الجزء الثالث - الليلة الخامسة والثلاثون

الليلة الخامسة والثلاثون

وقال ليلةً: ما الفرق بين الإرادة والاختيار؟ فكان من الجواب أن كل مرادٍ مختار، وليس كل مختارٍ مراداً، لأن الإنسان يختار شرب الدواء الكريه وضرب الولد النجيب وهو لا يريد، ويختار طرح متاعه في البحر إذا ألجىء وهو لا يريد، وهما وإن كانا انفعالين فأحدهما - وهو الاختيار - لا يحدث إلا عن جولان وتنقيرٍ وتمييز، والآخر - وهو الإرادة - يفجأ ويبغت وربما حمل على طلب المراد بالكره الشديد؛ وفي عرض الاختيار سعةٌ للتمكن، وليس ذلك في عرض الإرادة. والعرب تستعمل الإراغة في موضع الإرادة، والأول من راغ يروغ، والثاني من راد يرود، والهمزة مجتلبةٌ للتعدي.

قال: فما الفرق بين المحبة والشهوة؟ فكان الجواب أن الشهوة ألصق بالطبيعة، والمحبة أصدر عن النفس الفاضلة، وهما انفعالان، إلا أن أحد الانفعالين أشد تأثراً، وهو انفعال الشهوة، وأنه يقال: شهي وأشهى، ويقال في الآخر: حب وأحب، ويتداخلان كثيراً بالاستعمال، لأن اللغة جاريةٌ على التوسع، كما هي جاريةٌ على التضيق، ومن ناحية التضيق فزع إلى التحديد والتشديد، ومن ناحية التوسع جري على الاقتدار والاختيار، وفي عرض هذين بلاءٌ آخر، لأنه بين الإيجاز والإطناب، وبين الكناية والتصريح، وبين الإنجاز والإبطاء. فقال: هذا باب.

ثم ناولني رقعةً بخطه فيها مطالب نفيسةٌ تأتي على علمٍ عظيم، وقال: باحث عنها أبا سليمان وأبا الخير ومن تعلم أن مجاراته فائدةً من عالمٍ كبير، ومتعلمٍ صغير، فقد يوجد عند الفقير بعض ما لا يوجد عند الغني، ولا تحقر أحداً فاه بكلمةٍ من العلم، أو أطاف بجانبٍ م الحكمة، أو حكم بحالٍ من الفضل؛ فالنفوس معادن، وحصل ذلك كله وحرره في شيء وجئني به، وكان في الرقعة:  ما النفس؟ وما كمالها؟ وما الذي استفادت في هذا المكان؟ وبأي شيء باينت الروح؟ وما الروح؟ وما صفته؟ وما منفعته؟ وما المانع من أن تكون النفس جسماً أو عرضاً أو هماً؟ وهل تبقى؟ وإن كانت تبقى فهل تعلم ما كان الإنسان فيه ها هنا؟ وما الإنسان؟ وما حده؟ وهل الحد هو الحقيقة، أم بينهما بون؟ وما الطبيعة؛ وهلا أغنى الروح عن النفس، أو هلا أغنت النفس عن الروح؟ وهلا كفت الطبيعة؟ وما العقل؟ وما أنحاؤه؟ وما صنيعه؟ وهل يعقل العقل؟ وهل تتنفس النفس! وما مرتبته أعني العقل عند الإله؟ وهل ينفعل؟ وهل يفعل؟ وإن كان ينفعل ويفعل فقسط الفعل فيه أكثر من قسط الانفعال؟ وما المعاد المشار إليه؟ أهو للإنسان؟ أم لنفسه؟ أم لهما؟ وما الفرق بين الأنفس، أعني نفس عمرو وزيدٍ وبكرٍ وخالد؟ ثم ما الفرق بين أنفس أصناف الحيوان؟ وهل الملك حيوان؟ فقد علمت أنه يقال له: حيٌ، وهل فيه حياة؟ وعلى أي وجهٍ يقال: إن الله عز وجل حيٌ والملك حي والإنسان حي والفرس حي؟ وهل يقال: الطبيعة حية، والنفس حية، العقل حي؟ فإن هذا وما أشبهه شاغلٌ لقلبي، وجاثمٌ في صدري، ومعترضٌ بين نفسي وفكري؛ وما أحب أن أبوح به لكل أحدٍ، وقد بينته في هذه الرقعة، فإن أحببت أن تعرضها على أبي سليمان فافعل، ولكن لا تدع خطي عنده، بل انسخه له، وحصل ما يجيبك به، ويصدع لك بحقيقته، ولخصه، ورنه بلفظك السهل، وإفصاحك البين، وإن وجب أن تباحث غيره فافعل؛ فهذا هذا؛ وإن كان الرجوع فيه إلى الكتب الموضوعة من أجله كافياً، فليس ذلك مثل البحث عنه باللسان، وأخذ الجواب عنه بالبيان، والكتاب موات، ونصيب الناظر فيه منزور، وليس كذلك المذاكرة والمناظرة والمواتاة، فإن ما ينال من هذه أغض وأطرأ، وأهنأ وأمرأ، واجعل هذه الخدمة مقدمةً على كل مهمٍ لك، فإني ناظرك، طامعاً في الجواب المقنع الشافي.

