الجزء الأول: من السنة 1800 إلى 1870 - الفصل الثاني : الآداب العربية في أوربة في بدء القرن التاسع عشر

الفصل الثاني
الآداب العربيّة في أوربَّة في بدء القرن التاسع عشر

هلمَّ بنا نوجه الآن الأنظار إلى أحوال الآداب العربية بين الأوربيين في مفتتح القرن التاسع عشر ليظهر للقراء كيف تمَّت بعد ذلك تلك النهضة العجيبة التي جعلت الدروس العربيّة في مقام ممتاز كما نراها اليوم في حواضر أوربية وأميركة ليس درس اللغات الشرقية عموماً والعربيّة خصوصاً أمراً مستحدثاً بين علماء أوربة كما يزعم البعض بل ابتدأت الأفكار تتوجّه إلى إحراز معانيها والتقاط لأليها منذ الفتوحات الإسلامية التي قرّبت أمم الشرق من تخوم البلاد الغربية ولو تتبعنا الآثار المنبئة ببيان هذه القضية لتعددَّت لدينا الشواهد لا سيمّا في جهات الأندلس وبعض جهات الروم. لكنّ تلك الحركة زادت قوة وانتشاراً في القرن الثاني عشر لِما جرى في ذلك العهد من الأمور الجليلة والأحداث الخطيرة التي كادت تمزج طرفي الشرق والغرب مزج ما بالراح.

والكنيسة الكاثوليكية كانت أعظم ساعية في إدراك هذه الغاية. فممّن اشتهروا إذا ذلك في الدروس الشرقية واعتنوا بنقل الآثار العربيّة إلى اللاتينية أو بنوا أبحاثهم على أحوال الشرقيين رئيسُ دير كاوني بطرس المكرّم (1092 - 1156م) وكان رحل إلى الأندلس ورقب شؤون العرب فيها فأعجب بآدابهم فلمّا عاد إلى ديرهِ عُني بانتقاد كتبهم. وفي عهده عرف جيرّ رَد دي كريمونا (1114 - 1187) وكان مولعاً بنقل تأليف العرب في فنون الحكمة وكان أتقن درس العربيّة فترجمه إلى اللاتينية نحو ستين مصنفاً جليلاً لمشاهير الكتبة كالرازي وابن سينا في الرياضيّات والهيئة والطبّ طُبع منها قسمٌ صالح وفقد منها الكثير.
ولما أنشأت في ذلك القرن رهبانيّتا القديسين دومنيك وفرنسيس الأسيزي صرف من أبنائهما عددٌ يُذكر عنايتَهم إلى درس العلوم الشرقية. فأنّ الدومنيكي النابغة البرتوس الكبير (1193 - 1280) لَما كان يفسر كتب الفيلسوف أرسطاطاليس في كلية باريس كان يستند في شروحه إلى ترجمة منقولة عن العربيّة ويستعين في تحصيل معانيها بما كتبه في ذلك الفارابي والغزّالي. وجاراهُ في حبّهِ لآثار الشرق أحد اخوتهِ في الرهبانيّة الفرنسيسية الأسباني ريمند لول (R. Lull) (1235 - 1315) وكان من أكبر أنصار اللغات السامية في كليَّة أورَّبة. وأهتمّ رؤَساء الدومنيكان منذ السنة 1255 بإنشاء مدرسة منظَّمة يعلمون فيها العبرانية والعربية والسريانيَّة في باريس وبلاد الكتَلان. أما الرهبان الفرنسيسيُّون فلم يكونوا أقلّ غيرةً في تخصيصٍ بعض طلبتهم بدرس العربية. أشتهر بينهم ميشال سكوت (M. scot) الذي انكبَّ في طليطلة على إتقان اللغة العربيّة سنة 1217 ونقل عدداً وافراً من تأليفها. واشهرُ منهُ الراهب الإنكليزي روجار باكون (R. Bacon) (1214 - 1292) فريد عصرهِ ونسيج وحدهِ في العلوم الفلسفيّة فإنه سعى ما أمكنه بنشر الدروس الشرقية وعلى الأخصّ العربية.

