الجزء الثالث - الليلة الأربعون

الليلة الأربعون

وقال مرة أخرى: حدثني عن اعتقادك في أبي تمامٍ والبحتري، فكان الجواب: إن هذا الباب مختلفٌ فيه، ولا سبيل إلى رفعه، وقد سبق هذا من الناس في الفرزدق وجريرٍ ومن قبلهما في زهير والنابغة حتى تكلم على ذلك الصدر الأول، مع علو مراتبهم في الدين والعقل والبيان، لكن حدثنا أبو محمد العروضي عن أبي العباس المبرد قال: سألني عبيد الله بن سليمان عن أبي تمام والبحتري؛ فقلت: أبو تمام يعلو علواً رفيعاً، ويسقط سقوطاً قبيحاً، والبحتري أحسن الرجلين نمطاً، وأعذب لفظاً؛ فقال عبيد الله:

قد كان ذلك ظني

 

فعاد ظني يقينا

فقلت: وهذا أيضاً شعر. فقال: ما علمت.

ققال: هذه حكايةٌ مفيدةٌ من هذا العالم المتقدم، وحكمٌ يلوح منه الإنصاف، وقد أغنى هذا القول عن خوضٍ كثير.
ودع ذا؛ من أين دخلت الآفة على أصحاب المذاهب حتى افترقوا هذا الافتراق، وتباينوا هذا التباين، وخرجوا إلى التكفير والتفسيق وإباحة الدم والمال ورد الشهادة وإطلاق اللسان بالجرح وبالقذع والتهاجر والتقاطع! فكان الجواب: إن المذاهب فروح الأديان، والأديان أصول المذاهب، فإذا ساغ الاختلاف في الأديان - وهي الأصول - فلم لا يسوغ في المذاهب وهي الفروع.

فقال: ولا سواء، الأديان اختلفت بالأنبياء، وهم أرباب الصدق والوحي الموثوق به، والآيات الدالة على الصدق؛ وليس كذلك المذاهب.

فقيل: هذا صحيح، ولا دافع له، ولكن لما كانت المذاهب نتائج الآراء، والآراء ثمرات العقول، والعقول منائح الله للعباد، وهذه النتائج مختلفةٌ بالصفاء والكدر، وبالكمال والنقص، وبالقلة والكثرة، وبالخفاء والوضوح؛ وجب أن يجري الأمر فيها على مناهج الأديان في الاختلاف والافتراق وإن كانت تلك منوطةً بالنوبة؛ وبعد، فما دام الناس على فطرٍ كثيرةٍ، وعاداتٍ حسنةٍ وقبيحة، ومناشىء محمودةٍ ومذمومة، وملاحظاتٍ قريبةٍ وبعيدة، فلابد من الاختلاف في كل ما يختار ويجتنب، ولا يجوز في الحكمة أن يقع الاتفاق فيما جرى مجرى المذاهب والأديان؛ ألا ترى أن الاتفاق لم يحصل في تفضيل أمة على أمة، ولا في تفضيل بلدٍ على بلد، ولا في تقديم رجلٍ على رجل، ولو لم يكن في هذا الأمر إلا التعصب واللجاج والهوى والمحك والذهاب مع السابق إلى النفس، والموافق للمزاج، والخفيف على الطباع، والمالك للقلب، لكان كافياً بالغاً بالإنسان كل مبلغ.

وشيخنا أبو سليمان يقول كثيراً: إن الدين موضوعٌ على القبول والتسليم، والمبالغة في التعظيم، وليس فيه "لم" و "لا" و "كيف" إلا بقدر ما يؤكد أصله ويشد أزره، وينفي عارض السوء عنه، لأن ما زاد على هذا يوهن الأصل بالشك، ويقدح في الفرع بالتهمة.

قال: وهذا لا يخص ديناً دون دين، ولا مقالةً دون مقالة، ولا نحلةً دون نحلة، بل هو سارٍ في كل شيء في كل حالٍ في كل زمان، وكل من حاول رفع هذا فقد حاول رفع الفطرة ونفي الطباع وقلب الأصل، وعكس الأمر؛ وهذا غير مستطاع ولا ممكن؛ وقد قيل: "إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون".وقال لنا القاضي أبو حامد المروروذي: أنا منذ أربعين سنةً أجتهد مع أصحابنا البصريين في أن أصحح عندهم أن بغداد أطيب من البصرة، وأنا اليوم في كلامي معهم كما كنت في أول كلامي لهم، وكذلك حالهم معي، فهذا هذا. أنظر إلى فضل ومرعوش - وهما من سقط الناس وسفلنهم - كيف لهج الناس بهما وبالتعصب لهما حتى صار جميع من ببغداد إما مرعوشياً وإما فضلياً.

ولقد اجتاز ابن معروف وهو على قضاء القضاة بباب الطاق فتعلق بعض هؤلاء المجان بلجام بغلته، وقال: أيها القاضي، عرفنا، أنت مرعوشي أم فضلي، فتحير وعرف ما تحت هذه الكلمة من السفه والفتنة، وأن التخلص بالجواب الرفيق أجدى عليه من العنف والخرق وإظهار السطوة؛ فالتفت إلى الحراني - وكان معه وهو من الشهود - فقال: يا أبا القاسم، نحن في محلة من؟ قال: في محلة مرعوش؛ فقال ابن معروف: كذلك نحن - عافاك الله - من أصحاب محلتنا لا نختار على اختيارهم؛ ولا نتميز فيهم. فقال العيار: امش أيها القاضي في ستر الله؛ مثلك من تعصب للجيران.

فقال الوزير - أحسن الله توفيقه - هذا كله تعصبٌ وهوى وتماحك وتكلفٌ. قيل: هذا وإن كان هكذا فهو داخلٌ فيما عداه من حديث الدين والمذهب والصناعة والبلد.

قال أبو سليمان: ولمصلحةٍ عامةٍ نهي عن المراء والجدال في الدين على عادة المتكلمين، الذين يزعمون أنهم ينصرون الدين، وهم في غاية العداوة للإسلام والمسلمين، وأبعد الناس من الطمأنينة واليقين.

ثم حدث فقال: اجتمع رجلان: أحدهما يقول بقول هشام، والآخر يقول بقول الجواليقي؛ فقال صاحب الجواليقي لصاحب هشام: صف لي ربك الذي تعبده، فوصفه بأنه لا يد له ولا جارحة ولا آلة ولا لسان، فقال الجواليقي: أيسرك أن يكون لك ولدٌ بهذا الوصف! قال: لا، قال: أما تستحي أن تصف ربك بصفةٍ لا ترضاها لولدك! فقال صاحب هشام: إنك قد سمعت ما نقول، صف لي أنت ربك؛ فقال: إنه جعدٌ قطط في أتم القامات وأحسن الصور والقوام. فقال صاحب هشام: أيسرك أن تكون لك جاريةٌ بهذه الصفة تطؤها؟! قال: نعم، قال: أفما تستحي من عبادة من تحب مباضعة مثله!! وذلك لأن من أحب مباضعته فقد أوقع الشهوة عليه.

فقال: هذا من شؤم الكلام ونكد الجدل، فلو كان هناك دين لكان لا يدور هذا في وهم ولا ينطق به لسان.

وحكى أيضاً قال: ابتلي غلامٌ أعجميٌ بوجع شديد، فجعل يتأوه ويتلوى ويصيح. فقال له أبوه: يا بني اصبر واحمد الله تعالى. فقال: ولماذا أحمده! قال لأنه ابتلاك بهذا؛ فاشتد وجع الغلام ورفع صوته بالتأوه أشد مما كان، فقال له أبوه: ولم اشتد جزعك! فقال: كنت أظن أن غير الله ابتلاني بهذا فكنت أرجوه أن يعافيني من هذا البلاء ويصرفه عني، فأما إذ كان هو الذي ابتلاني به فمن أرجو أن يعافيني! فالآن اشتد جزعي، وعظمت مصيبتي. قال: ولو علم أن الذي ابتلاه هو الذي استصلحه بالبلاء ليكون إذا وهب له العافية شاكراً له عليها بحسٍ صحيحٍ وعلمٍ تامٍ لكان لا يرى ما قاله وتوهمه لازماً.

وحكى أيضاً أن رجلاً من العجم حج وتعلق بأستار الكعبة فطفق يدعو ويقول: يا من خلق السباع الضارية، والهوام العادية، وسلطها على الناس، وضربهم بالزمامة والعمى والفقر والحاجة؛ فوثب الناس عليه وسبوه وزجروه وقالوا: ادعو الله بأسمائه الحسنى. فأظهر لهم الندامة، والتقارف فخلوا عنه بعد ما أرادوا الوقيعة به، فرجع وتعلق بأستار الكعبة، وجعل ينادي: يا من لم يخلق السباع الضارية ولا الهوام، ولا سلطها على الناس، ولم يضرب الناس بالأوجاع والأسقام. فوثبوا عليه أيضاً وقالوا له: لا تقل هذا فإن الله خالق كل شيءٍ؛ فقال: ما أدري كيف أعمل؟ إن قلت: إن الله خالق هذه الأشياء وثبتم علي؛ وإن قلت: إن الله لم يخلقها وثبتم علي. فقالوا: هذا ينبغي أن تعلمه بقلبك ولا تدع الله به.

