كان افتتاح القرن التاسع عشر في أيَّام السلطان الغازي سليم خان الثالث وكان من أفضل ملوك دولتهِ دمث الأخلاق مغرماً بالآداب محبَّا لترقية رعاياه في معارج الفلاح. ثمَّ صار الملك إلى ابن عمّهِ السلطان مصطفى خان الرابع الذي لم يملك أكثر من سنة فضبط من بعدهِ سنة 1808 زمام السلطنة أخوه محمود خان الثاني فطالت مدّتهُ وكان كالسلطان سليم هائماً بترّقي شعبهِ ساعياً في أسباب نجاحهِ في فنون الآداب وللشاعر نقولا الترك قولهُ جلوسهِ:
توّلى التختَ سلطان البرايا |
|
وأََيّدهُ الإلهُ بمـرتـقـاهُ |
فصاح الكون لمَّا أرَّخـوهُ |
|
نظامُ الملك محمودٌ بهاهُ |
ومن مساعي السلطانين سليم ومحمود المشكورة تعزيزهما لفنّ الطباعة في دار السعادة فطُبعت فيها عدَّة تآليف عربيَّة فضلاً عن المصنَّفات التركية. ويبلغ عدد المصنَّفات العربيَّة التي نُشرت بالطبع في هذه الثلاثين سنة نيّفاً وأربعين كتاباً كقاموس المحيط للفيروز أباديّ (1814) مع شرحهِ في التركيَّة وكحاشية السيلكوتي على مطوَّل التفتزاني (1812) ومراح الأرواح لأحمد بن علي بن مسعود مع مجموع تآليف أُخرى نحويّة وصرفيَّة (1818) وكافيَّة ابن حاجب (1819) وغير ذلك ممّا مرَّ لنا ذكرهُ في مقالتنا عن فنّ الطباعة في الأستانة (المشرق 3 (1900): 174 - 179) وفي ملحق تاريخ تركيَّا للمؤرخ الألماني هامّر (J. de Hammer) جدول هذه المطبوعات كلها في 97 عدداً (اطلب الجلد 14 ص 492 - 507). وكان الولاة يساعدون السلاطين في إدراك غايتهم الشريفة في جهات المملكة كسليمان باشا في عكَّا ويوسف باشا كنج في دمشق وداود باشا في بغداد وغيرهم.
وجاء في لغة العرب (1: 98) أن الوزير سليمان باشا القتيل كان أوَّل من أيقظ العلوم والمنتمين إليها في ديار العراق بعد سُباتها العميق وأنشأ في بغداد عدَّة مدارس. ثمَّ جاء بعدهُ بقليل داود باشا فأنهضها النهضة التي خلدت لهُ الأثر المحمود والذكر الطيّب.
وكذلك في مصر كان محمَّد علي باشا راغباً في نشر المعارف فاستعاد الأدوات الطبعيّة التي كان الفرنسويّ مرسال اتخذها في أيام بونابرت وأنشأ مطبعة بولاق الشهيرة سنة 1822 وكان أوَّل كتاب طُبع في تلك السنة قاموس إيطاليانيّ عربيّ وأُردف في السنة التالية بكتاب قانون صباغة الحرير. ومطبوعات بورق إلى سنة 1830 تربي على الخمسين في اللغات الثلاث العربيَّة والتركية والفارسية إلاَّ أنَّ الكتب العربية المهمَّة لم تُطبع إلاَّ بعد هذه المدَّة وإنَّما جَددَت في الغالب المطبوعات المنشورة في الآستانة.
وما يُقال إجمالاً في هذا القسم الأول من القرن التاسع عشر إنَّ الذين اشتهروا فيهِ كانوا أبناء أنفسهم لم يتعلَّموا في مدارس منظَّمة بل نبغوا بشغلهم الخاصّ تحت نظارة بعض الأفراد الذين سبقوهم في دواوين الكتابة ودوائر الإنشاء.
ونبتدئ هنا بذكر الكتَبة الذين وقفوا نفوسهم على تصنيف التاريخ فنقول: انحصر التاريخ بين أدباء المسلمين في بعض الأفراد الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد فذكرنا منهم (ص4) الشيخين عبد اللّه الشرقاويّ وحسين ابن عبد الهادي. وممَّن يضاف إليهما السيّد إسماعيل بن سعد الشهير بالخشّاب المتوفى في 2 - ذي الحجَّة سنة 1230 (1815) كان مولعاً بالدروس الأدبية وأخبر الجبرتي في تاريخهِ (4:238) (إنّ الفرنساويَّة عيَّنوه في كتابة التاريخ لحوادث الديوان وما يقع فيهِ كلَّ يوم لانَّ القوم كان لهم مزيد اعتناء بضبط الحوادث اليوميّة في جميع دواوينهم وأماكن أحكامهم ثم يجمعون المتفرّق في ملخَّص يُرفع في سجلّهم بعد أن يطبعوا منهُ نسخاً عديدة يوزَعونها في جميع الجيش حتَّى لمن يكون منهم في غير المصر في قرى الأرياف فتجد أخبار الأمس معلومة للجليل والحقير منهم. فلمَّا رتَّبوا ذلك الديوان كما ذُكر كان هو المتقيّد برقم كلّ ما يصدر في المجلس من أمر أو نهي أو خطاب أو جواب أو خطأ أو صواب وقرَّروا لهُ في كل شهر سبعة آلاف نصف فضَّة فلم يزل متقيّداً في تلك الوظيفة مدَّة ولاية عبد اللّه جاك منو (Menou) حتى ارتحلوا من الإقليم) فهذه كما ترى جريدة يوميَّة وهي أوَّل جريدة ظهرت في العربية وكان الجبرتي رأَى منها عدَّة كراريس. وذكر أيضاً لإسماعيل الخشَاب ديوان شعر صغير الحجم جمعهُ صديقهُ الشيخ حسن العطَّار. ومن مساعي السلطانين سليم ومحمود المشكورة تعزيزهما لفنّ الطباعة في دار السعادة فطُبعت فيها عدَّة تآليف عربيَّة فضلاً عن المصنَّفات التركية. ويبلغ عدد المصنَّفات العربيَّة التي نُشرت بالطبع في هذه الثلاثين سنة نيّفاً وأربعين كتاباً كقاموس المحيط للفيروز أباديّ (1814) مع شرحهِ في التركيَّة وكحاشية السيلكوتي على مطوَّل التفتزاني (1812) ومراح الأرواح لأحمد بن علي بن مسعود مع مجموع تآليف أُخرى نحويّة وصرفيَّة (1818) وكافيَّة ابن حاجب (1819) وغير ذلك ممّا مرَّ لنا ذكرهُ في مقالتنا عن فنّ الطباعة في الأستانة (المشرق 3 (1900): 174 - 179) وفي ملحق تاريخ تركيَّا للمؤرخ الألماني هامّر (J. de Hammer) جدول هذه المطبوعات كلها في 97 عدداً (اطلب الجلد 14 ص 492 - 507). وكان الولاة يساعدون السلاطين في إدراك غايتهم الشريفة في جهات المملكة كسليمان باشا في عكَّا ويوسف باشا كنج في دمشق وداود باشا في بغداد وغيرهم.
