الجزء الثالث

الجزء الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم

أيها الشيخ وصل الله قولك بالصواب، وفعلك بالتوفيق، وجعل أحوالك كلها منظومةً بالصلاح، راجعةً إلى حميد العاقبة، متألفةً بشوارد السرور، ووفر حظك من المدح والثناء، فإنهما ألذ من الشهد والسلوى، ومد في عمرك لكسب الخير، واستدامة النعمة بالشكر؛ وجعل تلذذك باصطناع المعروف، وعرفك عواقب الإحسان إلى المستحق وغير المستحق، حتى تكلف ببث الجميل، وتشغف بنشر الأيادي، وحتى تجد طعم الثناء، وتطرب عليه طرب النشوان على بديع الغناء. لا طرب البرداني على غناء علوة جارية ابن علويه في درب السلق إذا رفعت عقيرتها فغنت بأبيات السروى:

بالورد في وجنتيك من لطـمـك

 

ومن سقاك المدام لم ظلـمـك؟

خلاك لا تستفيق مـن سـكـرٍ

 

توسع شتماً وجفـوة خـدمـك

معقرب الصدغ قد ثملت فـمـا

 

يمنع من لئم عاشقيك فـمـك؟

تجر فضل الإزار منحرق النعلين

 

قد لـوث الـثـرى قـدمــك

أظل من حـيرةٍ ومـن دهـشٍ

 

أقول لما رأيت مبـتـسـمـك

بالله يا أقحـوان مـضـحـكـه

 

على قضيب العقيق من نظمك؟

ولا طرب ابن فهم الصوفي على غناء "نهاية" جارية ابن المغني إذا اندفعت بشدوها:

أستودع الله في بغداد لي قمـراً

 

بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه

ودعته وبـودي لـو يودعـنـي

 

صفو الحياة وأنـي لا أودعـه

فإنه إذا سمع هذا منها ضرب بنفسه الأرض، وتمرغ في التراب وهاج وأزبد، وتعفر شعره؛ وهات من رجالك من يضبطه ويمسكه، ومن يجسر على الدنو منه، فإنه يعض بنابه، ويخمش بظفره، ويركل برجله ويخرق المرقعة قطعةً، ويلطم وجهه ألف لطمة في ساعة، ويخرج في العباءة كأنه عبد الرزاق المجنون صاحب الكيل في جيرانك بباب الطاق.

ولا طرب ابن غيلان في البزاز على ترجيعات بلور جارية ابن اليزيدي المؤلف بين الأكباد المحرقة، والمحسن إلى القلوب المتصدعة والعيون الباكية إذا غنت.

أعط الشبـاب نـصـيبـه

 

مادمت تعذر بالـشـبـاب

وانعـم بـأيام الـصـبـى

 

واخلع عذارك في التصابي

فإنه إذا سمع هذا منها انقلبت حماليق عينيه، وسقط مغشياً عليه، وهات الكافور وماء الورد، ومن يقرأ في أذنه آية الكرسي والمعوذتين، ويرقى بهيا شراهيا.

ولا طرب أبي الوزير الصوفي القاطن في دار القطن عند جامع المدينة على قلم القضيبية إذا تناوأت في استهلالها، وتضاجرت على ضجرتها، وتذكرت شجوها الذي قد أضناها وأنضاها، وسلبها منها وأنساها إياها. ثم اندفعت وغنت بصوتها المعروف بها.

أقول لها والصبح قـد لاح نـوره

 

كما لاح ضوء البارق المتـألـق

شبيهك قد وافى وحان افتراقـنـا

 

فهل لك في صوتٍ ورطلٍ مروق

فقالت حياتي في الذي قد ذكرتـه

 

وإن كنت قد نغصته بالـتـفـرق

ولا طرب الجراحي أبي الحسن مع قضائه في الكرخ وردائه المحشي، وكميه المفدرين ووجنتيه المتخلجتين، وكلامه الفخم، وإطراقه الدائم؛ فإنه يغمز بالحاجب إذا رأى مرطاً، وأمل أن يقبل خداً وقرطاً؛ على غناء شعلة:

لابد للمشتاق من ذكر الوطـن

 

واليأس والسلوة من بعد الحزن

وقيامته تقوم إذا سمعها ترجع في لحنها

لو أن ما تبتليني الـحـادثـات بـه

 

يلقى على الماء لم يشرب من الكدر

فهناك ترى شيبةً قد ابتلت بالدموع، وفؤاداً قد نزا إلى اللهاة، مع أسفٍ قد ثقب القلب، وأوهن الروح، وجاب الصخر، وأذاب الحديد، وهناك ترى والله أحداق الحاضرين باهتة، ودموعهم متحدرة، وشهيقهم قد علا رحمةً له، ورقةً عليه، ومساعدةً لحاله، وهذه صورةٌ إذا استولت على أهل مجلس وجدت لها عدوى لا تملك، وغايةً لا تدرك، لأنه قلما يخلو إنسانٌ من صبوة أو صبابة، أو حسرةٍ على فائت، أو فكرٍ في متمني، أو خوفٍ من قطيعة، أو رجاء لمنتظر، أو حزنٍ على حالٍ، وهذه أحوالٌ معروفة، والناس منها على جديلةٍ معهودة.

