الجزء الثالث - الليلة الثالثة والثلاثون

الليلة الثالثة والثلاثون

عدنا إلى ما كنا فيه من حديث الممالحة - وكان قد استزادني - فكتبت له هذه الورقات وقرأتها بين يديه، فقال كلاماً كثيراً عند كل ما مر مما يكون صلة لذلك الحديث، خزلته طلباً للتخفيف. قال حماد الراوية: عن قتادة قال زيادٌ لغيلان بن خرشة: أحب أن تحدثني عن العرب وجهدها وضنك عيشها لنحمد الله على النعمة التي أصبحنا بها. فقال غيلان: حدثني عمي قال: توالت على العرب سنون سبعٌ في الجاهلية حصت كل شيء، فخرجت على بكرٍ لي في العرب، فمكثت سبعاً لا أذوق فيهن شيئاً غلا ما ينال بعيري من حشرات الأرض حتى دنوت إلى حواء عظيم، فإذا ببيتٍ جحيشٍ عن الحي، فملت إليه، فخرجت إلي امرأةٌ طوالة حسانة، فقالت: من؟ قلت: طارق ليلٍ يلتمس القرى. فقالت: لو كان عندنا شيءٌ آثرناك به، والدال على الخير كفاعله، جس هذه البيوت فانظر إلى أعظمها، فإن يك في شيء منها خيرٌ ففيه. ففعلت حتى دنوت إليه، فرحب بي صاحبه وقال: من؟ قلت: طارق ليلٍ يلتمس القرى. فقال: يا فلان، فأجابه، فقال: هل عندك من طعام؟ قال: لا، قال: فوالله ما وقر في أذني شيءٌ كان أشد علي منه. فقال: هل عندك من شراب؟ قال: لا، ثم تأوه وقال: قد أبقينا في ضرع فلانة شيئاً لطارقٍ إن طرق، قال: فأت به، فأتى العطن فابتعثها، فحدثني عمي أنه شهد فتح أصفهان وتستر ومهرجان قذق وكور الأهواز وفارس، وجاهد عند السلطان وكثر ماله وولده، قال: فما سمعت شيئاً قط كان ألذ إلي من شخب تلك الناقة في تلك العلبة، حتى إذا ملأها ففاضت من جوانبها وارتفعت عليها رغوةٌ كجمة الشيخ أقبل بها نحوي فعثر بعودٍ أو حجر، فسقطت العلبة من يده، فحدثني أنه أصيب بأبيه وأمه وولده وأهل بيته، فما أصيب بمصيبة أعظم عليه من ذهاب العلبة؛ فلما رآني كذلك رب البيت خرج شاهراً سيفه، فبعث الإبل ثم نظر إلى أعظمها سناماً، على ظهرها مثل رأس الرجل الصعل، فكشف عن فوهته ثم أوقد ناراً، واجتب سنامها، ودفع إلي مدية وقال: يا عبد اللهن، اصطل واجتمل فجعلت أهوي بالبضعة إلى النار، فإذا بلغت إناها أكلتها، ثم مسحت ما في يدي من إهالتها على جلدي، وكان قد قحل على عظمي حتى كأنه شنٌ، ثم شربت ماءً وخررت مغشياً علي، فما أفقت إلى السحر.

فقطع زيادٌ الحديث وقال: لا عليك أن تخبرنا بأكثر من هذا، فمن المنزول به. قلت: عامر بن الطفيل. قال: أبو علي؟ قلت: أبو علي.

واستعادني الوزير أداه الله علوه هذا الحديث مرتين وأكثر المتعجب، وقال: صدق القائل في العرب: منعوا الطعام وأعطوا الكلام.

تغدى أبو العيناء عند ابن مكرم، فقدم إليه عرافاً، فلما جسه قال: قدركم هذه قد طبخت بشطرنج؟.

وقدم إليه يوماً قدراً فوجدها كثيرة العظام، فقال: هذه قدرٌ أم قبر؟ وأكل عنده أبو العيناء يوماً، فسقي ثلاث شربات باردة، ثم طلب الرابعة فسقي شربةً حارة، فقال: لعل مزملتكم تعتريها حمى الربع.

قال سلمة: بقي أبو المقام ببغداد وكنا نأتيه ونسمع منه، فجاءنا بجفنة فيها جواذب فجعل أصحابنا يأكلون، ثم أتاهم بسفودٍ فيه يرابيع فسلتها في الجفنة، فعلم القوم أنهم قد دهوا، فجعلوا يستقيئون ما أكلوا.

وقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، لي جارتان بأيتهما أبدأ؟ قال: "بأدناهما باباً منك".

وقال حكيم: ينبغي ألا يعطى البخيل أكثر من قوته، ليحكم عليه بمثل ما حكم به على نفسه.

وقال الشاعر:

أفلح من كانت له قوصرة

 

يأكل منها كل يومٍ مـره

أفلح من كانت له مزخه

 

يزخها ثم ينام الفـخـه

أفلح من كانت له دوخله

 

يأكل منها كل يومٍ ملـه

أفلح من كانت له هرشفه

 

ونشفةٌ يملأ منها كـفـه

أفلح من كانت له كرديده

 

يأكل منها وهو ثانٍ جيده

وقال أبو فرعون الشاشي يخاطب الحجاج:

يا خير ركبٍ سلكوا طريقا

 

ويمموا مكة والعـقـيقـا

وأطعموا ذا الكعك والسويقا

 

والخشكنان اليابس الرقيقا

وقال آخر:

رأيت الجوع يطرده رغـيفٌ

 

وملء الكف من ماء الفرات

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر".

قبل مزبدٌ جاريةً بخراء، فقال لها: أظنك تعشيت بكرش، أو احتشيت صحناً؛ فقالت: ما أكلت إلا خردلاً. قال: قد ذهب النصف الثاني وبقي ما قبله.

قال شاعر:

وباتوا يعشون القطيعاء ضيفهم

 

وعندهم البرني في جللٍ دسمٍ

وقال آخر:  

وما أطعمونا الأوتكي من سماحةٍ

 

ولا منعوا البرني إلا من البخل

سمعت الحجاجي يقول: كل الخبز أو السمك، فإن أكل أحدهما كان مطيعاً؛ فإذا نفيت فقلت: لا تأكل الخبز والسمك؛ فإن أكل أحدهما لم يعصك؛ وإذا قلت: لا تأكل الخبز أو السمك، لم يكن له أن يأكل أحدهما لأن التقدير في النفي لا تأكل أحدهما، والتقدير في الإيجاب ائت أيهما شئت؛ فهذه خاصية أو. السويق: الجشيش، لأنه رض وكسر. المجشة: رحى صغيرةٌ يجش بها. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى الشبرم عند أسماء بنت عميس فقال: حارٌ حارٌ، وأمر بالسنا.

ويقال: أكل البطيخ مجفرة، أي يقطع ماء النكاح.

ويقال: فلانٌ عظيم المجرأش أي الوسط، فرسٌ مجرئش الجنبين واجرأشت الإبل، إذا بطنت، وإبلق مجرئشة أي بطان؛ ويقال: كثأة قدركم، وهي ما ارتفع منها عند الغلي.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عباس قال: سمعته يقول: "ليس بمؤمنٍ من بات شبعان ريان وجاره جائعٌ طاوٍ".

قال عمر: مدمن اللحم كمدمن الخمر.

وقال لقيط بن زرارة يذم أصحابه يوم جبلة:

إن الشواء والنشيل والرغـف

 

والقينة الحسناء والكأس الأنف

للـضـاربـين الــهـــام

 

والـخـيل قـــطـــف

قيل لدبٍ: لم تفقر رجلاً في ليلةٍ من كثرة ما تأكل من عنبه؟ فقال: لا تلمني، فإن بين يدي أربعة أشهرٍ أنجحر فيها فلا أتلمظ إلا بالهواء.

قال ابن الأعرابي: إذا أقدح الرجل مرةً بعد مرةٍ فأطعم لحمه المساكين سمي متمماً، وبه سمي ابن نويرة، ومن ذلك قول النابغة:

إني أتمم أيساري وأمـنـحـهـم

 

مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الأدما

الثرتم من فتات الطعام، ويقال الترتم أيضاً ما فضل من الطعام في الإناء، ويقال: طعامٌ ذو نزل. والمليح والملح: السمن، يقال: تملحت الجارية وتجملت إذا سمنت.

