الجزء الثاني - الليلة الرابعة والعشرون

الليلة الرابعة والعشرون

وجرى حديث الفيل ليلةً فأكثر من حضر وصفه بما لم يكن فيه فائدةٌ تعاد، ولا غريبةٌ تستفاد؛ فحكيت: إن العلماء بطبائع الحيوان ذكروا أن الفيلة لا تتولد إلا في جزائر البحار الجنوبية، وتحت مدار برج الحمل، والزرافة لا تكون إلا في بلاد الحبشة، والسمور وغزال المسك لا يكونان إلا في الصحارى الشرقية الشمالية؛ وأما الصقور والنسور والبزاة وما شاكلها من الطير فإنها لا تفرخ إلا في رءوس الجبال الشامخة والعقاب. والنعام لا تفرخ إلا في البراري والقفار والفلوات. والوطواط والطيطوي وأمثالهما من الطير لا تفرخ إلا على سواحل البحار وشطوط الأنهار والبطائح والآجام؛ والعصافير والفواخت وما شاكلها من الطير لا تفرخ إلا بين الأشجار والدحال والقرى والبساتين.

وحدث ابن الأعرابي عن هشام بن سالم - وكان مسناً من رهط ذي الرمة - قال: أكلت حيةٌ بيض مكاء فجعل المكاء يشرشر على رأسها ويدنو منها، حتى إذا فتحت فاها تريده وهمت به ألقى في فيها حسكةً؛ فأخذت بحلقها حتى ماتت.

وأنشد أبو عمرو الشيباني قول الأسدي:

إن كنت أبصرتني قلا ومصطلما

 

فربما قتل المكاء ثـعـبـانـا

فقال - حرس الله نفسه - من أين للحيوان غير الإنسان هذه الفطنة وهذه الفضيلة وهذه الجرأة وهذه الحيلة؟ فقلت: شيخنا أبو سليمان يقول في هذه الأيام - وقد جرى حديث الحيوان وعجائب أفاعيله - إن الإحساسات التي للحيوان على أصنافه لها غرضٌ عظيم، وبذلك الغرض لها تفاوتٌ عظيم ظاهرٌ وخافٍ، وأفعالٌ معهودة ونادرة، ولها أخلاق معروفة، ومعارف موصوفة؛ ولولا ذلك ما كان يقال: أصول من جمل، وأغدر من ذئب، وأروغ من ثعلب، وأجبن من صقر، وأجمع من ذرة، وآلف من كلب، وأهدى من قطاة، واحذر من عقعق، وأزهى من غراب، وأظلم من حية. وأشد عداوةً من عقرب. وأخبث من قرد، وأحمق من حبارى، وأكذب من فاخته، والأم من كلبٍ على جيفة، وأعق من ضب، وأبر من هرة، وأنفر من ظليم، وأجرأ من ليث، وأحقد من فيل؛ وعلى هذا.

قال: وكما أن بين آحاد نوع الإنسان تفاوتاً في الأخلاق، كذلك بين آحاد نوع الحيوان تفاوت، وكما أنه يزل بعض العقلاء فيركب ما لا يظن بمثله لعقله، كذلك يزل ويغلط بعض الحمقى فيأتي بما لا يحسب أن مثله يهتدي إليه، فليس العقل بخاطرٍ على صاحبه أن يندر منه ما يكون من الحيوان، وأصناف الحيوان من الناس وغير الناس تتقاسم هذه الأخلاق بضروب المزاج المختلفة في الأزمان المتباعدة، والأماكن المتنازحة، تقاسماً محفوظ النسب بالطبيعة المستولية، وإن كان ذلك التقاسم مجهول النسب للغموض الذي يغلب عليه، وإذا عرف هذا الشرح وما أشبهه مما يزيده وضوحاً، زال التعجب الناشىء من جهل العلة وخفاء الأمر.

قال: ومن العجب أنا إذا قلنا: أروغ من ثعلب، وأجبن من صقر، وأحقد من فيل، أن هذا الروغ وهذا الجبن وهذا الحقد في هذه الأصاف ليست لتكون عدةً لها مع نوع الإنسان، ولكن لتتعاطى أيضاً بينها، وتستعملها عند الحاجة إليها؛ وكما يشبه إنسانٌ لأنه لصٌ بالفأرة، أو بالفيل لأنه حقود، أو بالجمل لأنه صؤول، كذلك يشبه كل ضرب من الحيوان في فعله وخلقه وما يظهر من سنخه بأنه إنسان.

ويقال للبليد من الناس: كأنه حمار؛ ويقال للذكي من الخيل: كأنه إنسان؛ ولولا هذا التمازج في الأصل والجوهر، والسنخ والعنصر، ما كان هذا التشابه في الفرع الظاهر، والعادة الجارية بالخبر والنظر.

فقال: هذا كلامٌ لا مزيد عليه.

وقالت العلماء: إن هذا الاعتبار واصلٌ في الحقيقة إلى جنس النبات، فإن النخل والموز لا ينبتان إلا في البلدان الدافئة والأرض اللينة والتربة، والجوز والفستق وأمثالهما لا ينبتان إلا في البلدان الباردة والأرض الجبلية. والدلب وأم غيلان في الصحارى والقفار؛ والقصب والصفصاف على شطوط الأنهار. قالوا: وهكذا أيضاً وصف الجواهر المعدنية، كالذهب، فإنه لا يكون إلا في الأرض الرملية والجبال والأحجار الرخوة. والفضة والنحاس والحديد لا تكون إلا في الأرض الندية والتراب اللين والرطوبات الدهنية، والأملاح لا تنعقد إلا في الأراضي والبقاع السبخة، والجص والاسفيداج لا يكونان إلا في الأرض الرملية المختلطة ترابها بالحصى، والزاج لا يكون إلا في التراب العفص؛ وقد أحصى بعض من عني بهذا الشأن هذه الأنواع المعدنية فوجد سبعمائة نوعٍ.

