الجزء الأول: من السنة 1800 إلى 1870 - الفصل الأول: الآداب العربية في الشرق في بدء القرن التاسع عشر

الفصل الأول

الآداب العربية في الشرق في بدء القرن التاسع عشر

لما تنفَّس القرن التاسع عشر ?كانت أحوال أوربَّة في هَرج ومَرج والحروب قائمة على ساق بين دولها فلم تحطَ عن أوزارها إلا بعد نفي بونابرت إلى سنت هيلانة. وكان الشرق راصداً لحركات الدول يتحفَّظ ويتصوَّن من كل سوء يتمهَّده فيستعدُ للحرب ذباً عن حقوقهِ. فكانت هذه الحالة لا تسمح بصرف الفكر إلى العلوم والآداب وقد قيل في مثلِ (أنَّ الحرب والعلم على طرفي نقيض فأن رجيح واحد خفّ الآخر) وممّا نقض حبلَ الآداب في ذلك العهد قلّة المدارس يتخرَج فيها الأحداث فغاية ما كان يُرى منها بعضُ الكتاتيب الابتدائية لا سيما قريباً من أديرة الرهبان وكان في الحواضر كدمشق وحلب والإسكندرية والقاهرة مدارس أعلى رتبة لكنَّها في الغالب كانت محصورة في العلوم الدينيَّة وما يُحتاج إلى إتقانها من المعارف اللسانية كمبادئ الصرف والنحو.

أما الكتب فكانت عزيزة الوجود أكثرها من المخطوطات الغالية الثمن التي لا يحصل عليها إلاَّ القليلون. وكذلك الطباعة العربيَّة كانت إذ ذلك قليلة الانتشار فأنَّ مطبوعات أوربة العربيَّة لم يكن يعرفها إلا الأفراد. من أهل الشرق فضلاً عن أنها كانت موضوعة لمنفعة العلماء أكثر منها لفائدة الدارسين. أما المطبوعات في الشرق فلم يكن يوجد منها إلاَّ في دار السلطنة العليَّة وكانت في الغالب تركيَّة (أطلب مقالتنا في الطباعة. المشرق 3 (1900): 174- 180) وفي لبنان كانت مطبعة واحدة عربيَّة وهي مطبعة الشوير وكانت أكثر مطبوعاتها دينيَّة لا مدرسيَّة (الشرق 359:3 - 362). وأما مطبعة قزحياً فكانت سريانيَّة ولم تتجدَّد إلا بعد ثماني سنوات بهمة الراهب اللبناني سيرافيم حوقا (المشرق 3: 251 - 257). وكذلك مطبعة حلب التي كان أنشأها البطريرك أثناسيوس دباس (المشرق 3: 355 - 357) فأنَّها كانت بطلت بعد وفاة منشئها سنة 1724. أما مصر فإنها حصلت على أول مطبعة عربية قبل القرن التاسع عشر بثلاث سنوات فقط. فأنَ اللجنة العلميَة التي كانت في صحبة نابليون كانت أتت بأدوات طبعية توّلي إدارتها المسيو مرسال (marcal) وممّا طبعهُ بادئ بدء كتاب التهجئة في العربيَّة والتركية والفارسية (1798) (ثم كتاب القراءَة العربية ثم معجم فرنسويّ وعربيّ ثمَّ غراماطيق اللغة المصرية العاميّة. وفي سنة 1800 عاد مرسال إلى باريس وجلب مطبعتهُ معهُ ولم يستأنف المصريُون فن الطباعة إلا في أيام محمَّد عليّ سنة 1822. وسنعود إلى الكلام عنها. ومع قلَّة هذه الرسائل لتحصيل العلوم وُجد قومٌ من المكتبة الذين خدموا في الدواوين المصريَّة والشاميَّة وكانوا يتولَّون قلم الإنشاء فيها عند عمَّال الدولة العلية فينالون في الكتابة بعض الشهرة منهم إبراهيم الصبَّاغ وأولادهُ الذين أثبتنا ترجمتهم في المشرق (8 (1905): 24) وصار ابنهُ حبيب كاتب القلم العربي عند أحمد باشا الجزَّار فتسلَّم دائرتهُ ثم تغيَّر هذا عليه فحبسهُ ومات محبوساً. واشتهر المعلم عبود البحري وأخواهُ جرمانوس وخنَّا عند إبراهيم باشا أوزون القِطر أغاسي في حَلب وفي دمشق ثم عند خلفية عبد الله باشا العظم ويوسف آغاكنج كما ذكرنا في ترجمة والدهم ميخائيل البحري (راجع المشرق 3 (1900): 2 - 22) وذكرنا هناك ما كان لكل واحد منهم من الهمَّة في خدمة الدولة العثمانية وأصحابها. أما أبوهم ميخائيل فكان معتزلاً عن الأشغال في بيروت منقطعاً فيها إلى العبادة حتى توفي أواخر القرن الثامن عشر سنة 1799. وقد روينا في ترجمته شيئاً من شعرهِ فأنهُ كان رُزق من القريحة والذكاء ما حَببهُ إلى رجال الدولة وقدَمهُ قي الأعمال وهو لا يزال يفرغ كنانة الجهد في القيام في الأمور وصدق الخدمة ونشأ أولادهِ على وتيرتهِ وترقَّوا في الرُتب الديوانية إلى أن انتقلوا نحو السنة 1808 إلى مصر ونالوا الحظري لدى أمرائها (المشرق 3: 21 - 22) ومن آثارهم رسائل ومكاتبات وأشعار قد تبدّد أكثرها.