وقال أبو الطمحان القيني:

وإني لأرجو ملحها في بطونكـم

 

وما كشطت من جلد اشعث اغبرا

هكذا سمعت. ويقال: سمن حتى كأنه خرس، والخرس: الدن بعينه. وفي المثل: إن آخر الخرس لدردى أي آخر الدن دردى.
وأنشد:

حبذا الصـيف حـبـذا مـن أوان

 

وزمـانٍ يفـوق كـل زمــان

زمن الخمر والمساور والـجـش

 

ن وورد الخـلاف والـريحـان

زمنٌ كانـت الـمـضـائر فـيه

 

بلحوم الـجـداء والـحـمـلان

وصدور الدجاج بالخل والـمـرى

 

ونثـر الـسـذاب والأنـجـذان

وسمانٌ من الفـراريج تـغـلـي

 

بعصير الأعـنـاب والـرمـان

وشوا الـوزة الـلـذيذة والـقـا

 

رص بين الحـلـيب والألـبـان

ونقي السويق بالسـكـر الـمـن

 

خول في الثلج في الزجاج اليماني

وقـلالٌ تـحـط مـن بـكـراتٍ

 

مروياتٌ غلائل الـعـطـشـان

واعترض حديث العلم، فأنشد ابن عبيدٍ الكاتب لسابقٍ الزبيري قوله:

العلم يجلو العمى عن قلب صاحبه

 

كما يجلى سواد الظلمة القـمـر

وقال أيضاً:

إذا ما لم يكن لك حسن فهمٍ

 

أسأت إجابةً وأسأت فهما

آخر:

العلم ينعش أقواماً فينقعهـم

 

كالغيث يدرك عيداناً فيحييها

فقال الوزير: عندي في صحيفة حفظ الصبا: العلم سراجٌ يجلي الظلمة، وضياءٌ يكشف العمى.

التذلل مكروهٌ إلا في استفادته، والحرص مذمومٌ إلا في طلبه، والحسد منهيٌ عنه إلا عليه.

ثم عاد الحديث إلى الممالحة: حدثني مطهر بن أحمد الكاتب عن ابن قرارة العطار قال: اجتمع ذات يومٍ عندي على المائدة أبو علي بن مقلة وأبو عبد الله اليزيدي، وكان ابن مقلة يفضل الهريسة، وكان اليزيدي يفضل الجوذابة، وكان كل واحد منهما يصف النوع الذي يقول به ويؤثره، فقال اليزيدي: الهريسة طعام السوقيين والسفلة، وليست الجوذابة بهذه الصفة؛ فقال لي ابن مقلة: ما اسم الجوذابة بالفارسية؟ فقلت جوزاب، فقال: ضم الكاف. وفهمت ما أراد، فقلت: نسأل الله العافية، والله لقد عافتها نفسي، وسكت اليزيدي. قال يزيد بن ربيع: الكبا بطعام الصعاليك، والماء والملح طعام الأعراب، والهرائس والرءوس طعام السلاطين، والشواء طعام الدعار، والخل والزيت طعام أمثالنا.

وحدثني ابن ضبعون الصوفي قال: قال لي أبو عمر الشاري صاحب الخليفة: انهض بنا حتى نتغدى، فإن عندي مصوصاً وهلاماً وبقية مطجنة، وشيئاً من الباذنجان البوراني البائت المخر. قلت: هذه كلها تزايين المائدة، فأين الأدم؟ كان عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بكثر أكل الجوذاب ولا يؤثر عليه شيئاً، وكان يقول: يشد العضدين، ويقوي الساعدين، ويجلو الناظرين، ويزيد في سمع الأذنين، ويحمر الوجنتين، ويزيد في المني، وهو طعام شهي، فأي شيء بقي؟ وبلغ المنصور وصفه هذا، فقال: بحقٍ ما وصفه، ولا نقبل أكله.

وقال وكيع بن الجراح: التمتين على المائدة خيرٌ من زيادة لونين، وكمال المائدة كثرة الخبز، والسميذ الأبيض أحلى من الأصفر.

وكان يحيى بن أكثر يحب الجوذاب، فبلغه أن رجلاً ممن يحضر عنده يعيب الجوذاب، فقال يحيى: إن ثبت عندي هذا توقفت عن شهادته، وحكمت عليه بضعف الحس وقلة التمييز، فبلغ الرجل ذلك، فاحترس، فقال له يحيى يوماً: ما قولك في الجوذاب؟ فقال: أشرف مأكلٍ وأطيبه، سهل المدخل، لذيذ المطعم، جيد الغذا، قليل الأذى. قال: أصبت، هكذا أريدك.

أبو صالحٍ عن ابن عباس قال: ما من داخلٍ إلا وله حيرةٌ، فابدءوه بالسلام، وما من مدعو إلا وله حشمة، فابدءوه باليمين.