وجاء في لغة العرب (1: 98) أن الوزير سليمان باشا القتيل كان أوَّل من أيقظ العلوم والمنتمين إليها في ديار العراق بعد سُباتها العميق وأنشأ في بغداد عدَّة مدارس. ثمَّ جاء بعدهُ بقليل داود باشا فأنهضها النهضة التي خلدت لهُ الأثر المحمود والذكر الطيّب.
وكذلك في مصر كان محمَّد علي باشا راغباً في نشر المعارف فاستعاد الأدوات الطبعيّة التي كان الفرنسويّ مرسال اتخذها في أيام بونابرت وأنشأ مطبعة بولاق الشهيرة سنة 1822 وكان أوَّل كتاب طُبع في تلك السنة قاموس إيطاليانيّ عربيّ وأُردف في السنة التالية بكتاب قانون صباغة الحرير. ومطبوعات بورق إلى سنة 1830 تربي على الخمسين في اللغات الثلاث العربيَّة والتركية والفارسية إلاَّ أنَّ الكتب العربية المهمَّة لم تُطبع إلاَّ بعد هذه المدَّة وإنَّما جَددَت في الغالب المطبوعات المنشورة في الآستانة.
وما يُقال إجمالاً في هذا القسم الأول من القرن التاسع عشر إنَّ الذين اشتهروا فيهِ كانوا أبناء أنفسهم لم يتعلَّموا في مدارس منظَّمة بل نبغوا بشغلهم الخاصّ تحت نظارة بعض الأفراد الذين سبقوهم في دواوين الكتابة ودوائر الإنشاء.
ونبتدئ هنا بذكر الكتَبة الذين وقفوا نفوسهم على تصنيف التاريخ فنقول: انحصر التاريخ بين أدباء المسلمين في بعض الأفراد الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد فذكرنا منهم (ص4) الشيخين عبد اللّه الشرقاويّ وحسين ابن عبد الهادي. وممَّن يضاف إليهما السيّد إسماعيل بن سعد الشهير بالخشّاب المتوفى في 2 - ذي الحجَّة سنة 1230 (1815) كان مولعاً بالدروس الأدبية وأخبر الجبرتي في تاريخهِ (4:238) (إنّ الفرنساويَّة عيَّنوه في كتابة التاريخ لحوادث الديوان وما يقع فيهِ كلَّ يوم لانَّ القوم كان لهم مزيد اعتناء بضبط الحوادث اليوميّة في جميع دواوينهم وأماكن أحكامهم ثم يجمعون المتفرّق في ملخَّص يُرفع في سجلّهم بعد أن يطبعوا منهُ نسخاً عديدة يوزَعونها في جميع الجيش حتَّى لمن يكون منهم في غير المصر في قرى الأرياف فتجد أخبار الأمس معلومة للجليل والحقير منهم. فلمَّا رتَّبوا ذلك الديوان كما ذُكر كان هو المتقيّد برقم كلّ ما يصدر في المجلس من أمر أو نهي أو خطاب أو جواب أو خطأ أو صواب وقرَّروا لهُ في كل شهر سبعة آلاف نصف فضَّة فلم يزل متقيّداً في تلك الوظيفة مدَّة ولاية عبد اللّه جاك منو (Menou) حتى ارتحلوا من الإقليم) فهذه كما ترى جريدة يوميَّة وهي أوَّل جريدة ظهرت في العربية وكان الجبرتي رأَى منها عدَّة كراريس. وذكر أيضاً لإسماعيل الخشَاب ديوان شعر صغير الحجم جمعهُ صديقهُ الشيخ حسن العطَّار. وأشهر من هؤلاء في التاريخ العلاَّمة عبد اللّه بن حسن الجبرتي المذكور وُلد في مصر 1167 (1753 - 1754) كما ذكر في تاريخهِ (1:203) وروى كناك بعض ما حدث لهُ في صباه وكان من طلبة الأزهر. جعلهُ بونابرت من كتبة الديوان فأحرز لهُ عند الجميع اسماً طيباً. وانقطع إلى الكتابة والتأليف. وفي آخر حياتهِ قُتل أحد أولاده في حي شبرا فبكاهُ بُكاءً مرَّا افقدهُ البصر ولم يلبث أن تبعهُ في القبر. وقال كاتب فهرست مخطوطات المكتبة الخديويَّة (1:83) لأنه توفي مخنوقاً في رمضان سنة 1237 (1822). وقد جعل المسيو هوارت في تاريخ الآداب العربية مولدهُ سنة 1756 ووفاتهُ سنة 1825 وفي كليهما غلط. أما تاريخهُ فيُدعى عجائب الآثار في التراجم والأخبار ضمّنهُ حوادث مصر التي جرت في أواخر القرن الثاني عشر وأوائل الثالث عشر جارياً في ذلك على سياق السنين منذ فتوح السلطان الغازي سليم خان الأوَّل للقطر المصريّ إلى غاية سنة 1236 ذاكراً للوقائع المعتبرة مع تراجم الأعيان المشهورين وقد ادخل فيه قسماً كبيراً من تاريخ آخر وصف فيه وقائع بعثة بونابرت إلى مصر دعاهُ (مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس) كتبهُ سنة 1216 ه (1802) وتاريخ الجبرتي قد نُقل إلى الفرنسيَّة بهمَّة بعض أفاضل نصارى مصر وهم شفيق منصور بك وعبد العزيز كحيل بك وجبرائيل نقولا كحيل بك واسكندر بك عمون. وقد ترجم الفرنسوي كردين (A. Cardin) تأليفهُ الآخر مظهر التقديس.
وممَّن كتبوا في التاريخ الشيخ أبو القاسم بن أحمد الزيَّاني كان من عمَّال مراكش متولّياً على مدينة وجدة. ثمَّ اعتزل الأشغال في تلمسان وأَلَّف سنة 1813 كتاب الترجمان المغرب عن دُول المشرق والمغرب طبع الأستاذ هوداس (O. Houdas) الفرنسويّ قسماً منهُ يحتوي تاريخ مرَّاكش من السنة 1631 إلى 1812. والباقي لا يزال مخطوطاً. ولهُ كذلك كتاب (البستان الظريف في دولة مولاي عليّ الشريف).