قال أبو سليمان: وهذا أيضاً من شؤم الكلام وشبه المتكلمين الذين يقولون: لا يجوز أن يعتقد شيء بالتقليد، ولابد من دليل، ثم يدللون ويختلفون، ثم يرجعون إلى القول بأن الأدلة متكافئة. وكان ابن البقال يجهر بهذا القول، فقلت له مرة: لم ملت إلى هذا المذهب؟ فقال: لأني وجدت الأدلة متدافعةً في أنفسها، ورأيت أصحابها يزخرفونها ويموهونها لتقبل منهم، وكانوا كأصحاب الزيوف الذين يغشون النقد لينفق عندهم، وتدور المغالطة بينهم. فقلت له: أما تعرف بأن الحق حق والباطل باطل؟ قال: بلى، ولكن لا يتبين أحدهما من الآخر. قلت: أفلأنه لا يتبين لك الحق من الباطل تعتقد أن الحق باطل وأن الباطل حق؟ قال: لا أجيء إلى حق أعرفه بعينه فأعتقد أنه باطل، ولا أجيء أيضاً إلى باطل أعرفه بعينه فأعتقد أنه حق، ولكن لما التبس الحق بالباطل والباطل بالحق قلت: إن الأدلة عليهما ولهما متكافئة، وإنها موقوفةٌ على حذق الحاذق في نصرته، وضعف الضعيف في الذب عنه. قلت فكأنك قد رجعت عن اعترافك بالحق أنه حق، وبالباطل أنه باطل. قال: ما رجعت. قلت: فكأنك تدعي الحق حقاً جملةً والباطل باطلاً جملةً من غير أن تميز بالتفصيل. قال: كذا هو. قلت: فما نفعك بالاعتراف بالحق وأنه متميزٌ عن الباطل في الأصل، وأنت لا تميز بينهما في التفصيل؟ قال: والله ما أدري ما نفعي منه. قلت: فم لا تقول: الرأي أن أقف فلا أحكم على الأدلة بالتكافؤ، لأن الباطل لا يقاوم الحق، والحق لا يتشبه بالباطل، إلى أن يفتح الله بصري فأرى الحق حقاً في التفصيل، والباطل باطلاً على التحصيل، كما رأيتهما في الجملة، وأن الذي فتح بصري على ذلك في الأول هو الذي غض بصري عنه في الثاني؟ قال: ينبغي أن أنظر فيما قلت. فقلت: انظر إن كان لك نظر، ولا تتكلف النظر ما دام بك عمىً أو عشاً أو رمد.

وحكى لنا أبو سليمان قال: وصف لنا بعض النصارى الجنة فقال: ليس فيها أكلٌ ولا شربٌ ولا نكاح. فسمع ذلك بعض المتكلمين فقال: ما تصف إلا الحزن والأسف والبلاء.

وقال أبو عيسى الوراق - وكان من حذاق المتكلمين - إن الآمر بما يعلم أن المأمور لا يفعله سفيه، وقد علم الله من الكفار أنهم لا يؤمنون، فليس لأمرهم بالإيمان وجهٌ في الحكمة.

قال أبو سليمان: انظر كيف ذهب عليه السر في هذه الحال، من أين أتوا، وكيف لزمتهم الحجة.

وقال أبو عيسى أيضاً: المعاقب الذي لا يستصلح بعقوبته من عاقبه، ولا يستصلح به غيره، ولا يشفي غيظه بعقوبته جائر، لأنه قد وضع العقوبة في غير موضعها. قال: لأن الله تعالى لا يستصلح أهل النار ولا غيرهم، ولا يشفي غيظه بعقوبتهم، فليس للعقوبة وجهٌ في الحكمة. هذا غرض كتابه الذي نسبه إلى الغريب المشرقي.

وقال أبو سعيد الحضرمي - وكان من حذاق المتكلمين ببغداد، وهو الذي تظاهر بالقول بتكافؤ الأدلة - إن كان الله عدلاً كريماً جواداً عليماً رءوفاً رحيماً فإنه سيصير جميع خلقه إلى جنته، وذلك أنهم جميعاً على اختلافهم يجتهدون في طلب مرضاته، فيهربون من وقع سخطه بقدر علمهم ومبلغ عقولهم، وإنما تركوا اتباع أمره لأنهم خدعوا، وزين لهم الباطل باسم الحق؛ ومثلهم في ذلك مثل رجل حمل هديةً إلى ملك، فعرض له في الطريق قومٌ شأنهم الخداع والمكر والاستلال، فنصبوا له رجلاً، وسموه باسم الملك الذي كان قصده، فسلم الهدية إليهم؛ فالملك الذي قصده إن كان كريمأً فإنه يعذره ويرحمه ويزيد في كرامته وبره حين يقف على قصته، وهذا أولى به من أن يغضب عليه ويعاقبه.

وقال أبو سليمان: ذكروا أن رجلاً رأى قوماً يتناظرون، فجلس إليهم فرآهم مختلفين، فأقبل على رجل منهم فقال: أتلزمني أن أقول بقولك وأنا لا أعلم أنك محقٌ فإن قلت لك: إن بعض جلسائك يدعوني إلى مخالفتك واتباعه، وليس عندي علمٌ بالمحق منكم؛ وإن ألزمتني أن أتبع كلكم فهذا محال، وإن قلت: لا يلزمك أن تتبعني ولا غيري إلا بعد العلم بالمحق منكم، لم يخل العلم بذلك من أن يكون فعلي أو فعل غيري، فإن كان العلم فعلاً لغيري فقد صرت مضطراً، ولا أستوجب عليه حمداً ولا ذماً وإن كان الفعل لي فمن أعظم جهالةً ممن يفعل ما يلزمه الأمر والنهي به، وإن قصر صيره ذلك إلى العطب والهلاك، مع أن هذا القول يؤدي إلى أن أكون أنا المعترض على نفسي، لأنه إنما يلزمني ذلك إذا علمت أني أقدر أن أعلم وألا أعلم. وحكى لنا أيضاً قال: سئل عندنا رجلٌ من المتحيرين بسجستان فقيل له: ما دليلك على صحة مقالتك؟ فقال لا دليل ولا حجة. فقيل له وما الذي أحوجك إلى هذا؟ قال: لأني رأيت الدليل لا يكون إلا من وجوه ثلاثة: إما من طريق النبوة والآيات، فإن كان إنما يثبت من هذه الجهة فلم أشاهد شيئاً من ذلك ثبتت عندي مقالته.

وإما أن يكون ينبت بالكلام والقياس فإن كان إنما يثبت بذلك فقد رأيتني مرةً أخصم ومرةً أخصم، ورأيتني أعجز عن الحجة فأجدها عند غيري، وأتنبه إليها من تلقاء نفسي بعد ذلك، فيصح عندي ما كان باطلاً، ويفسد عندي ما كان صحيحاً؛ فلما كان هذا الوصف على ما وصفت لم يكن لي أن أقضي لشيء بيصحةٍ من هذه الجهة، ولا أقضي على شيء بفسادٍ لعدم الحجة.

وإما أن تكون ثبتت بالأخبار عن الكتب فلم أجد أهل ملةٍ أولى بذلك من غيرهم، ولم أجد إلى تصديق كلهم سبيلاً. وكان تصديق الفرقة الواحدة دون ما سواها جوراً، لأن الفرق متساويةٌ في الدعوى والحجة والذب والنصرة. فقيل له: فلم تدين بدينك هذا الذي أنت على شعاره وحليته، وهديه وهيئته؟ فقال: لأن له حرمةً ليست لغيره، وذاك أني ولدت فيه، ونشأت عليه، وتشربت حلاوته، وألفت عادة أهله، فكان مثلي كمثل رجلٍ دخل خاناً يستظل فيه ساعةً من نهار والسماء مصحيةٌ، فأدخله صاحب الخان بيتاً من البيوت من غير تخبرٍ ولا معرفةٍ بصلاحه، فبينا هو كذلك إذ نشأت سحابةٌ فمطرت جوداً، ووكف البيت، فنظر إلى البيوت التي في الفندق فرآها أيضاً تكف، ورأى في صحن الدار ردغة، ففكر أن يقيم مكانه ولا ينتقل إلى بيتٍ آخر ويربح الراحة، ولا يلطخ رجليه بالردغة والوحل اللذين في الصحن؛ ومال إلى الصبر في بيته، والمقام على ما هو عليه، وكان هذا مثلي، ولدت ولا عقل لي، ثم أدخلني أبواي في هذا الدين من غير خبرةٍ مني، فلما فتشت عنه رأيت سبيله سبيل غيره، ورأيتني في صبري عليه أعز مني في تركه، إذ كنت لا أدعه وأميل إلى غيره إلا باختيار مني لذلك، وأثرةٍ له عليه؛ ولست أجد له حجةً إلا وأجد لغيره عليه مثلها.