فعرضتها كما رسم على أبي سليمان وقرأتها عليه، وتمهلت في إيرادها بحضرته، فلما فهمها ووقف عليه عجب وقال: هذه مسائل المتحكمين، وطلبات المدلين، واقتراحات المقتدرين، ومنية الأولين والآخرين.

قلت: هو كما قلت أيها الشيخ، ولابد من جوابٍ يعرض عليه يأتي على بعض مآرب النفس، وإن لم يأت على قاصية ما في المطلوب، فقال كلاماً كثيراً واسعاً أنا أحكيه على وجهه من طريق المعنى، وإن انحرفت عن أعيان لفظه، وأسباب نظمه، فإن ذلك لم يكن إملاءً ولا نسخاً، وأجتهد أن ألزم متن المراد، وسمت المقصود - إن شاء الله - عز وجل.

قال: أما قوله: ما النفس، فإن التحديد يعوز، والرسم لا يشفي، والوصف مقصرٌ عن الغاية، لأنها لايس لها جنسٌ ولا فصل فينشأ الحد بهما ومنهما؛ والاسم الشائع - أعني النفس - أخلص إلى المطلوب، وأحضر للمقصود من التحديد، ولهذا ما اختلف الناس قديماً وحديثاً في حدها؛ فقال قائل: النفس مزاج الأركان. وقال قائل: النفس تألف الأسطقسات؛ وقال قائل: النفس عرضٌ محركٌ بذاته. وقال قائل: النفس هوائية. وقال قائل: النفس روح حارة. وقال قائل: النفس طبيعةٌ دائمة الحركة. وقال قائل: النفس تمامٌ لجسمٍ طبيعيٍ ذي حياة. وقال قائل: النفس جوهرٌ ليس بجسمٍ محركٌ للبدن. وعلى هذا؛ ولعل آخرين يقولون في تحديدها ونعتها أقوالاً أخر، لأن الملحوظ بسيط، والمدروك بعيد، والناظرين كثيرون، والباحثين مختلفون، والكثرة فاتحة الاختلاف، والاختلاف جالبٌ للحيرة، والحيرة خانقةٌ للإنسان، والإنسان ضعيف الأسر، محدود الجملة، محصور التفصيل، مقصور السعي، مملوك الأول والآخر، غشاؤه كثيف، وباعه قصير، وفائته أكثر من مدركه، ودعواه أحضر من برهانه، وخطؤه أكثر من صوابه، وسؤاله أظهر من جوابه، فعلى هذا كله الاعتراف بها - أعني بالنفس وبوجدانها - أسهل من الفحص عن كنهها وبرهانها. قال: وإنما صعب هذا لأن الإنسان يريد أن يرعف النفس وهو لا يعرف النفس إلا بالنفس، وهو محجوبٌ عن نفسه بنفسه؛ وإذا كان الأمر على هذا فالأمر أن كل من كانت نفسه أصفى، ونوره أشع، ونظره أعلى، وفكره أثقب، ولحظه أبعد، كان من الشك أنجى، وعن الشبهة أنأى، وإلى اليقين أقرب؛ والإنسان ذو أشياء كثيرةٍ، من جملتها نفسه، فلكثرة ما هو به كثيرٌ يعجز عن إدراك ما هو به واحدٌ، أي إنسان، وكيف لا يكون هذا النعت حقاً، وهذا المقول صدقاً، وهو مركبٌ في مربك، والنفس مبسوطة، وإنما فيه جزءٌ يسير ونصيبٌ قليل من ذلك البسيط، فكيف يدرك بجزء منها كلها وبقليل منها جميعها؛ هذا متعذرٌ إن لم يكن محالاً، وبعيدٌ إن لم يكن معدوماً؛ ويكفي أن تعلم أن النفس قوةٌ إلهية واسطة بين الطبيعة المصرفة للأسطقسات والعناصر المتهيئة، وبين العقل المنير لها، الطالع عليها، الشائع فيها، المحيط بها؛ وكما أن الإنسان ذو طبيعة لآثارهما الظاهرة في بدنه كذلك هو ذو نفس، لآثارها الظاهرة في آرائه وأبحاثه، ومطالبه ومآربه؛ وكذلك هو ذو عقلٍ لتمييزه وتصفحه، واختباره وفحصه واستنباطه، ويقينه وشكه، وعلمه وظنه، وفهمه ورويته وبديهته وذكره، وذهنه وحفظه وفكره، وحكمته وثقته وطمأنينته؛ وكذلك هو ذو اعترافٍ بالأحد الذي لا سبيل إلى جحده، والبراء من هويته، وكيف يجد أثر الجحد، أو يحس بلمسةٍ من الشك؟ وسنخه ينبو عن ذلك، وفطرته تأباه، ولهذا النبو والإباء يفزع إليه، ويتوكل عليه، ويطلب الفرج من عنده، ويلتمس الخير من لدنه، فانظر إلى هذه السلسلة الوثيقة التي لا يفصمها شيءٌ لا في زمانٍ ولا في مكانٍ، ولا في يقظةٍ ولا في منامٍ؛ فهذا هذا؟ وفيه مقنع.

وأما فعل النفس، فقد وضح أنه إثارة العلم من مظانه؛ واستخلاصه من العقل بشهادته، مع إفاضاتٍ لها أخر، وإنالاتٍ منها جليلة عند الإنسان، بها ينال ما يكمل به، وبكماله يجد السعادة، وبسعادته ينجو من شقوته.