وللكتبة النصارى في هذه الأثناء بعض التواريخ يترتب علينا ذكر أصحابها. وأول من اشتهر في ذلك القس حنانيا المنير أحد رهبان الرهبانية الحناوية الشويرية. ولد المذكور في زوق مصبح سنة 1757 وترهب سنة 1774. أما بقية أخباره في الرهبانية فلا نعلم منها شيئاً كما إننا نجهل سنة وفاته. ومما يظهر من مآثره ومصنفاته أنه كان رجلاً أدبياً كثير الإطلاع سليم الذوق نشيطاً في جمع الآثار والأخبار عارفاً بفنون الكتابة يحسن النثر والشعر. وكان ذلك نادراً في زمانه. وقد نعت نفسه في كتابٍ له عن الدروز بالطبيب ما يدل على أنه كان يتعاطى الطب. أما أخص تآليفه فتاريخان الأول مدني سبق لنا وصفه في المشرق (4 (1901): 427 و972) وهو تاريخ (الدر المرصوف في حوادث الشوف) أثبتنا منه مقدمته وبعض فقراته: وهذا التأليف يتناول الوقائع التي جرت في لبنان من السنة 1109 ه. (1697 م) عند ظهور الأمراء الشهابيين إلى السنة 1222 ه (1807 م) وهو يتسع خصوصاً في حوادث الجبل والساحل في الأربعين السنة الأخيرة. ومن هذا التأليف قد استفاد الأمير حيدر أحمد الشهابي في تاريخه الشهير المعروف بالغرر الحسان في تاريخ حوادث الزمان والشيخ طنوس الشدياق في كتاب الأعيان في جبل لبنان أما التاريخ الثاني ديني قد جمع فيه المؤلف أخبار الرهبانية الحناوية منذ أواسط القرن الثامن عشر إلى نهاية السنة 1219 ه (1804 م) ولعله استفاد من تاريخ آخر لأحد اخوته الرهبان المدعو رفائيل كرامة الحمصي (راجع دواني القطوف ص 201). وليس هذا التاريخ كله دينياً فإن فيه أيضاً أموراً عديدة تختص بأخبار الأمراء وأحوال لبنان وبلاد الشام والقطر المصري. والكتاب عبارة عن 200 صفحة تقريباً وكلا التاريخين نادر قد أمكنا الحصول على نسخة منهما فاستنسخناهما لمكتبتنا الشرقية. ولابن المنير ما خلا ذلك تآليف شعرية وأدبية نذكرها في باب الأدب واشتهر أيضاً في التاريخ من نصارى الملكيين الكاثوليك رجلان من بيت الصباغ كانا حفيدين لإبراهيم الصباغ طبيب ظاهر العمر (أطلب المشرق 8 (1905): 26) اسم أحدهما عبود بن نقولا بن إبرهيم والآخر ميخائيل. وكان أهلهما بعد وفاة جدهما إبراهيم سنة 1776 هربوا إلى مصر حيث نشأ الولدان وتخرجا بالآداب على أساتذة القطر المصري. ثم لما قدم نابليون إلى مصر ومعه عدد من مشاهير العلماء أتصل عبود وميخائيل بهؤلاء الكرام وصارا في خدمتهم إلى أن انتقلا معهم إلى فرنسة. وقد أتسعنا في المشرق (8 (1905): 31 - 33) في ما خلفه ميخائيل من التركة العلمية الثمينة أجلها قدراً تآليف تاريخية لا تزال مخطوطة في مكتبتي باريس ومونيخ منها تاريخ أسرته بيت الصباغ وبيان أحوال طائفته الملكية الكاثوليكية. وله أيضاً متفرقات ضمنها تاريخ قبائل البادية في أيامه وتاريخ الشام ومصر. هذا فضلاً عن كتبه اللغوية والأدبية كالرسالة التامة في كلام العامة ومسابقة البرق والغمام في سعاة الحمام وكلاهما قد طبع في أوربة. وله مآثر من النظم نذكرها في الأدبيات. أما عبود فإن له في مخطوطات باريس تاريخاً (Fonds arabe Paris 4610) جمع فيه أخبار ظاهر العمر دعاه الروض الزاهر في تاريخ ضاهر (كذا)) وطريقة عبود وميخائيل في تدوين التاريخ سهلة الألفاظ واضحة المعاني حسنة السبك تدل على ضلاعتهما في الكتابة هذا مع ضعف في التعبير لا سيما في تاريخ عبود الذي يشبه كلامه بركاكته كلام العامة. وتوفي ميخائيل سنة 1816 أما عبود فلا نعلم سنة ومكان وفاته وقد عرف في عهد الصباغين المذكورين كاهن من أسرتهما كما نظن نضيفه إليهما وهو أنطون صباغ من تلامذة رومية يستحق الذكر بما عربه من التآليف المتعددة البالغة نحو 50 مجلداً منها كتاب تاريخ الكردينال أورسي في 24 جلداً كبيراً انتهى من تعريبه نحو السنة 1792 وكانت وفاته في العشر الأول من القرن التاسع عشر (المشرق 9 (1906): 695) ومن أدباء الروم الملكيين الذين أحرزوا لهم فخراً في التاريخ نيقولا بن يوسف الترك كان اصل والده من الآستانة العلية ثم سكن دير القمر حيث ولد أبنه نيقولا سنة 1763 وفي وطنه مات سنة 1828. كان نيقولا محباً للآداب منذ حداثته فلم يزل يتعاطى النظم والنثر إلى أن نال فيهما نصيباً صالحاً. وقد خدم الأمير بشير الشهابي زمناً طويلاً وقصائده فيه شهيرة نعود إلى ذكرها عند وصف ديوانه. أما التاريخ فله فيه مصنفان أحدهما تاريخ الإمبراطور نابوليون من سنة وفاة الملك لويس السادس عشر إلى موت نابليون سنة 1821 في نحو 450 صفحة كتبهُ بإنصاف وحُسن ذوق مع تعريف أسباب الحوادث وسوابقها ولواحقها والحكم في جيّدها وسيّئها. وهذا الكتاب قد طُبع نصفهُ الأوَّل في باريس سنة 1839 بهمَّة المسيو ديغرانج (M. Desgranges) الذي نقلهُ إلى الفرنساويَّة وألحقهُ بعدَّة ملحوظات وهو يحتوي تاريخ نابليون إلى آخر بعثة مصر سنة 1801. أمّا النصف الثاني فلا يزال مخطوطاً. ولنيقولا الترك تاريخٌ آخر ضمَّنهُ أخبار أحمد باشا الجزّار منهُ في مكتبتنا الشرقية نسخة في 126 صفحة وهو غاية في الإفادة لتعريف أحوال الشام من السنة 1185 إلى السنة 1225 (1771 - 1810) وإنشاء الكاتب بسيط مطبوع خالٍ من التعقيد والنقير كما يليق بالتاريخ.