وقالوا: من الجواهر المعدنية ما هو صلب لا يذوب إلا بالنار الشديدة، ولا يكسر إلا بالفأس كالياقوت والعقيق. ومنها ترابيٌ رخوٌ لا يذوب ولكن ينفرك، كالملح والزاج، والطلق؛ ومنها مائي رطب ينفر من النار كالزئبق، ومنها هوائي دهني تأكله النار، كالكبريت والزرنيخ؛ ومنها نباتيٌ كالمرجان، ومنها حيوانيٌ كالدر، ومنها طلٌ منعقد، كالعنبر والبادزهر، وذلك أن العنبر إنما هو طلٌ يقع على سطح ماء البحر، ثم ينعقد في مواضع مخصوصةٍ في زمان مقدر؛ وكذلك البادزهر، فإنه طلٌ يقع على بعض الأحجار، ثم يرسخ في خللها، ويغيب فيها، وينعقد في بقاعٍ مخصوصةٍ، في زمانٍ معلوم، وكالترنجبين الذي هو طلٌ يقع على ضربٍ من الشوك؛ وكذلك اللك فإنه يقع على نباتٍ مخصوصٍ ينعقد عليه؛ وكذلك الدر فإنه طلٌ يرسخ في أصداف نوعٍ من الحيوان البحري، ثم يغلظ ويجمد وينعقد فيه، وكذلك الموميا، وهي طلٌ يرسخ في صخورٍ هناك ويصير ماء ثم ينز من مسام ضيقةٍ ويجمد وينعقد.

والطل هو رطوبةٌ هوائيةٌ تجمد من برد الليل، وتقع على النبات والشجر والحجر والصخر؛ وعلى هذا القياس جميع الجواهر المعدنية، فإن مادتها إنما هي رطوباتٌ مائية، وأنداءٌ وبخاراتٌ تنعقد بطول الوقوع ومر الزمان.

وقالت الحكماء الأولون: ها هنا طبيعةٌ تألف طبيعةً أخرى، وطبيعةٌ تلزق بطبيعة أخرى، وطبيعةٌ تأنس بطبيعة، وطبيعةٌ تتشبه بطبيعة، وطبيعة تقهر طبيعة، وطبيعةٌ تخبث مع طبيعة، وطبيعة تطيب مع طبيعة، وطبيعةٌ تفسد طبيعة، وطبيعة تحمر طبيعة، وطبيعة تبيض طبيعة، وطبيعة تهرب من طبيعة، وطبيعةٌ تبغض طبيعة، وطبيعةٌ تمازج طبيعة.

فأما الطبيعة التي تألف طبيعةً فمثل الماس فإنه إذا قرب من الذهب لزق به وأمسكه، ويقال: لا يوجد الماس إلا في معدن الذهب في بلدٍ من ناحية المشرق.

ومثل طبيعة المغناطيس في الحديد، فإن هذين الحجرين يابسان صلبان، وبين طبيعتيهما ألفة، فإذا قرب الحديد من هذا الحجر حتى يشم رائحته ذهب إليه والتصق به وجذب الحديد إلى نفسه وأمسكه كما يفعل العاشق بالمعشوق. وكذلك يفعل الحجر الجاذب للخز والحجر الجاذب للشعر، والجاذب للتبن؛ وعلى هذا المثال ما من حجر من أحجار المعدن إلا وبين طبيعته وبين طبيعة شيء آخر إلفٌ واشتياق، عرف ذلك أو لم يعرف؛ ومثل هذا ما يكون بين الدواء والعضو العليل، وذلك أن من خاصة كل عضوٍ عليلٍ اشتياقه إلى طبيعة الدواء التي هي ضد طبيعة العلة التي به، فإذا حصل الدواء بالقرب من العضو العليل وأحس به جذبته القوة الجاذبة إلى ذلك العضو وأمسكت الممسكة واستعانت بالقوة المدبرة لطبيعة الدواء على دفع الطبيعة المؤلفة للعلة وقويت عليها ودفعتها عن العضو العليل كما يستعين ويدفع المحارب والمخاصم بقوة من يعينه على خصمه وعدوه ويدفعه عن نفسه؛ وأما الطبيعة التي تقهر طبيعةً أخرى فمثل طبيعة السنباذج الذي يأكل الأحجار عن الحك أكلاً ويلينها ويجعلها ملساء. ومثل طبيعة الأسرب الوسخ في الماس القاهر لسائر الأحجار الصلبة، وذلك أن الماس لا يقهره شيءٌ من الأحجار، وهو قاهر لها كلها، ولو ترك على السندان وطرق بالمطرقة لدخل في أحدهما ولم ينكسر، وإن جعل بين صفيحتين من أسربٍ وضمتا عليه تفتت؛ ومثل طبيعة الزئبق الطيار الرطب القليل الصبر على حرارة النار، إذا طلي به الأحجار المعدنية الصلبة مثل الذهب والفضلة والنحاس والحديد أوهنها وأرخاها حتى يمكن أن تكسر بأهون سعيٍ، وتتفتت قطعاً. ومثل الكبريت المنتن الرائحة المسود للأحجار النيرة البراقة، المذهب لألوانها وأصباغها، يمكن النار منها حتى تحترق في أسرع مدة. والعلة في ذلك أن الكبريت رطوبة دهنيةٌ لزجةٌ جامدة، فإذا أصابته حرارة النار ذاب والتزق بأجساد الأحجار ومازجها، فإذا تمكنت منها احترق وأحرق معه تلك الأجساد ياقوتاً كانت أو ذهباً أو غيرهما.

وأما الطبيعة التي ترسب في طبيعة أخرى وتنيرها، فمثل النوشاذر الذي يغوص في قعر الأشياء ويغسلها من الوسخ.

وأما الطبيعة التي تعين طبيعةً أخرى فمثل البورق الذي يعين النار على سبك هذه الأحجار المعدنية الذائبة، ومثل الزاجات والشبوب التي تجلوها وتنيرهها وتصبغها، ومثل المغنيسيا والقلي المعينين على سبك الرمل وتصفيته حتى يكون منه زجاج؛ وعلى هذا المثال جميع الأحجار المعدنية.