وأما قوله: ما الذي استفادت في هذا المكان، فإنها أفادت وما استفادت، إلا أن تجعل إفادتها للقابل منها استفادةً لها؛ وفي هذا تجوزٌ ظاهر، ولا يقال للشمس إذا طلعت على بسيط الأرض والعالم: ما الذي استفادت. ولكن يقال: ما الذي أفادت: فيعلم حينئذٍ بالعيان أنها أفادت أشياء كثيرة، صوراً مختلفة، ومنافع جمةً بالقصد الأول؛ وأما القصد الثاني فأضداد هذه، وهذا القصد مفروضٌ باللفظ ليكون معيناً على تبليغ الحكمة إلى أهلها.

وأما قوله: بأي شيء باينت النفس الروح فهو ظاهر، وذلك أن الروح جسمٌ يضعف ويقوى، ويصلح ويفسد، وهو واسطةٌ من البدن والنفس، وبه تفيض النفس قواها على البدن، وقد يحس ويتحرك، ويلذ ويتألم؛ والنفس شيءٌ بسيطٌ عالي الرتبة، بعيدٌ عن الفساد، منزه عن الاستحالة.

وأما المانع أن تكون النفس جسماً فللبساطة التي وجدت للنفس ولم توجد للجسم، وبيان هذا أن كل نعت أطلق على الجسم نزهت عنه النفس، وكل نعت أطلق على النفس نبا عنه الجسم؛ فذاك كان المانع من ذلك، وقد أتت مذاكرةٌ في النفس منذ ليالٍ بشرحٍ مغنٍ، وبيانٍ تام، إلا أن هذا المكان أحوج إلى الإلمام، ولم يأت على ما في النفس. وإذا بطل أن تكون النفس جسماً فهي بألا تكون عرضاً أقمن وأخلق، لأنه لا قوام للعرض بنفسه.

وأما قوله: وهل تبقى؟ فكيف لا تبقى وهي مبسوطةٌ لا يدخل عليها ضد، ولا يدب إليها فساد، ولا يصل إلى شيء منها بلى، والإنسان إنما يبلى ويفسد ويخلق ويبطل ويموت ويفقد، لأنه يفارق النفس، والنفس تفارق ماذا حتى تكون في حكم الإنسان بشكله؟ ولو كانت كذلك كانت لعمري تموت وتبلى، فأما والإنسان بها كان حياً وجب ألا يكون حكمها حكم الإنسان.

وأما قوله: أو هما، فقد بان أن النفس متى لم تكن جسماً، ولا عرضاً على حدةٍ أنها لا تكون أيضاً بهما نفساً، لأن البينونة التي منعت في الأول هي التي تمنع في الثاني، وليست النفس والعرض كالخل والسكر حتى إذا جمع بينهما كان كل منهما شيء آخر، لأن الجسم والجسم إذا اختلطا كان منهما شيءٌ ما، له قوامٌ ما، وإن ذلك القوام مستلٌ منهما، وليس كذلك البسيط وغير البسيط، فهذا هذا.

وأما قوله: وهل تفنى، فقد بان أنها تبقى ولا تفنى، وليس يطرأ عليها ما يفنيها، لبساطتها وبعدها من التركيب العجيب المعرض للتحلل. وأما قوله: وهل تعلم ما كان فيه الإنسان ها هنا، فإن هذا بعيد من الحق لأنها قد وصلت إلى معدن الكرامة وجنة الخلد، فلا حاجة بها إلى علم العالم السفلي الذي لا ثبات له ولا صورة، لغلبة الحيلولة عليه، وتذكر الحيلولة حيلولة، وذلك دليل النقص، واعتراض الألم، ولو أن إنساناً نقل من كرب حبسٍ ضيقٍ إلى روض بستان ناضر بهيج مونق، ثم تذكر ما كان فيه في حال ما هو عليه لكان ذلك مؤذياً لنفسه، وكارباً لقلبه، وقادحاً في روحه، وآخذاً من حبوره وغبطته، ومدخلاً للتنغيص عليه في نشوته.

وأما قوله: وما الإنسان، فالإنسان هو الشيء المنظوم بتدبير الطبيعة للمادة المخصوصة بالصور البشرية، المؤيد بنور العقل من قبل الإله؛ وهذا وصفٌ يأتي على القول الشائع عن الأولين إنه حيٌ ناطقٌ مائتٌ أي حيٌ من قبل الحس والحركة، ناطقٌ من قبل الفكر والتمييز، مائتٌ من قبل السيلان والاستحالة، فمن حيث هو حيٌ شريك الحيوان الذي هو جنسه، ومن حيث هو مائتٌ هو شريك ما يتبدل ويتحلل، ومن حيث هو ناطقٌ هو إنسانٌ عاقلٌ حصيف، ومن حيث يبلغ إلى مشاكهة الملك بقوة الاختيار البشري، والنور الإلهي، أعني ينعت في حياته هذه التي وهبت له بدءاً، بصحة العقيدة وصلاح العمل وصدق القول - هو ملك، فإن لم يكن ملكاً فهو جامع لصفاته، ومالكٌ لحليته، ولما كان جنسه مشتملاً على التفاوت الطويل العريض، كان نوعه مشتملاً على التفاوت الطويل العريض؛ ومن كان نوعه كذك كانت آحاده كذلك، وكما أن الجنس يرتقي إلى نوعٍ كامل، كذلك النوع يرتقي إلى شخص كامل.