والغالب على ظننا أنّ المعلم نيقولا الترك هو مؤلف تاريخيين آخرين لم يُذكر اسم كاتبهما فالأوَّل هو (مجموع حوادث الحرب الواقع بين الفرنسويَّة والنمساويَّة في أواخر سنة 1805 مسيحية الموافقة لها سنة 1220 لتاريخ الهجرة) وهو تاريخ واسع في 306 صفحات من قطع الربع طبع في باريس سنة 1807 وصفت فيه وقائع تلك الحرب التي انتهت بانتصار نابوليون في استرلتس. والتاريخ الثاني من مخطوطات مكتبة باريس العمومية (Fonds arabe. n 1864) اسمه (نزهة الزمان في حوادث لبنان) في 148 صفحة يحتوي تاريخ الأمراء الشهابيين منذ أول قدومهم من الحجاز إلى حوران ثم إلى لبنان مع تفصيل أخبارهم إلى أيام الأمير بشير الشهابي ونهايته بالحوادث التي جرت سنة 1205 (1790). ويلحق بهذا التاريخ تاريخ آخر بأحد الموارنة كتبه مؤلفه (أنطونيوس ابن الشيخ أبي خطار الشدياق من بيت الحاج عبد النور قرية عين طورين في جبة بشراي من أعمال طرابلس) سنة 1819 دعاه (مختصر تاريخ لبنان) وهو كتاب في 150 صفحة ضمنه المؤلف عدة أمور تاريخية دينية ومدنية على غير ترتيب كما حضرته أو كما اقتطفها من تواريخ أخرى أو سمعها من أهل زمانه منها فصلٌ واسع نقلناه عنه في المشرق (4 (1901): 769، 820) عن أصل الأمراء والشيوخ في لبنان.
ومما كتب في هذا العهد من الأسفار رحلة لأحد الحلبيين (فتح الله ولد أنطون ابن الصائغ اللاتيني) التي زعم أنه رحل في خدمة أحد الأجانب أسمه تيودور لسكاريس في أواخر سنة 1810 من حلب إلى أنحاء الشام فجهات العرب وقد وصف ما جرى لهما من الأخبار وضمن رحلته أشياء كثيرة عن أحوال المدن التي زاراها وعن قبائل العرب وبلاد الوهابيين. وقد كتب ذلك بعبارة رائقة إلا أنها قليلة التهذيب لا تكاد تخالف لغة العامة والكتاب يصام في خزانة باريس (Fonds arabeno 2298). وقد وقف الشاعر الفرنسوي لامرتين على هذه الرحلة فاستعان ببعض المستشرقين ونشرها مترجمة إلى الافرنسية في كتابه الشهير (سفر إلى الشرق) (Voyage en Orient) في القسم الرابع من طبعة باريس 1835 (ص55 - 285). أما المؤلف فعاش بعد ذلك زمناً طويلاً وسيعود اسمه في مطاوي مقالتنا ثانية. ثم وجدنا في المجلة الآسيوية (G. As. 18722) فصلاً في انتقاد هذه الرحلة فيثبت كاتبه أنها مصنوعة.
ونختم هذا النظر في مؤرخي الثلث الأول من القرن التاسع عشر بذكر أحد مسلمي طرابلس العرب وهو الشيخ محمد بن عبد الكريم ولد في طرابلس الغرب وتلقى العلوم من أعلام عصره وفحول مصره وكان واسع العلم كثير الحفظ تولى النيابة في وطنه لعد والده وحسنت سيرته ألف كتاباً سماه (الإرشاد بمعرفة الأجداد) ضمنه ذكر أسلافه الكرام وكان أصل أجداده من الأندلس ثم انتقلوا إلى طرابلس وعرفوا بآل النائب وكان أبوه فقيراً شاعراً توفي سنة 1189ه (1775م) أما ابنه محمد فكانت وفاته سنة 1232ه (1817م).
إن الشعر والأدب كما التاريخ كانت سوقهما كاسدة في أوائل القرن التاسع عشر لم يشتهر فيهما إلا بعض الأفراد في مقدمتهم بين المسلمين الأديب السيد أحمد ابن عبد اللطيف بن أحمد البربير الحسني البيروتي ولد سنة 1160 (1811) له تآليف أدبية ومنظومات أخصها مقاماته التي منها نسخة خطية في المكتبة الخديوية (أنظر قائمتها 328:4) يبتدئ أولها بقوله: (حكى بليغ هذا الزمان والعصر حديث ألذ من سلافة العصر). وقد طبع من هذه المقامات مقامة (المفاخرة بين الماء والهواء) في دمشق سنة 1300 (1883). وله بديعية عبق عليها شروحاً مصطفى بن عبد الوهاب بن سعيد الصلاحي تصان بين مخطوطات برلين (ع 7388) وله (كتاب الشرح الجلي على بيتي الموصلي) وهو تأليف واسع طبع في بيروت سنة 1302 (1885) أودعه صاحبه فنوناً من الآداب وفصولاً في كل علم من العلوم. والموصلي المذكور هو عبد الرحمان بن إبراهيم الصوفي الموصلي من أدباء القرن الثامن عشر. أما البيتان اللذان شرح البربير رمزهما فهذان:
إن مرَّ والمـرآةُ يومـاً فـي يدي |
|
من خلفهِ ذو اللطف أَسما مَنْ سما |
دارت تماثيلُ الزجـاجِ ولـم تـزلْ |
|
تقفوهُ هدواً حيثُ سـار ويمَّـمـا |
أما منظومات السيد أحمد البربير فكثيرة لكنها متفرقة. وكنا قد نشرنا منها شيئاً في المشرق (3 (1900): 14 - 18) مما دار بينه وبين مخائيل البحري من المراسلات الأدبية. ثم أتحفنا جناب الأديب عيسى أفندي أسكندر معلوف بنخبة أخرى من أقواله الشعرية تجدها في المجلة المذكورة (4 (1901): 396) ولعل السيد أحمد البربير نظم ديواناً كاملاً لكننا لم نقف له على أثر ومما قرأنا من لطائفه قوله في طبيب:
رأيتُ طَـبًّـا لـهُ نـفـارٌ |
|
يتـيهُ فـي مـشـيهِ دلالا |
فقلتُ: من أنت يا حبـيبـي |
|
هل راحمي أنتَ قال: لا لا |
وله في التوحيد:
لقد آمنـتُ بـالـلـهِ |
|
وأصبحتُ بهِ آمـنْ |
هو الأوَّل والآخــر |