النار هي الحاكمة بين الجواهر المعدنية بالحق.

ويقال: من أدمن الأكل والشرب في أواني النحاس أفسدت مزاجه، وعرض له أمراضٌ صعبة، وإن أدنيت أواني النحاس من السمك شممت لها رائحةً كريهة وإن كبت آنية النحاس على سمكٍ مشويٍ أو مطبوخٍ بحرارته حدث منه سمٌ قاتل.

القلعي قريبٌ من الفضة في لونه، ولكن يخالفها في ثلاث صفات: الرائحة والرخاوة والصرير، وهذه الآفات دخلت عليه وهو في معدنه كما تدخل الآفات على المفلوج وهو في بطن أمه؛ فرخاوته لكثرة زئبقه، وصريره لغلظ كبريته.

ويقال: إن لون الياقوت الأصفر والذهب الإبريز، ولون الزعفران وما شاكلها من الألوان المشرقة منسوبةٌ إلى نور الشمس وبريق شعاعها، وكذلك بياض الفضة والملح والبلور والقطن وما شاكله من ألوان النبات منسوبةٌ إلى نور القمر وبريق شعاعه؛ وعلى هذا المثال سائر الألوان.

وقال أصحاب النجوم: السواد لزحل، والحمرة للمريخ، والخضرة للمشتري، والزرقة للزهرة، والصفرة للشمس، والبياض للقمر، والتلون لعطارد.

ويقال: إن العلة الفاعلة للجواهر المعدنية هي الطبيعة، والعلة الطينية الزئبق والكبريت؛ والعلة الصورية دوران الأفلاك وحركات الكواكب حول الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض؛ والعلة التمامية المنافع التي ينالها الإنسان والحيوان.

ويقال: إن الجواهر المعدنية ثلاثة أنواع: منها ما يكون في التراب والطين والأرض السبخة، ويتم نضجه في السنة وأقل كالكباريت والأملاح والشبوب والزاجات وما شابهها؛ ومنها ما يكون في قعر البحار وقرار المياه، ولا يتم نضجه إلا في السنة أو اكثر كالدر والمرجان، فإن أحدهما نباتٌ وهو المرجان، والآخر حيوان، وهو الدر.

ومنها ما يكون في وسط الحجر وكهوف الجبال وخلل الرمال فلا يتم نضجه إلا في السنين، كالذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص وما شاكلها؛ ومنها ما لا يتم نضجه إلا في عشرات السنين، كالياقوت والزبرجد والعقيق وما شاكلها.

وقال بعض من حضر المجلس - وهو الرجل الفدم الثقيل -: إن الزارع لا يزرع طالباً للعشب، بل قصده للحب، ولابد للعشب من أن ينبت إن أحب أو كره، فلم ذلك؟ فقيل له: قد يصحب المقصود ما ليس بمقصود، من حيث لا يتم المقصود إلا بما ليس بمقصود، والعشب هو فضلات الحب، وبه صفاء الحب وتمامه، ولولا القوة التي تصفي الحب وتصوره بصورته الخاصة به، وتنفي كدره وتحصل صفوه لكان العشب في بدن الحب، وحينئذ لا يكون الحب المنتفع به المخصوص باسمه المعروف بعينه، بل يكون شيءٌ آخر؛ فلما تميزت تلك الشوائب التي كانت ملابسةً له من أجزاء الأرض والماء وآثار الهواء والنار، خلص منتفعاً به، مفصوداً بعينه، فوجب بهذا الاعتبار أن يكون الحب بالذات، والعشب بالعرض.

فقال - أدام الله دولته - هل تعرف العرب الفرق بين الروح والنفس في كلامها؟ وهل في لفظها من نظمها ونثرها ما يدل على ما بينهما، أو هما كشيء واحد لحقه اسمان؟فكان الجواب: إن الاستعمال يخلط هذا بهذا وهذه بهذا في مواضع كثيرة، وإذا جاء الاعتبار أفرد أحدهما عن الآخر بالحد والاسم؛ وعلى هذا اتفق رأي الحكماء، لأنهم حكموا بأن الروح جسمٌ لطيف منبثٌ في الجسد على خاص ماله فيه فأما النفس الناطقة فإنها جوهرٌ إلهي، وليست في الجسد على خاص ماله فيه ولكنها مدبرةٌ للجسد؛ ولم يكن الإنسان إنساناً بالروح، بل بالنفس، ولو كان إنساناً بالروح لم يكن بينه وبين الحمار فرق، بأن كان له روحٌ ولكن لا نفس له. فأما النفسان الأخريان اللتان هما الشهوية والغضبية فإنهما أشد اتصالاً بالروح منهما بالنفس، وإن كانت النفس الناطقة تدبرهما وتمدهما وتأمرهما وتنهاهما؛ فهذا أيضاً يوضح الفرق بين الروح والنفس، فليس كل ذي روحٍ ذا نفس، ولكن كل ذي نفسٍ ذو روح؛ وقد وجدنا في كلام العرب مع هذا الفرق بينهما، فإن النابغة قد قال للنعمان بن المنذر:

وأسكنت نفسي بعد ما طار روحها

 

وألبستني نعمي ولست بشـاهـد

وقال أبو الأسود:

لعمرك ما حشاك الله روحا

 

به جشعٌ ولا نفساً شريرة

قال: هذا من الفوائد التي كنت أحن إليها، وأستبعد الظفر بها، وما أنفع المطارحة والمفاتحة وبث الشك واستماحة النفس، فإن التغافل عما تمس إليه الحاجة سوء اختيار، بل سوء توفيق.

وما أحسن ما قاله بعض الجلة: توانيت في أوان التعلم عن المسئلة عن أشياء كانت الحاجة تحفز إليها والكسل يصد عنها، فلما كبرت أنفت من ذكرها وعرضها على من علمها عنده، فبقيت الجهالة في نفسي، وركدت الوحشة بين قلبي وفكري.

