الجزء الثالث - الليلة الرابعة والثلاثون

الليلة الرابعة والثلاثون

وقال الوزير في بعض الليالي: قد والله ضاق صدري بالغيظ لما يبلغني عن العامة من خوضها في حديثنا، وذكرها أمورنا، وتتبعها لأسرارنا، وتنقيرها عن مكنون أحوالنا، ومكتوم شأننا، وما أدري ما أصنع بها، وإني لأهم في الوقت بعد الوقت بقطع ألسنةٍ وأيدٍ وأرجلٍ وتنكيلٍ شديدٍ، لعل ذلك يطرح الهيبة ويحسم المادة، ويقطع هذه العادة، لحاهم الله، ما لهم لا يقبلون على شؤونهم المهمة، ومعايشهم النافعة، وفرائضهم الواجبة؟ ولم ينقبون عما ليس لهم، ويرجفون بما لا يجدي عليهم، ولو حققوا ما يقولون ما كان لهم فيه عائدةٌ ولا فائدة؛ وإني لأعجب من لهجهم وشغفهم بهذا الخلق حتى كأنه من الفرائض المحتومة، والوظائف الملزومة؛ وقد تكرر منا الزجر، وشاع الوعيد، وفشا الإنكار بين الصغار والكبار، ولقد تعايى علي هذا الأمر وأغلق دوني بابه، وتكاثف علي حجابه، والله المستعان.

فقلت: أيها الوزير، عندي في هذا جوابان: أحدهما ما سمعت من شيخنا أبي سليمان، وهو من تفوق في الفضل والحكمة والتجربة ومحبة هذه الدولة والشفقة عليها من كل هبة ودبة؛ والآخر مما سمعته من شيخ صوفيٍ، والجوابين فائدتان عظيمتان، ولكن الجملة خشناء، وفيها بعض الغلظة، والحق مر، ومن توخى الحق احتمل مرارته.

قال: فاذكر الجوابين وإن كانا غليظين، فليس ينتفع بالدواء إلا بالصبر على بشاعته، وصدود الطبع عن كراهته.

قلت: أما أبو سليمان، فإنه قال في هذه الأيام: ليس ينبغي لمن كان الله عز وجل جعله سائس الناس: عامتهم وخاصتهم، وعالمهم وجاهلهم، وضعيفهم وقويهم، وراجحهم وشائلهم، أن يضجر مما يبلغه عنهم أو عن واحد منهم لأسباب كثيرة، منها: أن عقله فوق عقولهم، وحلمه أفضل من حلومهم، وصبره أتم من صبرهم؛ ومنها أنهم إنما جعلوا تحت قدرته، ونيطوا بتدبيره، واختبروا بتصريفهم على أمره ونهيه، ليقوم بحق الله تعالى فيهم، ويصبر على جهل جاهلهم، ويكون عماد حاله معهم الرفق بهم، والقيام بمصالحهم، ومنها أن العلاقة التي بين السلطان وبين الرعية قوية، لأنها إلهيةٌ، وهي أوشج من الرحم التي تكون بين الوالد والولد، والملك والدٌ كبير، كما أن الوالد ملكٌ صغير، وما يجب على الوالد في سياسة ولده من الرفق به، والحنو عليه، والرقة له، واجتلاب المنفعة إليه، أكثر مما يجب على الولد في طاعة والده، وذلك أن الولد غرٌ، وقريب العهد بالكون، وجاهلٌ بالحال، وعارٍ من التجربة، كذلك الرعية الشبيهة بالولد، وكذلك الملك الشبيه بالوالد؛ ومما يزيد هذا المعنى كشفاً، ويكسبه لطفاً، أن الملك لا يكون ملكاً إلا بالرعية، كما أن الرعية لا تكون رعيةً إلا بالملك، وهذا من الأحوال المتضايفة، والأسماء المتناصفة؛ وبسبب هذه العلاقة المحكمة والوصلة الوشيجة، ما لهجت العامة بتعرف حال سائسها، والناظر في أمرها، والمالك لزمامها، حتى تكون على بيانٍ من رفاهة عيشها، وطيب حياتها، ودرور مواردها، بالأمن الفاشي بينها، والعدل الفائض عليها، والخير المجلوب إليها، وهذا أمرٌ جارٍ على نظام الطبيعة، ومندوبٌ إليه أيضاً في أحكام الشريعة.

