الجزء الثاني - الليلة الثانية والعشرون

الليلة الثانية والعشرون

وقال لي مرة أخرى: ارو لي شيئاً من كلام أبي الحسن العامري، فإني أرى أصحابنا يرذلونه ويذيلونه، فلا يرون له في هذه العصبة قدماً، ولا يرفعون له في هذه الطائفة علماً.

فقلت: كان الرجل لكزازته وغلظ طباعه وجفاء خلقه ينفر من نفسه، ويغري الناس بعرضه، فإذا طلب منه الفن الذي قد خص به وطولب بتحقيقه وجد على غاية الفضل.

فمن كلامه قوله: الطبيعة تتدرج في فعلها من الكليات البسيطة، إلى الجزئيات المركبة، والعقل يتدرج من الجزئيات المركبة، إلى البسائط الكلية، والإحاطة بالمعاني البسيطة تحتاج إلى الإحاطة بالمعاني المركبة، ليتوصل بتوسطها إلى استثباتها، والإحاطة بالمعاني المركبة تحتاج إلى الإحاطة بالمعاني البسيطة ليتوصل بتوسطها إلى تحقيق إثباتها. وكما أن القوة الحسية عاجزةٌ بطباعها عن استخلاص البسائط الأوائل، بل تحتاج معها إلى القوة العاقلة، وإنقويت لصار العقل فضلاً - كذلك أيضاً القوة العاقلة لا تقوى بذاتها على استثبات المركبات إلا من جهة القوة الحساسة، ولو قويت عليه لصار الحس فضلاً للعاقلة.

قال: هذا كلامٌ بارعٌ من صدرٍ واسع، وأحب أن تزيدني من نمطه. قلت: وقال أيضاً: الكلي مفتقرٌ إلى الجزئي لا لأن يصير بديمومته محفوظاً بل لأن يصير بتوسطه موجوداً، والجزئي مفتقر إلى الكلي لا لأن يصير بتوسطه موجوداً، بل لأن يصير بديمومته محفوظاً بل لأن يصير بتوسطه موجوداً، بل لأن يصير بديمومته محفوظاً.

وقال: الحال في جميع السبل - أعني مسالك الأشياء في تكونها صناعيةً كانت أو تدبيريةً أو طبيعيةً أو اتفاقيةً - واحدة، مثاله أن الإنسان وإن التذ بالدستنبان فلن يعد موسيقاراً إلا إذا تحقق بمبادئه الأول التي هي الطنينات وأنصاف الطنينات، وكذلك الإنسان وإن استطاب الحلو فلن يسمى حلوانياً إلا إذا عرف بسائطه وأسطقساته.

وقال: العلم لا يحيط بالشيء إلا إذا عرف مبادئه القريبة والبعيدة والمتوسطة.

وقال: نتوصل إلى كرية القمر بما نراه من اختلاف أشكاله، أعني أنا نراه في الدورة الواحدة هلالياً مرتين ومنصفاً مرتين وبدراً مرة واحدة، وهذه الأشكال وإن كانت متقدمةً عندنا فإن كونه كرياً هو المتقدم بالذات.

وقال: ما هو أكثر تركيباً فالحس أقوى على إثباته، وما هو أقل تركيباً فالعقل أخلص إلى ذاته.

وقال: الأحداث - وهي الذوات الإبداعية - الوقوف على إثباتها يغني عن البحث عن ماهياتها.

وقال: كل معنىً يوجد بوجوده غيره لا يرتفع بارتفاع ذلك الذي هو غيره، بل يرتفع غيره بارتفاعه، فإنه أقدم ذاتاً من غيره، مثاله الجنس لا يرتفع بارتفاع واحدٍ من أنواعه، والأنواع ترتفع بارتفاع الجنس، وكذلك حال النوع مع الشخص، فالجنس أقدم من النوع، والنوع أقدم من الشخص، وأعني بالجنس والنوع الطبيعيين لا المنطقيين.