وحكى لنا ابن البقال - وكان من دهاة الناس - قال: قال ابن الهيثم: جمع بيني وبين عثمان بن خالد، فقال لي: أحب أن أناظرك في الإمامة؛ فقلت: إنك لا تناظرني، وإنما تشير علي؛ فقال: ما أفعل ذلك، ولا هذا موضع مشورة، وإنما اجتمعنا للمناظرة؛ فقلت له: فإنا قد أجمعنا على أن أولى الناس بالإمامة أفضلهم، وقد سبقنا القوم الذين يتنازع في فضلهم، وإنما يعرف فضلهم بالنقل والخبر؛ فإن أحببت سلمت لك ما ترويه أنت وأهل مذهبك في صاحبك، وتسلم لي ما أرويه أنا وفرقتي في صاحبي، ثم أناظرك في أي الفضائل أعلى وأشرف؛ قال: لا أريد هذا، وذاك أني أروي مع أصحابي أن صاحبي رجلٌ من المسلمين يصيب ويخطىء، ويعلم ويجهل؛ وأنت تقول في صاحبك: إنه معصومٌ من الخطأ، عالمٌ بما يحتاج إليه. فكيف أرضى هذه الجملة؟ قلت: فأقبل كل شيء ترويه أنت وأصحابك في صاحبي من حمدٍ أو ذم، وتقبل أنت كل شيء أرويه أنا وأصحابي في صاحبك من حمدٍ أو ذم؛ قال: هذا أقبح من الأول، وذلك أني وأصحابي نروي أن صاحبك مؤمنٌ خيرٌ فاضل، وأنت وأصحابك ترون أن صاحبي كافرٌ منافق؛ فكيف أقبل هذا منك وأناظرك عليه؟ قال ابن الهيثم: فلم يبق إلا أن أقول: دع قولك وقول أصحابك، واقبل قولي وقول أصحابي؛ قال: ما هو إلا ذاك؛ قلت: هذه مشورة، وليست مناظرة. قال: صدقت.
وحكى لنا الزهيري قال: سال رجلٌ آخر فقال: أتقول إن الله نهانا أن نعبد إلهين؟ قال: نعم؛ قال: وأمرنا أن نعبد إلهاً واحداً؟ قال: نعم؛ قال: فالاثنان اللذان نهانا عن عبادتهما معقولان هكذا؟ وأشار بإصبعيه، قال: نعم؛ قال: فالواحد الذي أمرنا بعبادته معقولٌ هكذا؟ وأشار بإصبع واحدة؛ قال: لا؛ قال: فقد نهانا عما يعقل وأمرنا بما لا يعقل، وهذا يعلم ما فيه فانظر حسناً.

وحكى لنا الزهيري قال: حدثنا ابن الأخشاد قال: تناظر رجلان في وصف الباري سبحانه، واشتد بينهما الجدال، فتراضيا بأول من يطلع عليهما ويحكم بينهما، فطلع أعرابيٌ، فأجلساه وقصا قصتهما، ووصفا له مذهبيهما؛ فقال الأعرابي لأحدهما - وكان مشبهاً -: أما أنت فتصف صنماً، وقال للثاني: وأما أنت فتصف عدماً، وكلاكما تقولان على الله ما لم تعلما. وقال لنا الأنصاري أبو كعب: قال ابن الطحان الضرير البصري - وكان يقول بقول جهم -: إذا كان يوم القيامة بدل الله سيئات المؤمنين حسنات، فيندمون على ما قصروا فيه من تناول اللذات، وقضاء الأوطار بالشهوات؛ لأنهم كانوا يتوقعون العقاب، فنالوا الثواب؛ وكان يتلو عند هذا الحديث قول الله عز وجل: "فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسناتٍ".

وحكى لنا ابن الثلاج قال، قال أبو عثمان الآدمي: إن الجنة لا ساتر فيها، وذلك لأن كل ساترٍ مانع، وكل مانعٍ آفة، وليست في الجنة آفة، ولهذا روي في الحديث: إن الحور يرى مخ ساقها من وراء سبعين حلةً سوى ما تحت ذلك من اللحم والعظم، كالسلك في الياقوت؛ فقال له قائل: الجنة إذاً أولى من الحمام، إذ قيل: بئس البيت الحمام، يذهب الحياء، ويبدي العورة.

وحكى لنا ابن رباطٍ الكوفي - وكان رئيس الشيعة ببغداد، ولم أر أنطق منه - قال: قيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من أين جاء اختلاف الناس في الحديث؟ فقال: الناس أربعة: رجلٌ منافقٌ كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمداً، فلو علم أنه منافقٌ ما صدق ولا أخذ عنه. ورجلٌ سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قولاً أو رآه يفعل فعلاً ثم غاب ونسخ ذلك من قوله أو فعله، فلو علم أنه نسخ ما حدث ولا عمل به ولو علم الناس أنه نسخ ما قبلوا منه ولا أخذوا عنه ورجلٌ سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قولاً فوهم فيه، فلو علم أنه وهم ما حدث ولا عمل به. ورجلٌ لم يكذب ولم يهم، وشهد ولم يغب.

قال: وإنما دل بهذا على نفسه، ولهذا قال: كنت إذا سئلت أجبت، وإذا سكت ابتدئت.

وحكى لنا ابن زرعة النصراني قال: قيل للمسيح: ما بال الرجلين يسمعان الحق فيقبله أحدهما ولا يقبله الآخر؟ فقال: مثل ذلك مثل الراعي الذي يصوت بغنمه فتأتيه هذه الشاة بندائه، ولا تأتيه هذه.

قال أبو سليمان: هذا جوابٌ مبتور، وليس له سنن، ولعل الترجمة قد حافت عليه، والمعنى انحرف عن الغاية؛ وليس يجوز أن يكون حال الإنسان كيف كان، حال الشاة في إجابة الداعي وإبائها، فإن له دواعي وموانع عقليةً وحسية.

فقال الوزير: هذا أيضاً بابٌ قد مضى مستوفىً، ما الذي سمعت اليوم؟ فقلت: رأيت ابن برمويه في دعوة، وترامى الحديث فقال: رأيت اليوم الوزير شديد العبوس، أهو هكذا أبداً، أم عرض له هذا على بختي؟ فقال ابن جبلة: لعله كان ذاك لسبب، وإلا فالبشر غالبٌ على وجهه، والبشاشة مألوفةٌ منه. فقال ابن برمويه: ما أحسن ما قال الشاعر:

أخو البشر محمودٌ على حسن بشره

 

ولن يعدم البغضاء من كان عابسا

فقال علي بن محمد - رسول سجستان -: ما أدري ما أنتما فيه، ولكن يقال: ما أرضى الغضبان، ولا استعطف السلطان، ولا ملك الإخوان؛ ولا استلت الشحناء، ولا رفعت البغضاء؛ ولا توقي المحذور، ولا اجتلب السرور؛ بمثل البشر والبر، والهدية والعطية.

وقال الوزير: هات ملحة المجلس.

فكان الجواب: قال أبو همام ذات يوم: لو كان النخل لا يحمل بعضه إلا الرطب، وبعضه إلا البسر، وبعضه إلا الخلال، وكنا متى تناولنا من الشمراخ بسرةً خلق الله مكانها بسرتين، ما كان بذلك بأس.

ثم قال: أستغفر الله، لو كنت تمنيت بدل نواة التمر زبدةً كان أصوب.

وسأل الوزير: هل يقال في النساء رجلة؟ فكان الجواب: حدثنا أبو سعيد السيرافي قال: كان يقال في عائشة بنت أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهما: "كانت رجلة العرب"، وإنما ضاعت هذه الصفة على مر الأيام بغلبة العجمان؛ فقال: إنها والله لكذلك، ولقد سمعت من يقول: كان يقال: لو كان لأبيها ذكرٌ مثلها لما خرج الأمر منه.

قال: هل تحفظ من كلامها شيئاً؟ فقلت: لها كلامٌ كثيرٌ في الشريعة، والرواية عنها شائعةٌ في الأحكام، ولقد نطقت بعد موت أبيها بما حفظ وأذيع، لكني أحفظ لها ما قالته لما قتل عثمان: خرجت والناس مجتمعون، وعليٌ فيهم، فقالت: أقتل أمير المؤمنين عثمان؟ فالوا: نعم، قالت: أما والله لقد كنتم إلى تسديد الحق وتأكيده أحوج منكم إلى ما نهضتم إليه، من طاعة من خالف عليه؛ ولكن كلما زادكم الله صحةً في دينه، ازددتم تثاقلاً عن نصرته طمعاً في دنياكم، أما والله لهدم النعمة أيسر من بنيانها، وما الزيادة إليكم بالشكر، بأسرع من زوال النعمة عنكم بالكفر؛ أما لئن كان فني أكله، واخترم أجله، إنه لصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، وما علمنا خلقاً تزوج ابنتي نبي غيره؛ ولو غير أيديكم قرعت صفاتته لوجد عند تلغلي الحرب متجرداً، ولسيوف النصر متقلداً، ولكنها فتنةٌ قدحت بأيدي الظلمة؛ أما والله لقد حاط الإسلام وأكده، وعضد الدين وأيده؛ ولقد هدم الله به صياصي أهل الشرك، ووقم أركان الكفر؛ لله المصيبة به، ما أفجعها! والفجيعة به ما أوجعها! صدع والله مقتله صفاة الدين، وثلمت مصيبته ذروة الإسلام، تباً لقاتله، أعاذنا الله وإياكم من التلبس بدمه، والرضا بقتله.

فقال الوزير: ما أفصح لسانها، وأشجع جنانها، في ذلك المحفل الذي يتبلبل فيه كل قلقل! ورويت أيضاً أنها قالت: مكارم الأخلاق عشر: صدق الحديث، وصدق البأس، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وبذل المعروف، والتذمم للجار، والتذمم للصاحب، والمكافأة بالصنائع، وقري الضيف، ورأسهن الحياء.

فقال: والله لكأنها نغمات النبي صلى الله عليه وسلم ، ما كان أشهمها، وأعلى نظرها، وأبين جوابها!! وحدثني أن امرأةً تظلمت إلى مسلم بن قتيبة بخراسان، فزبرها، ولم ينظر في قصتها؛ فقالت له: إن أمير المؤمنين بعثك إلى خراسان لتنظر هل تثبت خراسان بلا عاملٍ أم لا؛ فقال لها مسلم: اسكتي ويلك، فظلامتك مسموعة، وحاجتك مقضية.