قال: ولو قالت الرعية لسلطانها: لم لا نخوض في حديثك، ولا نبحث عن غيب أمرك، ولم لا نسأل عن دينك ونحلتك وعادتك وسيرتك؟ ولم لا نقف على حقيقة حالك في ليلك ونهارك، ومصالحنا متعلقةٌ بك، وخيراتنا متوقعةٌ من جهتك، ومسرتنا ملحوظةٌ بتدبيرك، ومساءتنا مصروفة باهتماك، وتظلمنا مرفوعٌ بعزك، ورفاهيتنا حاصلةٌ بحسن نظرك وجميل اعتقادك، وشائع رحمتك، وبليغ اجتهادك، ما كان جواب سلطانها وسائسها؟ أما كان عليه أن يعلم أن الرعية مصيبةٌ في دعواها التي بها استطالت، بلى والله، الحق معترفٌ به وإن شغب الشاغب، وأعنت المعنت.

قال: ولو قالت الرعية أيضاً: ولم لا تبحث عن أمرك؟ ولم لا تسمع كل غثٍ وسمين منا! وقد ملكت نواصينا، وسكنت ديارنا، وصادرتنا على أموالنا، وحلت بيننا وبين ضياعنا، وقاسمتنا مواريثنا، وأنسيتنا رفاغة العيش، وطيب الحياة، وطمأنينة القلب، فطرقنا مخوفة، ومساكننا منزولة، وضياعنا مقطعة، ونعمنا مسلوبة، وحريمنا مستباح، ونقدنا زائف، وخراجنا مضاعف، ومعاملتنا سيئة، وجندينا متغطرس، وشرطينا منحرف، ومساجدنا خربة، ووفوفها منتهبة، ومارستاناتنا خاوية، وأعداؤنا مستكلبة، وعيوننا سخينة، وصدورنا مغيظة، وبليتنا متصلة، وفرحنا معدوم؛ ما كان الجواب أيضاً عما قالت وعما لم تقل، هيبةً لك، وخوفاً على أنفسها من سطوتك وصولتك؟  وحكى لنا في عرض هذا الكلام أنه رفع إلى الخليفة المعتضد أن طائفةً من الناس يجتمعون بباب الطاق ويجلسون في دكان شيخ تبان، ويخوضون في الفضول والأراجيف وفنونٍ من الأحاديث، وفيهم قومٌ سراة وتناء وأهل بيوتاتٍ سوى من يسترق السمع منهم من خاصة الناس، وقد تفاقم فسادهم وإفسادهم، فلما عرف الخليفة ذلك ضاق ذرعاً، وحرج صدراً، وامتلأ غيظاً، ودعا بعبيد الله بن سليمان، ورمى بالرفيعة إليه، وقال: انظر فيها وتفهمها. ففعل، وشاهد من تربد وجه المعتضد ما أزعج ساكن صدره، وشرد آلف صبره، وقال: قد فهمت يا أمير المؤمنين. قال: فما الدواء؟ قال: تتقدم بأخذهم وصلب بعضهم وإحراق بعضهم وتغريق بعضهم، فإن العقوبة إذا اختلفت، كان الهول أشد، والهيبة أفشا، والزجر أنجع، والعامة أخوف. فقال المعتضد - وكان أعقل من الوزير -: والله لقد بردت لهيب غضبي بفورتك هذه، ونقلتني إلى اللين بعد الغلظة، وحططت علي الرفق، من حيث أشرت بالخرق، وما علمت أنك تستجيز هذا في دينك وهديك ومروءتك، ولو أمرتك ببعض ما رأيت بعقلك وحزمك لكان من حسن المؤازرة ومبذول النصيحة والنظر للرعية الضعيفة الجاهلة أن تسألني الكف عن الجهل، وتبعثني على الحلم، وتحبب إلى الصفح وترغبني في فضلٍ الإغضاء على هذه الأشياء. وقد ساءني جهلك بحدود العقاب وبما تقابل به هذه الجرائر، وبما يكون كفأً للذنوب، ولقد عصيت الله بهذا الرأي ودللت على قسوة القلب وقلة الرحمة ويبس الطينة ورقة الديانة، أما تعلم أن الرعية وديعة الله عند سلطانها؟ وأن الله يسائله عنها كيف سستها؟ ولعله لا يسألها عنه، وإن سألها فليؤكد الحجة عليه منها؛ ألا تدري أن أحداً من الرعية لا يقول ما يقول إلا لظلمٍ لحقه أو لحق جاره، وداهيةٍ نالته أو نالت صاحباً له؟ وكيف نقول لهم: كونوا صالحين أتقياء مقبلين على معايشكم، غير خائضين في حديثنا، ولا سائلين عن أمرنا، والعرب تقول في كلامها: غلبنا السلطان فلبس فروتنا، وأكل خضرتنا، وحنق المملوك على المالك معروف، وإنما يحتمل السيد على صروف تكاليفه، ومكاره تصاريفه، إذا كان العيش في كنفه رافعاً، والأمل فيه قوياً، والصدر عليه بارداً، والقلب معه ساكناً، أتظن أن العمل بالجهل ينفع، والعذر به يسع، لا والله ما الرأي ما رأيت، ولا الصواب ما ذكرت، وجه صاحبك وليكن ذا خبرةٍ ورفق، ومعروفاً بخيرٍ وصدقٍ، حتى يعرف حال هذه الطائفة، ويقف على شأن كل واحدٍ منها في معاشه، وقدر ما هو متقلبٌ فيه ومنقلبٌ إليه، فمن كان منهم يصلح للعمل فعلقه به، ومن كان سيىء الحال فصله من بيت المال بما يعيد نضرة حاله، ويفيده طمأنينة باله؛ ومن لم يكن من هذا الرهط، وهو غنيٌ مكفيٌ، وإنما يخرجه إلى دكان هذا التبان البطر والزهو، فادع به، وانصحه، ولاطفه، وقل له: إن لفظك مسموع، وكلامك مرفوع؛ ومتى وقف أمير المؤمنين على كنه ذلك منك لم تجدك إلا في عرضة المقابر، فاستأنف لنفسك سيرةً تسلم بها من سلطانك، وتحمد عليها عند إخوانك، وإياك أن تجعل نفسك عظةً لغيرك بعدما كان غيرك عظةً لك؛ ولولا أن الأخذ بالجزيرة الأولى مخالفٌ للسيرة المثلى، لكان هذا الذي تسمعه ما تراه، وما تراه تود أنك لو سمعته قبل أن تراه. فإنك يا عبيد الله إذا فعلت ذلك فقد بالغت في العقوبة، وملكت طرفي المصلحة، وقمت على سواء السياسة، ونجوت من الحوب والمأثم في العاقبة.