وقال: معرفتنا أولاً تتعلق بالأشخاص الجزئية ثم بتوسطها ثبتت الأجناس فإذاً المتقدم بالذات غير المتقدم إلينا.

وقال: مسلك العقل في تعرف المعاني الطبيعية مقابلٌ لمسلك الطبيعة في إيجادها، لأن الطبيعة تتدرج من الكليات البسيطة إلى الجزئيات المركبة، والعقل يتدرج من الجزئيات المركبة إلى البسائط الكلية.

قال أبو النضر نفيس: إنما كان هذا هكذا لأن الطبيعة متناولة من العقل والعقل مناولٌ للطبيعة، فوجب أن يختلف الأمران، فإن قال قائل: فهلا تم الأمران معاً بواحدٍ منهما، أعني الطبيعة أو العقل؟ فالجواب أن أحدهما في العلو، والآخر في السفل، فليس للعالي أن يهبط، ولا للسافل أن يعلو؛ فلما كان هذا محالاً توسط بينهما - أعني العالي والسافل - المناولة والتناول حتى اتصل الأول بالثاني، وغص الفضاء بينهما بضروب الأفراد والأزواج، وانتظم الكل فلم يكن فيه خلل، ولا دونه مأتىً، ولا وراءه متوهم.

وقال: الإنسان مركب من الأعضاء الآلية بمنزلة الرأس واليدين والرجلين وغيرها، ثم كل واحد من هذه الأعضاء مركب من الأعضاء المتشابهة الأنواع بمنزلة اللحم والعظم والعصب والشريان، ثم كل واحد من هذه الأعضاء مركب من الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم والمريان، ثم كل واحد من هذه الأخلاط مركب من الأسطقسات الأربع التي هي النار والهواء، والأرض والماء؛ ثم كل واحدٍ من هذه الأسطقسات مركب من الهيولى والصورة.

وقال: كما أن لكل عضو قوةً تخصه بتدبيرها، كذلك لجميع البدن قوةٌ أخرى ضامنةٌ لتدبيره.

قال: وقال الحكيم في كتاب السماء: علة الأنواع والأجناس ودوامها هي الفلك المستقيم، وعلة كون الأشخاص وتجدد حدوثها هي الفلك المائل، فأما الكليات المنطقية فإن طبيعتها هي القوة القياسية المستتبة لها عند تكون الحس على واحدٍ منها. قال أبو النضر نفيس: هذا حكمٌ بالوهم، ورأيٌ خرج من الظن؛ الفلك المستقيم والفلك المائل هما بنوع الوحدة ونسبة الاتفاق، فليس لأحدهما اختصاص بالأنواع والأجناس، ولا بتجدد الأشخاص، والدليل على هذا أن قالباً لو قلب قالبه ذلك لم يكن له عنه انفصال. وللرأي زلات، كما أن للسان فلتات، وللحكيم هفوات، كما أن للجواد عثرات؛ وما أكثر من يسكر فيقول في سكره ما لا يعرف، وما أكثر من يغرق في النوم فيهذي بما لا يدري، ومن الذي حقق عنده أن الفلك المستقيم هذا نعته، والفلك المائل تلك صفته؛ هذا توهم وتلفيق، لا يرجع مدعيه إلى تحقيق، وقول أبي الحسن هذا عن الحكيم تقليدٌ، كما أن دعوى ذاك الحكيم توهم، ومحبة الرجال للرجال فتنةٌ حاملةٌ على قبول الباطل، وبغض الرجال للرجال فتنةٌ حاملةٌ على رد الحق؟ وهذا أمرٌ قد طال منه الضجيج، وفزع إلى الله منه بالتضرع.

قال أبو الحسن: الموجود له حقيقةٌ واحدةٌ لا تدرك إلا عقلاً، وليس له مبدأ، ولو كان له مبدأٌ لشاركه المبدأ في طبيعة الوجود، وليس بمتحرك لأنه لا مقابل له فيتحرك إليه.