ثم جرى في حديث النفس ذكر بعض العلماء فإنه قال: إن نفسك هي إحدى الأنفس الجزئية من النفس الكلية، لا هي بعينها، ولا منفصلةٌ عنها، كما أن جسدك جزءٌ من العالم لا هو كله ولا منفصلٌ عنه؛ وقد مر من أمر النفس ما فيه إيضاحٌ تامٌ واستبصارٌ واسع، وإن كان الكلام في نعت النفس لا آخر له، ولا وقوف عنه.

ولو قال قائلٌ: إن جسدك هو كل العالم لم يكن مبطلاً، لأنه شبيهٌ به، ومسلولٌ منه، وبحق الشبه يحكيه، وبحق الانسلال يستمد منه؛ وكذلك النفس الجزئية هي النفس الكلية، لأنها أيضاً مشاكهةٌ لها، وموجودةٌ بها، فبحق الشبه أيضاً نحكي حالها، وبحق الوجود تبقى بقاءها، فليس بين الجسد إذا أضيف إلى العالم، والنفس إذا قيست بالأخرى فرق، إلا أن الجسد معجونٌ من الطينة، والنفس مدبرةٌ بالقوة الإلهية؛ ولهذا احتيج إلى الإحساس والمواد، وإلى الاقتباس والالاتماس حتى تكون مدة الحياة الحسية بالغة إلى آخرها من ناحية الجسد، ويكون مبدأ الحياة النفسية موصولاً بالأبد بعد الأبد.

فقال - أدام الله سعادته - لو كان ما يمر من هذه الفوائد الغرر والمرامي اللطاف مرسوماً بسوادٍ على بياض، ومقيداً بلفظٍ وعبارة، لكان له ريعٌ وإتاء، وزيادةٌ ونماء.

فكان الجواب إن هذا غير متعذر ولا صعبٍ إن نفس الله في البقاء، وصرف هذه الهموم التي تقسم الفكر بالعوارض التي لا تحتسب، والأسباب التي لا تعرف؛ فأما والأشغال على تكاثفها، والزمان على تلونه فكيف يمكن ذلك؛ والعجب أنه يجري حرفٌ من هذه الأمور الشريفة في هذه الأوقات الضيقة.

ولقد قال أبو سليمان أمس: كيف نشاط الوزير - أدام الله سعادته - في شأنه، وكيف كان تقبله لرسالتي إليه، وتلطفي له، وخدمتي لدولته؟ فقلت: ما ثم شيءٌ يحتاج إلى الزيادة من فهمٍ ودراية، وبيان واستبانة، وهشاشةٍ ورفق، واطلاعٍ وتأنٍ؛ ولكن الوقت مستوعبٌ بالتدبير والنظر، وكف العدو بالمداورة مرة، وبالإحسان مرة. فقال: الله يبقيه، ويرينا ما نحبه فيه. وقال أيضاً أبو سليمان: كيف لا يكون ما تقلده ثقيلاً، وما تصدى له عظيماً، وما يباشره بلسانه وقلمه صعباً، والأولياء أعداء، والأعداء جهال، والحض عليه من ورائه شديد، ونصيحه غاش، وثقته مريب، والشغب متصل، وطلب المال لا آخر له، والمصطنع مستزيد، والمحروم ساخط، والمال ممزق، والتجديف من الطالب واقع، والتحكم بالإدلال دائم، والاستقالة من الكبير والصغير زائدة، والكلام ليس ينفع، والتدبر ليس يقمع؛ والوعظ هباءٌ منثور، والأصل مقطوعٌ مبتور؛ والسر مكشوف، والعلانية فاضحة؛ وقد ركب كلٌ هواه، وليس لأحدٍ فكرٌ في عقباه؛ واختلط المبرم بالسحيل، وضاق على السالك كل سبيل؛ ومنابع الفساد ومنابت التخليط كلها من الحاشية التي لا تعرف نظام الدولة ولا استقامة المملكة؟ وإنما سؤلها تعجيل حظٍ وإن كان نزراً، واستلاب درهمٍ وإن كان زيفاً، ولعمري ليس يكون الكدر إلا بعد الصفو، كما لا يكون الصفو إلا بعد الكدر، هكذا الليل والنهار، والنور والظلام، هذا يخلف هذا، وهذا يتلو هذا.

قال: أعني بهذا أنه لم افقد الملك السعيد - رضي الله عنه - بالأمس حدث هذا كله، فإنه كان قد زم وخطم، وجبر وحطم، وأسا وجرح، ومنع ومنح؛ وأورد وأصدر، وأظهر وستر، وسهل ووعر، ووعد وتوعد، وأنحس وأسعد، ووهب زمانه وحياته لهذا، لأنه جعل لذته فيه، وغايته إليه، واشتهى أن يطير صيته في أطراف الأرض فيسمع ملوكها بفطنته وحزمه، وتصميمه وعزمه، وجده وتشميره، ورضاه في موضع الرضا، وسخطه في وقت السخط، ورفعه لمن يرفعه بالحق، ووضعه لمن يضعه بالواجب؛ يجري الأمور بسنن الدين ما استجابت، فإن عصت أخذ بأحكام السياسة التي هي الدنيا، ولما كانت الأمور متلبسةً بالدين والدنيا لم يجز للعاقل الحصيف، والمدبر اللطيف أن يعمل التدبير فيها من ناحية الدين فحسب، ولا من ناحية الدنيا فقط، لأن دائرة الدين إلهية، ودائرة الدنيا حسية، وفي الإحسان أحقادٌ لابد من إطفاء ثائرتها، وصنائع لابد من تربيتها، وموضوعاتٌ لابد من إشالتها ومرفوعاتٌ لابد من إزالتها؛ وتدبيراتٌ لابد من إخفائها، وأحوالٌ لابد من إبدائها، ومقاماتٌ لابد من الصبر على عوارض ما فيها، وأمورٌ هي مسطورةٌ في كتب السياسات للحكماء لابد من عرفانها والعمل بها والمصير إليها، والزيادة عليها؛ فليس الخبر كالعيان، ولا الشاهد كالغائب، ولا المظنون كالمستيقن.