وقال مسلم: ما وخز قلبي قط شيءٌ مثل قول هذه المرأة، ولقد آليت ألا أستهين بأحدٍ من ذكرٍ أو أنثى.

وشبيهٌ بهذا قول المعلى بن أيوب: رأيت في دار المأمون إنساناً فازدريته، فقلت: لأي شيء تصلح أنت؟ على غيظٍ مني وتغضب؛ فقال: أنا أصلح لأن يقال لي: هل يصلح مثلك لما أنت فيه أو لا. قال: فوالله ما وقرت كلمته في أذني حتى أظلم علي الجو ونكرت نفسي.

وكان عبد الملك بن مروان إذا كان له خصيٌ وضيءٌ أمر أن يحجب عن نسائه، وقال: هو رجلٌ وإن قطع منه ما قطع، وربما اجتزأت امرأةٌ بمثلها، وللعين حظها.

قال عبد الرحمن بن سعيد القرشي: كان لهشام بن عبد الملك خصيٌ يقال له خالد، وكان وضيئاً تأخذه العين، مديد القامة، فخماً أبيض، فأمر هشامٌ مسلمة بالغدو عليه، فغدا، فقيل: استأذن لأخي أمير المؤمنين عليه، فاستخف وقال كلمةً سمعها مسلمة، فحقدها عليه، فلما دخل مسلمة إلى هشام لم يزل يذاكره شيئاً، ويشير عليه حتى حط عن فرشه وجلسا على البساط ومسلمة في ذلك يرمق الخصي متى يمر به، فلم يلبث أن مر معمماً بعمامة وشي؛ فقال مسلمة: يا أمير المؤمنين، أي فتياننا هذا؟ قال: غفر الله لك يا أبا سعد، هذا خالد الخصي؛ قال، فقال: يا أمير المؤمنين، لضمةٌ من هذا خيرٌ من مجامعة رجل، فقلق هشامٌ وجعل يتضور حتى قام مسلمة، ثم أمر بالخادم فأخرج من الرصافة، فاتصل ببعض بنيه، فكتب إليه هشام، إني نحيته لما بلغك، فجفاه، فلحق الخادم بالثغر.
وجرى حديث النفس وأنها كيف تعلم الأشياء، فقيل: النفس في الأصل علامة، والعلم صورتها؛ لكنها لما لابست البدن، وصار البدن بها إنساناً، اعترضت حجبٌ بينها وبين صورتها كثيفةٌ ولطيفة، فصارت تخرق الحجب بكل ما استطاعت لتصل إلى ما لها من غيبها، فصارت تعلم الماضي بالاستخبار والتعرف والبحث والمسئلة والتنقير، وتعلم الآتي بالتلقي والتوكف والتبشير والإنذار، وتعلم الحاضر بالتعارف والمشاهدة ومجال الحس؛ وهذه المعلومات كلها زمانية، ولهذا انقسم بين الماضي والآتي والحاضر. فأما ما هو فوق الزمان فإنها تعلمه بالمصادفة الخارجة من الزمان، العالية على حصر الدهر، وهذه عبارةٌ عن وجدانها، لما لها في غيبها بالحركة اللائقة بها، أعني الحركة التي هي في نوع السكون، وأعني بهذا السكون الذي هو في نوع الحركة؛ ولما فقد الاسم الخاص بهذا المعنى، ولم يعرف في الإخبار والاستخبار إلا ما كان مألوفاً بالزمان، التبست العبارة عنه باعتماد السكون فيما يلحظ منه الحركة، واعتماد الحركة فيما يلحظ منه السكون، فصار هذا الجزء كأنه ناقضٌ ومنقوض، وهذا لجذب محل الحس من نبت العقل، وخصب مراد العقل بكل ما علق بالموجود الحق.

فقال الوزير: ما أعلى نجد هذا الكلام! وما أعمق غوره! وإني لأعذر كل من قابل هذا المسموع بالرد، واعترض على قائله بالتكبر؛ ولعمري إذا تعايت الأشياء بالأسماء والصفات، وعرض العجز عن إبانتها بحقائق الألقاب، حار العقل الإنساني، وحير الفهم الحسي، واستحال المزاج البشري وتهافت التركيب الطيني، وقدر الناظر في هذا الفن، والباحث عن هذا المستكن، أنه حالم، وأن الحلم لا ثمرة له، ولا جدوى منه.

وهذا كله مادام مقيساً إلى الأمور القائمة بشهادة الإحساس؛ فأما إذا صفا الناظر، أعني ناظر العقل من قذى الحس، فإن المطلوب يكون حاضراً أكثر مما يكون غيره ظاهراً مستباناً؛ وليست شهادة العبد كشهادة المولى، ولا نور السهى كنور القمر.

قال: أنشدني أبياتاً غريبةً جزلة، فأنشدت لهدبة العذري:

سآوي إلى خيرٍ فقد فاتني الصبـا

 

وصيح بريعان الشباب فـنـفـرا

أمورٌ وألوانٌ وحالٌ تـقـلـبـت

 

بنا وزمانٌ عرفه قـد تـنـكـرا

أصبنا بما لو أن سلمى أصـابـه

 

تسهل من أركانه مـا تـوعـرا

وإن ننج من أهوال ما خاف قومنا

 

علينا فإن اللـه مـا شـاء يسـرا

وإن غالنا دهرٌ فقد غال قبـلـنـا

 

ملوك بني نصرٍ وكسرى وقيصرا

وذي نيربٍ قد عابني لينـالـنـي

 

فأعيا مداه عن مداي فأقـصـرا

فإن يك دهر نالني فأصـابـنـي

 

بريبٍ فما تشوي الحوادث معشرا

فلست إذا الضراء نابت بـجـبـأ

 

ولا جزعٍ إن كان دهرٌ تـغـيرا

فقيل: ما الجبأ؟ فقال: الجبان.

قال أبو سعيد: حكى العلماء أن فلاناً جبأٌ، إذا نكل.

فقال: ما أمتن هذا الكلام، وألطف هذا الجدد! وما أبعده من تلفيق الضرورة، وهجنة التكلف، ولولا أن سامعه ربما تطير به، وانكسر عليه.

فكان الجواب: قد مر في الفأل والزجر والطيرة والاعتياف ما إذا تحقق لم يعج على مثل هذا الاستشعار؛ ولعمري إن المذكور والمسموع إذا كان حسناً وجميلاً ومحبوباً ومتمنىً، كان أخف على القلب، وأخلط بالنفس، وأعبث بالروح؛ وكذلك إذا كان ذلك على الضد، فإنه يكون أزوى للوجه، وأكرب للنفس؛ ولكن الأمور في الخيرات والشرور ليست فاشية من الطيرة والعيافة، ولا جارية على هذه الحدود المعروفة، وهي على مقاصدها التي هي غاياتها، ومتوجهاتها التي هي نهاياتها؛ وإنما هذه الأخلاق عارضةٌ للنساء وأشباه النساء، ومن بنينه ضعيفة، ومادته من العقل طفيفة، وعادته الجارية سخيفة؛ وإلا فبأي برهانٍ صح أن الكلام الطيب يجلب المحبوب ويكون علةً له؟! وأن اللفظ الخبيث يجلب المكروه ويكون علةً له؟! هذا خورٌ في طباع قائله، وتأنثٌ في عنصر مستشعره؛ ولو سلك العلماء والبصراء هذا الطريق في كل حالٍ وفي كل أمرٍ لأدى ذلك إلى فسادٍ عام؛ وآثر ما في هذه القصة أن الإنسان إن أعجبه شيءٌ من هذا لا يعول عليه، وإن ساء منه شيءٌ لا يحط إليه، بل يكون توكله على ربه في مسرته ومساءته، أكثر من تفرده بحوله وقوته، في اختياره وتكرهه، وهذا يحتاج إلى عقلٍ رصين، وهمةٍ صاعدة، وشكيمةٍ شديدة، وليس يوجد هذا عند كل أحد، ولا يصاب مع كل إنسان.

فقال الوزير: قد أخذت المسئلة بحقها، والمستزيد منها ظالم، والزائد عليها متكلف.

وقال أيضاً: أريد أن أسألك عن ابن فارسٍ أبي الفتح - فقد كنت عنده بقرميسين أياماً - وما وضح لك من تقدمه وتأخره في صناعته وبضاعته؟فكان من الجواب: إنه شيخٌ فيه محاسن ومساوىء، إلا أن الرجحان لما يذم به لا لما يحمد عليه، فمن ذلك أن له خبرة بالتصرف، وهناك أيضاً قسطٌ من العلم بأوائل الهندسة، وتشبه بأصحاب البلاغة، ومذاكرةٌ في المحافل صالحة؛ إلا أن هذا كله مردودٌ بالرعونة والمكر والإيهام والخسة والكذب والغيبة؛ وقد كان قرينه بقرميسين يظن به خيراً، ويلحظه بعينٍ ما؛ فلما سبره ذمه وكره أن يعاجله بالصرف لئلا يحكم على اختياره بالخطأ، وعلى تصرفه بالهوى. وللكبراء وذوي القدرة زلاتٌ فاحشة، وفعلاتٌ موحشة، ولكن ليس لهم عليها معير للخوف منهم؛ فلما تمادى قليلاً وجه ابن وصيفٍ حتى صرفه، ولا يلتفت إليه بلحظة، ومع ذلك يظن أن فقر الدولة إلى نظره كفقر المدنف إلى عافيته.