ولا طرب ابن غسان البصري المتطبب إذا سمع ابن الرفاء يغني:

وحياة من أهوى فإني لم أكن

 

أبداً لأحلف كاذباً بحياتـهـا

لأحالفن عواذلي في لذتـي

 

ولأسعدن أخي على لذاتـه

وابن غسان هذا مليح الأدب، وهو الذي يقول في ابن نصرٍ العامل - وقد عالجه من علة فلم يتفقده ولم يقض حقه-:

هب الشعراء تعطيهم رقاعاً

 

مزورةً كلاماً عـن كـلام

فلم صلة الطبيب تكون زوراً

 

وقد أهدى الشفاء من السقام

عجبت لمن نمته أرض لـؤم

 

وبخلٍ لم يعد من الـكـرام

نسبت إلى المساجة لا لشيءٍ

 

سوى نقصان لؤمك في اللئام

غنى بها أنه من أصبهان، وكان آخر حديث ابن غسان ما عرفته، فإن غرق نفسه في كرداب كلواذي، وذلك لأسباب تجمعت عليه من صفر اليد، وسوء الحال، وجربٍ أكل بدنه، وعشقٍ أحرق كبده على غلام الآمدي الحلاوي بباب الطاق، وحيرة عزب معها عقله، وخذله رأيه، وملكه حينه، ونسأل الله حسن العقبى بدرك المنى، وليس للإنسان من أمره شيء، وما هو آئضٌ إليه فهو مملوكٌ عليه، يصرفه فيما يصرف فيظن أنه أتى من قبله، ولعمري من غلط غلط، ومن غولط غالط، والكلام في هذا غاشٌ والإغراق فيه موسوس، والإعراض عنه أجلب للأنس، وما أحسن ما قال القائل:

إذا استعفيت من أسر الليالـي

 

تصرفني فأسري في خلاصي

ولولا طيش القلم وتسحب الخاطر، وشرود الرأي، ما عثرت بهذا الموضع ولا علقت بهذا الحبل، نعم.

ولا طرب ابن نباتة الشاعر على صوت الخاطف إذا غنت.

تلتهب الكف من تلهبهـا

 

وتحسر العين إن تقصاها

كأن ناراً بهـا مـحـرثةً

 

تهابها مرةً وتغشـاهـا

نأخذها تارةً وتـأخـذنـا

 

فنحن فرسانها وصرعاها

ولا طرب ابن العوذي إذا سمع غناء ترف الصابئة في صوتها، عند نشاطها ومرحها، وهواها حاضر، وطرفها إليه ناظر:

لب الهوى كلما دعـاكـا

 

ولاح في الحب من لحاكا

من لام في الحب أو نهاكا

 

فزده في غيك انهمـاكـا

إن لم تكن في الهوى كذاكا

 

نال لـذاتـه سـواكــا

ولا طرب المعلم غلام الحصري شيخ الصوفية إذا سمع ابن بهلولٍ يغني في رحبة المسجد بعد الجمعة وقد خف الزحام:

وقال لي العذول تسل عنهـا

 

فقلت له: أتدري ما تقـول؟

هي النفس التي لابد منـهـا

 

فكيف أزول عنها أو أحول؟

ولا طرب ابن الغازي على جارية العمى في مجلسها الغاص بنبلاء الناس بين السورين

يلحى، ولو أرقـه مـيعـاد

 

أو راعه الإعراض والإبعاد

أو هرة الأعداء والحـسـاد

 

أو سلقته الألسن الـحـداد

ما لام من ليس لـه فـؤاد

 

 

ولا طرب ابن صبر القاضي قبل القضاء على غناء درة جارية أبي بكر الجراحي في درب الزعفراني التي لاتقعد في السنة إلا في رجب، إذا غنت:

لست أنسى تلك الـزيارة لـمـا

 

طرقتنا وأقبـلـت تـتـثـنـى

طرقت ظبية الـرصـافة لـيلاً

 

فهي أحلى من جس عوداً وغنى

كم ليالٍ بتنـا نـلـذ ونـلـهـو

 

ونسقي شرابـنـا ونـغـنـى

هجرتنا فمـا إلـيهـا سـبـيلٌ

 

غير أنا نقول: كانـت وكـنـا

وإذا بلغت كانت وكنا رأيت الجيب مشقوقاً، والذيل مخروقاً، والدمع منهملا، والبال منخذلاً، ومكتوم السر في الهوى بادياً، ودليل العشق على صاحبه منادياً.