وكان في صور أيضاً المعلَم حنا عوراء من جملة الكتَّاب أخذ عن أبيهِ ميخائيل الذي كان فريداً في الكتابة يُحسن الإنشاء في العربية والتركية والفارسية فلمَّا توفي ميخائيل في سنَّ الأربعين نال أبنهُ حناَّ رتبتهُ في ديوان الجزّار ثم عند سليمان باشا واستخدم معهُ أبنهُ إبراهيم الذي توفي بعد سنتين بالطاعون. وبقي حنا من بعدهِ زمناً طويلاً في الأعمال الديوانيّة. وممن خدموا أيضاً في دواوين الإنشاء في ذلك الوقت الأخوان إبراهيم وخليل النحاس ابنا عم حنّا عوراً كتب لأول في عكا والثاني في صور وأشتهر أيضاً بالكتابة في الوقت عينه غير هؤلاء كميخائيل سكروج وأخيهِ بطرس وإبراهيم أبي قالوش ويوسف مارون والياس بن إبراهيم اده الذي دونَّا سيرتهُ وشعرهُ في المشرق (2 (1899): 693 و736) وكذلك فضُول الصابونجي وأخوهُ خدموا كلهم أحمد باشا الجزّار وذاقوا حاوهُ ومرَّهُ. وفي عدهم اشتهر عند الأمير بشير الشهابي الشيخ ساوم الدحاح ثمَّ ابنهُ الشيخ منصور وبعدهما بطرس كرامه. كما حظي عند الأمير يوسف الشيخ سعد الخوري وعُرف في ذلك الوقت جرجس باز وعبد الأحد أخوهُ خدما أولاد الأمير يوسف وهم حسين وسعد الدين وسليم الذين كانوا يزاحمون الأمير بشير على الحكم.