قال: وفارق الوزير حضرة الخليفة، وعمل بما أمر به على الوجه اللطيف، فعادت الحال ترف بالسلامة العامة، والعافية التامة؛ فتقدم إلى الشيخ التبان برفع حال من يقعد عنده حتى يواسي إن كان محتاجاً، ويصرف إن كان متعطلاً، وينصح إن كان متعقلاً.

فقال الوزير: ما سمعت مثل هذا قط، وما ظننت أن الخطب في مثل هذا يبلغ هذا القدر؛ فهات الجواب الآخر الذي حفظته عن الصوفي. فقلت: إن كان هذا كافياً فإن ذلك فضل.

فقال: هكذا هو، وإن فيما مر لكفاية، وما يزيد على الكفاية، ولكن الزيادة من العلم داعيةٌ إلى الزيادة من العمل، والزيادة من العمل جالبة الانتفاع بالعلم، والانتفاع بالعلم دليلٌ على سعادة الإنسان، وسعادة الإنسان مقسومةٌ على اقتباس العلم والتماس العمل، حتى يكون بأحدهما زارعاً، وبالآخر حاصداً، وبأحدهما تاجراً، وبالآخر رابحاً. فوصلت الحديث وقلت: حدثني شيخ من الصوفية في هذه الأيام قال: كنت بنيسابور سنة سبعين وثلثمائة، وقد اشتعلت خراسان بالفتنة، وتبلبلت دولة آل سامان بالجور وطول المدة، فلجأ محمد بن إبراهيم صاحب الجيش إلى قايين، وهي حصنه ومعقله، وورد أبو العباس صاحب جيش آل سامان نيسابور بعدةٍ عظيمة، وعدةٍ عميمة، وزينةٍ فاخرة، وهيئةٍ باهرة، وغلا السعر، وأخيفت السبل، وكثر الإرجاف، وساءت الظنون، وضجت العامة، والتمس الرأي، وانقطع الأمل، ونبح كلبٌ كلبٌ من كل زاوية، وزأر كل أسد من كل أجمة، وضج كل ثعلبٍ من كل تلعة. قال: وكنا جماعةً غرباء نأوي إلى دويرة الصوفية لا نبرحها، فتارةً نقرأ، وتارةً نصلي، وتارةً ننام، وتارةً نهذي، والجوع يعمل عمله، ويخوض في حديث آل سامان، والوارد من جهتهم إلى هذا المكان، ولا قدرة لنا على السياحة لانسداد الطرق، وتخطف الناس للناس، وشمول الخوف، وغلبة الرعب، وكان البلد يتقد ناراً بالسؤال والتعرف والإرجاف بالصدق والكذب، وما يقال بالهوى والعصبية؛ فضاقت صدورنا، وخبثت سرائرنا واستولى علينا الوسواس، وقلنا ليلةً: ما ترون يا صحابنا ما دفعنا إليه من هذه الأحوال الكريهة، كأنا والله أصحاب نعمٍ وأرباب ضياعٍ نخاف عليها الغارة والنهب، وما علينا من ولاية زيدٍ وعزل عمرو، وهلاك بكر، ونجاة بشر، نحن قوم قد رضينا في هذه الدنيا العسيرة، ولهذه الحياة القصيرة، بكسرةٍ يابسة، وخرقةٍ بالية، وزاويةٍ من المسجد مع العافية من بلايا طلاب الدنيا. فما هذا الذي يعترينا من هذه الأحاديث التي ليس لنا فيها ناقةٌ ولا جمل، ولا حظٌ ولا أمل، قوموا بنا غداً حتى نزور أبا زكرياء الزاهد، ونظل نهارنا عنده لاهين عما نحن فيه، ساكنين معه، مقتدين به؛ فاتفق رأينا على ذلك، فغدونا وصرنا إلى أبي زكرياء الزاهد، فلما دخلنا رحب بنا، وفرح بزيارتنا، وقال: ما أشوقني إليكم، وما ألهفني عليكم! الحمد لله الذي جمعني وإياكم في مقامٍ واحد، حدثوني ما الذي سمعتم، وماذا بلغكم من حديث الناس، وأمر هؤلاءؤ السلاطين؟ فرجوا عني؛ وقولوا لي ما عندكم، فلا تكتموني شيئاً فمالي والله مرعىً في هذه الأيام إلا ما اتصل بحديثهم، واقترن بخبرهم، فلما ورد علينا من هذا الزاهد العابد ما ورد، دهشنا واستوحشنا، وقلنا في أنفسنا انظروا من أي شيء هربنا، وبأي شيء علقنا، وبأي داهيةٍ دهينا. قال: فخففنا الحديث وانسللنا، فلما خرجنا قلنا: أرأيتم ما بلينا به، وما وقعنا عليه؟ "إن هذا لهو البلاء المبين". ميلوا بنا إلى أبي عمرو الزاهد فله فضلٌ وعبادة وعلمٌ وتفردٌ في صومعته حتى نقيم عنده إلى آخر النهار، فقد نبا بنا المكان الأول، وبطل قصدنا فيما عزمنا عليه من العمل، فمشينا إلى أبي عمرو الزاهد واستأذنا، فأذن لنا، ووصلنا إليه فسر بحضورنا، وهش لرؤيتنا، وابتهج بقصدنا، وأعظم زيارتنا، ثم قال: يا أصحابنا ما عندكم من حديث الناس؟ فقد والله طال عطشي إلى شيء أسمعه، ولم يدخل علي اليوم أحدٌ فأستخبره، وإن أذني لدى الباب لأسمع قرعة أو أعرف حادثة، فهاتوا ما معكم وما عندكم، وقصوا علي القصة بفصها ونصها، ودعوا التورية والكناية، واذكروا الغث والثمين، فإن الحديث هكذا يطيب، ولولا العظم ما طاب اللحم، ولولا النوى ما حلا التمر، ولولا القشر لم يوجد اللب، فعجبنا من هذا الزاهد الثاني أكثر من عجبنا من الزاهد الأول، وخاطفناه الحديث، وودعناه، وخرجنا، وأقبل بعضنا على بعضٍ يقول: أرأيتم أظرف من أمرنا وأغرب من شأننا؟ انظروا من أي شيء كان تعريجنا "إن هذا لشيءٌ عجاب" وتلددنا وتبلدنا وقلنا يا أصحابنا: انطلقوا إلى أبي الحسن الضرير، وإن كان مضربه بعيداً فإنا لا نجد سكوننا إلا معه، ولا نظفر بضالتنا إلا عنده، لزهده وعبادته وتوحده وشغله بنفسه مع زمانته في بصره، وورعه، وقلة فكره في الدنيا وأهلها؛ وطوينا الأرض إليه، ودخلنا عليه، وجلسنا حواليه في مسجده، ولما سمع بنا أقبل على كل واحد منا يلمسه بيده ويرحب به، ويدعو له ويقرب، فلما انتهى أقبل علينا وقال: أمن السماء نزلتم علي؟ والله لكأني قد وجدت بكم مأمولي، وأحرزت غاية سولي، قولوا لي غير محتشمين: ما عندكم من أحاديث الناس؟ وما عزم عليه هذا الوارد؟ وما يقال في أمر ذلك الهارب إلى قايين، وما الشائع من الأخبار؟ وما الذي يتهامس به ناس دون ناس؟ وما يقع في هواجسكم ويستبق إلى نفوسكم؟ فإنكم برد الآفاق، وجوالة الأرض، ولقاطة الكلام، ويتساقط إليكم من الأقطار ما يتعذر على عظماء الملوك وكبراء الناس: فورد علينا من هذا الإنسان ما أنسى الأول والثاني، ومما زاد في عجبنا أنا كنا نعده في طبقةٍ فوق طبقات جميع الناس فخففنا الحديث معه، وودعناه، وخنسنا من عنده، وطفقنا نتلاوم على زيارتنا لهؤلاء القوم لما رأينا منهم، وظهر لنا من حالهم، وازدريناهم، وانقلبنا متوجهين إلى دويرتنا التي غدونا منها مستطرقين كالين، فلقينا في الطريق شيخاً من الحكماء يقال له أبوالحسن العامري، وله كتابٌ في التصوف قد شحنه بعلمنا وإشارتنا، وكان من الجوالين الذين نقبوا في البلاد واطلعوا على أسرار الله في العباد؛ فقال لنا: من أين درجتم؛ ومن قصدتم. فأجلسناه في مسجد، وعصبنا حوله، وفصصنا عليه قصتنا من أولها إلى آخرها، ولم نحذف منها حرفاً. فقال لنا: في طي هذه الحال الطارئة غيبٌ لا تقفون عليه، وسرٌ لا تهتدون إليه، وإنما غركم ظنكم بالزهاد، وقلتم لا ينبغي أن يكون الخبر عنهم كالخبر عن العامة، لأنهم الخاصة، ومن الخاصة خاصة الخاصة، لأنهم بالله يلوذون، وإياه يعبدون، وعليه يتوكلون، وإليه يرجعون، ومن أجله يتهالكون، وبه يتمالكون.