ولا طرب ابن حجاج الشاعر على غناء قنوة البصرية، وهي جارته وعشيقته، وله معها أحاديث، ومع زوجها أعاجيب؛ وهناك مكايدات، ورميٌ ومعايرات، وإفشاء نكات؛ إذا أنشدت:

يا ليتنيأحيا بقـربـهـمـو

 

فإذا فقدتهم انقضى عمري

ثم ثنت بصوتها الآخر:

هبيني امرأً إما بريئاً ظلمته

 

وإما مسيئاً تاب بعد فأعتبا

فكنت كذي داء تبغي لدائه

 

طبيباً فلما لم يجده تطببـا

ولا طرب ابن معروف قاضي القضاة على غناء علية إذا رجعت لحنها في حلقها الحلو الشجي بشعر ابن أبي ربيعة:

أنيري مكان البـدر إن أفـل الـبـدر

 

وقومي مقام الشمس ما استأخر الفجر

ففيك من الشمس المنـيرة نـورهـا

 

وليس لها منك المحاجر والـثـغـر

ولا طرب ابن إسحاق الطبري على صوت درة البصرية إذا غنت:

يا ذا الذي زار وما زارا

 

كأنه مقـتـبـسٌ نـارا

قام بباب الدار من زهوه

 

ما ضره لو دخل الدارا

لو دخل الدار فكلمـتـه

 

بحاجتي ما دخل النـارا

نفسي فداه اليوم من زائرٍ

 

ما حل حتى قيل قد سارا

ولا طرب ابن الأزرق الجرجرائي على غناء سندس جارية ابن يوسف صاحب ديوان السواد إذا تشاجت وتدللت، وتفتلت وتقتلت، وتكسرت وتيسرت، وقالت: أنا والله كسلانة مشغولة القلب بين أحلام أراها رديئةً، وبختٍ إذا استوى التوى، وأملٍ إذا ظهر عثر؛ ثم اندفعت وغنت:

مجلس صبين عمـيدين

 

ليسا من الحب بخلـوين

قد صيرا روحيهما واحداً

 

واقتسماه بين جسمـين

تنازعا كأساً علـى لـذةٍ

 

قد مزجاها بين دمعـين

الكأس لا تحسـن إلا إذا

 

أدرتها بين مـحـبـين

ولا طرب ابن سمعون الصوفي على ابن بهلول إذا أخذ القضيب وأوقع ببنانه الرخص، ثم زلزل الدنيا بصوته الناعم، وغنته الرخيمة، وإشارته الخالبة، وحركته المدغدغة، وظرفه البارع، ودماثته الحلوة، وغنى:

ولو طاب لي غرسٌ لطابت ثمـاره

 

ولو صح لي غيبي لصحت شهادتي

تزهدت في الدنيا وإني لـراغـبٌ

 

أرى رغبتي ممزوجةً بزهـادتـي

أيا نفس ما الدنيا بأهلٍ لـحـبـهـا

 

دعيها لأقوامٍ عـلـيهـا تـعـادت

ولا طرب ابن حيويه على غلام الأمراء إذا غنى:

قد أشهد الشارب المعذل لا

 

معروفه منكرٌ ولا حصر

في فتيةٍ لينى المـآزر لا

 

ينسون أخلاقهم إذا سكروا

وغلام الأمراء هو الذي يقول فيه القائل:

أبو العباس قد حج

 

وقد عاد وقد غنى

وقد علق عنـازاً

 

فهذا هم كما كنا

وأصحابنا يستملحون قوله هم ها هنا، ويرونه من العي الفصيح.