وقال أبو النضر نفيس: عني بهذا الموجود الحق الأول الذي هو علة العلل، وهو البارىء الإله، وما أنصف، لأنه يجب أن يقسم الموجود بأقسامه، ويصف مرتبة كل موجود على ما هي عليه وعلى ما هو به حتى ينتهي من هذا الموجود الأعلى إلى آخر الموجود الأسفل، أو يصف الموجود الأسفل حتى يرتقي إلى هذا الموجود الأعلى، فإنه لا شيء مما يعقل ويحس إلا وله من هذا الوجود نصيب به استحق أن يكون موجوداً، وإن كان ذلك النصيب قليلاً.

وقال: قد يوصف الشيء بأنه واحد بالمعنى وهو كثير بالأسماء، ويوصف بأنه واحد بالاسم وهو كثير بالمعنى، ويوصف بأنه واحد بالجنس وهو كثير بالأنواع، ويوصف بأنه واحد بالنوع وهو كثير بالشخوص، ويوصف بأنه واحد بالاتصال وهو كثير بالأجزاء، وقد نقول في شيء: إنه واحد بالموضوع وهو كثير بالحدود، كالتفاحة الواحدة التي يوجد فيها اللون والطعم والرائحة، وقد يكون واحداً في الحد وكثيراً في الموضوع، كالبياض الذي يوجد في الثلج والقطن والاسفيداج، وقد يكون كثيراً بالحج والموضوع كالعلم والحركة، فإن موضوع هذا الجسم، وموضع ذاك النفس، وحد أحدهما غير حد الآخر، وقد يكون واحداً بالموضوع والحد بمنزلة السيف والصمصام؛ وقد نقول أشياء تكون واحدةً بالفعل، وهي بالقوة كثيرة، كالسراج الواحد؛ فأما أن يكون واحداً بالقوة وكثيراً بالفعل من وجهٍ واحد، فلا يكون، بل من جهات مختلفة.

قال أبو النضر نفيس: الواحد الذي ينقسم فينشأ منه الكثرة غير الواحد الذي لا ينقسم، والكثير الذي يتوحد حتى يكون واحداً غير الكثير الذي لا يتوحد، فالواحد الذي لا ينقسم علة الواحد المنقسم، والكثير الذي يتوحد هو علة الكثير الذي لا يتوحد، وبالحكمة الإلهية ما كان هكذا حتى يكون الكثير الذي يتوحد في مقابلة الكثير الذي لا يتوحد، والواحد الذي ينقسم في مقابلة الواحد الذي لا ينقسم، وهذه المقابلة هي عبارة عن صورة التمام الحاصل للكل، وليست هي عبارة عن صورةٍ مزاحمةٍ لصورة، أو كثيرةٍ غالبةٍ لكثرة، المستغاث بالله من قصور العبارة عن الغاية، وتقاعس اللفظ عن المراد.

وقال: يعجبني من جملة الحكم الأمثال التي يضربونها، والعيون التي يستخرجونها، والمعاني التي يقربونها. قلت: صدقت، مثل قول فيلسوف: البدن للنفس بمنزلة الدكان للصانع، والأعضاء بمنزلة الآلات، فإذا انكسرت آلات الصانع وخرب الدكان وانهدم، فإن الصانع لا يقدر على عمله الذي كان يعمله إلا أن يتخذ دكاناً آخر، وآلاتٍ جددً أخر.

قال: أحب أن أسمع شيئاً من منثور كلامهم في فنون مختلفة.

قلت: قال فيلسوف: العاقل يضل عقله عند محاورة الأحمق. قال أبو سليمان: هذا صحيح، ومثاله أن العاقل إذا خاطب العاقل فهم وإن اختلفت مرتبتاهما في العقل، فإنهما يرجعان إلى سنخ العقل، وليس كذلك العاقل إذا خاطب الأحمق، فإنهما ضدان، والضد يهرب من الضد؛ وقد قيل لأبي الهذيل العلاف - وكان متكلم زمانه -: إنك لتناظر النظام وتدور بينكما نوبات، وأحسن أحوالنا إذا حضرنا أن ننصرف شاكين في القاطع منكما والمنقطع، ونراك مع هذا يناظرك زنجويه الحمال فيقطعك في ساعة.