وأما قوله: هل الحد هو الحقيقة أو بينهما بون، فإن الحد راجعٌ إلى واضعه ومتقصيه بدلالة أنه يضعه ويفصله، ويخلصه ويسويه ويصلحه. فأما الحقيقة فهي الشيء وبها هو ما هو، حده صاحبه أم لم يحده، رسمه قاصده أم لم يرسمه، فملحوظ الحقيقة عين الشيء وموضوع الحد ليس هو عين الشيء.

وأما قوله: وما الطبيعة فهي أيضاً قوةٌ نفسية، فإن قلت عقليةٌ لم تبعد، وإن قلت إلهيةٌ لم تبعد، وهي التي تسري في أثناء هذا العالم محركةً ومسكنة، ومجددةً ومبلية، ومنشئةً ومبيدة، ومحييةً ومميتة، وتصاريفها ظاهرةٌ للحسائس، وهي آخر الخلفاء في هذا العالم، وهي بالمواد أعلق، والمواد لها أعشق؛ وليس لها ترقي النفس في الثاني إلى عالم الروح، لأنه لا كون هناك ولا فساد، فلو رقيت إلى هنالك لبقيت عاطلة، وليس كذلك النفس، فإن لها في عالمها البهجة والغبطة، والحبور والسرور، والدوام والخلود والخلافة الإلهية، وهذا هناك في مقابلة ما كان لها ها هنا من الفضائل التي لا يأتي عليها إحصاء، ولا يحصلها استقصاء.

وأما قوله: وهلا أغنى الروح عن النفس، فهو يغني عنها، ولكن في جنس الحيوان الذي لم يكمل فيكون إنساناً. فأما في الإنسان فلا، لأن الإنسان بالنفس هو إنسانٌ لا بالروح، وإنما هو بالروح حيٌ فحسب.

وأما قوله: وهلا أغنت النفس عن الروح، فإن الروح كالآلة للنفس حتى ينفذ تدبيرها بوساطته في صاحب الروح، وليس ذلك لعجز النفس، ولكن لعجز ما ينفذ فيه التدبير، وإذا حقق هذا الرمز لم يكن هناك عجز لأنه نظامٌ موجودٌ على هذه الصورة، وصورةٌ قائمةٌ على هذا النظام، فليس لأحد أن يعلل ذلك بلم ولا بكيف إلا من طريق الإقناع.

وأما قوله: هلا كفت الطبيعة. فقد كفت في مواضعها التي لها الولاية عليها من قبل النفس، كما كفت النفس في الأشياء التي لها عليها الولاية من قبل العقل، كما كفي العقل في الأمور التي له الولاية عليها من قبل الإله؛ وإن كان مجموع هذا راجعاً إلى الإله، فإنه في التفصيل محفوظ الحدود على أربابها؛ وهذا كالملك الذي له في بلاده جماعةٌ فيصدرون عن رأيه، وينتهون إلى أمره، ويتوخون في كل ما يعقدونه ويحلونه، وينقضونه ويبرمونه، ما يرجع إلى وفاقه، وكل ذلك منه وله وبأمره، وقد كفاه أولئك القوم ذلك كله.

فإن قال قائلٌ: فكيف مثلت سياسةً إلهيةً بسياسةٍ بشرية، وأني هذه من تلك؟فالجواب أن البشر المسكين لم يجد هذه السياسة من تلقاء نفسه، ولا بما هو به مهينٌ ضعيف عاجزٌ مسكين؛ بل بما فاض عليه من تلك القوى وتلك الصور، فهو إذا أبرز شيئاً أبرز على مثال تلك، لأنه قد أعطى القالب، فقد سهل عليه أن يفرغ فيه، ووهب له الطابع، فهو يختم به؛ وهيىء على ذلك فهو يجري عليه، وهذا سوقٌ إلهي وإن كان الانسياق بشرياً، ونظمٌ ربويٌ وإن كان الانتظام إنسياً؛ وفي الجملة إحدى السياستين، أعني البشرية هي ظلٌ للأخرى، أعني الإلهية، والسفليات منقادةٌ منفعلةٌ للعلويات، والعلويات مستولياتٌ على السفليات، بحق العدل وما هو مقتضاها، ولأن هذه فواعل، أعني العلويات، وتلك قوابل، أعني المنفعلات، ووجب ذلك لأن الصورة في الفاعل أغلب، والهيولى في القابل أغلب، والعالمان متواصلان، والسياستان متماثلتان، والسيرتان متعادلتان، والتدبيران متقابلان، ولكن التبدير إذا نفذ في السفلي يسمى بشرياً، وإذا نفذ في العلوي يسمى إلهياً، وإن كان في التحقيق إلهيين، وإنما اختلفا بحسب الصدور والورود، والفصول والوصول، والشخوص والبلوغ؛ والعادة جارية بأن يشبه الإنسان شيئاً من الأشثياء بالشمس والقمر، ولا يشبه الشمس والقمر بشيء آخر، لأن للأعلى النعت الأول، وللأسفل النعت الأرذل؛ فهذا كما ترى.