ولا طرب أبي سليمان المنطقي إذا سمع غناء هذا الصبي الموصلي النابغ الذ قد فتن الناس وملأ الدنيا عيارةً وخسارةً، وافتضح به أصحاب النسك والوقار، وأصناف الناس من الصغار والكبار، بوجهه الحسن، وثغره المبتسم، وحديثه الساحر، وطرفه الفاتر، وقده المديد، ولفظه الحلو، ودله الخلوب، وتمنعه المطمع، وإطماعه الممنع وتشكيكه في الوصل والهجر، وخلطه الإباء بالإجابة، ووقوفه بين لا ونعم. إن صرحت له كنى، وإن كنيت له صرح؛ يسرقك منك، ويردك عليك، يعرفك منكراً لك، وينكرك عارفاً بك؛ فحاله حالات، وهدايته ضلالات، وهو فتنة الحاضر والبادي، ومنية السائق والهادي؛ في صوته الذي هو من قلائده:

عرفت الذي بي فلا تلحني

 

فليس أخو الجهل كالعالم

وكنت أخوفه بـالـدعـا

 

وأخشى عليه من الماثـم

فلو كنت أبصرت مثلاً له

 

إذا لمت نفسي مع اللائم

فلما أقام على ظـلـمـه

 

تركت الدعاء على الظالم

ولا طرب ابن عبد الله البصري على إيقاع ابن العصبي إذا أوقع بقضيبه وغنى بصوته:

أنسيت الوصل إذ بت

 

نا على مرقـد ورد

واعتنقنا كـوشـاحٍ

 

وانتظمنا نظم عقـد

وتعطفنا كغصنـين

 

فقـدانـاً كـقــد

وبسبب هذا ونظائره عابه الواسطي، وقدح في دينه، وألصق به الريبة، واستحل في عرضه الغيبة، ولقبه بالمنفر عن المذهب، وقاطع الطريق على المسترشد.

ولا طرب ابن الوراق على روعة جارة ابن الرضي في الرصافة إذا غنت:

وحق محل ذكرك من لساني

 

وقلبي حين أخلو بالأمانـي

لقد أصبحت أغبط كل عينٍ

 

تعانيها فتسعد بـالـعـيان

ولا طرب السندواني على ابن الكرخي إذا غنى:

هجرتني ثم لا كلمـتـنـي أبـداً

 

إن كنت خنتك في حال من الحال

فلا انتجيت نجيا في خيانـتـكـم

 

ولا جرت خطرةٌ منه على بـال

فسوغيني المنى كيما أعيش بهـا

 

ثم احبسي البذل ما أطلقت آمالي

أو ابعثي تلفاً إن كنت قاتـلـتـي

 

إلي منك بإحـسـانٍ وإجـمـال

ولا طرب الحريري الشاهد على حلية جارية أبي عائذ الكرخي إذا أخذت في هزارها، واشتعلت بنارها وغنت:

قالت بثـينة لـمـا جـئت زائرهـا

 

سبحان خالقنا مـا كـان أوفـاكـا

وعدتنا موعداً تأتي لـنـا عـجـلاً

 

وقد مضى الحول عنا ما رأينـاكـا

إن كنت ذا غرضٍ أو كنت ذا مرضٍ

 

أو كنت ذا خلةٍ أخرى عذرنـاكـا

ولا طرب أبي سعيد الصائغ على جاريته ظلوم إذا قلبت لحنها إلى حلقها واستنزلته من الرأس، ثم أوقعت فغنت:

فيالك نظرةً أودت بعقلـي

 

وغادر سهمها مني جريحا

فليت مليكتي جادت بأخرى

 

وأعلم أنها تنكا القروحـا

فإما أن يكن بها شـفـائي

 

وإما أن أموت فأستريحـا

ولا طرب الزهري على خلوب جارية أبي أيوب القطان إذا أهلت واستهلت، ثم اندفعت وغنت:

إذا أردت سلواً كان نـاصـركـم

 

قلبي وما أنا من قلبي بمنتـصـر

فأكثروا أو أقلوا من إسـاءتـكـم

 

فكل ذلك محمولٌ على الـقـدر

وضعت خدي لأدنى من يطيف بكم

 

حتى احتقرت وما مثلي بمحتقـر

وأبو عبد الله المرزباني شيخنا إذا سمع هذا جن واستغاث، وشق الجيب وحولق وقال: يا قوم أما ترون إلى العباس بن الأحنف، ما يكفيه أن يفجر حتى يكفر؟ متى كانت القبائح والفضائح والعيوب والذنوب محمولةً على القدر؟ ومتى قدر الله هذه الأشياء وقد نهى عنها، ولو قدرها كان قد رضي بها، ولو رضي بها لما عاقب عليها، لعن الله الغزل إذا شيب بمجانة، والمجانة إذا قرنت بما يقدح في الديانة. ورأيت أبا صالح الهاشمي يقول له: هون عليك يا شيخ، فليس هذا كله على ما تظن، القدر يأتي على كل شيء، ويتعلق بكل شيء، ويجري بكل شيء، وهو سر الله المكتوم، كالعلم الذي يحيط بكل شيء؛ وكل ما جاز أن يحيط به علمٌ جاز أن يجري به قدر، وإذا جاز هذا جاز أن ينشره خبر، وما هذا التضايق والتحارج في هذا المكان، والشاعر يهزل ويجد؛ ويقرب ويبعد، ويصيب ويخطىء، ولا يؤاخذ بما يؤاخذ به الرجل الديان، والعالم ذو البيان.