ثم قال: - أعني أبا سليمان - وهذا كله منوطٌ بالتوفيق والتأييد اللذين إذا نزلا من السماء واتصلا بمفرق السائس تضامت أحواله على الصلاح، وانتشرت على النجاح؛ وكفى كثيراً من همومه؛ ثم دعا للوزير بالبقاء المديد، والعيش الرغيد والجد السعيد؛ وأمن الحاضرون على ذلك، وكانوا جماً غفيراً، لا فائدة في ذكر أسمائهم والإشارة إلى أعيانهم؛ وكلهم لما سمعوا هذا الكلام الشريف عجبوا منه، وعوذوه وسألوه أن ينظم لهم رسالةً في السياسة؛ فقال: قد رسمت شيئاً منذ زمان، وقد شاع وفشا، وكتب وحمل في جملة الهدية إلى قابوس بجرجان، فهذا - أيها الشيخ - نمط أبي سليمان وأنت عنه مشغول، قد رضيت بترك النظر في أمره، وبذل الجاه له فيما عاد بشأنه، والله ما هذا لسوء عهدك فيه، ولا لحيلولة نيتك عنه؛ ولكن لقلة حظه منك وإنحاء الزمان على كل من يجري مجراه، مع عوز مثله في عصره؛ وكيف تتهم بسوء اعتقاد وقلة حفاظٍ، وتوانٍ عن رعاية عهدٍ، وقيامٍ بحق، وأنت من فرقك إلى قدمك فضلٌ وخيرٌ وجود ومجدٌ وإحسانٌ وكرمٌ ومعونةٌ ورفدٌ وإنعامٌ وتفقد وتعهد وبذلٌ وعرفٌ؛ ولو كان امرءٌ من الذهب المصفى لكنته ولو كان أحدٌ من الروح الصرف لكنته؛ ولو كان أحدٌ من الضياء المحيط لكنته؛ فسبحان من خلقك صرفاً بلا مزاج، وصفواً بلا كدر، وواحداً بلا ثان، لقد فخر بك الشرق على الغرب، وسلم لك بلا خصومةٍ ولا شغب، فأدام الله لك ما آتاك وأفاض عليك من لدنه ما ينور مسعاك؛ وبلغك السعادة العظمى في عقباك، كما بلغك السعادة الصغرى في دنياك.

أعرض أيها الشيخ هذا الحديث على ما ترى، والكلام ذو جيشان، والصدر ذو غليان، والقلم ذو نفيان ومتدفقه لا يستطاع رده؛ ومنبعثه لا يقدر على تسهيله، وخطبه غريب، وشأنه عجيب؛ وإنما يعرف دقه وجله من يذوق حلوه ومره، ومع هذا كله، فإني أذكرك أمري لتلحظه بعين الرعاية، وأعرض عليك حديثي لتحفظه في صحيفة العناية؛ فلقد أمسيت بين صديقٍ يشق علي حزنه لي، وبين عدوٍ تسوءني شماتته بي؛ وقد صح عندي أن إقبالك على يسر، كما أن إعراضك عني عسر، وأرجع إلى تمام هذين الجزأين وإنه أحرى.

وأما حديث الزهاد وأصحاب النسك، فإنه كان تقدم بإفراد جزء فيه، وقد أثبته في هذا الموضع، ولم أحب أن أعزله عن جملته، فإن فيه تنبيهاً حسناً، وإرشاداً مقبولاً، وكما قصدنا بالهزل الذي أفردنا فيه جزءاً جماماً للنفس قصدنا بهذا الجزء الذي عطفنا عليه إصلاحاً للنفس وتهذيباً للخلق، واقتداءً بمن سبق إلى الخير واتباعاً لمن قصد النصح؛ وشرف الإنسان موقوفٌ على أن يكون فاتحاً لباب من أبواب الخير على نفسه وعلى غيره، فإن لم يكن ذلك فلا أقل من أن يكون مقتفياً لأثر من كان فاتحاً قبله؛ ومن تقاعس عن هذين الأمرين فهو الخاسر الذي جهل قيمة نفسه، وضل عن غاية حياته، وحرم التوفيق في إصابة رشده؛ والله المستعان.

قال ابن مسعود: لو عرفت البهائم ما عرفتم ما أكلتم سميناً.

وقال أبو هريرة: اللهم إني أسألك قلباً قاراً، ورزقاً داراً، وعملاً ساراً.

وقال بعض السلف: اللهم إني أسألك قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وبدناً صابراً.

وقال صالح بن مسمار: لا أدري أنعمته علي فيما بسط لي أفضل، أم نعمته فيما زوى عني، لأنه فيما بسط لي أحياني، وفيما زوى عني حماني، نظر لي بما يزيد على نظري لنفسي، وآتاني من عنده أكثر مما عندي.

وقال الله عز وجل - لموسى - عليه السلام: حببني إلى عبادي. قال: وكيف أحببك؟ قال: ذكرهم آلائي ونعمائي.

وقال شداد بن حكيم لبعض الواعظين: أي شيء تقول إذا جلست على المنبر؟ قال: أذكرهم آلاء الله ليشكروا، وأذكرهم جفاءهم ليتوبوا، وأخبرهم عن إبليس وأعوانه حتى يحذروا.

وقال بعض الصالحين: مثل الدنيا ونعيمها كخابيةٍ فيها سمٌ وعلى رأسها عسلٌ، فمن رغب في العسل سقي من السم، ومثل شدة الدنيا كمثل خابيةٍ مملوءةٍ من العسل وعلى رأسها قطراتٌ من سم، فمن صبر على أكلها بلغ إلى العسل.