أمَّا الأحبار الرومانيون فسبقوا كل ملوك أوربَّة في تنشيط درس اللغات الساميَّة التي منها العربيَّة. وممَّا يُذكر فيشكر أنَّ البابا هونوريوس الرابع كان تقدمَّ بفتح مدرسة اللغة العربيَّة في باريس في العشر الأول من القرن الرابع عشر. ولمَّا عُقد في فينة من أعمال فرنسة المجمع المسكونّي سنة 1311 كان أحد قوانين الآباء أن تنشأ للغات مدارس العبرانيَّة والعربيَّة والكلدانيَّة في رومية على نفقة الحبر الأعظم وفي باريس على نفقة ملك فرنسة وفي بولونية وأكسفورد وسَلَمَكَة على حساب الرهبان والأكليروس. وممَّا يدلُّ على أنَّ هذه اللغات كانت تُعلَّم في كليَّة باريس براءةٌ للبابا يوحنَّا الثاني والعشرين تاريخها 1325 يحتم فيها على قاصدهِ هناك بأن يراقب تدريس العربيَّةولمَّا أكتُشف فنّ الطباعة في أواسط القرن الخامس عشر كان كبير الأحبار يوليوس الثاني أوَّل من سبق إلى طبع كتاب عربيّ (اطلب المشرق 3 (1900): 80) ووليَهُ أغوسطينوس جوستنياني أسقف نابيو من أعمال كورسكا الذي طبع كتاب الزبور في أربعة لغات منها العربيَّة سنة 1516. وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر فتحت الرهبانية اليسوعية مدرسة للعبرانية وللعربية في رومية علَّم فيها الأب حنَّا اليانو الشهير وأنشأ مطبعةً طبع فيها بعض الكتب الدينية كان نقلها إلى العربية منها التعليم المسيحي. وأعمال المجمع التريدنتيني. ثمَّ زاد اهتمام الكرسيّ الرسولي بتعليم العربيَّة والعبرانيَّة والسريانيَّة لمَّا أُنشئت المدرسة المارونية ونقل المرسلون والسماعنة إلى مكتبة الفاتيكان عدداً لا يُحصى من كنوز الشرق الأدبيَّة بينها المئون من تأليف العرب اقتنوها بإيعاز الباباوات كما أشرنا إلى ذلك (المشرق 10 (1907): 25). ثمَّ اتسعت تلك النهضة في كل أقطار أوربَّة فتوفَّر عدد الدارسين للُغات الشرقيَّة وحفلت المكاتب بآثار العرب والسريان لا سيما خزائن كتب باريس ومجريط ولندن واكسفورد ولَيْدن ونُشرت تأليف عربيَّة جليلة لأَعظم أُدباء العرب وأشهر كتبة الشرق ولم يكتف المرسلون بذلك بل انصبوا على دراسة العربيَّة انصباباً بلَغ بهم إلى أن أَتقنوا أصولها وألَّفوا فيها التآليف المتعددة منها دينيّة ومنها أدبيّة ونقلوا إليها عدداً دثراً من طُرف المصنَّفات الأوربية. وهو بحثٌ استوفيناه في مقالاتنا التي أدرجناها في إعداد المشرق عن المخطوطات العربية لكتبة النصرانية.

لكنَّ هذه الحركة مع سعة نطاقها لم تتجاوز حدوداً معلومة بل خمدت في آخر القرن الثامن عشر بعض الخمود لِما طرأَ على أنحاء أوربَّة من الدواهي بنشوب الحروب واستشراء الفساد وكثير من المدارس الشرقيَّة أُقفلت لسوء أحوال الزمان.