ولا طرب ابن المهدي على جارية بنت خاقان المشهورة بعلوة إذا غنت:

أروع حين يأتيني الرسـول

 

وأكمد حين لا يأتي الرسول

أؤملكم وقد أيقـنـت أنـي

 

إلى تكذيب آمـالـي أؤول

ولا طرب أبي طاهر بن المقنعي المعدل على علوان غلام ابن عرس فإنه إذا حضر وألقى إزاره، وحل أزراره، وقال لأهل المجلس: اقترحوا واستفتحوا فإني ولدكم بل عبدكم لأخدمكم بغنائي، وأتقرب إليكم بولائي، وأساعدكم على رخصي وغلائي؛ من أرادني مرةً أردته مرات، ومن أحبني رياءً أحببته إخلاصاً، ومن بلغ بي بلغت به؛ لم أبخل عليكم بحسني وظرفي، ولم أنفس بهما عليكم، وإنما خلقت لكم، ولم أغاضبكم وأنا آملكم غداً إذا بقل وجهي، وتدلى سبالي، وولى جمالي، وتكسر خدي، وتعوج قدي، ما أصنع؟ حاجتي والله إليكم غداً أشد من حاجتكم إلي اليوم، لعن الله سوء الخلق، وعسر الطباع، وقلة الرعاية، واستسحان الغدر. فيمر في هذا وما أشبهه كلامٌ كثير، فلا يبقى من الجماعة أحدٌ إلا وينبض عرقه، ويهش فؤاده، ويذكو طعمه ويفكه قلبه، ويتحرك ساكنه، ويتدغدغ روحه، ويومىء إليه بقبلته، ويغمزه بطرفه، ويخصه بتحية، ويعده بعطية، ويقابله بمدحة، ويضمن له منحة، ويعوذه بلسانه، ويفضله على أقرانه، ويراه واحد أهل زمانه؛ فيرى ابن المقنعي وقد طار في الجو، وحلق في السكاك، ولقط بأنامله النجوم؛ وأقبل على الجماعة بفرح الهشاشة، ومرح البشاشة، فيقول: كيف ترون اختياري وأين فراستي من فراسة غيري، أبى الله لي إلا ما يزينني، ولا يشينني، ويزيد في جمالي، ولا ينقص من حالي؛ ويقر عيني ولبي، ويقصم ظهر عدوي؛ هات يا غلام ذلك الثوب الدبيقي وذلك البرد الشطوي، وذلك الفروج الرومي، وتلك السكة المطيبة، والبخور المدخر في الحقة، وهات الدينار الذي فيه مائة مثقالٍ أهداه لنا أمس أبو العلاء الصيرفي فإنه يكفيه لنفقة أسبوع؛ ما أحسن سكته، وأحلى نقشه! ما رأيت في حسن استدارته شبهاً، وعجل لنا يا غلام ما أدرك عند الطباخ، من الدجاج والفراخ؛ والبوارد والجوزيات وتزايين المائدة؛ وصل ذلك بشراه أقراطٍ وجبنٍ وزيتون من عند كبل البقال في الكرخ، وقطائف حبش، وفالوذج عمر، وفقاع زريق، ومخلط خراسان من عند أبي زنبور، ولو كنا نشرب لقلنا: وشراب صريفين من عند ابن سورين، ولكن إن إحببتم أن أحضر بسببكم ومن أجلكم فليس في الفتوة أن أمنعكم من أربكم بسبب ثقل روحي وقلة مساعدتي، لعن الله الشهادة، فقد حجتني عن كل شهوةٍ وإرادة؛ وما أعرف في العدالة، إلا فوت الطلبة والعلالة.