قلنا له: فإن رأيت يا معلم الخير أن تكشف عها هذا الغطاء، وترفع هذا الستر، وتعرفنا منه ما وهب الله لك من هذا الغيب، لنكون شاكرين، نكون من المشكورين. فقال: نعم، أما العامة فإنها تلهج بحديث كبرائها ساستها لما ترجو من رخاء العيش وطيب الحياة وسعة المال ودرور المنافع واتصال لجلب ونفاق السوق وتضاعف الربح؛ فأما هذه الطائفة العارفة بالله، العاملة لله، فإنها مولعةٌ أيضاً بحديث الأمراء، والجبابرة العظماء، لتقف على تصاريف قدرة الله فيهم، وجريان أحكامه عليهم، ونفوذ مشيئته في محابهم ومكارههم في حال النغمة عليهم، والانتقام منهم، ألا ترونه قال جل ثناؤه: "حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون"، وبهذا الاعتبار يستنبطون خوافي حكمته، ويطلعون على تتابع نعمته وغرائب نقمته، وها هنا يعلمون أن كل ملكٍ سوى ملك الله زائل، وكل نعيمٍ غير نعيم الجنة حائل، ويصير هذا كله سبباً قوياً لهم في الضرع إلى الله، واللياذ بالله، والخشوع له، والتوكل على الله، وينبعثون به من حران الإباء، إلى انقياد الإجابة، ويتنبهون من رقدة الغفلة، ويكتحلون باليقظة من سنة السهو والبطالة، ويجدون في أخذ العتاد، واكتساب الزاد إلى المعاد، ويعملون في الخلاص من هذا المكان الحرج بالمكاره، المحفوف بالزايا، الذي لم يفلح فيه أحدٌ إلا بعد أن هدمه وثلمه، وهرب منه، ورحل عنه إلى محلٍ لا داء فيه ولا غائلة؛ ساكنه خالد، ومقيمه مطمئن، والفائز به منعم، والواصل إليه مكرم، وبين الخاصة والعامة في هذه الحال وفي غيرها فرق يضح لمن رفع الله طرفه إليه، وفتح باب السر فيه عليه، وقد يتشابه الرجلان في فعل، وأحدهما مذموم، والآخر محمود، وقد رأينا مصلياً إلى القبلة وقلبه معلق بإخلاص العبادة، وآخر إلى جانبه أيضاً يصلي إلى القبلة وقلبه في طر ما في كم الآخر، فلا تنظروا من كل شيء إلى ظاهره إلا بعد أن تصلوا بنظركم إلى باطنه، فإن الباطن إذا واطأ الظاهر كان توحداً، وإذا خالفه إلى الحق كان وحدةً، وإذا خالفه إلى الباطل كان ضلالةً، وهذه المقامات مرتبةٌ لأصحابها، وموقوفةٌ على أربابها؛ ليس لغير أهلها فيها نفسٌ، ولا لغير مستحقها منها قبس.

قال الشيخ الصوفي: فوالله ما زال ذلك الحكيم يحشو آذاننا بهذه وما اشبهها، ويملأ صدورنا بما عنده حتى سررنا وانصرفنا إلى متعشانا وقد استفدنا على يأسٍ منا فائدةً عظيمة لو تمنيناها بالغرم الثقيل والسعي الطويل لكان الربح معنا، والزيادة في أيدينا.