وكان في مصر غير هؤلاء يشتغلون في الدواوين في غرةّ القرن التاسع عشر. إلا أن شهرتهم في الكتابة كانت دون شهرة السوريين. وممَّن امتازوا إذ ذاك المعلَمان القبطيَّان جرجس الجوهري وغالي. فكان الأوَّل فرئيس الكتبة في أيام إبراهيم بك وحظي لدا محمَّد باشا خسرو ثم نُكب. وقد ذكرهُ الجبرتيّ في تاريخهِ عجائب الآثار وجعل وفاتهُ في شعبان السنة 1225ه. (1810). وقام من بعده المعلم غالي وكان زاحمهُ في حياتهِ فصار في خدمة محمَّد علي باشا وأبنهِ إبراهيم متولياً رئاسة الكتابة وكان من جملةّ كتابه قومٌ من نصارى السوريين وغيرهم كجرجس وحنَّا الطويل والمعلم منصور صريمون وبشاره ورزق الله الصبَّاغ والمعلم فرنسيس أخي المعلم فلتأوس وقد تضعضع أمرهم بموت المعلم ضالي الذي قُتل سنة 1820 ومما ساعد أهل مصر على صيانة الآداب العربية في ضهرانيهم مدرسة زاهرة كان يعلم فيها نخبة من العلماء المسلمين نريد بها المدرسة الأزهريَّة التي مر في المشرق وصفها (4 (1901): 49). وكان متولّي تدبيرها في ذلك الوقت الشيخ عبد الله بن حجازي الشهير بالشْرقاوي مولدهُ في شرقية بلبيس سنة 1150ه. (1737) درس في الأزهرْ وانتقلت إليه مشيختهُ سنة 1208 وبقي عليها إلى سنة وفاته في 2 شوال سنة 1227 (1812) ولهُ عدَّة تصانيف دينيَّة في التوحيد والعقائد والتصوَّف. ومن تآليفَه مختصر معْنى اللبيب في النحو ولهُ في التاريخ كتاب طبقات فقهاء الشافعية المتقدّمين والمتأخرين وكتاب تحفة الناظرين في من ولي مصر من الولاة والسلاطين وقد طبعت هذه التحفة غير مرَّة. وممَن أصابوا لهم سمعةً في ذلك الوقت من الأزهريين الشيخ محمَّد الخالدي المعروف بابن الجوهري فكان أقرأ الدروس في الأزهر وطار صيتهُ ووفدت عليهِ الوفود من الحجاز والمغرب والهند والشام توّفي في 11 ذي القعدة 1215 (1801) وتركتُهُ العلمية كثيَّرة وإنَّما مدارها على الفقه ومتعلقاتهِ خاصَّةً.

ومن أدباء الأزهريين في ذلك العهد الشيخ مصطفى بن أحمد المعروف بالصاويْ لزم شيوخ الأزهر وبرع في العلوم الدينيَّة واللسانيَّة وكان لطيف الذات مليح الصفات محباً للآداب لهُ النثر الطيّب والشعر الحسن روى منهُ الجبرتي شيئاً في عجائب الآثار (3: 313 - 315) من ذلك قولهُ في وصف دارٍ أبتانها الجبرتي المذكور:  

بنـاءٌ يروقُ الـعـينَ حـسـنُ جـمـالـهِ

 

ورونقهُ يشـفـي الـصـدورَ صـدورُهُ

سما في سماء الكون فـأنـتـهـج الـعـلا

 

برفـعـتـهِ وأزداد سـرا ســـرورُهُ

ومـن مـجـد بـانـيهِ تـزايد بـهــجةَ

 

وقُلِد مـن درَ الـمـعـالـي نـحـورُهُ

فلا زال فيهِ الفضلُ تسـمـو شـمـوسـهُ

 

وتنمـو عـلـى كـل الـبـدور بـدورهُ

ودام بـهِ سـعـدُ الـسـعـود مـؤرخـاً

 

حِمى العزَ بالمولى الجبرتيَ نورهُ (1192)