وما أحسن ما قال من قال:

ما العيش إلا في جنون الصبي

 

فإن تولى فجنـون الـمـدام

هذا كله يمر وما هو أشجى منه وأرق، وأعجب وأظرف، ثم يندفع علوان ويغنى في أبيات بشار:

ألا يا قوم خلوني وشانـي

 

فلست بتاركٍ حب الغواني

نهوني يا عبيدة عن هواكم

 

فلم أقبل مقالة من نهاني

فإن لم تسعفي فعدي ومني

 

خداعاً لا أموت على بيان

ولا طرب أبي سعيد الرقي على غناء مذكورة إذا اندفعت وغنت:

سررت بهجرك لما علمـت

 

بأن لقلبـك فـيه سـرورا

ولولا سرورك ما سـرنـي

 

ولا كان قلبي عليه صبورا

ولكن أرى كل ما سـاءنـي

 

إذا كان يرضيك سهلاً يسيرا

ولا طرب ابن مياس على غناء حبابة جارية أبي تمام إذا غنت:

صددنـا كـأنـا لا مـودة بـينـنـا

 

على أن طرف العين لابد فـاضـح

ومد إلينا الكاشـحـون عـيونـهـم

 

فلم يبد منا ما حوتـه الـجـوانـح

وصافحت من لاقيت في البيت غيرها

 

وكل الهوى مني لمن لا اصـافـح

وحبابة هذه كانت تنوح أيضاً، وكانت في النوح واحدةً لا أخت لها، والناس بالعراق تهالكوا على نوحها، ولولا أني أكره ذكره لرقعت الحديث به. وقدم من شاش خراسان أبو مسلم - وكان في مرتبة الأمراء - فاشتراها بثلاثين ألف درهم معزية، وخرج بها إلى المشرق، فقيل: إنها لم تعش به إلا دون سنةٍ لكمدٍ لحقها، وهوىً لها ببغداد ماتت منه.

ورأيت لها أختاً يقال لها صبابة، وكانت في الحسن والجمال فوقها، وفي الصنعة والحذق دونها، وزلزلت هذه بغداد في وقتها، ولم يكن للناس غير حديثها، لنوادرها، وحاضر جوابها، وحدة مزاجها، وسرعة حركتها، بغير طيش ولا إفراط، وهذه شمائل إذا اتفقت في الجواري الصانعات المحسنات خلبن العقول، وخنسن القلوب، وسعرن الصدور، وعجلن بعشاقهن إلى القبور. ولا طرب الكناني المقري الشيخ الصالح على غناء هذه في صوتها المعروف بها:

عهود الصبى هاجت لي اليوم لوعةً

 

وذكر سليمى حين لا ينفع الذكـر

بأرضٍ بها كان الهوى غير عازبٍ

 

لدينا وغض العيش مهتصرٌ نضر

كأن لم نعش يوماً بأجـراع بـيشةٍ

 

بأرضٍ بها أنشأ شبيبتنـا الـدهـر

بلى إن هذا الدهر فرق بـينـنـا

 

وأي جميعٍ لا يفـرقـه الـدهـر

ولا طرب غلام بابا على جارية أبي طلحة الشاهد في سوق العطش إذا غنت:

ليت شعري بك هل تع

 

لم أني لـك عـانـي

فلقد أسـررتـه مـن

 

ك وأطلعت الأمانـي

وتوهمتك فـي نـف

 

سي فناجاك لسانـي

فاجتمعنا وافتـرقـنـا

 

بالأماني في مـكـان

ولو ذكرت هذه الأطراب من المستمعين، والأغاني من الرجال والصبيان والجواري والحرائر - لطال وأمل، وزاحمت كل من صنف كتاباً في الأغاني والألحان، وعهدي بهذا الحديث سنة ستين وثلاثمائة.

وقد أحصينا - ونحن جماعةٌ في الكرخ - أربعمائةٍ وستين جاريةً في الجانبين، ومائةً وعشرين حرة، وخمسةً وتسعين من الصبيان البدور، يجمعون من الحذق والحسن والظرف والعشرة، هذا سوى من كنا لا نظفر به ولا نصل إليه لعزته وحرسه ورقبائه، وسوى ما كنا نسمعه ممن لا يتظاهر بالغناء وبالضرب إلا إذا نشط في وقت، أو ثمل في حال، وخلع العذار في هوىً قد حالفه وأضناه، وترنم وأوقع، وهز رأسه، وصعد أنفاسه، وأطرب جلاسه، واستكتمهم حاله، وكشف عندهم حجابه، وادعى الثقة بهم، والاستنامة إلى حفاظهم.