وأما قوله: وما العقل، وما أنحاؤه، وما صنيعه؟ فإن الجواب عن هذا لو وقع في خلد كثير، لكان محمولاً على التقصير، وكذلك فيما تقدم؛ ولكن هذا مكان قد اقترح فيه الإيجاز والتقريب، وهذان لا يكونان إلا بحذف الزوائد المفيدة، وإلا بتفريق العلائق الموضحة. وبعد، فالعقل أيضاً قوةٌ إلهية أبسط من الطبيعة، كما أن الطبيعة قوة إلهية ابسط من الأسطقسات، وكما أن الأسطقسات أبسط من المركبات؛ وعلى هذا حتى تنتهي المركبات إلى مركب في الغاية، كما بلغت المبسوطات إلى مبسوطٍ في النهاية؛ فالتقى الطرفان على ما يقال له: كل، فلم يكن بعد ذلك مطلبٌ لا في هذا الطرف ولا في هذا الطرف؛ والعقل هو خليفة الله، وهو القابل للفيض الخالص الذي لا شوب فيه ولا قذى؛ وإن قيل: هو نورٌ في الغاية لم يكن ببعيد، وإن قيل بأن اسمه مغنٍ عن نعته لم يكن بمنكر؛ وإنما عجزنا عن تحديد هذه البسائط لأنا حاولنا عند علمها أن تكون في صورة المركبات أو قريبة منها، وأن تصير لنا أصناماً نتمثلها ونوكل بها؛ وهذا منا تعجرفٌ مردودٌ علينا، وخطأٌ يلزمنا الاعتذار منه إلى كل من أحس به منا؛ وينبغي أن نتوب إلى الله في كل وقتٍ من وصفه بما لا يليق به، ومن طرح الوهم على شيء قد حجبه عن معارفنا، ورفعه عن عقولنا، وقصرنا على حدودنا اللازمة لنا، وأشكالنا المشتملة علينا؛ هذا حديث العقل إذا لحظ في ذروته.
فأما إذا فحص عن آثاره في حضيضه فإنه تمييزٌ وتحصيلٌ وتصفحٌ وحكم وتصويبٌ وتخطئة، وإجازةٌ وإيجابٌ وإباحة؛ وإياك أيها السامع أن يكون مفهومك من هذه الأسماء والأفعال والحروف أشياء متمايزة فتجعل شيئاً واحداً أشياء، ومن كثر الواحد فهو أشد خطأً ممن وحد الكثير، لأن تكثير الواحد انحطاطٌ إلى المركز؛ وتوحيد الكثير استعلاءٌ إلى المحيط، بل يجب أن يكون محصولك منها شيئاً واحداً لم تصل إليه إلا بترادف هذه الكلمات، وتصاحب هذه الصفات. وأما أنحاؤه، فعلى قدر ما يقال: فلان عاقل وفلانٌ أعقل من فلان، وفلانٌ في عقله لوثة، وفلانٌ ليس بعاقل؛ وأصحاب العقل أنصباؤهم منه مختلفة بالقلة والكثرة، والصفاء والكدر، والإنارة والظلمة، واللطافة والكثافة، والخفة والحصافة، كما تجدهم مختلفين في الصور والألوان والخلق بالطول والقصر، والحسن والقبح، والاعتدال والانحراف، والرد والقبول، إلا أن هذا القبيل يدرك بالحس، ويشهد بالعيان، ويعاين بالحضور، وذلك القبيل محجوبٌ عن هذا كله، فلم يجز أن تكون الإحاطة بتفاوت ما غاب عنا في وزن الإحاطة بتفاوت ما حضر، فإنهما ما تباينا ليأتلفا، بل ليختلفا، وهذا التفاوت معترفٌ به إذا اعتبر من خارج، وذلك أنك تجد أصحاب المال أيضاً يتباينون في مقادير ما يملكون من المال، ولا يتفقون على مقدارٍ واحدٍ منه عند جماعتهم، ولا يتفقون على نوعٍ واحدٍ أيضاً من أعيان المال، لأن هذا يملك الصامت، وذاك يملك الناطق، وهذا يمارس القز، وهذا يمارس الصوف، وهذا ينظر في الصرف، وهذا يبيع الحيوان، وكلٌ منهم صاحب مالٍ ومباشرٌ له؛ وعلى هذا المثال احتذى أهل العقل في مطالبهم، فصار هذا يملك بعقله غير ما يملك الآخر، أعني أن هذا ينظر في الهندسة، وهذا في الطب، وهذا في النحو، وهذا في الفقه؛ والعبارة تمنع من إشباع هذا المعنى، وحصر هذا الفن، فعلى هذا أنحاؤه، وإنها لكثيرة إن لم تكن بلا نهاية.

وأما صنيعه، فهو الحكم بقبول الشيء ورده، وتحسينه وتقبيحه، إذا كان المعروض عليه على جهته غير مموه ولا مغشوش، ولا مشتبه فيه ولا ملبوس، فإن كان مموهاً اختلف حكمه، لأن العقل يرى الباطل حقاً في وقت، ويرى الحق باطلاً في وقت، معاذ الله من هذا، ذلك للحس المنقوص، والذهن الملبوس، لأن العارض موه معروضه على العقل، فحكم له بما يستحقه، إلا أن يكون العارض لم يشعر بذلك التمويه، ولم يفطن لذلك الغش، فحينئذ يهديه العقل ويرشده، ويفتح عليه، وينصح له.