فقال: يا قوم إن النظام معي على جادة واحدة لا ينحرف أحدنا عنها إلا بقدر ما يراه صاحبه فيذكره انحرافه، ويحمله على سننه فأمرنا يقرب، وليس هكذا زنجويه الحمال فإنه يبتدىء معي بشيء، ثم يطفر إلى شيء بلا واصلة ولا فاصلة، وأبقى، فيحكم علي بالانقطاع، وذاك لعجزي عن رده إلى سنن الطريق الذي فارقني آنفاً فيه.

وقال فيلسوفٌ آخر: العادات قاهرات، فمن اعتاد شيئاً في السر فضحه في العلانية.

قال أبو سليمان: وهذا صحيح، لأن حقيقة العادة في الشيء المعهود عوده بعد عوده، فهي - أعني العادة - بالاستمرار الذي يقهر من اعتاده، والخلوة حال، والعلانية حال، والعادة بجريانها تهجم في الحالين ولا تفرق؛ ولهذا ما قيل: العادة هي الطبيعة الثانية؛ كأن الطبيعة عادة، ولكنها الأولى بالجبلة؛ والعادة طبيعة ولكنها الأخرى بحسن الاختيار أو بسوء الاختيار. وقال فيلسوف: ما أكثر من ظن أن الفقير هو الذي لا يملك شيئاً كثيراً وهذا فقير من جهة العرض، فأما الفقير الطبيعي فالذي شهواته كثيرة وإن كان كثير المال؛ كما أن الغني الطبيعي لا يحتاج إلى شيء وإن كان قليل المال، أي الذي ملك نفسه وقمع شهواته وأخمد لهب إرادته؛ وقد ظن قومٌ أن الذين منعوا من الشهوات، ورضوا بالزهد في اللذات، خانوا الناس وحالوا بينهم وبين حظوظهم، وحرموهم ما هو لهم، وصدوهم عن محبوباتهم؛ وهذا ظنٌ خطأ، وأي مرادٍ في هذا للواعظين والمزهدين، والذين وصوا وأشفقوا، وردعوا عن الخوض في لذات النفوس الغضبية والبهيمية؟ والله ما كان ذلك منهم إلا على طريق النصيحة والشفقة والإعذار والإنذار، إلا أن يكون الذين ظنوا هذا إنما ظنوه لأنهم رأوا بعض المزهدين راغباً، وبعض الناصحين غاشاً، وبعض الآمرين مخالفاً، وليس العمل على المحتال، وعلى من آثر الغش في المقال؛ ولكن المرجع إلى ما يدل عليه الحق، ويشهد له العقل، ويصح فيه البرهان؛ أترى الفيلسوف غش في قوله لأصحابه: اقنعوا بالقوت، وانفوا عن أنفسكم الحاجة، ليكون لكم قربة إلى الله، لأن الله غير محتاج، فكلما احتجتم أكثر كنتم منه أبعد، واهربوا من الشر والإثم، واطلبوا من الخير أعمه وأعظمه، وأبقاه وأدومه؛ واعرفوا الأبد، واطلبوا السرمد، فإن من طلب الأبد ثم وجد بقي على الأبد، ومن طلب الأمد ثم وجد فني على الأمد.

الحاجة ذلٌ، والغنى عز، والعز ضد الذل؛ فمن طلب العز في العاجلة فقد طلب الذل وهو لا يدري، ومن طلب العز في الآجلة فقد وجد العز وهو لا يدري.

في الحكمة أن يقال: اصبر على الذل لتنال العز، وليس في الحكمة اثبت على العز لتنال الذل، هذا معكوس.