قال حمدان: قلت لجاريةٍ اردت شراءها - وكانت ناعمة البدن رطبةً شطبة غضة بضة -: ما كان غذاؤك عند مولاك؟ قالت: المبطن. قلت: وما المبطن؟ قالت: الأرز الريان من اللبن، بالفالوذج الريان من العسل، والخبيصة الريانة من الدهن والسكر والزعفران. قلت: حق لك.

وقال ابن الجصاص الصوفي: دخلت على أحمد بن روحٍ الاهوازي فقال: ما تقول في صحفة أرزٍ مطبوخ، فيها نهرٌ من سمن، على حافاتها كثبانٌ من السكر المنخول، فدمعت عيني. فقال: مالك؟ قلت: أبكي شوقاً إليه، جعلنا الله وإياك من الواردين عليه بالغواصة والردادتين. فقال لي: ما الغواصة والردادتان؟ قلت: الغواصة الإبهام، والردادتان: السبابة والوسطى. فقال: أحسنت، بارك الله عليك.

شكا رجلٌ إلى عمر الجوع فقال: أكذك وأنت تنث نث الحميت؟ أي ترشح كما يرشح الزق.

وقال ابن سكرة:

أطمعني في خروفكم خرفـي

 

فجئت مستعجـلاً ولـم أقـف

وجئت أرجو أطرافه فـغـدت

 

في طرفٍ والسماك في طرف

وحذروني مـن ذكـر رزتـه

 

يا حر صدري لها ويا لهفـي

عاينـتـه والـذي يفـصـلـه

 

والقلب مني على شفا جـرف

ما حل بي منك عند منصرفـي

 

ما كنت إلا فريسة الـتـلـف

ويقال: القانع غنيٌ وإن جاع وعري، والحريص فقير وإن ملك الدنيا.

قيل لإبراهيم الخليل - عليه السلام -: بأي شيء اتخذك الله خليلاً؟ قال: بأني ما خيرت بين أمرين إلا اخترت الذي لله، وما اهتممت لما تكفل لي به، وما تغديت وما تعشيت إلا مع ضيف.

واعترض حديثٌ فقال: أنشدني بيتي ابن غسان البصري في حديث بختيار، يعني عز الدولة، فأنشدته:

أقام على الأهواز ستين ليلةً

 

يدبر أمر الملك حتى تدمرا

يدبر أمراً كان أوله عمـىً

 

وأوسطه ثكلاً وآخره خرا

فقال: ما أعجب الأمور التي تأتي بها لدهور! عد إلى قراءتك، فعدت وقرأت.

روي في الحديث: لا تأكلوا ذروة الثربد، فإن البركة فيها.

وقال أعرابي: اللبن أحد اللحمين، وملك العجين أحد الريعين، والمرقة أحد اللحمين، والبلاغة أحد السبفين والتمني أحد السكرين.

أراد مزبد أضحيةً فلم يجدها، فأخذ ديكاً ليضحي به، فوجه إليه جيرانه شاةً شاةً حتى اجتمع عنده سبع شياه، فقال ديكي أفضل عند الله من إسحاق لأنه فدي بكبش، وديكي بسبعة.

الكتل: اللحم، والعيمة: شهوة اللبن، والقرم: شهوة اللحم.

وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يرق قلبه فليكثر من أكل البلس". قيل: هو التين.

وقال أعرابي:

يمن علي بالتزويج شيخـي

 

وفي التزويج لي همٌ وشغل

وكنت من الهموم رخي بال

 

فحل من الهموم علي ثقل

فقلت له: مننت بغير مـنٍ

 

ومالك بالذي اسديت فضل

أعزاب العشيرة لو علمتم

 

بحالي حين لي بيتٌ وأهل

علمتم أنكم في حال عيشٍ

 

رخيٍ ماله يا قوم عـدل

قال إسحاق الموصلي: أملي بعض الفقهاء بالكوفة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كره السمر إلا في الفقه، يريد كثرة السمر إلا في الفقه.

قيل لميسرة الرأس: ما أكثر ما أكلت؟ قال: مائة رغيفٍ بكيلجة ملح؛ فقيل هذا أكلك في بيتك؟ قال: آكل في بيتي رغيفين، وأحتشي إلى الليل فشل الخيل.

تناول الفضل بن العباس تفاحةً فأكلها، فقيل: ويحك، تأكل التحيات؟ فقال: والصلوات والطيبات.

يقال: الطعمة: الكسب. ويقال: جئت بالطعمة. والطعم: الطعام: والطعم: الذوق. وهذه الأرض طعمةٌ لك وطعمة.