وما عتَّمت فرنسة أن أدركت حاجتها إلى علماء يحسنون لغات الشرق وخصوصاً اللغات الحية وفي مقدمتها العربيَّة فأنشأ أرباب أمرها في باريس في 29 نيسان من السنة 1795 مدرسةً لتعليم اللغات الشرقية الحيَّة أعني العربيَّة والفارسيَّة والتركيَّة وهي المدرسة التي أضحت مثالاً لِما أُنشئ. بعدئذٍ على هيئتها من المدارس الشرقيَّة العمليَّة في عواصم شتى من الممالك الأوربية. وتلك المدرسة لم تزل تترَّقى في معارج التقدُم إلى يومنا هذا خرج منها عددٌ لا يُحصى من العلماء المستشرقين من فرنسيون وألمان وإيطاليين وسويسريين وغيرهم نذكر فيما بعد لمعةً من أخبارهم. وقد أُقيمت للمدرسة المذكورة أعياد شائقة قبل 30 سنة بنسبة يوبيلها المئويّ وطُبعت بعدئذٍ المطبوعات المفيدة لتسيطر تاريخها مع عدَّة آثار من قلم أساتذتها وتلاميذها. وممَّا أضافتهُ هذه المدرسة إلى تعليمها لغات الشرق الأقصى أي الصينيَّة واليابانية والأناميَّة. وكذلك أدخلت في جملة دروسها الأرمنيَّة والهندستانيَّة وفيها يدرس الذين يترشَّحون للمناصب القنصليَّة في الشرق وكان أعظم السُّعاة في فتح هذه المدرسة رجلان هُمامان أحدهما يُعرف بكبير المستشرقين وإمامهم البارون سلوستر دي ساسي الذي سنعود إلى ذكره الطيّب قريباً والآخر لويس لنغلاي (L. T. Langles) (1763 - 1824) وكان من أساتذة اللغات الهنديَّة أَلف فيها التآليف المفيدة التي نُشرت بالطبع وعُني بنشر التآليف العربيَّة ولهُ رحلةٌ إلى بلاد الشام وفلسطين ومصر طُبعت سنة 1799. وممَّا ساعد على نهضة الآداب الشرقية في أواخر القرن التاسع عشر بعد هبوطها الجمعيَّات الأسيويَّة كان الفضل في تشكيل أوَّل جمعية منها في باتافيا من أعمال الهند الهولنديَّة سنة 1778 لكنَّها كانت تقتصر على ما يختصّ بالمستعمرات الهولنديَّة. ثمَّ أنشأ أحد الإنكليز وهو سير وليم جونس (1743 - 1795) جمعية آسيويَّة عمومية في كلكوتة سنة 1784 فنجحت نجاحاً عظيماً. وكان منشئها من أفاضل المستشرقين لهُ عدَّة تآليف في فنون العلوم الشرقية من جملتها شرح المعلَّقات في الإنكليزية. وعلى مثال هذه الجمعيَّة عُقدت محافل آسيويَّة أُخرى في الهند لا سيَّما محفل بنغالي سنة 1788. وهذه النوادي العلميَّة لم تبلغ ما بلغتهُ محافل القرن التاسع عشر الوارد ذكرها لكنَّها أفادت بما نشرتهُ من المصنَّفات الأدبية والصناعيَّة والتاريخيَّة والعلميَّة في مجلاَّت كانت تظهر في أوقات معلومة والبعض منها لم يزل طبعها جارياً حتى الآن.

أما المستشرقون الذين نالوا لهم بعض الشهرة في خاتمة القرن الثامن عشر فكانوا من الافرنسيين يوسف دي غيني (J. De Guignes) (1721 - 1800) مدرّس اللغة السريانية في مكتب باريس العلمي ومؤلف تاريخ واسع للتتر والمغول والترك في خمسة مجلدات ضخمة. ثم انكيتل دبرون (Anquetil - Duperron) (1731 - 1805) درس وهو شاب اللغات الشرقية ثم ساح في أطراف الشرق وجمع المخطوطات الهندية الجليلة ونشر تآليف عديدة في أخبار الهند وآثار الهنود والفرس والعرب وهو أول من نقل كتاب زرادشت المعروف بزند اوستا إلى الافرنسية وبعض كتب البد (Vedas) وله مقالات عديدة في مجلة العلماء. ومنهم المستشرق هربان (A. Herbin) (1783 - 1806) كتب في أصول اللغة العربية العلمية وألف معجمين عربي فرنسوي وفرنسوي عربي وكتب في الموسيقى عند قدماء العرب وفي آداب الفرس.