وله مع طاهر بن محمد بن إبراهيم شرار وقبقبة، وتنديد وشنعة.

وحدثني ابن أحمد أمس أن ابن فارس شارعٌ في أمور خبيثة، وعازمٌ على أشياء قبيحةٍ، ومضربٌ بين أقوامٍ ضمتهم الألفة، واستحكمت بينهم الثقة، وخلصوا حفظةً للدولة، وحرساً للنعمة، وعلموا أن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم، وما أخوفني على إخواننا الذين بهم عذب شربنا، وأمن سربنا كفانا الله فيهم وكفاهم فينا كل مكروه.

فقال: هو أضيق مبعراً، وأقمأ منظرا، وأذل ناصراً من ذاك؛ والله لو نفخت عليه لطار، ولو هممت به لبار.

وأما ما قلت لي أيها الشيخ إنه ينبغي أن تكتب رسائلك إلى الوزير، حتى أقف على مقاصدك فيها، وأستبين براعتك وترتيبك بها؛ فأنا أفعل ذلك في هذه الورقات، ولم أكتب في طول هذه المدة مع هذه الأحوال العجيبة إلا رقعتين ورسالتين؛ فأما الرقعة الواحدة فإنها تضمنت حديث الخادم وما عزم عليه، وقد شافهتك به؛ وأما الأخرى فحوت حديث ابن طاهر وصاحب الرصافة، وقد شافهتك به؛ وأما الأخرى فحوت حديث ابن طاهر وصاحب الرصافة، وقد سمعته مني.

رسالتان كتب بهما المؤلف إلى الوزير

أما الرسالة الأولى بسم الله الرحمن الرحيم: اللهم حلني بالتوفيق، وأيدني بالنصرة، واقرن منطقي بالسداد، واجعل لي من الوزير وزير الممالك عقبي فارجةً من الغمم، وخاتمةً موصولةً بالنجاح، فإنك على ذلك قدير، وبالإجابة جدير. كنت وصلت إلى مجلس الوزير، وفزت بالشرف منه، وخدمت دولته، وعلاه من صدري بخبيثه، ومن فؤادي بمحيضته، وتصرفت من الحديث بإذنه في شجونه وفنونه، كل ذلك آملاً في جدوى آخذها، وحظوةٍ أحظى بها، وزلفى أميس معها، ومثالةٍ أحسد عليها؛ فتقبل ذلك كله، ووعد عليه خيراً ولم يزل أهله، وانقلبت إلى أهلي مسروراً بوجهٍ مسفر، ومحيا طلق، وطرفٍ عازم، وأملٍ قد سد ما بين أفق العراق إلى صنعاء اليمن، حتى إذا قلت للنفس: هذا معان الوزير ومعمره، وجنابه ومحضره، فانشرحي مستفتحة، وتيمني مقترحة، واطمئني راضيةً مرضية، لا كدرة الشرب، ولا مذعورة السرب، حصلت من ذلك الوعد والضمان، على بعض فعلات الزمان؛ ولا عجب في ذلك من الزمان فهو بمثله مليء، وله فعول. وبقيت محمولاً بيني وبين إذكاره - قرن الله ساعاته بسعاداته، ووصل عز يومه بسعادة غده؛ وغده بامتداد يده - حيران لا أريش ولا أبرى، ثم رفعت ناظري، وسددت خاطري، وفصلت الحساب لي وعلي؛ فوضح العذر المبين، المانع من استزادة المستزيدين، وذلك أني رأيت أعباء الوزارة تؤود سره، وتتعب باله، والمملكة تفزع ولهي عليه، وتلقي بجرانها له بين يديه، والدولة تستمده التدبير الثاقب، والرأي الصائب، سوى أمورٍ في خلاف ذلك لا يحررها رسم راسم، ولا يقررها قسم قاسم، ولا يحويها وهم واهم، ولا يفوز بها سهم مساهم، وهو يخطر في حواشي هذه الأحوال، متأبطاً بواهظ الأثقال، مفتتحاً عويص الأقفا، سامي الطرف، فسيح الصدر، بساماً على العلات، غير مكترثٍ بهاك وهات، يتلقى ما أعيا من ذلك باللي، وما أشكل بالإيضاح، وما عسر بالتدبير، وما فسد بالإصلاح، وما أرق بالعتق، وما خرق بالرتق، وما خفي بالتكشيف، وما بدا بالتصريف، وما أود بالتثقيف، وما لبس بالتعريف، حتى أجمع على هواه قاصيها ودانيها، وجرى على مراده خافيها وباديها، واستجاب لأمره أبيها ومنقادها، وأتلف بلفظه نادرها ومعتادها؛ فلما تيقنت ذلك كله وقتلته خبراً، أمسكت عن إذكاره - نفس الله مدته - سالف عهده، ومتقدم وعده، عالماً بأن أسرهما مرعيٌ عنده في صدر الكرم، ومكتوبٌ لديه في صحيفة المجد، وثابتٌ قبله في ديوان الحسنى.

ولكن كان ذلك الامتنان على رغمٍ مني، لأني قتلت في أثنائه بين جنبي قلباً مغرور الرجاء، ومنزور العزاء، على عوارض لم تسنح في خلدي، ولم أعقد على شيء منها يدي.

فالحمد لله الذي جعل معاذي إلى الوزير الكريم، البر الرحيم، والمنة لله الذي جعلني من عفاة جوده، وناشئة عرفه، ووارد عده، وقادحي زنده، ومقتبسي نوره، ومصطلي ناره، وحاملي نعمته، وطالبي خدمته، وجعل خاصتي وخالصتي من بينهم رواية مناقبه باللسان الأبين، ونشر فضائله بالثناء الأحسن، وذكر آلائه باللفظ الأفصح، والاحتجاج لسداد آرائه بالمعنى الأوضح؛ فلا زال الوزير - وزير الممالك - ممدوحاً في أطوار الأرض على ألسنة الأدباء والحكماء، وفي نوادي الرؤساء والعظماء، ما آب آئب، وغاب غائب، بمنه ولطفه.
قد ناديت الوزير حياً سامعاً، وخيراً جامعاً، وهززت منه صارماً قاطعاً، وشهاباً ساطعاً، واستسقيت من كرمه سحاباً هاطلاً، ونقاخاً سائلاً، وأسأله أن يجنبني مرارة الخيبة، وحسرة الإخفاق، وعذاب التسويف، فقد تلطفت بالسحر الحلال، والعذب الزلال، جهد المقل المحتال، وهو أولى بمجده، في تدبير عبده، إن شاء الله تعالى.

هذا آخر الرسالة الأولى.

وحضر وصولها إليه بهرام - لعنه الله - وتكلم بما يشبه نذاالته وخشيته ونتن نيته، فما كنت آمنه؛ وما أشد إشفاقي على هذا الوزير الخطير من شؤم ناصية بهرام، وغل صدره، وقلة نصيحته، ولؤم طبعه، وخبث أصله، وسقوط فرعه، ودمامة منظره، ولآمة مخبره؛ حرس الله العباد من شره، وطهر البلاد من عره وضره.

وأما الرسالة الثانية فهي التي كانت في هذه الأيام بعد استئذاني إياه في المخاطبة بالكاف، حتى يجري الكلام على سنن الاسترسال، ولا يعثر في طريق الكتابة بما يزاحم عليه من اللفظ واللفظ، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم. أيها الوزير، جعل الله أقدار دهرك جاريةً على تحكم آمالك، ووصل توفيقه بمبالغ مرادك في أقوالك وأفعالك، ومكنك من نواصي أعدائك، وثبت أواخي دولتك على ما في نفوس أوليائك. يجب على كل من آتاه الله رأياً ثاقباً، ونصحاً حاضراً، وتنبهاً نافعاً، أن يخدمك متحرياً لرسوخ دعائم المملكة بسياستك وريادتك، قاضياً بذلك حق الله عليه في تقويتك وحياطتك. وإني أرى على بابك جماعةً ليست بالكثيرة - ولعلها دون العشرة - يؤثرون لقاءك والوصول إليك لما تجن صدورهم من النصائح النافعة، والبلاغات المجدية، والدلالات المفيدة، ويرون أنهم إذا أهلوا لذلك فقد قضوا حقك، وأدوا ما وجب عليهم من حرمتك، وبلغوا بذلك مرادهم من تفضلك واصطناعك، وتقديمك وتكريمك؛ والحجاب قد حال بينهم وبينك، ولكلٍ منهم وسيلةٌ شافعةٌ، وخدمةٌ للخيرات جامعةٌ؛ منهم - وهو أهل الوفاء - ذوو كفايةٍ وأمانةٍ، ونباهةٍ ولباقة؛ ومنهم من يصلح للعمل الجليل، ولرتق الفتق العظيم؛ ومنهم من يمتع إذا نادم، ويشكر إذا اصطنع، ويبذل المجهود إذا رفع؛ ومنهم من ينظم الدار إذا مدح، ويضحك الثغر إذا مزح؛ ومنهم من قعد به الدهر لسنه العالية، وجلابيبه البالية، فهو موضع الأجر المذخور، وناطقٌ بالشكر المنظوم والمنثور؛ ومنهم طائفةٌ أخرى قد عكفوا في بيوتهم على ما يعينهم من أحوال أنفسهم، في تزجية عيشهم، وعمارة آخرتهم، وهم مع ذلك من وراء خصاصةٍ مرة، ومؤنٍ غليظة، وحاجاتٍ متوالية؛ ولهم العلم والحكمة والبيان والتجربة، ولو وثقوا بأنهم إذا عرضوا أنفسهم عليك، وجهزوا ما معهم من الأدب والفضل إليك حظوا منك، واعتزوا بك، لحضروا بابك، وجشموا المشقة إليك؛ لكن اليأس قد غلب عليهم، وضعفت منتهم، وعكس أملهم، ورأوا أن سف التراب، أخف من الوقوف على الأبواب، إذا دنوا منها دفعوا عنها؛ فلو لحظت هؤلاء كلهم بفضلك، وأدنيتهم بسعة ذرعك وكرم خيمك، وأصغيت إلى مقالتهم بسمعك، وقابلتهم بملء عينك، كان في ذلك بقاءٌ للنعمة عليك، وصيتٌ فاشٍ بذكرك، وثوابٌ مؤجلٌ في صحيفتك، وثناءٌ معجلٌ عند قريبك وبعيدك؛ والأيام معروفةٌ بالتقلب، والليالي ماخضةٌ بما يتعجب منه ذو اللب، والمجدود من جد في جده، أعني من كان جده في الدنيا موصولاً بحظه من الآخرة، ولأن يوكل العاقل بالاعتبار بغيره، خيرٌ من أن يوكل غيره بالاعتبار به.