|
م والظاهرُ والباطنْ |
وقال:
خرجتُ من سجن نفسي |
|
ومن حظوظي والجاهْ |
وفي جمـيع أمـوري |
|
أسلمتُ وجهي لـلـهْ |
وقال في كبح الشهوات:
إنَّ الذين يجـاهـدو |
|
نَ النفسَ شبَّاناً وشِيبا |
منَّ الإلهُ بنصـرهـم |
|
وأَثابهم فتحاً قريبـا |
وقال في تاجر سها عن الآخرة:
يا تاجـراً لا يزالُ يرجـو |
|
ربحاً ويخشى من الخسارةْ |
عبـادةُ الـلـه كـلَّ حـينٍ |
|
خيرٌ من اللهو والتجـارهْ |
وقال يصف دار أسعد باشا وكان حلها أبو السعود محمد بن علي: يا دارَ أسعدَ باشا - لكِ النعيمُ المخلَّدْ - بطلعة أبن عليٍّ - أبي السعود محمَّدْ بدرٌ يزيد كمالاً - منَ النجوم تولَّدْ - ذو همَّةٍ غارَ منها - حدُّ الحُسام المجرَّدْ أَما ترى السيف منها - في جفنهِ بات مُغمدْ - ولطفهُ في البرايا - ممَّا فشا وتأكدْ حَّتى غدا كلُّ شخصٍ - بهِ يقرُّ ويشهدْ - كأنهُ من نسيم القَبُول بات مجسَّدْ أَما ترى وَرْد خدّ الرياض منهُ تورَّدْ - والبحر لَّما رآهُ - يجودُ أرغى وأزبدْ والدهر بات غلاماً - لمن عليهِ تردَدْ - فتىً بهِ أبيضَّ حظّي - من بعد ما كان أسودْ يا سّيدي عش سعيداً - فإنَّ جدَّك أسعدْ - وسوف ترقى لأوجٍ - من الكواكب أبعدْ فأحفظ بشارة عدلٍ - بها الفراسةُ تشهدْ - وأسلمْ ودم في سرورٍ - ما طائر الصبح غرَّدْ ومن مراثي السيد أحمد البربير قوله في الأمير منصور الشهابي لما توفي سنة 1181ه (1767م):
سقا هذا الضريحَ سحابُ فضلٍ |
|
وعمَّم بالرضى مَنْ في ثراهُ |
أميراً كان في الدنيا شهـابـاً |
|
ومنصوراً على قومٍ عصـاهُ |
فإن يكُ من عيوني قد توارى |
|
فحسبي أنَّ قلبي قـد حـواهُ |
فلماَّ سار للـفـردوس فـوراً |
|
وقرَّبهُ المهيمن واصطفـاهُ |
أَتى تاريخهُ في بيت شـعـر |
|
يودُّ البدرُ إن يُعطى سـنـاهُ |
فمهملهُ ومعـجـمـهُ وكـلٌّ |
|
من الشطرين تاريخاً تـراهُ |
شهابُ الرحمة المولى علـيهِ |
|
هوى للترب بدرٌ من رُبـاهُ |
وكان لأحمد البربير تلامذة أخذوا عنه أخصهم السيد عبد اللطيف بن علي المكنى بفتح الله المفتي البيروتي الحنفي وكان شاعراً إلا إن شعره مفقود. ومما يروى عنه قوله يمدح ميخائيل البحري لما جاء بيروت في أيام الجزار:
ولَّما أَتى البحريُّ بـيروتَ زائراً |
|
إلينا فكم أَهدى عقوداً من الشعرِ |
فلا بدعَ أنْ أُهدي لهُ الدرَّ ناظمـاً |
|
فناهيكَ أنَّ الدرّ يبدو من البحرِ |
فأجابه البحري بأبيات رويناها في المشرق (3 (1900): 17-18). ومن الشعراء المسلمين الذين نظموا الشعر الجيد في أوائل القرن التاسع عشر الشيخ الوفاء قطب الدين عمر أبن محمد البكري الدمياطي الأصل واليافي المولد ولد سنة 1173ه (1759 م) في يافا ودرس على مشاهير شيوخ زمانه في وطنه ورحل إلى مصر وأخذ عن أئمتها. ثم عاد إلى غزة وتجول في أنحاء الشام والحجاز وتوفي في دمشق في غزة ذي الحجة سنة 1233 (1818 م) وقد رثاه شاعر زمانه الذي نترجمه في أوانه الشيخ أمين الجندي بقصيدة رنانة أولها:
قِسيُّ المنايا ما لأَسهُـمـهـا ردُّ |
|
فما حيلتي والصبرُ قد دكَّهُ البُعدُ |
دُهيتُ برُزْء لا يُطـاق عـنـاؤهُ |
|
وكرْبٍ وحزنٍ ما لغايتـهِ حـدُ |
وهي طويلة ومن لطيف ما قاله فيه الشاعر نقولا الترك وقد ضمن فيه اسمه عُمَر:
شمس العلوم تبدَّى |
|
نوراً إلى كلّ راء |
مقرُّها ضمن مـيمٍ |
|
ما بين عين وراء |
أما تآليف السيد عمر اليافي فأخصها ديوانه وبعض مخاطبات ألحقت بديوانه (ص241 - 284) وقد عني بطبع هذه الآثار حفيده السيد عبد الكريم بن محمد أبي نصر في المطبعة العلمية سنة 1311ه (1893م) وهو مجموع واسع فيه قصائد متعددة دينية على منهج المتصوفين وكان السيد على الطريقة الخاوتية وله في هذه الطرائق عدة رسائل منها رسالة في الطريقة النقشبندية رسالة في معنى التصوف والصوفي وغير ذلك. ومن أدبياته رسالة له في الحض على بر الوالدين. أما شعره فهو رقيق اللفظ رشيق المعنى كثير التفنن فيه قسم للموشحات والأدوار الغنائية والخمريات وهانحن نورد منه طرفاً تنويهاً بفضله. قال في الاعتصام والثقة بالله:
أنـا بـالـلـه اعـتـصــامـــي |
|
لا أرى فــي ذاك شـــكـــاً |
راجـــياً فـــيهِ نــــــوالا |
|
ورشـاداً لــيس يُحـــكـــى |
موقناً أن لا سواه كاشفٌ ضراً وضنكاً |
|
|
لم أزل لله عبداً |
|
وبـــهـــذا أتـــزكَّـــى |
وله مستغيثاً مبتهلاً من قصيدة:
إلهي الهـي لـيس آلاءك يُرتـجـي |
|
وحقكَ ما وافـيتُ غـيركَ راجـياً |
ومن ذا الذي أشكو لهُ سوء فاقـتـي |
|
ويعلم قبل المشتكي سـوءً حـالـيا |
لقد دكَّ دهري طود قصري فأصبحت |
|
منازل قصري بالخطوب خـوالـيا |
وفوَّقَ لي الخطبُ المبرح أسهـمـاً |
|
من الوجد والتبريح فيهـا رمـانـيا |
وشنَّ لي الغارات تعدو وقـد غـدت |
|