وكان قبل ذلك بعشر سنوات توفى مستشرق كبير من كهنة فرنسة الخوري جان جاك برتلمي (J. J. Barthelemy) (1716 - 1795) اشتغل في الفيليقيين والتدمريين وله مقالات لا تحصى في كل ضروب المعارف. وهو الذي كتب (رحلة أنا كرسيس) الشهيرة ضمَّنها أخبار اليونان القدماء وآثارهم. وقد حذا حذوه وطنينا المرحوم جميل مدور في كتابه حضارة الإسلام في دار السلام.

ومما زاد الفرنسويين ترقياً في الآداب الشرقية أن نابوليون لما قصد مصر سنة 1798 أخذ في صحبته بعضاً من العلماء المعدودين الذين انتهزوا الفرصة لتعلم العربية بين المصريين. وكانت فئة من السوريين اجتمعوا بهم بصفة تراجمة منهم ميخائيل صباغ ونيقولا الترك والقس رافائيل الراهب المخلصي وغيرهم. فاستعان أولئك العلماء بهم لدرس العربية ولما عادوا إلى فرنسة نشروا تلك اللغة بين مواطنيهم.

وكان أيضاً في أواخر القرن الثامن عشر بعض العلماء من غير الفرنسويين الذين انقطعوا إلى درس العربية وألفوا فيها التآليف منهم في ألمانية جان جاك ريسك (J. J. Reiske) نشر عدداً كبيراً من كتب العرب ونقلها إلى اللاتينية وعلق عليها التعاليق كمقامات الحريري وتاريخ أبي الفداء ومعلقة طرفة ومنهم جان داود ميكائيليس (J. D. Michaelis) (1717 - 1791) علم اللغات السامية في غوطا وصنف التصانيف المفيدة في العبرانية والسريانية والعربية منها كتب في أصول هذه اللغات وآدابها. واشتهر تيكسن (O. G. Tychsen) (1734 - 1815) في غوتنغن له تآليف شرقية من جملتها تأليف واسع في النقود الإسلامية.

واشتهر غير الألمان السويسري بور كهرت (J. L. Burckhardt) الذي طاف متنكراً في بلاد النوبة وبادية الشام وجهات الحجاز وعُرف بالشيخ إبراهيم وله تآليف جليلة في وصف رحلاته إلى الشام ومصر وبلاد العرب. ومن جملة كتبه تأليف في الأمثال العربية وتوفي في القاهرة. وكانت العربية في خاتمة القرن الثامن عشر لا تزال معززة في إنكلترا في كليتي كمبردج واكسفرد. وكان في أكسفرد مطبعة عربية شهيرة نشرت فيها كتب شرقية متعددة تخص منها بالذكر تآليف أدورد بوكوك (E. Pocock) (1604 - 1691) وابنه توما. وكان إدوارد رحل إلى الشرق وسكن مدة في حلب ثم درس في اكسفرد ونشر تاريخي أبي فرج ابن العبري وسعيد بن طريق. ونال الشهرة بين الإنكليز في الشرقيات في خاتمة القرن الثامن عشر كرليل (J. P. carlyle) (1759 - 1804) ساح في بلاد الشرق ثم تولى تدريس العربية في كلية كمبردج له كتاب في آداب العرب وشعرهم في الإنكليزية ونقل إلى اللاتينية قسماً من مورد اللطافة لجمال الدين ابن تغري بردي. وكذلك اشتهر معاصره يوسف ويت (J. White) (1746 - 1814) من علماء أوكسفرد الذي نشر لأول مرة كتاب عبد اللطيف البغدادي في الأمور المشاهدة بمصر سنة 1789 ثم نقله إلى اللاتينية سنة 1800 وله غير ذلك.