أيها الوزير، اصطناع الرجال صناعةٌ قائمةٌ برأسها، قل من يفي بربها، أو يتأتى لها، أو يعرف حلاوتها، وهي غير الكتابة التي تتعلق بالبلاغة والحساب.

وسمعت ابن سورين يقولك آخر من شاهدنا ممن عرف الاصطناع، واستحلى الصنائع، وارتاح للذكر الطيب، واهتز للمديح، وطرب على نغمة السائل، واغتنم خلة المحتاج، وانتهب الكرم انتهاباً، والتهب في عشق الثناء التهاباً، أبو محمد المهلبي، فإنه قدم قوماً ونوه بهم، ونبه على فضلهم وأحوج الناظرين في أمر الملك إليهم، وإلى كفايتهم، منهم أبو الفضل العباس بن الحسين، ومنهم ابن معروف القاضي، ومنهم أبو عبد الله اليفرني، ومنهم أبو إسحاق الصابىء، وابو الخطاب الصابىء، ومنهم أحمد الطويل، ومنهم أبو العلاء صاعد، ومنهم أبو أحمد ابن الهيثم، وابن حفصٍ صاحب الديوان، وفلان وفلان، هؤلاء إلى غير هؤلاء، كأبي تمام الزينبي، وأبي بكر الزهري، وابن قريعة، وأبي حامد المروروذي، وأبي عبد الله البصري، وأبي سعيد السيرافي، وأبي محمد الفارسي، وابن درستويه، وابن البقال، والسري، ومن لا يحصى كثرةً من التجار والعدول.

وقال لي ابن سورين: كان أبو محمد يطرب على اصطناع الرجال كما يطرب سامع الغناء على الشبابير، ويرتاح كما يرتاح مدير الكأس على العشائر. وقال عنه: إنه قال: والله لأكونن في دولة الديلم، أول من يذكر، إن فاتني أن كنت في دولة بني العباس آخر من يذكر. فلولا أنك - أدام الله دولتك - أذنت لي أن أكتب إليك كل ما هجس في النفس، وطلع به الرأي مما فيه مردٌ على ما أنت فيه من هذا الثقل الباهظ، وتنبيهٌ على ما تباشره بكاهلك الضخم، ولم يكن خطري يبلغ مواجهتك بلفظٍ يثقل، وإشارةٍ تغلظ، وكنايةٍ تخدش، لكنك والله يأخذ بيدك، ويقرن الصنع الجميل بظاهرك وباطنك - قد رخصت لي في ذلك، وخصصتني به من بين غاشية بابك، وخدم دولتك، فلذلك أقول ما أقول معتمداً على حسن تقبلك، وجميل تكلفك، ومنتظر تفضلك؛ وليس في أبواب السياسة شيءٌ أجدى وأنفع، وأنفى للفساد وأقمع، من الاعتبار الموقظ للنفس، الباعث على أخذ الحزم، وتجريد العزم؛ فإن الوكال والهوينا قلما يفضيان بصاحبهما إلى درك مأمول، ونيل مراد، وغصابة متمني. وقد قال رجلٌ كبير الحكمة، معروف الحنكة: المعتبر كثير، والمعتبر قليل. وصدق هذا الرجل الصالح، وهو الحسن البصري: لو اعتبر من تأخر بمن تقدم، لم يكن من يتحسر في الناس ويندم، ولكن الله بنى هذه الدار على أن يكون أهلها بين يقظةٍ ونوم، وبين فرحٍ وترح، وبين حيطةٍ وورطة، وبين حزمٍ وغفلة، وبين نزاعٍ وسلوة، لكن الآخذ بالحزم - وإن جرى عليه مكروه - أعذر عند نفسه وعند كل من كان في مسكه، من الملقي بيده، والمتدلي بغروره، والساعي في ثبوره؛ وما وهب الله العقل لأحدٍ إلا وقد عرضه للنجاة، ولا حلاه بالعلم إلا وقد دعاه إلى العمل بشرائطه، ولا هداه الطريقين أعني الغي والرشد إلا ليزحف إلى أحدهما بحسن الاختيار.

هذا بالأمس أبو الفضل العباس بن الحسين الوزير - وهو في وزارته وبسطه أمره ونهيه - قيل له ذات يوم: هذا التركي ساسنكر تفيأ بظله، واعتصم بحبله، واستسق بسجله، وارتو من سؤره، ولا يبلغه عنك، ما يوحشه منك، ويجفيه عليك. وقد قيل:

اسجد لقرد السوء في زمانه

وإذا لم تقدر على قطع يدٍ جائرةٍ، فقبلها متهمةً منجدةً غائرة. فلم يفعل، حتى وجد أعداؤه طريقاً إليه، فسلكوه وأوفعوه.

ثم قيل له في الوزارة الثانية: قد ذقت مرارة النكبة، وتحرقت بنار الشماتة، وتأرقت على فرطات العجز والفسالة، وقد كان من ذلك كله ما كان، ودار لك بما تمنيت الزمان؛ فانظر إلى أين تضع الآن قدمك، وبأي شيء تدير لسانك وقلمك، فإن مخلصك من ورطتك بالمرصاد، وقد وعدت من نفسك إن أعاد الله يدك إلى البسطة، ورد حالك إلى السرور والغبطة، أنك تجمل المعاملة، وتنسى المقابلة، وتلقى وليك وعدوك بالإحسان إلى هذا، والكف عن هذا، حتى يتساويا بنظرك، ويتعبدا لك بتفضلك.

فكان من جوابه ما دل على عتوه وثباته، لأنه قال: أما سمعتم الله تعالى حيث يقول: "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون"؟ وقال لي لاقومسي - ولم يعلم ما في فحوى هذا الكلام -: ما ذاك؟ قلت: فحواه ولو عادوا إلى ما نهوا عنه لعدنا إلى مقابلتهم بما استحقوا عليه.

وصدق ما قال الله عز وجل، ما لبث ذلك الإنسان بعد هذا الكلام إلا قليلاً حتى أورده ولم يصدره، وأعثره ولم ينعشه، وسلم إلى عدوه حتى استل روحه من بين جنبيه، شافياً به ومشتفياً منه، وكان عاقبة أمره خسراً، ولو اتقى الله لكان آخر أمره يسراً. والله المستعان.

وهذا بعده محمد بن بقية طغى وبغى، واقتحم ظلمات والعسف، وطار بجناح اللهو والعزف، والشرب والقصف، ومل نعمة الله عليه، وضل بين إمهال الله وإملائه، فحاق به ما ذهبت عليه نفسه وماله، وخرب بيته، وافتضح أهله، وكيف كان يسلم أم كيف كان ينجو وقد قتل ابن السراج بلا ذنب، والجرجرائث بلا حجة، وضرب ابن معروفٍ بالسياط وأبا القاسم - أخاً لأبي محمد القاضي - وشهره على جملٍ في الجانب الشرقي؟! والتشفي حلو العلانية، ولكنه مر العاقبة، وكأن الحفيظة إنما خلقت لتعتقد، والحقد إنما وجد ليبلغ به ما يسر الشيطان.
وكأن العفو حرام، والكظم محظور، والمكافأة مأمورٌ بها.

وهذا بالأمس علي بن محمد ذو الكفايتين، اغتر بشبابه، ولها عن الحزم والأخذ به فيما كان أولى به، وظن أن كفايته تحفظه، ونسبه من أبيه يكنفه، وبراءته تحتج له، وذنوبه الصغيرة تغتفر؛ لبلائه المذكور، وغنائه المشهور؛ ومشى فعثر، وراب فخثر، والأول يقول:

من سابق الدهر كبا كبـوةً

 

لم يستقلها آخـر الـدهـر

فاخط مع الدهر إذا ما خطا

 

واجر مع الدهر كما يجري

وقال لي الخليل - وكان لطيف المحل عنده، لما كان يرى من اختصاص أبيه له، ولما يظهر من فضله عنده -: قلت له يوماً: يا هذا، في أي شيء أنت؟! وبأي شيء تعلل؟! وقد شحذت المواسي، وحددت الأنياب، وفتلت المرائر، ونصبت الفخاخ، والعيون محدقةٌ نحو القطيعة، والأعناق صورٌ إلى الفظيعة، وأنت لاهٍ ساهٍ عما يراد بك بعد؛ يسبيك هذا المزرفن وهذا المرخي وهذا المعرض، وهذا الحليق، وهذا النتيف، وهذا المعقرب الصدغ، وهذا المصفوف الطرة، وبالكاس والطاس، والغناء والقصف، والناي والعود، والصبوح والغبوق، والشراب المروق العتيق؛ والله ما أدري ما أصنع، إن سكت عنك كمدت، وإن نصحتك خفت منك؛ ونعوذ بالله من اشتباه الرأي، واشتباك الأمر، وقلة الاحتراس، والإعراض عما يجري من أفواه الناس.