علي بعادي الجور تعدو الـعـواديا |
فيا ربّ ما للعبدِ في الدهر ملتـجـىً |
|
سواكَ فإني بالـتـضـرع لاجـيا |
تداركْ بألطافٍ وأسعفه بـالـمـنـى |
|
وحققْ له فضلاً لـديك الأمـانـيا |
ومن جيد قوله ما كتبه في بر الوالدين:
كم جـرَّ بـرُّ الـوالـدَي |
|
ن فوائداً للمرء جـمَّـهْ |
منها رضـا الـلـه الـذي |
|
يكفي الفتى ما قد أهمَّـهْ |
وأخو العقـوق كـمـيّت |
|
قد صار في الأحياءِ رُمهْ |
والكلـبُ أحـسـنُ حـالةً |
|
منهُ وأحفظُ منـهُ ذمَّـهْ |
ومن محاسنه قوله في نوفرة على رأسها ليمونة:
ونوفرةِ تبدي مـن الـمـاء قـامةَ |
|
زهت بكمال الصفو حسناً ومنظرا |
هودُ من البلور من فـوقِ رأسـهِ |
|
زُمرُّدةُ خضراء تنثر جـوهـرا |
ومن أوصافه قوله يذكر دير عطية من قرى الشام بين النبك والقريتين:
حاديَ الرَكْب سِرُ وحثَّ المطَية |
|
لديار العطا بدير الـعـطَّـية |
فبتلك الربوعِ تلقى ربيع الـس |
|
أنْس فاحت أزهارها العبهرَّية |
جنَّةٌ قد تزخرفتْ في ربـاهـا |
|
بثمارٍ من البـهـاء جـنـيَةْ |
تجري من تحتها المياهُ بأنـهـا |
|
ر التهاني للـواردين مَـرَّيةْ |
وغصون الرياض تهتزْ فـيهـا |
|
حيثُ غنَّت نسائمُ سَـحـرَّيةْ |
حبَّذا حبَّذا معانـي الأغـانـي |
|
لتهاني المعـالـمُ الأنـسَّـيةْ |
وقد اشتهر بين المسلمين غير هؤلاء في الشعر والأدب لكنه قصائدهم وتآليفهم لا تزال في خزائن الخاصة أو أخذتها أيدي الضياع نذكر منه من اتصل به علمنا بمطالعة مخطوطات مكتبتنا الشرقية.
فمن هؤلاء الأدباء المسلمين إسماعيل بن الحسين جعمان له ديوان صغير الحجم في أحد مجاميع لندن المخطوطة (Supplement of the Catal. Of the Arabic Mss no 1323 3o) يحتوي على قصائد ومراسلات ومقالات شتى كتبها بين السنة 1227 وسنة وفاته 1250 (1812 - 1835).
ومن مشاهير المسلمين في أوائل القرن التاسع عشر السيد محمد الأمير الكبير المولود في سنبو في مديرية أسيوط سنة 1154ه (1741م) والمتوفى في مصر في ذي القعدة سنة 1232ه (1817م). درس الفقه بأقسامه في الأزهر وتولى مشيخة السادة الملكية وألف كتباً عديدة في فنون شتى. وكان كلامه حكماً منه قوله:
دع الدنيا فليس فيها سرورٌ |
|
يتمُّ ولا من الأحزان تسلَمْ |
وكن فيها غريباً ثمَّ هـيئ |
|
إلى دار البقا ما فيه مغنَمْ |
ومنهم الشيخ عبد الله الحلبي كان شاعر زمانه في الشام له ديوان مفقود وقد وقفنا له على بعض فقرات في ديوان نيقولا الترك منها قوله في جملة قصيدة يذكر تآليف الترك:
أنـت بـسـحـر بـيانِ |
|
أبانَ فـضـلاً جـزيلاً |
عن فضل ذي الفضل يبني |
|
عقداً بـديعـاً جـمـيلاً |
صحيح مـعـنـاهُ يروي |
|
عن الصحـاح نـقـولا |
يا درَّ درّ قـــــوافٍ |
|
ترتَّـلـت تـرتــيلا |
قس الـفـصـاحة فـيهِ |
|
سحبانُ أضحى ذهـولا |
لم يتــرك الأوَّلـــون |
|
إلـى الأواخـر قـيلا |
عنهُ الـتـواريخُ تُـروى |
|
براعةً وشــمـــولا |
قد سار ذكـراً شـهـيراً |
|
بين الأنـام جـلــيلا |
وجاء في الديوان عينه ذكر شاعر آخر وهو الشيخ صالح نائب طرشيحا روي له قصائد منها قوله يمدح آل شهاب والشيخ بشير جنبلاط ويذكر قرية المختارة قال:
وأصبو إلى لبنان وهي مواطنٌ |
|
عرفتُ بها ظلاً هناك ظلـيلا |
بآل شهابِ كمّل اللـه عـزّهـا |
|
وشرف منها أربُعاً وطلـولا |
وبالجنبلاطي البشير تشامخـت |
|
جبالٌ بها تعلو المجرّة طـولا |
فتى ما لهُ في الدهر ثان وأنـهُ |
|
أبو قاسمٍ حاز الكمال جمـيلا |
همام إذا ما الحرب شدَّت وثاقها |
|
ترى أسداً المرهفاتِ سَلـولا |
يصولُ بقلبٍ كالجبال ثـبـاتـهُ |
|
فيوقع في قلب العدوّ خمـولا |
يجودُ وفيضُ الجود يحسـدُ جـودهُ |
|
إذا جرَّ من بحر المكـارم نـيلا |
بهِ شرُفت مختارةُ العزّ في الورى |
|
وباروكُها المفضل جاءَ دخـيلا |
تُذكّرنا جناتٍ عدن قـصـورُهـا |
|
وأنهارها شـيئاً تـراهُ جـلـيلا |
فلا مثلها عيني رأَت ذات بهـجةٍ |
|
تكلّلها من صيّب الماء إكـلـيلا |
وبابن عليّ عظّم الـلـه قـدرهـا |
|
وأحيا لها اسماً في الميلاد فضيلا |
وقال يمدح نقولا الترك:
هات زدْني من ذكر وصف نقولا |
|
ثمَّ أورَد أدلَّةً ونُـــقـــولا |
حيثُ جئنا لنشهر الفضلَ مـنـهُ |
|
وبما نال ينبـغـي أن نَـقـولا |
عيسويٌّ حوى اللطـافة حـتـى |
|
صار للُّطـف حـجةً ودلـيلا |
شاعر العصر أوحد الدهر حقـاً |
|
ما وجدنا لمثـل ذاك مـثـيلا |
هو يُدعى بالتُرك فاتـرك سـواهُ |
|
من بني العُرْب واتخذه خلـيلا |
واشتهر في الجزائر محمد أبو راس الناصري من معسكره ولد سنة 1751 ونبغ في الفقه ورحل إلى تونس ومصر والحجاز وتوفي سنة 1823. له قصيدة في فتح وهران على يد الباي محمد بن عثمان سنة 1792 وقد شرحها في كتاب دعاه عجائب الأسفار. وله وصف لجزيرة جربة طبع في تونس سنة 1884.