وأما قوله: وهل يعقل العقل، فإن الأولى أن يقال: العاقل يقعل بالعقل معقوله، ألا ترى أنه يقال: السراج أضاء البيت، ويبعد أن يقال: أضاء نفسه، لأنه مضيىءٌ بنفسه، فليس به فقرٌ إلى أن يضيء نفسه، وإنما أضاء غيره... ولو عقل العقل لعقل بالعقل، وهذا إذا استمر كان مردوداً، ونحن إذا قلنا: عقل العاقل معقوله، فإنما نصفه بأنه انفعل انفعال كمالٍ، والعقل يرى من هذا الانفعال ألا يتوخى أنه يعقل الإله الذي هو به ما هو، فإنه يجوز أن يضر به انفعالٌ لائقٌ به يكون عبارةً عن شوقه إليه، وكماله به، واقتباسه منه، وهذا صراطٌ حديد، والواطىء عليه على خطر شديد، والوقوف دونه أصدع بالحجة، وأوضح للعذر، لأن الإنسان خوارٌ بالطبع، وإن كان جسوراً بالنفس.

وأما قوله: وهل تتنفس النفس، فإن أريد بذلك النفس النامية والحيوانية فهو قريب، وأما الناطقة فإن ذلك يبعد منها لأن ذلك التنفس استمداد شيء به يكون الشيء حياً أو كالحي؛ والناطقة غنيةٌ عن ذلك.

فإن قيل: فهل تقتبس من العقل وتستمد؟ قيل: هذا لا يسمى تنفساً، وليس اللفظ يبعده عن الحقيقة تأويلٌ في الوضع؛ ولا وجهٌ في الاعتمال وإدخال العويص في المكان الذي يحتاج فيه إلى رفع اللبس وزوال الإشكال، مداجاةً في العلم وخيانةً للحكمة وجنايةً على المستنصح.

وأما مرتبته عند الإله فقد وضح بأنه كالشمس تطلع فتحيي، وتضيء فتنفع.

فإن قيل: فالعقل أيضاً هكذا، قيل: العقل أيضاً شمسٌ أخرى، ولكنها تطلع على النفس التي ليست حاويةً لجدارٍ وسطح، وبرٍ وبحر، وجبلٍ وسهل، لأنه لما كان العقل أشرق من النفس - لأنه مستخلفٌ للنفس، والنفس خليفته - كان إشراقه ألطف، ومنافعه في إشراقه أشرف، وأيضاً فإن الشمس تجدها بالحس لها غروبٌ وطلوع، وتجلٍ وكسوفٌ، وليس كذلك العقل، لأن إشراقه دائم، ونوره منتشر، وطلوعه سرمد، وكسوفه معدوم، وتجليه غير متوقف.

فإن قيل: نرى العقل يعزب عن الإنسان في وقتٍ ويثوب إليه في وقت. فالجواب أن الوصف الذي كنا ننعت به ونصدع ببيانه لم يكن لعقل زيد وعمرو، وبكرٍ وخالد، لأن ذلك ينعت بالطلوع والغروب، وبالحضور والغيوب، لأنه ها هنا مضافٌ ومنحازٌ، أو كالمنحاز، وليس كذلك هو، فإنه هناك على بهجته التامة، وسلطانه القاهر، وملكوته الأفيح، وبسيطه الفائق، وفضائه العريض. وأما قوله: وهل ينفعل، فقد مر الكلام عليه في طي ما مر، وليس للتكرار وجه، ولا في التطويل عذر.

وأما قوله: فقسط الفعل أكثر، أم قسط الانفعال، فإن هذا يلحظ من وجهين، إذا لحظ قبوله من فيض الإله فقسط الانفعال أظهر، وإذا لحظ فيضه على النفس فقسط الفعل فيه أكثر، لأنه بجوده على غيره يشاركه من جاد عليه بجوده، وهذا لطيفٌ جداً.

وأما قوله: وما المعاد، فما أسهل مطالبة السائل بهذا الأمر الصعب الهائل الذي كل أمرٍ متعلقٌ به، وكل رجاء حائمٌ حوله، وكل طمعٍ متوجهٌ إليه، وكل شيء مقصورٌ عليه، وكل إنسانٍ به يهيم، وكل مصرحٍ عنه يصرح، وكل كانٍ عنه يكني، وكل مترنم به يحدو، وكل لحنٍ إليه يشير، وكل سامعٍ إليه يطرب، ونرجع فنقول - على العي والبيان، وعلى الزحف والعدوان: - إن عود النفس إنما هو تخليتها للبدن إذا حان وقت التخلية، إما لأن البدن غير محتملٍ لمادة الحياة، وإما لأن النفس قد أزمعت أمراً آخر، ولا يتم لها ذلك إلا بتخلية هذا؛ وإما لهما.