أما الهولنديون فكانوا في ذلك العهد يمشون في درس العربية على آثار أسلافهم الأفاضل كغوليوس (Golius) (1596 - 1667) واربنيوس (Erpenius) (1584 - 1624) وشولتنس (A. Shultens) (1686 - 1750) وابنه جان جاك (J. J. Shultens) (1716 - 1778) وكلهم من المبرزين جعلوا مدينة ليدن كمنار الآداب الشرقية وأبرزوا في مطبعتها المؤلفات العديدة التي أصبحت اليوم عزيزة الوجود يتزاحم العلماء في اقتنائها كتاريخ جرجس ابن المكين المعروف بابن العميد وسيرة صلاح الدين الأيوبي لابن شدّاد وتاريخ تيمورلنك لابن عربشاه وأمثال الميداني ومطبوعات أخرى جليلة. وممن اشتهروا من الهولنديين في أواخر القرن الثامن عشر هيتسما (A. Haitsma) نشر سنة 1773 مقصورة ابن دريد ونقلها إلى اللاتينية وذيّلها بالحواشي. ومنهم شيد (J. Sheid) (1742 - 1795) نقل صحاح الجوهري إلى اللاتينية وألف كتاباً في أصول العربية ونشر منتخبات أدبية شتى.

وبرز بين النمساويين في نهاية القرن الثامن عشر في درس الآثار الشرقية فرنسوا دي دومباي (E. de. Dombay) (1756 - 1810) نشر تاريخاً للعرب وقسماً من أمثال الميداني مع ترجمتها اللاتينية (1805) ثم انقطع إلى درس أحوال مراكش فأبرز عدة آثار مختصة بتلك البلاد كتاريخ ابن أبي زرعة ونقود مراكش وغير ذلك. وأصاب الكاهن جان ياهن (J. Jahn) (1750 - 1816) شهرة في تدريس اللغات الشرقية في فينة وله من التآليف غراماطيق عربي ومعجم عربي لاتيني ومجان أدبية.

وكان الدنيمركيون أيضاً قد وجهوا بأنظارهم إلى الشرق فاشتهر منهم في آخر القرن الثامن عشر نيبوهر (C. Niebhur) (1733 - 1815) الذي طاف في أنحاء جزيرة العرب ودون ملحوظاته وأخبار رحلته في ثلاثة مجلدات أضاف إليها مقالات حسنة في عادات الشرق وأحواله. ومنهم جرج زويغا (G. zoega) (1755 - 1806) خرج من بلاد دنيمرك وتولن رومية العظمى وصار كاثوليكياً وانقطع إلى درس الآثار الشرقية لا سيما آثار مصر.

ولم ينطفئ منار العلوم الشرقية بين الأسبانيين والبرتغاليين وخصوصاً الرهبان. وممن عرف منهم الراهب الفرنسيسي كانيس (Fr. Canes) (1730 - 1795) عاش مدة في فلسطين والشام ودرس العربية مرسلي رهبانيته وقد صنف كتباً مدرسية في الأسبانية لتعليم العربية أخصها غراماطيق ومعجم كبير للمفردات للتعليم المسيحي. وفي عهده كان الراهب حنَّا سوزا (J. Souza) (1730 - 1812) ولد في دمشق من أبوين مسلمين فتنصَّر على يد المرسلين ثمَّ اللغة العربية في لشبونة. ومن مطبوعاتهِ كتاب الألفاظ البرتغالية المشتقَّة من العربية. وكتاب نحو العرب ونصص عربية لمؤَرخي العرب في أمور البرتغال. وكذلك الإيطاليُّون فإنَّهم لم يسهوا عن درس لغات الشرق ومآثرهِ فربح منهم شكر العموم روزاريو غريغوريو (R. Gregorio) الكاهن البالرمي (1753 - 1809) الذي تفرَّغ لدرس آثار صقلية وتاريخها وأحوالها لا سيَّما في أيام العرب فألَّف في ذلك التآليف الواسعة في عدَّة مجلدات ضخمة نخصّ منها بالذكر كتابهُ (الآثار العربية في تواريخ صقلّية) ضمَّنهُ كتابات ونقوشاً بديعة وأوصافاً غاية في الفائدة - وعُرف الكاهن الرحالة ج. ماريتي (G. Mariti) (1736 - 1806) زار بلاد فلسطين والشام ومصر ودوَّن أخبار رحلتهِ وعنها نقلنا في المشرق (8 (1905): 158و120) وصفهُ لدير القلعة وكذلك كتب في تاريخ الصليبيين وغير ذلك.