قال إسحاق: كنت يوماً عند أحمد بن يوسف الكاتب، فدخل أحمد بن أبي خالد الكاتب ونحن في الغناء، فقال: والله ما أجد شيئاً مما أنتم فيه. قال إسحاق: فهان علي وخف في عيني، فقلت له كالمستهزىء به، جعلت فداك، قصدت إلى أرق شيء خلقه الله وألينه على الأذن والقلب، وأظهره للسرور والفرح، وأنفاه للهم والحزن، وما ليس للجوارح منه مؤونةٌ غليظة، وإنما يقرع السمع وهو منه على مسافة، فتطرب له النفس، فذممته!؟ ولكنه كان يقال: لا يجتمع في رجل شهوة كل لذة، وبعد، فإن شهوة كل رجلٍ على قدر تركيبه ومزاجه. قال: أجل، أما أنا فالطعام الرقيق أعجب إلي من الغناء. فقلت: إي والله ولحم البقر والجواميس والتيوس الجبلية بالبازنجان المبزر أيضاً تقدمه؟ فقال: الغناء مختلفٌ فيه، وقد كرهه قوم. قلت فالمختلف فيه أطلقه لنا حتى تجمعوا على تحريمه، أعلمت - جعلت فداك - أن الأوائل كانت تقول: من سمع الغناء على حقيقته مات. فقال: اللهم لا تسمعناه على الحقيقة إذاً فنموت. فاستظرفته في هذه اللفظة، وقدموا إليه الطعام فشغل عن ذم الغناء.

قال سعيد بن أبي عروة: نزل الحجاج في طريق مكة، فقال لحاجبه: انظر أعرابياً يتغدى معي، وأسأله عن بعض الأمر، فنظر الحاجب إلى أعرابيٍ بين شملتين، فقال: أجب الأمير، فأتاه، فقال له الحجاج: إذن فتغد معي. فقال: إنه دعاني من هو أولى منك فأجبته. قال: ومن هو؟ قال: الله عز وجل دعاني إلى الصوم فصمت، قال: أفي هذا اليوم الحار؟ قال: نعم، صمته ليومٍ هو أشد منه حراً. قال: فأفطر وصم غداً. قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد. قال: ليس ذلك إلي. قال: فكيف تسألني عاجلاً بآجل لا تقدر عليه؟ قال: إنه طعام طيب. قال: إنك لم تطيبه ولا الخباز؛ ولكن العافية طيبته، ولم يفطر، وخرج من عنده.

قال أعرابي: هذا الطعام مطيبةٌ للنفس، محسنةٌ للجسم.

قال أبو حاتم: حدثنا الأصمعي قال: قال أبو طفيلة الحرمازي: قال أعرابيٌ: ضفت رجلاً فأتاني بخبزٍ من برٍ كأنه مناقير النغران، وأتانا بتمرٍ كأعناق الورلان، يوحل فيه الضرس.

وقال آخر: ونظر إلى رجلٍ يأكل بالعين والفم واليد والرأس والرجل: لو سألته عن اسمه لما ذكره، ولو طلع ولده الغائب عليه ما عرفه:

يلعب بالخمسة في قصعةٍ

 

لعب أخي الشطرنج بالشاه

قال ابن الأعرابي: كان المحسن الضبي شرهاً على الطعام، وكان دميماً، فقال له زياد ذات يوم: كم عيالك؟ قال: تسع بنات.. قال: فأين هن منك. فقال: أنا أحسن منهن وهن آكل مني؛ فضحك. وقال: جاز ما سألت لهن. وأمر له بأربعة آلاف درهم فقال:

إذا كنت مرتاد الرجال لنفعـهـم

 

فنـاد زياداً أو أخــاً لـــزياد

يجبك امرؤٌ يعطي على الحمد ماله

 

إذا ضن بالمعروف كـل جـواد

وقال سنان بن أبي حارثة:

ثمة أطعم زادي غير مـدخـرٍ

 

أهل المحلة من جارٍ ومن جادي

قد يعلم القوم إذ طال اغترابهـم

 

وأرملوا الزاد أني منفـدٌ زادي

وقال السفاح بن بكر:

والمالىء الشيزي لأضيافه

 

كأنها أعضاد حوضٍ بقاع

لا يخرج الأضياف من بيته

 

إلا وهم منه رواءٌ شبـاع

أورد أعرابيٌ إبله، فأبى أهل الماء أن يجيزوه، وقالوا: إبلك كثيرة، فإن أوردت فشرطٌ أن تقف بعيداً عن الماء وتسقي ما جاءك منها، ولا تحاجز بها؛ قال: أفعل، وأنشأ يقول:

رب طبيخ مرجلٍ مـلـهـوج

 

يسلته القوم ولـمـا ينـضـج

حش بشيء من ضرام العرفج

 

 

فانقضت الإبل كلها على الماء فشربت.