فإن قال قائل: فما نصيب الإنسان من عود النفس الذي هو تخليتها للبدن وخروجها عنه، وترك استعمالها له. فالجواب من طريق التمثيل، والرضا بالرأي الأصوب، والحكم الأجلى أن يقال: لو قيل لرجلٍ من عرض الناس وافرٍ أو ناقص: إنك إذا فارقت هذا العالم بقيت عينك الباصرة، وأذنك السامعة، هل ترى ذلك نعمةً عليك، وإحساناً إليك، فإن عينك إذا بقيت أبصرت العالم بعدك كما كنت تبصره وهي معك، بل تبصر أحسن من ذاك الإبصار، لأنها كانت معك ترمد بسببك، وتعشى من أجلك، وربما عرض لها سوءٌ بسوء تدبيرك، أو باتفاق رديء عليك، ومن عشىً أو عمىً وخفش وعمش وعورٍ وآفاتٍ كثيرة، وهي آمنةٌ بعدك من هذه الأعراض المكروهة، والأحوال الداهية، فإنا نعلم حقاً وعياناً أنه يقول: قد رضيت بل أتمنى هذا، ومن لي به، أي إن إعطيت هذا فمن مني أسمع وأبصر، وإذا كنت أكره الدنيا في حياتي إذا فقدتهما فكيف لا أحب الدنيا إذا وجدتهما، فإن كان هذا التمثيل واقعاً، وهذا التقريب نافعاً، والحق في تضاعيفه واضحاً، فليكن ذلك مطرداً في بقاء نفس الإنسان التي بها كان إنساناً، وبها كان ينعم في هذا العالم، وبها كان يعلم ويعرف ويحكم ويصيب، ويجد لذة اللذيذ من ناحية العقل والحس، وبها كان يتمنى البقاء والدوام والخلود، وإنما استحال ذلك التمني من أجل كونه وفساده اللذين لم يكن بدٌ من انتهائهما إلى الفناء الذي هو مفارقة النفس الجسد وتخليتها للبدن، ونسبة نفس الإنسان إلى الإنسان أوكد وألصق من نسبة العين إليه، ألا ترى أنه بالنفس إنسانٌ، وبالبدن حافظٌ لشكل الإنسان؛ فإذا كان للإنسان في هذا التمثيل فائدةٌ متمناة، وحالةٌ محبوبةٌ هنيئة، أعني في بقاء العين والأذن حتى يبصر بإحداهما هذا العالم المحشو بالآفات، ويسمع بالأخرى ما يجري فيه من ضروب الاستحالات، فبالحري أن يكون رضاه ببقاء النفس في محل الروح والأمن، ومقام الكرامة والسكينة على حال الخلود والطمأنينة، إن هذا لعجيب؛ وأعجب من هذا العجيب عقلٌ لا يعلق به، وروحٌ لا يهش لسماعه، ونفسٌ لا تجد حلاوته، وصدرٌ لا يتصدع طرباً عليه، والتياحاً إليه، فإن من لم يشعر بهذه الفائدة، ولم يحمد الله على هذه النعمة، لعازب الرأي، ضعيف العقل، خفيف المثقال، رديء الاختيار، قليل الحصافة، سيء النظر؛ حيوانٌ خسيس، في مسك إنسان رئيس؛ فقد بان - على مذهب التقريب - ما المعاد المشار إليه، وما الإنسان منه، وما لنفسه به.

وأما قوله: وما الفرق بين الأنفس، أي نفس زيدٍ وعمرو وبكرٍ وخالد، وما الفرق أيضاً بين أنفس أصناف الحيوان، فإنما الفرق بين هذه الأنفس بقدر قسط كل واحدٍ منهم منها، وهذه الأقساط إذا اجتمعت تفاوتت، وإذا تفاوتت كانت منها نفسٌ باقيةٌ حيةٌ، ونفسٌ فانيةٌ ميتةٌ، ألا ترى الشمس كيف تطلع على هذه المواضع المختلفة بالعلو والسفل، وبالتعريج والاستقامة، والأشكال الكثيرة، فيقول كل إنسان: مشرقتي أطيب من مشرقة فلان، وما أشبه هذا الكلام، وطلوع الشمس على جميعها طلوعٌ واحد، ولكن حظوظ البقاع منها مختلفة؛ فليس بمنكر أن تكون نفس زيدٍ أنجى من الكدر، وأخلص من الآفة، وأوصل إلى السعادة؛ ونفس بكرٍ على خلاف ذلك، ومراتب هذه الأنفس موقوفة على الإضافات الحاصلة لها بأصحابها، والأنصباء المذخورة لها باكتسابها. فأما أنفس أصناف الحيوان كالفرس والحمار فإنها أنفسٌ ناقصةٌ غير كاملة، وهي ضعيفة، لأنها لم تجد إلا الإحساس والحركات، لم يشع فيها نور النفس الشريفة، ولم ينبث فيها شعاع العقل الكريم؛ فوجب من هذا الوجه أن تكون تابعةً لأبدانها، جاريةً على فسادها وبطلانها، لأن الحكمة انتهت إلى ذلك الحد في كونها حشواً لهذا العالم وزينةً ومنافع ومبالغ إلى غاياتٍ وأغراض.

وأما قوله: وهل الملك حيوان، فقد علمت أنه يقال له حي، وهذا وقفٌ على الأسماء الجارية، والعادات القائمة، وكأن الحيوان إنما شاع في غير الملك لما فيه من الحس والحركة والاهتداء والتصرف على ما لاق بجنسه ونوعه وشخصه؛ فأما ما يعلو وينزه عن الصفات فلم يطلق عليه حيوانٌ، ولكن يقال: حيٌ لأنه أقرب الأسماء إلى المعنى المشار إليه، وبهذا التقريب قيل أيضاً لله: إنه حيٌ، وأنت إذا حددت الحي أو الحياة لم تقدر على أن تصف الله جل وعلا بشيءٍ من ذلك.. وفي الجملة ما كان أدخل في البساطة كان أخرج من التركيب، وكل ما كان أخرج من البساطة كان أدخل في التركيب.