جاء رجلٌ إلى حاتم الزاهد بنميمةٍ، فقال: يا هذا أبطأت عني وجئت بثلاث جنايات؛ بغضت إلي الحبيب، وشغلت قلبي الفارغ، وأعلقت نفسك التهمة، وأنت آمن.

وكان خالد بن صفوان يقول: قبول قول النمام شرٌ من النميمة، لأن النميمة دلالة، والقبول إجازة، وليس من دل على شيء كمن قبل وأجاز.

وقال ابن السماك الواعظ: يدرك النمام بنميمته ما لا يدرك الساحر بسحره.

وقال معمر: ما نزلت بعبدٍ نازلةٌ فكان مفزعه إلى الله إلا فرج الله عنه.

وقال عمر: ما أسأل الله الرزق وقد فرغ منه، ولكن أسئلة أن يبارك لي فيه.

وقال مالك بن دينار: الجلوس مع الكلب خيرٌ من الجلوس مع رفيق سوء.

وقال أبو هريرة: تهادوا عباد الله يتجدد في قلوبكم الود، وتذهب السخيمة.

وقال حاتم: صاب الضغن غير ذي دين، والغائب غير ذي عبادة والنمام غير صدوق، والحاسد غير منصور.

وقال بعض السلف: من استقصى عيوب الناس بقي بلا أصدقاء.

وقال محمد بن واسع: ينبغي للرجل أن يكون مع المرأة كما يكون أهل المجنون مع المجنون، يحتملون منه كل أذى ومكروه.

قيل لمالك بن دينار لو تزوجت؛ قال: لو استطعت لطلقت نفسي.

قال شقيق: اشتريت بطيخة لأمي، فلما ذاقتها سخطت. فقلت: يا أمي، على من تردين القضاء ومن تلومين، أحارثها أم مشتريها أم خالقها؟ فأما حارثها ومشتريها فما لها ذنب، فلا أراك تلومين إلا خالقها.

ويقال: إن عبداً حبشياً ناوله مولاه شيئاً يأكله، وقال: أعطني قطعةً منه فأعطاه، فلما أكله وجده مراً، فقال: يا غلام، كيف أكلت هذا مع شدة مرارته. قال: يا مولاي، قد أكلت من يدك حلواً كثيراً، ولم أحب أن أريك من نفسي كراهةً لمرارته.

وأوحى الله تعالى إلى عزير: إذا نزلت بك بليةٌ لا تشكني إلى خلقي كما لم أشكك إلى ملائكتي عند صعود مساوئك إلي، وإذا أذنبت ذنباً فلا تنظر إلى صغره، ولكن انظر من أهديته إليه. وقال لقمان: إن الذهب يجرب بالنار، وإن المؤمن يجرب بالبلاء.

وقال بعض السلف: عليكم بالصبر فإن الله تعالى قال: "وبشر الصابرين". وقال: : "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حسابٍ". وقال: "أولئك يجزون الغرفة بما صبروا". وقال: اصبروا وصابروا. وقال: "سلامٌ عليكم بما صبرتم".

وقال الأوزاعي: المؤمن يقل الكلام ويكثر العمل. والمنافق يكثر الكلام ويقل العمل.

وقال فضيل بن عياض: الخوف مادام الرجل صحيحاً أفضل، فإذا نزل الموت فالرجاء أفضل.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والخيانة، فإنها بئست البطانة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه لفح النار يوم القيامة".

وروي من وقي شر لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وقي شره الشباب.

وقيل لابن المبارك: إنك لتحفظ نفسك من الغيبة. قال: لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت والدي، لأنهما أحق بحسناتي.

وقال بعض الصالحين: لو أن رجلاً تعشى بألوان الطعام وقد أصاب من النساء في الليل، ورجلاً آخر رأى رؤيا على مثال ما أصاب الأول في اليقظة، فإذا مضيا صار الحالم والآخر سواء.

وقال شقيق: من أبصر ثواب الشدة لم يتمن الخروج منها.

وقال شقيق لأصحابه: أيما أحب إليكم، أن يكون لكم شيءٌ على الملىء، أو يكون شيءٌ للملىء عليكم. فقالوا: بل نحب أن يكون لنا على الملىء. فقال: إذا كنتم ف الشدة يكون لكم على الله؛ وإذا كنتم في النعمة يكون الله عليكم.

وقال بعض السلف: شتان ما بين عملين: عملٍ تذهب لذته وتبقى تبعته، وعملٍ تذهب مؤونته ويبقى ذخره.

وقال الرقاشي في مواعظه: خذوا الذهب من الحجر، واللؤلؤ من المزبلة.

وقال يحيى بن معاذ: العلم قبل العمل، والعقل قائد الخير، والهوى مركب المعاصي، والمال داء المتكبر.

وقال: من تعلم علم أبي حنيفة فقد تعرض للسلطان، ومن تعلم النحو والعربية دله بين الصبيان، ومن علم علم الزهاد بلغ إلى العرش..

وقال بعض الصالحين: إن العلماء يسقون الناس، فبعضهم من الغدران والحياض، وبعضهم من العيون والقلب، وبعضهم من البحار الواسعة.

وقال حاتم: لا تنظر إلى من قال، ولكن انظر إلى ما قال.

وقال مالك بن دينار: إني لا أقدر أن أعمل بجميع ما اقول.

وقال وهيب بن الورد: مثل عالم السوء كمثل الحجر يقع في الساقية فلا هو يشرب الماء، ولا يخلي عن الماء فيذهب إلى الشجرة.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأنا من غير الدجال أخوف عليكم. قيل: ومن هو؟ قال: الأئمة المضلون.

وقال الثوري: نعوذ بالله من فتنة العالم الفاجر، وفتنة القائد الجاهل.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سيكون في امتي علماء فساق، وقراءٌ جهال".

وقال الثوري: العلم طبيب الدين، والمال داؤه، فإذا رأيت الطبيب يجر الداء إلى نفسه فكيف يعالج غيره.