فلما سمع الوزير هذا عجب وقال: لا أدري: أكلام أبي سليمان في ذلك الاحتجاج أبلغ، أم الحكاية عن المعتضد أشفى، أم رواية الشيخ الصوفي أطرف، وما علمت أن في البحث عن سر الإرجاف هذه اللطيفة الخفية، وهذه الحجة الجلية، وكنت أرى أن الصوفية لا يرجعون إلى ركنٍ من العلم، ونصيبٍ من الحكمة، وأنهم إنما يهذون بما لا يعلمون، وأن بناء أمرهم على اللعب واللهو والمجون. فقلت: لو جمع كلام أئمتهم وأعلامهم لزاد على عشرة آلاف ورقة عمن نقف عليه في هذه البقاع المتقاربة، سوى ما عند قومٍ آخرين لا نسمع بهم، ولا يبلغنا خبرهم. قال: فاذكر لي جماعةً منهم. قلت: الجنيد بن محمد الصوفي البغدادي العالم، والحارث بن أسد المحاسبي، ورويم، وأبو سعيد الخراز، وعمرو بن عثمان المكي، وأبو يزيد البسطامي، والفتح الموصلي، وهو الذي سمع وهو يقول: إلى متى ترددني في سكك الموصل، أما آن للحبيب أن يلقى حبيبه؟ فمات بعد جمعة.

فقال: هذا عجب. ولقد مر في هذا الفن ما كان فوق حسباني وأكثر مما كان في ظني، وكم من شيء حقيرٍ يطلع منه على أمرٍ كبير.

وقال: أنشدني شيئاً؛ فأنشدته قول الشاعر:

رجعت على السفيه بفضل حلمي

 

وكان تحلمي عنـه لـجـامـا

وظن بي السفاه فلـم يجـدنـي

 

أسافهه وقلـت لـه: سـلامـا

فقـام يجـر رجـلـيه ذلــيلاً

 

وقد كسب المذلة والـمـلامـا

وفضل الحلم أبلغ فـي سـفـيهٍ

 

وأحرى أن ينال به انتـقـامـا

فقال: ما أعجب أمر العرب، تأمر بالحلم مرةً، والصبر والكظم مرة، وتحث بعد ذلك على الانتصاف وأخذ الثأر، وتذم السفه وقمع العدو! وهكذا شأنها في جميع الأخلاق؛ أعني أنها ربما حضت على القناعة والصبر والرضا بالميسور، وربما خالفت هذا، فأخذت تذكر أن ذلك فسالةٌ ونقصان همةٍ ولين عريكةٍ ومهانة نفس؛ وكذلك أيضاً تحث على البسالة والإقدام والانتصار والحمية والجسارة؛ وربما عدلت إلى أضداد هذه الأخلاق والسجايا والضرائب والأحوال؛ في أوقاتٍ يحسن فيها بعضها، ويقبح بعضها، ويعذر صاحبها في بعضها، ويلام في بعضها؛ وذلك لأن الطبائع مختلفة، والغرائز متعادية، فهذا يمدح البخل في عرض الحزم، وهذا يحمد الاقتصاد في جملة الاحتياط، وهذا يذم الشجاعة في عرض طلب السلامة؛ وليس في جميع الأخلاق شيءٌ يحسن في كل زمانٍ وفي كل مكانٍ، ومع كل إنسان، بل لكل ذلك وقتٌ وحينٌ وأوان.

قال: ولعمري إن القيام بحقائق هذه الأشياء وحدودها صعبٌ، لأنها لا توجد إلا متلابسةً ومتداخلةً، وتخليص كل واحدٍ منها بحده وحقيقته ووزنه مما يفوت ذرع الإنسان الضعيف المنة، المنتثر الطينة.

قال: ومنه أن الحكيم قال للإسكندر: أيها الملك أرد حياتك لرجالك، ولا ترد رجالك لحياتك؛ ولو قلب عليه قالبٌ فقال: لا، ولكن أرد رجالك لحياتك، ولا ترد حياتك لرجالك، لكان الفضل واقعاً، والدعوى قائمة.

وكان يحكى عن أعرابي حديثٌ مضحكٌ: قيل لأعرابي: أتريد أن تصلب في مصلحة الأمة؟ فقال: لا، ولكني أحب أن تصلب الأمة في مصلحتي.

قال: وليس يجوز أن يكون الناس مختلفين في ظاهرهم بالصور والحلي حتى يعرف بها زيدٌ من عمرو، وبكرٌ من خالد، ولا يختلفون في باطنهم حتى يكون هذا مطبوعاً على الشح وإن مدح الجود، وهذا مجبولاً على الجبن وإن تشيع للشجاعة؛ وليس يجوز في الحكمة أن يكثروا ولا يختلفوا، وليس يجوز أيضاً أن يضم الجنس والنوع ولا يأتفلوا؛ وكل ما أساغته الحكمة أبرزته القدرة، وكل ما جادت به القدرة شهدت له الحكمة؛ فسبحان من له هذا التدبير اللطيف، وهذا العز الغالب، وهذا السر الخافي، وهذه العلانية البادية، وهذا الفعل المحكم، وهذا النعت المستعظم.