فأما المركب الذي ليس له من البسيط إلا النصيب النزر، وإلا طيف الخيال، فاسمه واضح والإشارة إليه سهلة، والعيان له مدرك، لأنه محاطٌ بحدوده في طوله وعرضه وعمقه.

وأما المركب البسيط الذي ليس له من التركيب إلا النصيب اليسير، فاسمه غامض، والإشارة إليه عسرة، والعيان عنه مكفوف؛ وهذا بابٌ إذا حفظ فهم منه شيءٌ كثيرٌ مما يقع فيه الغلط من الإنسان بفكره الردىء؛ وينفع أيضاً نفعاً بيناً في التغالط العارض بين المتناظرين على جهة التنافس والتناصف.

قال أبو سليمان: من حرس هذا الثغر أمن من جميع الأعداء، ومن أهمله كانت جنايته على نفسه بيده أعظم من جناية عدوه الثائر من ثغره.

وأما قوله: على أي وجهٍ يقال لله حيٌ والملك حيٌ والفرس حيٌ، فقد دخل الجواب عنه في ضمن ما تشقق القول به، وتحقق المعنى عليه في حديث المركب والبسيط؛ ونزيدها هنا حرفاً يكون رديفاً لما تقدم، فنقول: أما الإنسان فإنه يقال له: حيٌ بسبب الحس والحركة وما يتبعهما مما هو كمال الحي، وكذلك الفرس وما أشبهه. وأما الملك فلما كان ما يستحقه ببساطته معدوماً عندنا، لم نقدر على شيء نصفه به إلا ما نصف به أنفسنا بيننا، ولو كنا في عالم الملك لعلنا كنا ندري بأي شيء ينبغي أن ينعت ويسمى ويذكر ويحكى، فإن من كان منا في بلاد الصين فإنه يسمى الإنسان والفرس والحمار والبقر بها بتعالمٍ أهلها بينهم، وإن كان هو معوزاً على ما ترى في الملك، أعني تسميته الحي، ونعته بالحياة، فالله الذي لا سبيل للعقل أن يدركه أو يحيط به أو يجده وجداناً أولى وأحرى أن يمسك عنه عجزاً واستخذءً، وتضاؤلاً واستعفاءً، إلا بما وقع الإذن به من جهة صاحب الدين الذي هو مالك أزمة العقول ومرشدها إلى السعادات، وواقفها عند الحدود، وزاجرها عن التخطي إلى ما لا يجوز. فعلى هذا قد وضح أن الصمت في هذا المكان أعود على صاحبه من النطق، لأن الصمت عن المجهول أنفع من الجهل بالمعلوم، والتظاهر بالعجز في موضعه كالاستطالة بالقدرة في موضعها، وليس للخلق من هذا الواحد الأحد إلا الإنية والهوية، فأما كيف ولم وما هو فإنها طائرةٌ في الرياح كما تسمع وترى.

ولما حررت هذه الجملة وحملتها إلى الوزير وقرأتها عليه قال لي: هذا والله جهد المقل، وفي غليلي بقيةٌ من اللهب.

قلت: أيها الوزير، قال أبو سليمان: سنقول لك كلاماً لا يكون فيه كل الرضا، فقل له عند ذلك: إنك سألت عن العالم بأسره، فلا طاقة لأحدٍ أن يعرض عليك العالم بأسره، ولولا عجلة رسولك في المطالبة، وإدلاله بالإلحاح، وقوله: المراد التقريب والإيجاز، لا التطويل والإسهاب، لكان النسج على غير هذا المنول، والعمل على غير هذا الوشي. قال: ومن المعالم التي ليس لها ناظر، ولا بها خابر، أن السائل يحض على التلخيص المفهوم، ولعل ذلك يزيد الشيء إغلاقاً، فإذا امتثل ما يرسم قال: ما شفاني القول؛ وإن زيد على ذلك قال: غرق المراد في حواشي التكثير؛ فليس للعالم تخلصٌ من استزادة المتعلم، ولا عند المتعلم شكرٌ على مبذول جهد العالم، وهذا أمرٌ قد تقدمت الاستغاثة منه على مر الدهور، والأولى فيما لا حيلة فيه الرضا بالميسور منه. ثم قال: وإن أطال الله أيام هذه الدولة، وحرس على هذه الجماعة القليلة النعمة، استأنفنا نظراً أبلغ من هذا النظر، ببيانٍ أشفى من هذا البيان، وطريق أوضح من هذا الطريق - إن شاء الله.

قال الوزير: والله ما قلت قولي ذاك، لأن هذا الكلام سهلٌ، وهذا المتناول قريب، وهذا المرمى كثب، كلا، وإني لأظن بل أحق أنه ليس في بضائع أصحابنا الذين حولي من يدرك هذه المعاني على هذه الصفة إذا قرئت عليه، فكيف من يفزع في شرحها وتهذيبها إليه.

ثم تمطى وقال: وانعاساه، واضعف منتاه؛ ثم فارقت المجلس.