هذا ما وقفنا عليه من تاريخ شعراء المسلمين في الثلث الأول من القرن التاسع عشر. ونلحق بهؤلاء بعض الذين اشتهروا باللغة والأدب فمنهم الشيخ الشرقاوي الذي سبق لنا ذكره (ص4) والشيخ القلعاوي مصطفى بن محمد الشافعي له كتاب مشاهد الصفا في المدفونين بمصر من آل المصطفى. والشيخ محمد وله منظومة في آداب البحث ومنظومة في المنطق وديوان شعر ديني سماه إتحاف الناظرين في مدح سيد المرسلين. ولد سنة 1158 وتوفي سنة 1230 (1745 - 1815).
ومنهم الشيخ محمد الحنفي المعروف بالمهدي ولد من والدين قبطيين في مصر سنة 1737 وكان اسمه هبة الله ثم أسلم وهو صغير دون البلوغ وتقدم في المناصب وألقى الدروس في الأزهر ورفق طوسون باشا في حرب الوهابيين وصارت إليه رتبة شيخ الإسلام سنة 1227ه (1812م) وتوفي ستة 1230 (1815) وله كتاب روايات على شكل ألف ليلة وليلة دعاه (تحفة المستيقظ والأنس في نزهة المستنيم الناعس) وخدم البعثة الفرنسوية العلمية لما قدمت مصر مع نابوليون وذكره بالثناء المستشرق مرسال.
ومنهم الشيخ محمد الدسوقي ولد في دسوق من قرى مصر ودرس علوم اللغة والحكمة والهيئة والهندسة وفن التوقيت. قال الجبرتي (231:4): (له تأليفات واضحة العبارة سهلة المأخذ ملتزمة بتوضيح الشكل) وعدد تأليفه التي معظمها في العلوم البيانية والفقهية. توفي سنة 1230ه (1815م).
واشتهر في الموصل من الأدباء الشيخ ياسين ابن خير الله الخطيب العمري له تواريخ مخطوطة في خزائن كتب لندن وبرلين كالدر المكنون في مآثر الماضية من القرون وهو تاريخ واسع للإسلام بلغه إلى السنة 1236 (1821م) وأفاض خصوصاً في أمور الموصل (Brit. Museum no 1263) وله منية الأدباء في تاريخ الحدباء (Ibid. no 1265) وكتاب عنوان الأعيان في ملوك الزمان (Berlin no 9484). وجرى ابنه علي بن ياسين على آثاره فكتب نحو السنة 1223ه (1808م) روضة الأحبار في ذكر أفراد الخيار وهو مختصر تاريخ العالم والدول الإسلامية: وذكر في المقالة الثامنة ولاة بغداد من حسن باشا سنة 1006 إلى سليمان باشا 1223 وله كذلك فصل في أدباء الموصل وشعرائها (Brit. Mus. no 1266).
وعرف أيضاً الشيخ أبو الفوز محمد أمين السويدي البغدادي صاحب كتاب سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب اختصره عن القلقشندي نحو السنة 1229 (1814) والكتاب قد طبع على الحجر في بمباي سنة 1294 توفي كاتبه سنة 1236ه (1821م). وفي السنة 1240ه (1825م) مات بغدادي آخر الأديب عثمان بن سند النجدي.
وإن انتقلنا الآن إلى ذكر النصارى الذين أبقوا لما من قرائحهم الوقادة ثماراً جنية بالنظم والنثر لوجدنا قوماً منهم زانوا بآثارهم جيد الآداب واستحقوا شكر السلف مع قلة ما كان لديهم في ذلك الوقت من الوسائل للتتر في العلوم البيانية. وأول من نذكر منهم رجل عصره الذي ترجمناه سابقاً في المشرق (3 (1900): 9 - 22) وهو ميخائيل البحري الشاعر الرومي الملكي الحمصي الأصل. كان متفنناً بالآداب العربية وينظم الشعر الرائق كما ترى في الأمثلة التي أثبتناها عنه في سيرته وقد شهد له أدباء عصره بجود القريحة. قال الشيخ أحمد البربير يمدحه:
رعى الله حمصاً إذا صبت نَحْوَ من لهُ |
|
بيانُ معانٍ في البديع من الشـعـرِ |
بليغُ غدا كالبـحـر والـنـظـمُ درُّهُ |
|
وهل يُستفادُ الدرُّ إلا من الـبـحـرِ |
أزهر ميخائيل البحري في أواخر القرن الثامن عشر وخدم الجزار في ديوان عكا وبعد مدة تغير عليه وألقاه في السجن. قال الأمير حيدر الشهابي في تاريخ سنة 1203ه (1788م): (وفي هذه السنة اعتنق الجزار ميخائيل البحري الذي كان مسجوناً بعد ما قطع أذنيه وأنفه). وكنا روينا في المشرق (3 (1900): 12) عن بعض الرواة أنه أدرك القرن التاسع عشر ثم وجدنا في ديوان الشاعر المجيد بطرس كرامة (ص104) تاريخاً لوفاة المذكور في سنة 1799 قاله نظماً:
لكَ الرَحمات يا لحـداً ثـواهُ |
|
بديعٌ فضلهُ سامي الأرائكْ |
ويا لهفي على من فيكَ أمسى |
|
ويا أسفي لدرٍّ في ثـرائكْ |
حويتَ الكوكب البحري علما |
|
فيا عجبي لبحرٍ في خبائكْ |
ولما أن ثـوى نـودي إلـيه |
|
هلمَّ إلى سرور في علائكْ |
وفي الملكوت أرّخْ ناطَ فوزاً |
|
بميخائيلَ تبتهج الـمـلائكْ |
ولميخائيل البحري ذرية كريمة جرت على آثاره نخص منهم بالذكر ابنه عبودا أو عبد الله البحري الذي ذكرنا بعض تفاصيل حياته وتقلبه في المناصب العالية عند ولاة الشام ولدى أمراء مصر وكان رئيس قلم الإنشاء عندهم. لدينا من آثاره عدة رسائل دولية وأهلية وكان بلغ النهاية في حسن الخط. وفي عبود البحري قال الترك في موشحه الذي كتبه سنة 1809 يمدح بعض أصحابه في دمشق:
كم تباهت دُرَرُ البحري عـلـى |
|