يا هذا، سوء الاستمساك خيرٌ من حسن الصرعة، وتلقي الأمر بالحزم والشهامة أولى من استدباره بالحسرة والندامة، ومن لا تجربة له يقتبس ممن له تجربة، فإذا نقب الخف دمي الأظل. فقال: قد فرغ الله مما هو كائن، وإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون.

قال: قلت له: ما أطلعك الله على كائنات الأمور، ولا أعلمك بعواقب الأحوال، وإنما عرفك حظك بعد أن وفر عقلك، وأحضرك استطاعتك؛ وأوضح لقلبك ما عليك ولك، حتى يستشف ويستكشف، وملكك النواصي حتى تمن وترسل، وما طالبك إلا بعد أن أزاح علتك، ولا عاقبك إلا بعد أن أنذرك وأنظرك، وبمثل هذا تطالب أنت من هو دونك من خدمك وحشمك، وأوليائك وأعدائك، وهذا الذي أعذلك عليه هو الذي به تعذل غيرك وتراه ضالاً في مسلكه، متعرضاً لمهلكه.

فقال: أيظلمني ولي نعمتي صراحاً بلا ذنب، ويجتاحني بلا جريمة؛ ويثلم دولته بلا حجة؟ قلت: الله يقيك ويكفيك، نراك بلا ذنب، ونجدك بريئاً من كل عيب، وغيرك لا يراك بهذه العين، ولا يحكم لك بهذا الحكم؛ فإن كنت ترى فرصةً فانتهزها، وإن كنت تحلم بغصةٍ فاحترز منها؛ فأبواب النجاة مفتحة، وطرق الأمان متوجهة، والأخذ بالاحتياط واجب، قد قرب الشاخص من هذا المكان، والقيامة قد قامت بالإرجاف، والطيرة قشعريرة النفس، كما أن القشعريرة طيرة البدن، والاسترسال كلال الحس، والفأل لسان الزمان، وعنوان الحدثان، ولا يقع في الأفواه إلا ما يوجب الحذر، ويبعث على الرأي والنظر، واستقراء الأثر والخبر.

قال: أما أنا بعد التوكل على الله فقد استظهرت بمحمد بن إبراهيم صاحب نيسابور، وبفخر الدولة وهو بهمذان على ثلاثة أيام، وبعز الدولة وهو بمدينة السلام؛ ومتى حرب حارب، وراب رائب، أويت إلى واحدٍ من هؤلاء.

قال: قلت: ها هنا ما هو أسهل من هذا وإن كان أهول، وأنجى وإن كان أشجى، وأقرب وإن كان أعزب.

قال: ما هو؟ فرج عني واهدني.

قلت: لما يدخل هذا الوارد الدار، ويدنو من طرف البساط، تندر رأسه عن كاهله، وتلقي شلوه في مزبلة، فإن الهيبة تقع، والنائرة تخبو، والعجب يغمر، والظنة تزول، والصدر يشتفي، والاعتذار ينتفي؛ ويكتب إلى موفده بأن الرأي أوجب هذا الفعل، لأنه غلب على الظن باليقين، ودفعت الشبهة بالجلاء، واستخلصت النور من الظلام؛ ولأن تبعد ساقطاً من خدمك، يسوء ظني به من جهتك، ويقدح في طاعتي لك، ويضرم في نار التهمة بيني وبينك؛ خيرٌ لي في نصيحتي لدولتك، وخيرٌ لك في بقائي على أمرك ونهيك، من أن يلتاث ضميري في سياسة دولتك، وتحول نيتي عما عهدت من القيام بحق جندك ورعيتك، وحفظ قاصيتك ودانيتك.

فقال: هذا أعظم والله المستعان.

وليتني أصبت بهذا الرأي امرأً علا عقله، فيقبلهه ببيان، أو يرده ببرهان، فكان يقوى أو يضعف، ويقدم عليه أو يحجم عنه، فإن المبرم أقوى من السحيل، والسمين أحمد من النحيل؛ ثم كان ما كان. وكان مشايخ العراق والجبل يرون ما حديث بذلك الفتى أمراً فرياً، وظلماً عبقرياً.

وحدثني القومسي أنه لم يتقدم بذلك أمر، ولا سبق به إذن، ولكن لما حدث ما حدث، وقع عنه إمساك، وسترت الكراهية والإنكار.

وللأمور أيها الوزير ظهورٌ وبطون، وهوادٍ وأعجاز، وأوائل وأواخر؛ وليس على الإنسان أن يدرك النجاح في العواقب، وإنما عليه أن يتحرز في المبادىء؛ ولهذا قال القائل:

لأمرٍ عليهم أن تتم صدوره

 

وليس عليهم أن تتم عواقبه

وقال سليمان بن عبد الملك أو غيره من أهل بيته: ما لمت نفسي على فوت أمرٍ بدأته بحزم، ولا حمدتها على درك أمرٍ بدأته بعجز.

ها هنا ناسٌ إذا تلاقوا ينفث بعضهم إلى بعض بما هو صريح وكناية، ويحتاج الأمر إلى ابن يوسف، ويستملي الخبيث من الجالس فوق مشرعة مكان الروايا.

وليس يصح كل ما يقال فيروى على وجهه، وليس يخفى أيضاً كل ما يجري فيمسك عنه؛ والأمور مرجة، والصدور حرجة، والاحتراس واجب، والنصح مقبول، والرأي مشترك، والثقة بالله من اللوازم على من عرفه وآمن به، وليس من الله عز وجل بدٌ على كل حال.

والله أسأل الدفاع عنك، والوقاية لك، في مصبحك وممساك، وفي مبيتك ومقيلك، وشهادتك وغيبتك، ولذوي مليحاً في هذا الباب نفخٌ وإيقاد، وتناقلٌ وائتمار، ومسئلةٌ وجواب.

وعند الشيخ أبي الوفاء من هذا الحديث ومن غيره مما يتصل به من ناحية ابن اليزيدي ما يجب أن يصاخ له بالأذن الواعية، ويقابل بالنفس الراعية، ويداوى بالدواء الناجع، وتحسم مادته من الأصل، فإن الفساد إذا زال حصل مكانه الصلاح. وليس بعد المرض إلا الإفراق، ولا بعد النزاع إلا الإغراق.

إلى ها هنا انتهى نفسي بالنصح وإن كانت شفقتي تتجاوزه، وحرصي يستعلي عليه، لكني خادم، وكما يجب علي أن أخدم بنيات الصدر، فينبغي أن ألزم الحد بحسن الأدب.

والله إني لوادٌ مخلصٌ، وعبدٌ طائع، ورجائي اليوم أقوى من رجائي أمس، وأملي غداً أبسط من أملي اليوم؛ أشكو إليك الأرق بالليل فكرا فيما يقال، وتحفظا مما ينال، وتوهما لما لا يكون إن كان، وشر العدا، الذين يتمنون لأولي نعمتهم الردى، ويبيتون النكائث، ويكسرون الأجفان، ويتخازرون بالأعين، ويتجاهرون بالأذى إذا تلاقوا، ويتهامسون بالألسن إذا تدانوا، والله يصرع جدودهم، ويضرع خدودهم بين يديك؛ وهذه الرقة مني والحفاوة، وهذه الرعشة والقلق، وهذا التقبع والتفزع كله، لأني ما رأيت مثلك، ولا شاهدت شبهك، كرم خيم، ولين عريكة، وجود بنان، وحضور بشر، وتهلل وجه، وحسن وعد، وقرب إنجاز، وبذل مال، وحب حكمةٍ.

قد شاهدت ناساً في السفر والحضر، صغاراً وكباراً وأوساطاً، فما شاهدت من يدين بالمجد، ويتحلى بالجود، ويرتدي بالعفو، ويتأزر بالحلم؛ ويعطي بالجزاف، ويفرح بالأضياف، ويصل الإسعاف بالإسعاف، والإتحاف بالإتحاف، غيرك.

والله إنك لتهب الدرهم والدينار وكأنك غضبان عليهما، وتطعم الصادر والوارد كأن الله قد استخلفك على رزقهما؛ ثم تتجاوز الذهب والفضة إلى الثياب العزيزة، والخلع النفيسة، والخيل العتاق، والمراكب الثقال، والغلمان والجواري، حتى الكتب والدفاتر وما يضن به كل جودا؛ وما هذا من سجايا البشر إلا أن يكون فاعل هذا نبياً صادقاً، وولياً لله مجتبنى، فإن الله قد أمن هذا الصنف من الفقر، ورفع من قلوبهم عز المال، وهون عليهم الإفراج عن كل منفس، ياقوتاً كان أو دراً، ذهباً كان أو فضة؛ كفاك الله عين الحاسدين، ووقاك كيد المفسدين، الذين أنعمت عليهم بالأمس على رءوس الأشهاد، وكانوا كحصى فجعلتهم كالأطواد؛ وهم يكفرون أياديك، ويوالون أعاديك، ويتمنون لك ما أرجو أن الله يعصبه برءوسهم، وينزله على أرواحهم، ويذيقهم وبال أمرهم، ويجعلهم عبرةً لكل من يراهم ويسمع بهم، كان الله لك ومعك، وحافظك وناصرك.