وحكيت أيضاً في شيء جرى، قال حكماء فارس: قد جربنا الملوك، فإذا ملكنا السمح الجواد جادت علينا السماء والأرض، وإذا ملكنا البخيل بخلت علينا السماء والأرض.

قال أبو سليمان: هذا إذا صح فهو شاهد الفيض الإلهي المتصل بالملك السمح، ونضوبه عن الملك البخيل، لأن الملك إلهٌ بشري.

وقال مرةً: ما التمني؟ - وقد كان جرى ما اقتضى السؤال عنه -.

فقلت: أحفظ نصاً لبعض الحكماء: إن التمني فضل حركة النفس. فقال: جوابٌ رشيق وإن كان فقيراً إلى البسط.

فقال: هات من حديث يونان شيئاً آخر، فقلت: أرسطوطاليس: لو كنا نطل العلم لنبلغ غايته كنا قد بدأنا العلم بنقيضه، ولكنا نطلبه لننقص كل يومٍ من الجهل، ونزداد كل يومٍ من العلم.

قال: حدثني بشيء فيه جوابٌ حاضر، وللبديهة فيه توقدٌ ظاهر.

فحدثت أن رجلاً أتى الزهري فسأله أن يحدثه ويروي له؛ فأبى عليه، فقال له الرجل: إن الله لم يأخذ الميثاق على الجهال أن يتعلموا حتى أخذ الميثاق على العلماء أن يعلموا؛ فقال: صدقت، وحدثه. وحدثنا القاضي أبو حامد المروروذي؛ قال: وقف سائلٌ من هؤلاء الأنكاد علينا في جامع البصرة وفي المجلس ابن عبدلٍ المنصوري، وابن معروف، وأبو تمام الزينبي، فسأل وألح؛ فقلت له من بين الجماعة - وقد ضجرت من إلحاحه وصفاقة وجهه -: يا هذا: نزلت بوادٍ غير ذي زرع. قال: صدقت، ولكن يجبى إليه ثمرات كل شيء. فضحكت الجماعة، ووهبنا له دراهم.

ومن الجواب الحاضر المسكت الذي حز الكبد ونقب الفؤاد ما جرى لأبي الحسين البتي مع الشريف محمد بن عمر، فإن ابن عمر قال للبتي: أنت والله شمامةٌ ولكنها مسمومة. فقال البتي على النفس: لكنك أيها الشريف شمامةٌ مشمومةٌ، عطرت الأرض بها، وسارت البرد بذكرها.

وقال نصر بن سيارٍ بخراسان لأعرابي: هل أتخمت قط. قال: أما من طعامك وطعام أبيك فلا. فيقال: إن نصراً حم من هذا الجواب أياماً؛ وقال: ليتني خرست ولم أفه بسؤال هذا الشيطان.

وجرى حديث الذكور والإناث، فقال الوزير، قد شرف الله الإناث بتقديم ذكرهن في قوله عز وجل: "يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور". فقلت: في هذا نظر؛ فقال: ما هو: قلت قدم الإناث - كما قلت - ولكن نكر، وأخر الذكور ولكن عرف، والتعريف بالتأخير أشرف من النكرة بالتقديم. ثم قال: هذا حسن. قلت: ولم يترك هذا أيضاً حتى قال: "أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً" فجمع الجنسين بالتنكير مع تقديم الذكران، فقال: هذا مستوفى.

وقال: ما معنى كأسٌ أنف؟ فكان من الجواب أن يعقوب قال: يقال كأسٌ أنف، أي لم يشرب منها قبل ذلك؛ وكذلك يقال: روضةٌ أنف، إذا لم يكن رعاها أحد.

وقال لقيط:

إن الشواء والنشيل والرغـف

 

والقينة الحسناء والكأس الأنف

للـطـاعـنـين الـخــيل

 

والـخـيل قـــطـــف

قال: ما النشيل؟ فإن الشواء والرغف معروفان. قلت: ما ضمته القدر من اللحم وغيره، لأنه ينشل ويغرف؛ فقال: هذا بابٌ إن ألححنا عليه جوع.

قال: ما تحفظ في حديث الأكل؟ قلت: الأكل والذم.