ثم إني أرجع إلى منقطع الكلام في الصفحة الأولى من هذا الجزء الثالث وأصله بالدعاء الذي اسأل الله أن يتقبله فيك، ويحققه لك وبك، وأقول: وأبقاك لي خاصةً، فقد تعصبت لي غائباً وشاهداً، وتعممت بسببي سراً وجهراً، وبدأت بالتفضل، وعدت بالإفضال، وتظاهرت بالفضل؛ فإن استزدتك فللنهم الذي قلما يخلو منه بشر، وإن تظلمت فللدالة التي تغلط بها الخدم، وإن خاشنت فللثقة بحسن الإجاب، وإن غالطت فلعلمي بغالب الحلم وفرط الاحتمال، وما افترق الكرم والتغافل قط، وما افترق المجد والكيس قط، وليس إلا أن يظلم السيد نفسه لعبده في الحقوق اللازمة وغير اللازمة، ويعرض عن الحجة وإن كانت له؛ والناس يقولون: الحق مر، وأنا أقول: السؤدد مر، والرئاسة ثقيلة، والنزول تحت الغبن شديد؛ لكن ذلك كله منبت العز، ودليلٌ على صحة الأصل، وبابٌ إلى اكتساب الحمد، وإشادة الذكر، وإبعاد الصيت؛ ومكرم النفس بإهانة المال وبذل الجاه وإيثار التواضع أربح تجارةً، وأحمى حريماً، وأعز ناصراً من مهين النفس بصيانة المال وحبس الجاه واستعمال التكبر؛ هذا ما لا يشك فيه أحد وإن أباه طباعه، ولم يساعده اختياره، وكان في طينه يبس، وفي منبته شوك، وفي عرقه خور، وفي خلقه تيه.

وقد رأيت ناساً من عظماء أهل الفضل والمروءة عابوا مذهب الرجل الذي ماكس في شيء تافهٍ يسير اشتراه، قيل له: أنت تهب أضعاف هذا، فما هذا المكاس؟! فقال: هذا عقلي أبخل به، وتلك مروءتي أجود بها.

وأكثر الناس الذين لم يغوروا في التجارب، ولا أنجدوا في الحقائق، يرون هذا حكمةً تامة، وفضيلةً شريفة.

فأما الذين ذكرتهم في أول الحديث فإنهم قالوا: لا تتم المروءة وصاحبها ينظر في الدقيق الحقير، ويعيد القول ويبدئه في الشيء النزر الذي لا مرد له ظاهر، ولا جدوى حاضرة.

وذكروا أيضاً أن العقل أشرف من أن يذال في مثل هذه الحال، ويستخدم على هذا الوجه، قالا: هذا وما هو في بابه بالكيس أشبه، والكيس يحمد في الصبيان، وهو من مبادىء اللؤم، وفوائح صدأ الخلق، وقد قال الأول:

وقد يتغابى المرء عن عظم مالـه

 

ومن تحت برديه المغيرة أو عمرو

ولذلك يقال للحيوان الذي لا ينطق: هو كيس.

هذا والله الصدق، فإني سمعت بمكة أعرابياً يقول: ما أكيس هذا القط؟!قالوا: ولذلك لا يقال للشيخ المجرب والحكيم البليغ والأصيل في الشرف والمشهور بالزماتة والسكينة: كيس. والكيس هو حدة الحس في طلب المثالة ودفع الكريهة وبلوغ الشهوة. والحس بعيدٌ من العقل، والعالي في الحس كأنه يرتقي في وادي الحيوان الذي لا نطق له، والعالي في العقل كأنه مطمئنٌ في وادي الملك الذي لا حس لنقصه، ولكن لكماله، لأنه غني عنه، كما أن الحمار لم يعدم العقل لكماله، ولكن لنقصه ولما لم يرد من الحمار أن يكون إنساناً جبل على ما هو له وبه كاملٌ في نقصه، أي هو كاملٌ بما هو به حمار وناقص بما ليس هو به إنساناً؛ ولما لم يرد من الإنسان أن يكون حماراً حفظ عليه ما هو به إنسان، ودرج إلى كمال الملك الذي هو به شبيه؛ وهذا التدريج طريقه على الاختيار الجيد والتوفيق السابق.

وبعدت - جعلني الله فداك - عن منهج القول وسنن الحديث، وأطعت داعية الوسواس، وذهبت مع سانح الوهم؛ وقد قيل: الحديث ذو شجون.

وقد قال الأول:

ولما قضينا من منى كل حاجةٍ

 

ومسح بالأركان من هو ماسح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننـا

 