ومنهم الشيخ حسين بن عبد اللطيف العُمري الشهير بابن عبد الهادي القادري الدمشقي الخاوتي لهُ تأليف في تراجم أسلافهِ العلويين سماهمَّ المواهب الإحسانيَّة في ترجمة الفاروق وذريتّهِ بني عبد الهادي. توّفي سنة 1216 (1801) وممن ساعدوا على النهوض الأدبيّ في أوائل القرن التاسع عشر رؤساء الطوائف الكاثوليكيَّة الإجلاء فكان يسوس الطائفة المارونية البطريرك يوسف التيّان الذي كان تخرَّج في مدرسة الموارنة في رومية وبرَّز بين أقرنهِ في العلوم فلما صار إليهِ تدبير أمور الطائفة سعا بتنشيط المعارف بين رعيتهِ لا سيما الأكليريكيين. وممَّا عني بهِ توجيه نظره إلى مدرسة عين ورقة التي كان أنشأها خلفهُ البطيريك يوسف اسطفان لَّما كان أسقفاً فصارت هذه المدرسة بهمَّتهِ مناراً استضاءت بهِ الأمَّة المارونيَّة في القرن التاسع عشر ومنها خرج العدد العديد من بطاركة وأساقفة وكهنة وأدباء كانوا فخراً لوطنهم بعلومهم فضلاً عن برهم وسوف يأتي عنهم الكلام. ولهذا البطريرك آثار لا تزال تدلُ على طول باعهِ في الآداب الكنسية. توّفي في 20 شباط سنة 1820 وكان تنزَّل قبل ذلك بعشر سنوات عن البطريركيَّة.

وكان الروم الكاثوليك خاضعين أيضاً لبطريرك يحب العلوم ويهتم بترقيتها بين طائفتهِ نريد البطريرك أغابيوس مطر وهو الذي أنشأ مدرسة عين تراز لتهذيب أبناء ملتهِ في العلوم الأكليريكية سنة 1811 وقد أثبتنا في المشرق (8 (1905): 508) الرسالة التي وجَّهها إلى طائفتهِ في هذا الصدد.

وكان السريان الكاثوليك في بدء القرن التاسع عشر فقدوا بطريركهم ميخائيل جروه الطيّب الذكر في 14 تموز سنة 1800 (أطلب ترجمة حياتهِ في المشرق 3 (1900): 913) ولهُ الفضل في وضع أساس مدرسة الشرفة وفيها جمع مكتبة حسنة هي إلى اليوم من أغنى مكاتب لبنان. ثم خلفهُ اغناطيوس بطرس جروه وكان متضلعاً بالعلم وهو الذي عرّب مختصر الكتاب اللاهوت النظري والعملي لتوما دي شرم في مجلَّدين وكتب ترجمة عمهِ ميخائيل جروه ولهُ مواعظ لا تزال مخطوطة (المشرق 9 (1906): 697).

وكان يرعى الأرمن الكاثوليك منذ 1788 غريغوريوس الأول وكان رجلاً عريقاً بالفضل والقداسة يعرف ما العلوم من المنفعة لخلاص النفوس فلباوغ هذه الغاية أنشأ في لبنان لطائفته مكدرسة في بزمار كانت بمثابة المدارس التي ذكرناها للطوائف الأخرى وهي لا تزال منذ مائة سنة مورداً يستقي منهُ المرشحون الكهنوت من الأرمن الكاثوليك وقد ساعدهُ في هذا العمل الخطير القس اندراوس شاشاتي فنظَّم معهُ مدرسة بزمار ورتُب قوانينها (اطلب المشرق 366:9).

وفي أوائل ذلك العصر عينهِ أزداد عدد الكلدان الكاثوليك في العراق على عهد البطريرك يوحنّان هرمزد وقد أتاح الله لتلك الطائفة رجلاً غيوراً يدعى جبرائيل دنبو كان من تجار ماردين المعتبرين فأنشأ في الجبال المجاورة للموصل قريباُ من القوش ديراً جعلهُ كمقام للعيشة النسكية وللعلوم معن وفيه تخّرج كثيرون من اللذين اشتهروا في القرن التاسع عشر بتقاهم وآثارهم العلمية بين الكلدان. فترى ممّا سبق أنَّ الله جعل في أنحاء الشرق كخميرة بما اختمرت عقول أهل الأوطان فلما تزل تترَّقى إلى أن جرت في مضمار الآداب جرى الذكيات السوابق.