأرواح، واستنشقوا هذا النسيم، وتفهموا هذا النعيم، فإنه يشد من منتكم.

ويقال في الوصف: كأنه محراك نار، وكأنه الجأم صدىً.

وإذا وصفوه بالقصر قالوا: كأنه عقدة رشاً، وابنةُ عصا. وإذا كان ضعيفاً قالوا: كأنه قطعة زبد، والمولدون يقولون: كأنه اسكرجة.

قال بعض السلف في دعائه: اللهم لا أحيط بنعمك علي فأعدها، ولا أبلغ كنه واحدةٍ منها فأحدها.

دعا عطاءٌ السندي فقال: أعوذ بك من عذابك الواقع، الذي ليس له دافع، وأسألك من خيرك الواسع، الذي ليس له مانع.

ودعا بعض السلف: اللهم إن قلبي وناصيتي بيدك لم تملكني منهما شيئاً، وإذ فعلت ذلك فكن أنت وليهما، فاهدنا سواء السبيل.

ودعا بعض الصالحين: اللهم ما كان لي من خيرٍ فإنك قضيته ويسرته وهديته، فلا حمد لي عليه؛ وما كان مني من سوءٍ فإنك وعظت وزجرت ونهيت فلا عذر لي فيه ولا حجة.

ودعا آخر: اللهم إني أعوذ بك من سلطان جائر، ونديمٍ فاجر، وصديق غادر، وغريم ماكر، وقريب مناكر، وشريكٍ خائن، وحليفٍ مائن، وولدٍ جافٍ، وخادم هافٍ، وحاسد ملافظ، وجارٍ ملاحظ، ورفيقٍ كسلان، وخليلٍ وسنان، و ضعيف، ومركوبٍ قطوف، وزوجةٍ مبذرة، ودارٍ ضيقة. قال المدائني: قال بعض السلف لابنه: اسحذ طبعك بالعيون والفقر وإن قلت، فإن الشجرة لا يشينها قلة الحمل إذا كان ثمرها نافعاً، وأكلها ناجعاً.

وقيل للأوزاعي: ما كرامة الضيف؟ قال: طلاقة الوجه.

قال مجاهد في قول الله تعالى: "ضيف إبراهيم المكرمين" قال: قيامه عليهم بنفسه.

وقال عمر بن عبد العزيز: ليس من المروءة أن تستخدم الضيف.

وقال إبراهيم بن الجنيد: كان يقال: أربعٌ للشريف لا ينبغي أن يأنف منهن وإن كان أميراً: قيامه من مجلسه لأبيه، وخدمته لضيفه، وخدمته للعالم يتعلم منه، وإن سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم.

حاتم كان يقول: العجلة من الشيطان إلا في خمسة أشياء، فإنها من السنة: إطعام الضيف إذا حل، وتجهيز الميت، وتزويج البكر، وقضاء الدين، والتوبة من الذنب.

وقال: من أطعم الضيف لحماً وخبز حنطة وماءً بارداً فقد تمم الضيافة.

وقال حاتم: المزور المرائي إذا ضاف إنساناً حدثه بسخاوة إبراهيم الخليل، وإذا ضافه إنسانٌ حدثه بزهد عيسى بن مريم.

وقال ميمون بن ميمون: من ضاف البخيل صامت دابته، واستغنى عن الكنيف، وأمن التخمة.

وقال بعض السلف الصالح: لأن أجمع إخواني على صاعٍ من طعامٍ أحب إلي من عتق رقبة.

قال الأعمش: كان الربيع بن خيثم يصنع لنا الخبيص ويقدمه ويقول: اللهم اغفر لأطيبهم نفساً، وأحسنهم خلقاً، وارحمهم جميعاً.

وقال أنس بن مالك: كل بيت لا يدخله الضيف لا تدخله الملائكة.

ولما قرأته على الوزير - بلغه الله آماله، وزكى أعماله، وخفف عن قلبه أثقاله - قال: ما علمت أن مثل هذا الحجم يحوي هذه الوصايا والملح؛ وهذه الكلمات الغرر ما فيها ما لا يجب أن يحفظ، والله لكأنها بستان في زمان الخريف، لكل عينٍ فيه منظر، ولكل يدٍ منه مقطف، ولكل فمٍ منه مذاق. إذا فرغت فأضف لي جزءاً أو جزءين أو ما ساعدك عليه النشاط، فإن موقعها يحسن، وذكرها يجمل، وأثرها يبقى، وفائدتها تروى، وعاقبتها تحمد.

فقلت: السمع والطاعة.