قال الشاعر:  

شرب النبيذ على الطعام قليلة

 

فيه الشفاء وصحة الأبـدان

وإذا شربت كثيره فكـثـيره

 

مزج عليك ركائب الشيطان

فتكون بين الضاحكين كبومةٍ

 

عمياء بين جماعة الغربـان

فاحذر بجهدك أن ترى كجنيبةٍ

 

بعد العشاء تقاد بـالأرسـان

قال حمزة المصنف في بعض كتبه: قال النبي صلى الله عليه وسلم لسلمان الفارسي: أن اتخذ لنا سوراً، أي طعاماً كطعام الوليمة، وهي فارسية.

قال شيخنا أبو سعيد السيرافي: أخطأ هذا المتأول، وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم: أن سلمان اتخذ لنا خندقاً يوم الأحزاب، لأنه حض على ذلك، وليس ذا من ذاك إلا باللفظ.

وقال جعيفر ان الموسوس في وصف عصيدة:

وماء عصيدة حمراء تـحـكـي

 

إذا أبصرتها مـاء الـخـلـوق

تزل عن اللهاة تـمـر سـهـلاً

 

وتجري في العظام وفي العروق

قال الحسن بن سهل: أشياء تذهب هباء، دينٌ بلا عقل، ومالٌ بلا بذل وعشقٌ بلا وصل. فقال حميد: بقي عليه مائدةٌ بلا نقل، ولحسةٌ بلا فضل.

قيل لصوفي: ما حد الشبع؟ قال: الموت.

وقيل لآخر: ما حد الشبع؟ قال آكل حتى يقع علي السبات فأنام على وجهي، وتتجافى أطرافي عن الأرض.

وقيل لآخر: ما حد الشبع؟ قال: أن أدخل إصبعي في حلقي فيصل إلى الطعام.

قال يعقوب: أصبحت خالفاً: لا أشتهي الطعام. وخلوف البطن تغيره.

ويقال: مغسني بطني، وهو المغس، ورجل ممغوس.

ويقال: غمزني بطني وملكني.

والعامة تقول: كل ما في القدر تخرجه المغرفة، ورجل مقرضبٌ وقراضب وقرضاب إذا كان أكولاً، وكذلك السيف واللص، قال الشاعر:

وليس يرد النفس عن شهواتهـا

 

من القوم إلا كل ماضي العزائم

ومر ابن عامرٍ على عامر بن عبد القيس وهو يأكل بقلاً بملح، فقال: لقد رضيت باليسير. فقال: أرضي مني باليسير من رضي بالدنيا عوضاً عن الآخرة.

قال عبد الملك بن مروان: لا تستاكن إلا عرضاً، ولا تأكلن إلا عضاً ولا تشربن إلا مصاً، ولا تركبن إلا نصاً، ولا تعقدن إلا وصاً.

ويقال: ماءٌ قراح؛ وخبزٌ قفار: لا أدم معه، وسويقٌ جافٌ، ولبنٌ صريح: لم يخالطه شيء.

وقال سعيد بن سلمة: شيئان لا تشبع منهما ببغداد: السمك والرطب.

قال أعرابي: أكلت فرسكة وعلى خوخة، فجاء غلام حزورٌ فنظر حرني.

الفرسكة: الخوخة المقددة. والخوخة: القميص الأخضر بطن بفروٍ.

والحرة: الأذن.

قيل لحاتم الأصم: بم رزقت الحكمة؟ قال: بخلاوة البطن، وسخاوة النفس، ومكابدة الليل.

وقال شقيق البلخي: العبادة حرفة، وحانوتها الخلوة، وآلتها الجوع.

قال لقمان: إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة.

وقال عمر: لولا القيامة لشاركناكم في لين عشيكم.

وقال بعض العرب: أقلل طعامك تحمد منامك.

قال يحيى بن معاد: الشبع يكنى بالكفر.

وقال غيره: الجوع يكنى بالرحمة.

وقال أعرابي:

تحيز مني خـيفةً أن أضـيفـهـا

 

كما انحازت الأفعى مخافة ضارب

وذكر المهلب اللحم فقال إذا التقى الوارد والغابر فتوقع الفساد.