وقال عيسى بن مريم: ما ينفع الأعمى ضوء الشمس ولا يبصرها.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس حسرةً يوم القيامة عالمٌ علم الناس ونجوا به، وارتهن هو بسوء عمله".

وقال أحمد بن حرب: إن منازل الدنيا لا تقطع بالكلام، فكيف يقطع طريق الآخرة بالكلام.

وقال أبو مسلم الخولاني: العلماء ثلاثة: رجلٌ عاش بعلمه وعاش به الناس، ورجلٌ عاش بعلمه ولم يعش به الناس، ورجلٌ عاش بعلمه الناس وهلك هو.

وشاور رجلٌ محمد بن أسلم فقال: إني أريد أن أزوج بنتي، فبمن أزوج؟ قال: لا تزوجها عالماً مفتوناً، ولا كاسباً كاذباً، ولا عابداً شاكاً.

قيل: نصح إبليس فقال: إياك والكبر، فإني تكبرت فلعنت؛ وإياك والحرص فإن أباك حرص على أكل الشجرة فأخرج من الجنة؛ وإياك والحسد فإن أحد بني آدم قتل أخاه بالحسد.

ومر حاتمٌ بقومٍ يكتبون العلم فنظر إليهم وقال: إن يكن معكم ثلاثة أشياء لن تفلحوا. قالوا: وما هي؟ قال: هم أمس، واغتمام اليوم، وخوف الغد. وقال ابن عمر: كان في بني إسرائيل ثلاثةٌ خرجوا في وجهٍ، فأخذهم المطر فدخلوا كهفاً، فوقع حجرٌ عظيم على باب الكهف، وبقوا في الظلمة وقالوا: لا ينجينا إلا ما عملناه في الرخاء. فقال أحدهم: إني كنت راعياً فأرحت وحلبت، وكان لي أبوان وأولاد وامرأةٌ فسقيت أولاً الوالدين ثم الأولاد، فجئت يوماً فوجدت أبوي قد ناما فلم أوقظهما لحرمتهما ولم أسق الأولاد، وبقيت قائماً إلى الصبح؛ فإن كنت يا رب قبلت هذا مني فاجعل لنا فرجاً، فتحرك الحجر ودخل عليهم الضوء.

وقال الثاني: إني كنت صاحب ضياعٍ، فجاءني رجل بعد ما متع النهار، وكان لي أجراء يحصدون الزرع، فاستأجرته، فلما تم عملهم أعطيتهم أجورهم، فلما بلغت إلى ذلك الرجل أعطيته وافياً كما أعطيت غيره، فغضبوا وقالوا: تعطيه مثل ما أعطيتنا. فأخذت تلك الأجرة واشتريت بها عجولاً ونمي حتى كثر البقر؛ فجاء صاحب الأجرة يطلب فقلت: هذه البقر كلها لك، فسلمتها إليه، فإن كنت يا رب قبلت مني هذا الوفاء ففرج عنا. فتحرك الحجر ودخل منه ضوءٌ كثير.

وقال الثالث: كانت لي بنت عمٍ فراودتها، فأبت، حتى أعطيتها مائة دينار فلما أردت اضطربت وارتعدت. فقلت لها: ما لك؟ فقالت: إني أخاف الله. فتركتها ورجعت عنها، إلهي فإن كنت قبلت ذلك مني ففرج عنا. فتحرك الحجر وسقط عن باب الكهف وخرجوا منه يمشون.

وقال حاتم: لو أدخلت السوق شياهٌ كثيرةٌ لما اشترى أحدٌ المهزول، بل يقصد السمين للذبح.

وقال يحيى بن معاذ: في القلب عيونٌ يهيج منها الخير والشر.

وقال بعض الصالحين في دعائه: اللهم إن أحدنا لا يشاء حتى تشاء، فاجعل مشيئتك لي أن تشاء ما يقربني إليك؛ اللهم إنك قدرت حركات العبد، فلا يتحرك شيءٌ إلابإذنك، فاجعل حركاتي في هواك.

وقال قاسم بن محمد: لأن يعيش الرجل جاهلاً خيرٌ له من أن يقول ما لا يعلم.

وقال الشعبي: لم يكن مجلسٌ أحب إلي من هذا المجلس، ولأن أبعد اليوم عن بساطه أحب إلي من أن أحبس فيه.

وقال حاتم: إذا رأيت من أخيك عيباً فإن كتمته عليه فقد خنته، وإن قلته لغيره فقد اغتبته، وإن واجهته به فقد أوحشته؛ قيل له: كيف أصنع؟ قال: تكني عنه، وتعرض به، وتجعله في جملة الحديث.

وقال: إذا رأيت من أخيك زلةً فاطلب لها سبعين وجهاً من العلل، فإن لم تجد فلم نفسك.

وقال إبراهيم بن جنيد: اتخذ مرآتين، وانظر في إحداهما عيب نفسك، وفي الأخرى محاسن الناس.

وقال يحيى بن معاذ: الدنيا دار خراب، وأخرب منها قلب من يعمرها، والآخرة دار عمران، وأعمر منها قلب من يعمرها.

وقال ابن السماك: الدنيا كالعروس المجلوة تشوفت لخطابها وفتنت بغرورها، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة؛ والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها قاتلة.

وقال بعض العارفين: الدنيا أربعة أشياء: الفرح والراحة والحلاوة واللذة؛ فالفرح بالقلب. والراحة بالبدن، واللذة بالحلق، والحلاوة بالعين.

وقال يحيى بن معاذ: الدنيا خمر الشيطان، فمن سكر منها لم يفق إلا في مسكن النادمين.

وقال بعض السلف: الزهد خلع الراحة، وبذل الجهد، وقطع الأمل.

وقال الأنطاكي أحمد بن عاصم: الزهد هو الثقة بالله، والتبرء من الخلق، والإخلاص في العمل، واحتمال الذل.

وقال داود - عليه السلام - في دعائه: يا رازق النعاب في عشه.