وسالت بأعناق المطي الأباطح

فأرجع وأقول: قد أوصلت إليك الجزاين الأول والثاني على يد غلامك فائق؛ وهذا الجزء - وهو الثالث - قد والله نفثتقال: فيه كل ما كان في نفسي من جدٍ وهزل، وغثٍ وسمين، وشاحبٍ ونضير، وفكاهةٍ وطيب، وأدبٍ واحتجاج، واعتذارٍ واعتلال واستدلال، وأشياء من طريف الممالحة على ما رسم لي، وطلب مني؛ ولأنه آخر الكتاب ختمته برسالة وصلتها بكلامٍ في خاص أمري ستقف عليه، وتستأنف نظراً في حالي، يكون - إن شاء الله - كظني بك، ورجائي فيك؛ وفيه بعض العربدة لم أخرج منه إلى كفرانٍ لنعمة، ولا جحدٍ لإحسان، ولا سترٍ ليدٍ، ولا إنكارٍ لمعروف، ولا شكٍ في عناية؛ وإنما تكلمت على مذهب المدل المقل الذي يبعثه إقلاله على تجاوز قدرة بالدالة، ويريع به إدلاله عن حسن أدبه بفرط الثقة؛ ورب واثقٍ خجل؛ وبالله المعاذ من ذلك، وفي الحالين صاحب هذا المذهب لا يخلو من ولاء صحيح المعتقب، وعقيدةٍ كسبيكة الذهب؛ وأنت بكرم طباعك، وسعة باعك، تجبر نقصي، وتأسو ما غث من جراحي، وأمات اهتمامي؛ ومن كان إحسانك إليه مشكوراً، وتعذيرك عنده مستوراً، لخليقٌ أن يكون على بالك خاطراً، وبلسانك مذكوراً، والسلام.

وها أنا آخذ في نشر ما جرى على وجهه إلا ما اقتضى من الزيادة في الإبانة والتقريب، والشرح والتكشيف. وقد جمع لك جميع ما شاهدته في هذه المدة الطويلة، ليكون حظك من الكرم والمجد موفوراً، ونصيبي من اهتمامك بأمري وجذبك بباعي وإنقاذك إياي من أسري تاماً، فظني واعدٌ بأنك تبلغ بي ما آمله فيك وتتجاوزه وتتطاول إلى ما فوقه، لأزداد عجباً مما خصك الله به، وأفردك فيه؛ وأتحدث على مر الأيام بغريبه، وأحث كل من أراه بعدك على سلوك طريقك في الخير، ولزوم منهاجك في الجميل، والدينونة بمذهبك المستقيم، وأكايد أصحابنا ببغداد؛ وأقول لهم: هل كان في حسبانكم أن يطلع عليكم من المشرق من يزيد ظرفه على ظرفكم، ويبعد بعلمه على علمكم، ويبرز هذا التبريز في كل شيء تفخرون به على غيركم، فأناظرهم فيك وبسببك، لا مناظرة الحنبليين مع الطبريين؛ وأتعصب لك، لا تعصب المفضليين والبرغوثيين؛ وأجادل من أجلك، لا جدل الزيديين مع الإماميين؛ وأدعي في فضائلك الظاهرة والباطنة دعوى أقوى من دعوى الشيعيين؛ وأضرب في ذلك كل مثل، وأستعين بكل سجع، وأروي كل خبر، وأنشد كل بيت، وأعبر كل رؤيا، وأقيم كل برهان، وأستشهد كل حاضرٍ وغائب، وأتأول كل مشكل وغامض، وأضيف إليك الآية بعد الآية، والمعجزة بعد المعجزة، وأنصلت لكل ضريبة، وأدعي كل غريبة؛ هذا ولا أخلط كلامي بالهزل، ولا أشيه دعواي بالمحال، ولا أبعد الشاهد، ولا أتعلق بالمستعجم، ولا أجنح إلى التلفيق والتلزيق؛ وكيف لا أفعل هذا ولي في قول الحق فيك مندوحة، وفي تقديم الصدق على غيره كفاية، وفي نشر المطوي من فضلك بلاغ؟ وإنما يميل إلى الكذب من قعد به الصدق، ويتيمم بالصعيد من فاته الماء، ويحلم بالمنى من عدم المتمنى في اليقظة؛ فأما أنت وقد ألبسك الله رداء الفضل، وأطلعك من منبتٍ كريم، ودرجك من بيتٍ ضخم، وآتاك الحكمة، وفتق لسانك بالبيان، وأترع صدرك بالعلم، وخلط أخلاقك بالدماثة، وشهرك بالكرم، وخفف عليك النهوض بكل ما يكسبك الشكر من القريب والبعيد، وبكل ما يدخر لك الأجر عند الصادر والوارد، حتى صرت كهفاً لأبناء الرجاء، ومفزعاً لبني الآمال؛ فبابك مغشيٌ مزور، وفناؤك منتاب وخوانك محضور، وعلمك مقتبس، وجاهك مبذول، وضيفك محدث، وكتبك مستعارة، وغداؤك حاضر، وعشاؤك معجل، ووجهك مبسوط، وعفوك محمود،وجدك مشكور، وكل أمرك قائمٌ على النهاية، وبالغٌ الغاية، والله يزيدك ويزيدنا بك، ولا يبتلينا بفقد ما ألفناه منك، بمنه وجوده.