أطلت الحديث تلذذاَ بمواجهتك، ووصلته خدمةً لدولتك، وكررته توقعاً لحسن موقعه عندك، وأعدته وأبديته طلباً للمكانة في نفسك.

وأرجو إن شاء الله ألا أحرم هبة من ريحك، ونسيماً من سحرك، وخيرةً بنظرك. لم أوفق في هذه الكلمة الأخيرة، والله ما يمر بي يأسٌ من إنعامك فأقويه بالرجاء، ولا يعتريني وهمٌ في الخيبة لديك فأتلافاه بالأمل. إنما قصارى أمنيتي إذا حكمت أن أعطى فيك سؤلي بالبقاء المديد، والأمر الرشيد، والعدو الصريع، والولي الرفيع، والدولة المستتبة، والأحوال المستحبة، والآمال المبلوغة، والأماني المدركة، مع الأمر والنهي النافذين، بين أهل الخافقين؛ والله يبلغني ذلك بطوله ومنه. وآخر ما أقول: أيها الوزير: مر بالصدقات، فإنها مجلبة السلامات والكرامات، مدفعةٌ للمكاره والآفات، واهجر الشراب، وأدم النظر في المصحف، وافزع إلى الله في الاستخارة، وإلى الثقات بالاستشارة؛ ولا تبخل على نفسك برأي غيرك، وإن كان خاملاً في نفسك، قليلاً في عينك، فإن الرأي كالدرة التي ربما وجدت في الطريق وفي المزبلة، وقل من فزع إلى الله بالتوكل عليه، وإلى الصديق بالإسعاد منه، إلا أراه الله النجاح في مسئلته، والقضاء لحاجته؛ والسلام.

فقال لي الوزير بعد ما قرأ الرسالة: يا أبا مزيد، بيضتها، وعجبت من تشقيق القول فيها، ومن لطف إيرادك لها، ومن بلة ريقك بها.

والله يحقق ما نأمله له، ونرجوه لأنفسنا، وينحسر عنا هذا الضباب الذي ركد علينا، ويزول الغيم الذي استعرض في أمرنا، وعلى الله توكلنا، "ومن يتوكل على الله فهو حسبه".

رسالة في شكوى البؤس ورجاء المعونة

وجه بها المؤلف إلى الشيخ أبي الوفاء المهندس الذي كتب له المؤلف هذا الكتاب. وختم كتابه بها: أيها الشيخ، سلمك الله بالصنع الجميل، وحقق لك وفيك وبك غاية المأمول.

هذا آخر الحديث، وختمته بالرسالتين، ويتقرر جميع ما جرى ودار على وجهه، إلا ما لممت به شعثاً، وزينت به لفظاً، وزيدت منقوصاً، ولم أظلم معنىً بالتحريف، ولا ملت فيه إلى التحوير؛ وأرجو أن يبيض وجهي عندك بالرضا عني، فقد كاد وعدك في عنايتك يأتي علي، وأنا أسال الله أن يحفظ عنايتك علي، كسابق اهتمامك بأمري، حتى أملك بهما ما وعدتنيه من تكرمة هذا الوزير الذي قد أشبع كل جائع، وكسا كل عارٍ، وتألف كل شاردٍ، وأحسن إلى كل مسيء، ونوه بكل خامل، ونفق كل هزيل، وأعز كل ذليل؛ ولم يبق في هذه الجماعة على فقره وبؤسه، ومره ويأسه، غيري؛ مع خدمتي السالفة والآنفة، وبذلي كل مجهودٍ، ونسخي كل عويص، وقيامي بكل صعب؛ والأمور مقدرة، والحظوظ أقسام، والكدح لا يأتي بغير ما في اللوح.

فصل

خلصني أيها الرجل من التكفف، أنقذني من لبس الفقر، أطلقني من قيد الضر، اشترني بالإحسان، اعتبدني بالشكر، استعمل لساني بفنون المدح، اكفني مؤونة الغداء والعشاء.


إلى متى الكسيرة اليابسة، والبقيلة الذاوية، والقميص المرقع، وباقلي درب الحاجب، وسذاب درب الرواسين؟ إلى متى التأدم بالخبز والزيتون؟ قد والله بح الحلق، وتغير الخلق؛ الله الله في أمري؛ اجبرني فإنني مكسور، اسقني فإنني صدٍ، أغثني فإنني ملهوف، شهرني فإنني غفل، حلني فإنني عاطل.

قد أذلني السفر من بلدٍ إلى بلد، وخذلني الوقوف على بابٍ باب، ونكرني العارف بي، وتباعد عني القريب مني.
أغرك مسكويه حين قال لك: قد لقيت أبا حيان، وقد أخرجته مع صاحب البريد إلى قرميسين؟! والله ثم وحياتك التي هي حياتي، ما انقلبت من ذلك بنفقة شهر، والله نظر لي بالعود، فإن الأراجيف اتصلت، والأرض اقشعرت، والنفوس استوحشت، وتشبه كل ثعلبٍ بأسد، وفتل كل إنسانٍ لعدوه حبلاً من مسد.

أيها الكريم، ارحم؛ والله ما يكفيني ما يصل إلي في كل شهرٍ من هذا الرز المقتر الذي يرجع بعد التقتير والتيسير إلى أربعين درهماً مع هذه المئونة الغليظة، والسفر الشاق، والأبواب المحجبة، والوجوه المقطبة، والأيدي المسمرة، والنفوس الضيقة، والأخلاق الدنيئة.

أيها السيد، أقصر تأميلي، ارع ذمام الملح بيني وبينك، وتذكر العهد في صحبتي، طالب نفسك بما يقطع حجتي، دعني من التعليل الذي لا مرد له، والتسويف الذي لا آخر معه.

ذكر الوزير أمري، وكرر على أذنه ذكري، وأمل عليه سورةً من شكري، وابعثه على الإحسان إلي.

افتح عليه باباً يغري الراغب في اصطناع المعروف لا يستغني عن المرغب، والفاعل للخير لا يستوحش من الباعث عليه.

أنفق جاهك فإنه بحمد الله عريض، وإذا جدت بالمال فجد أيضاً بالجاه، فإنهما أخوان. سرحني رسولاً إلى صاحب البطائح أو إلى أبي السؤل الكردي أو إلى غيره ممن هو في الجبال، هذا إن لم تؤهلني برسالةٍ إلى سعدٍ المعالمي بأطراف الشام، وإلى البصرة، فإني أبلغ في تحمل ما أحمل، وأداء ما أؤدي؛ وتزيين ما أزين، حداً أملك به الحمد، وأعرف فيه بالنصيحة وأستوفي فيه على الغاية. دع هذا، ودع لي ألف درهم، فإني اتخذ رأس مال، وأشارك بقال المحلة في درب الحاجب، ولا أقل من ذا، تقدم إلى كسج البقال حتى يستعين بي لأبيع الدفاتر. قلت: الوزير مشغول. فما أصنع به إذا فرغ، فالشاعر يقول:

تناط بك الآمال ما اتصل الشغل

قد والله نسيت صدر هذا البيت، وما بال غيري ينوله ويموله مع شغله وأحرم أنا؟! أنا كما قال الشاعر:

وبرقٌ أضاء الأرض شرقاً ومغرباً

 

وموضع رجلي منه أسود مظلـم

والله إن الوزير مع أشغاله المتصلة، وأثقاله الباهظة، وفكره المفضوض ورأيه المشترك، لكريمٌ ماجد، ومفضلٌ محسن، يرعى القليل من الحرمة، ويعطي الجزيل من النعمة، ويحافظ على اليسير من الذمام، ويتقبل مذاهب الكرام، ويتلذذ بالثناء إذا سمع، ويتعرض للشكر من كل منتجع، ويزرع الخير، ويحصد الأجر، ويواظب على كسب المجد، ويثابر على اجتلاب الحمد، وينخدع للسائل، ويتهلل في وجه الآمل، ولا يتبوأ من الفضائل إلا في ذراها، رحيم بكل غادٍ ورائح، ولكل صالحٍ وطالح.

وأنا الجار القديم، والعبد الشاكر، والصاحب المخبور، ولكنك مقبلٌ كالمعرض، ومقدمٌ كالمؤخر، وموقدٌ كالمخمد، تدنيني إلى حظي بشمالك، وتجذبني عن نيله بيمينك، وتغذيني بوعدٍ كالعسل، وتعشيني بيأس كالحنظل، ومن عتبه علي مظنة عيبك، فليس ينبغي أن يكون تقصيره على تيقنه بنصرك.

نعم؛ عتبت فأوجعت، وعرفت البراءة فهلا نفعت؟ والله ما أدري ما أقول، إن شكرتك على ظاهرك الصحيح لذعتك لباطنك السقيم، وإن حمدتك على أولك الجميل، أفسدت لآخرك الذي ليس بجميل.

قد أطلت، ولكن ما شفيت، ونهلت وعللت، ولكن ما رويت.

وآخر ما أقول: افعل ما ترى، واصنع ما تستحسن، وابلغ ما تهوى، فليس والله منك بد، ولا عنك غنىً.

والصبر عليك أهون من الصبر عنك، لأن الصبر عنك مقرونٌ باليأس، والصبر عليك ربما يؤدي إلى رفع هذا الوسواس، والسلام لأهل السلام.