ومن مليحه ما حضرني. قيل لجميز: ما تشتهي؟ قال: بسيسٌ مقليٌ بين غليان قدور، على رائحة شواء، بجنب خبيص. فضحك - أضحك الله سنه بالفرح والسرور. وانتظام الأحوال واتساق الأمور -. وقال: هات حديثاً نخرج به مما كنا فيه. فقلت: كتب سعد بن أبي وقاص إلى رستم صاحب الأعاجم: إسلامكم أحب إلينا من غنائمكم؛ وقتالكم أحب إلينا من صلحكم. فبعث إليه رستم: أنتم كالذباب إذ نظر إلى العسل فقال: من يوصلني إليه بدرهمين، فإذا نشب فيه قال: من يخرجني منه بأربعة، وأنت طامع، والطمع سيرديك. فأجابه سعد: أنتم قومٌ تحادون الله وتعاندون أنفسكم، لأنكم قد علمتم أن الله يريد أن يحول الملك عنكم إلى غيركم، وقد أخبركم بذلك حكماؤكم وعلماؤكم، وتقرر ذلك عندكم، وأنت دائماً تدفعون القضاء بنحوركم، وتتلقون عقابه بصدوركم، هذه جرأةٌ منكم وجهلٌ فيكم، ولو نظرتم لأبصرتم، ولو أبصرتم لسلمتم، فإن الله غالبٌ على أمره، ولما كان الله معكم كانت علينا ريحكم، والآن لما صار الله معنا صارت ريحنا عليكم، فانجوا بأنفسكم، واغتنموا أرواحكم، وإلا فاصبروا لحر السلاح وألم الجراح، وخزي الافتضاح، والسلام.

كتب حذيفة إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إن العرب قد تغيرت ألوانها ولحومها. فكتب عمر إلى سعد: ارتد للعرب منزلاً مراحاً. فارتاد لهم الكوفة، وهي بقعةٌ حصباء، ورملةٌ حمراء، فقال سعد: اللهم رب السماء وما أظلت، والأرض وما أقلت، والريح وما ذرت، بارك لنا في هذه الكوفة.

وسمع عمر منشداً ينشد:

ما ساسنا مثلك يابن الخطاب

 

أبر بالأقصى وبالأصحاب

بعد النبي صاحب الكتاب

 

 

فنخسه عمرو وقال: أين أبو بكر ويلك.

قال عمر وهو بمكة: لقد كنت أرعى إبل الخطاب بهذا الوادي في مدرعة صوف، وكان فظاً يتعبني إذا عملت، ويضربني إذا قصرت، وقد أمسيت ليس بيني وبين الله أحدٌ، ثم تمثل:

لا شيء مما ترى تبقي بشاشتـه

 

يبقى الإله ويودي المال والولد

لم تغن عن هرمزٍ يوماً خزائنه

 

والخلد قد حاولت عادٌ فما خلدوا

ولا سليمان إذ تسري الرياح به

 

والإنس والجن فيما كلفوا عبـد

أين الملوك التي كانت نوافلهـا

 

من كل أوبٍ إليها راكبٌ يفـد

حوضٌ هنالك مورودٌ بلا كذبٍ

 

لابد من وردنا يوماً كما وردوا

وقال عمر: خير الدواب الحديد الفؤاد، الصحيح الأوتاد.

وقال عمر: كانت العرب أسداً في جزيرتها يأكل بعضها بعضاً، فلما جمعهم الله بمحمد لم يقم لهم شيء.

رأى رستم في النوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ سلاح فارس وختم عليه ودفعه إلى عمر، فارتاع رستم من ذلك وأيقن أنه هالك.

وقال: أنشدني شيئاً، فأنشدته لبعض آل أبي طالب:

ولست بمذعنٍ يوماً مطيعـاً

 

إلى من لست آمن أن يجورا

ولكني متى ما أخش مـنـه

 

أحالف صارماً عضباً ثؤورا

وأنزل كـل رابـيةٍ بـراحٍ

 

أكون على الأمير بها أميرا

وأنشدني لعبد الله بن الزبير، ولقد تمثل به:

إني لمن نبعةٍ صمٍ مكـاسـرهـا

 

إذا تقادحت القصباء والـعـشـر

ولا ألين لغير الـحـق أتـبـعـه

 

حتى يلين لضرس الماضغ الحجر

وحدثته أن المأمون قال: قليل السفه يمحو كثير الحلم، وأدنى الانتصار يخرج من فضل الاغتفار، وعلى طالب المعروف المعذرة عند الامتناع، والشكر عند الاصطناع، وعلى المطلوب إليه تعجيل الموعود، والإسعاف بالموجود.

فقال: من أفضل هؤلاء؟ يعني بني العباس. فكان الجواب أن المنصور أنقدهم، والمأمون أمجدهم، والمعتصم أنجدهم، والمعتضد أقصدهم. فقال: كذلك هو. وقال: فالباقون؟ قلت ليس فيهم بعد هؤلاء من يوحد بالذكر، لأنه في نقصه وزيادته مشاكلٌ لغيره. فقال: لله درك.