ولا يجوز لنا في هذا النظر الإجماليّ عن حالة العلوم الشرقية في ختام القرن الثامن عشر أَن ننسى ما كان لمواطنينا من الفضل في نشر الآداب الشرقية في أوربَّة. فإن ذلك القرن هو قرن السَّماعتة الذين أُشير إليهم بكل بنان فصار اسمهم مرادفاً للنشاط في تذليل العقبات وإحياء مفاخر الشرق. أوَّلهم وإمامهم المونسنيور يوسف سمعان السمعاني (1687 - 1768) رئيس أساقفة صور صاحب المكتبة الشرقية وتآليف أَُخرى لا تُحصى. ثمَّ أسطفان عوَّاد السمعاني نسيبهُ (1709 - 1782). ثمَّ يوسف لويس السمعاني (1710 - 1782) ثمَّ شمعون السمعاني (1752 - 1821) وكان كل هؤلاء تلامذة المدرسة المارونية في رومية وأثماراً طيّبة من دوحتها الفاخرة تُعدْ تآليفهم بالمئات بين مطوَّلة وقصيرة. وكان جلّ اهتمامهم في نشر الآثار السريانية لكنَّهم أيضاً اخرجوا من زوايا النسيان عدَّة تآليف عربية لا سيما في التاريخ والمآثر الدينية والأدبية. وسنعود إلى ذكر الأخير منهم الذي يدخل في دائرة مقالتنا إذ لم يمت إلاَّ في العشر الثاني من القرن التاسع عشر - ومن هؤلاء الشرقيين الذين شرَّفوا الآداب في أواخر القرن الثامن عشر القسّ ميخائيل الغزيريّ وهو أيضاً من تلامذة الآباء اليسوعيين في المدرسة المارونية رافق السمعاني وحضر معهُ المجمع اللبناني سنة 1736 ثمَّ درَّس اللغات الشرقيَّة وتعيّن ترجماناً لملك إسبانيا كرلوس الثالث ومن أعمالهِ الأثيرة وصف المخطوطات العربية في مكتبة الأسكوريال قرب مجريط وهذا التأليف مجلَّدان كبيران يدلاَّن على سعة معارف صاحبهما طُبعا من السنة 1760 إلى 1770 باللاتينيَّة والعربية - واشتهر منهم أيضاً في فينَّة عاصمة النمسا الخوري أنطون عريضة الطرابلسي وعلَّم فيها اللغات الشرقية ولهُ من التآليف كتاب علم صرف العربيَّة ونحوها وضعهُ لتلامذتهِ في اللاتينيَّة وطبعهُ سنة 1813 في فينَّة.

وفي هذا النظر العموميّ كفايةٌ ليعرف القرَّاء حالة الدروس العربية في منتهى القرن الثامن عشر. وإنَّما يترتَّب علينا الآن أن نقتصّ آثار الكتبة الذين زيَّنوا الآداب بحلية معارفهم وأغنوها بثمرات أقلامهم ومصنَّفاتهم في القرن التاسع عشر. وإننا نقسم ذلك فصولاً يسهل على المطالع تتُّبع التفاصيل التي نثبتها فيحرزها دون عناء ويعرف ما لكل كاتب من المزايا والأعمال.