وقال بعض السلف: لو كنت على ذنب الريح لم تفر من رزقك.

وقال آخر: الإنسان بين رزقه وأجله، إلا أنه مخدوعٌ بأمله.

وقال عيسى بن مريم عليه السلام: خلقك ربك في أربع مراتب، فكنت آمناً ساكناً في ثلاث، وقلقلت في الرابعة، أولاها في بطن أمك في ظلماتٍ ثلاث، والثانية حين أخرجك منه وأخرج لك لبناً من بين فرثٍ ودمٍ. والثالثة إذا فطمت أطعمك المري الشهي، حتى إذا اشتدت عظامك وبلغت تمامك صرت خائناً وأخذت في السرقة والحيلة.

وقال أنس: رأيت طائراً أكمه فتح فاه فجاءت جرادة فدخلت فمه.

وقال عيسى - عليه السلام - يابن آدم اعتبر رزقك بطير السماء، لا يزرعن ولا يحصدن وإله السماء يرزقهن. فإن قلت: لها أجنحةٌ فاعتبر بحمر الوحش وبقر الوحش ما أسمنها وما أبشمها وأبدنها! وقال ابن السماك لو قال العبد: يا رب لا ترزقني لقال الله: بل أرزقك على رغم أنفك، ليس لك خالقٌ غيري، ولا رازقٌ سواي، إن لم أرزقك فمن يرزقك؟  وقيل لراهب: من أين تأكل؟ فقال: إن خالق الرحى يأتي بالطحين.

وقال حاتم: الحمار يعرف طريق المعلف، والمنافق لا يعرف طريق السماء.

وقال إبراهيم بن أدهم: سألت راهباً من أين تأكل؟ قال: ليس هذا العلم عندي، ولكن سل ربي من أين يطعمني.

وقال حاتم: مثل المتوكل مثل رجلٍ أسند ظهره إلى جبل.

وقال بعض الأبرار: حسبك من التوكل ألا تطلب لنفسك ناصراً غيره، ولا لرزقك خازناً غيره، ولا لعملك شاهدأً غيره.

وقال عبد الحميد بن عبد العزيز: كان لأبي صديقٌ وراق، فقال له أبي يوماً: كيف أصبحت؟ قال: بخير ما دامت يدي معي، فأصبح الوراق وقد شلت يده.

قال أبو العالية: لا تتكل على غير الله فيكلك الله إليه، ولا تعمل لغير الله فيجعل ثواب عملك عليه.

وقال رجلٌ لأبي ذرٍ: أنت أبو ذرٍ؟ قال: نعم. قال: لولا أنك رجل سوء ما أخرجت من المدينة. فقال أبو ذر: بين يدي عقبةٌ كؤودٌ إن نجوت منها لا يضرني ما قلت، وإن أقع فيها فأنا شرٌ مما تقول.

وقيل لفضيل: إن فلاناً يقع فيك. فقال: لأغيظن من أمره بذلك اللهم اغفر له.

وقال رجل لأبي هريرة: أنت أبو هريرة؟ قال: نعم. قال: سارق الذريرة؟ قال: اللهم إن كان كاذباً فاغفر له، وإن كان صادقاً فاغفر لي؛ هكذا أمرين رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال رجل لابن مكدم: يا كافر. قال: وجب علي الشكر، حيث لم يجر ذلك على لساني، ولم تجب علي إقامة الحجة فيه، وقد طويت قلبي على جملة أشياء: قال: وما هن؟ قال: إن قلت ألف مرة لا أجيبك مرة، ولا أحقد عليك، ولا أشكوك إلى أحد، وإن نجوت من الله عز وجل بعد هذه الكلمة شفعت لك. فتاب الرجل.

كان للحسن جارٌ نصراني، وكان له كنيف على السطح، وقد نقب ذلك في بيته، وكان يتحلب منه البول في بيت الحسن، وكان الحسن أمر بإناء فوضع تحته، فكان يخرج ما يجتمع منه ليلاً، ومضى على ذلك عشرون سنةً، فمرض الحسن ذات يومٍ فعاده النصراني، فرأى ذلك، فقال: يا أبا سعيد: مذ كم تحملون مني هذا الأذى؟ فقال: منذ عشرين سنةً. فقطع النصراني زناره وأسلم.

وجاءت جاريةٌ لمنصور بن مهران بمرقةٍ فهراقتها عليه، فلما أحس بحرها نظر إليها، فقالت: يا معلم الخير اذكر قول الله. قال: وما هو؟ قالت: "والكاظمين الغيظ". قال: كظمت. قالت: واذكر "والعافين عن الناس". قال: قد عفوت. قالت واذكر "والله يحب المحسنين". قال: اذهبي فأنت حرة.

قال الحسن: ما جزعةٌ أحب إلي من جزعة مصيبةٍ ردها صاحبها بصبرٍ، وجزعة غضبٍ ردها صاحبها بحلم.

وكان محمد بن المنكدر إذا غضب على غلامه يقول: ما أشبهك بسيدك! وقال أبو ذر: كيف يكون حليماً من يغضب على حماره وسخله وهره.

ومات ابنٌ للرشيد فجزع جزعاً شديداً، فوعظه العلماء فلم يتعظ؛ فدخل مخنث وقال: أتأذي لي في الكلام؟ قال: تكلم. فكشف عن رأسه وقام بين يديه، وقال: يا أمير المؤمنين، أنا رجل، وقد تشبهت بالنساء كما ترى، فأي شيء كنت تصنع لو كان ابنك في الأحياء وكان على صورتي، فاتعظ به وأخرج النواحات من الدار.

قال وهب: مكتوبٌ في الكتب القديمة: إن كنتم تريدون رحمتي فارحموا عبادي.

وقال جعفر بن محمد حسن الجوار عمارة الديار ومثراة المال.

ولما قرأ هذا الجزء - حرسه الله - ارتاح وقال: أين نحن من هذه الطريقة، إلى الله المشتكى.