كل ذي نظـمٍ بـديعٍ ونـثـارْ |
وشدتْ من فوق أعلى الصُّحف لا |
|
يُنبت الدرَّ الصفي إلا البـحـارْ |
زمرُ الكتـاب طـرّا والـمـلا |
|
من أولي الألباب توليه الوقـارْ |
كم نـراهُ جـاذبـاً أن رقـمـا |
|
معدنَ الأرواحِ كالمغنـطـيسِ |
بل وكم يسبي عقـولا حـين مـا |
|
يُظهرُ الآياتِ فوق الـطـرسِ |
وممن مدحوا عبودا من الشعراء سليمان صوله قال فيه: ??مولىً أبي الفضلُ إلا من يلازمهُ فلم يُقمْ بمكانٍ فيه لم يقُمِ
لله منهُ مـلاكٌ يرتـقـي فـرسـاً |
|
وكوكبٌ ناطقً يسعى علـى قـدمٍ |
لهُ يدٌ تُخجل الإبحار بـالـكـرم ال |
|
زّخار والذابل الخطار بـالـقـلـمِ |
أضحى لدائرة المعروف والكرم الـم |
|
وفور قُطْب عـلا أولاهُ لـم تَـدُمِ |
أهديكَ يا خلَف البـحـري عـاتـقةً |
|
لعاتقِ المجدِ تهدي جوهر الحـكَـمِ |
إذا قبلتَ بها كان الـقـبـولُ لـهـا |
|
أعلى وأغلى من الياقوت في القيسمِ |
وكانت وفاة عبود سنة 1843 فرثاه المعلم بطرس كرامة بقصيدةٍ طويلة قال فيها:
يا للمنَية قد جازت وقد غـدرتْ |
|
ببدر فضل لهُ الآدابُ هـالاتُ |
مولى اليراعة عبد الله من فُقدت |
|
لفقدهِ وانقضت تلكَ اليراعـاتُ |
يا طالما سبكت أقـلامُـهُ درراً |
|
تقلدت بلآلـيهـا الـرسـالاتُ |
وكم على وجنة القرطاس في يده |
|
تفاخرت ببديع الخـط لامـاتُ |
ما لاعبتْ قلماً يوماً أنـامـلـهُ |
|
ألاّ نَبَتْ مَشرفَّياتٌ صـقـيلاتُ |
لما أتى الناس نـاعـيهِ أسـفـاً |
|
من اليراعة دالاتٌ ومـيمـاتُ |
وكذلك اشتهر أخوه حنا البحري فمدحه الشاعر المذكور غير مرة (اطلب ديوانه ص287، 289، 302) ونظم تاريخاً لوفاته سنة 1843 كما مدح أخاهما جرمانوس فمن قوله في هذه الأسرة كان ميخائيل البحري خالاً لبطرس لبطرس كرامة (ص 288).
بنو البحر آلا أنهم دررُ العُـلـى |
|
وأهلُ الوفا لكن دأبهمُ الـبـرُّ |
وما منهمُ إلا نـبـيهٌ مـهـذَّب |
|
نراهُ بديوان اليراع هو الصدرُ |
بجرمانسٍ ساد الحسابُ وأصبحتْ |
|
دفاترهُ الزهراء يعشقها الزهرُ |
يريك إذا هزَّت يراعاً بـنـانـهُ |
|
عقودَ جماناتٍ معادنها الحبـرُ |
وفاخرَ يوحنَّا بإنشائهِ الـصـبـا |
|
فرقَّت لألفاظ بها انعقدَ الـدرُّ |
تودُّ ذؤاباتُ الحسان إذا انتضى |
|
ليكتب سطراً أنها ذلك السطرُ |
هما فرقدا أوج اليراعة والنُّهى |
|
وأبناء بيتٍ مهدُهُ انتظمُ والنثرُ |
والمعلم بطرس مدائح أخرى في بني البحري منها تاريخه لوفاة اندراوس البحري سنة 1816 (ص261) ختمه بهذا البيت:
تلـقَّـاهُ الإلـه يقـولُ أرّخْ |
|
رثو الُمْلك المعدّ لذي اليمين |
ومنها تاريخه لوفاة عبد الله البحري ابن أخي ميخائيل سنة 1819 (ص261) قال في ختامه:
برُ بغفران الإلـه مـؤَّرَخٌ |
|
ومُنَّعمٌ في روضة الأملاكِ |
وتاريخ وفاة إبراهيم البحري (سنة 1822) المختوم بهذا البيت (ص262):
وفي الملكوت حازَ لـدى إلـه |
|
مع الأبرار أرّخْ خيرَ روضهَ |
وكان ميخائيل الصباغ الذي ذكرناه في جملة مؤرخي زمانه شاعراً وسطاً استحب الأوربيون شعره العربي فنقلوه إلى الفرنسية فمن ذلك ما مدح به البابا بيوس السابع لما قدم فرنسا لتتويج نابوليون قال:
دُهشتْ لرؤية وجهك الأبصـارُ |
|
وأضتّ لرؤيةِ مجدكَ الأمصارُ |
هذي العروسةُ يا سليمان انجلت |
|
في حسنها ولها العظامُ فخـارُ |
ومنها في المدح:
اليوم تحسدنا الملائكُ في السما |
|
لمّا نرى ممَّا العقولُ تُحـارُ |
سامح نواظرنا إذا بكَ كرَرت |
|
نَظراتها أو زادها التكـرارُ |
وله موشح قاله في ميلاد ابن نابوليون الأول سنة 1811 أوله:
هلّـلـوا يا كـلَّ الأمـمْ |
|
واهتفوا فيها بألحان النغَمْ |
ومنها:
أيها القيصرُ بُلّغتَ المنى |
|
كلُّنا بالبكر نهديك الهنا |
أنتَ منّا مستحقُّ للثـنـا |
|
قد حبانا رُّبنا هذي النعمْ |
وله غير ذلك مما لا نتعرض لذكره والركاكة ظاهرة في معظم هذه القصائد والموشحات ما يدل على أن صاحبها لم يحسن علم العروض وإنما تعاطى النظم استعطافاً لبعض الذوات وحظوة برضى العلماء المستشرقين.
وممن اشتهروا أيضاً بالآداب والنظم بين النصارى في مفتتح القرن التاسع عشر القس حنانيا منير الزوقي الذي ذكرناه في باب التاريخ (ص22). فإنه برع أيضاً في الفنون الأدبية فمن ذلك مجموع أمثال لبنان وبلاد الشام يبلغ نحو 4000 مثل وكتاب مقامات بديعة جامعة بين فصاحة الألفاظ وبلاغة المعاني (المشرق 4 (1901): 973) هذا فضلاً عن كتاب في شرح عقائد الدروز طبعه المسيو غويس (Guys) في باريس ونقلها إلى الفرنسوية. وكان له ديوان شعر أخذته يدع الضياع لمن نحصل منه إلا على بعض مقاطيع روينا بعضها سابقاً (المشرق 4 (1901):970: - 972) منها قصيدته الرنانة التي قالها في تهنئة سليمان باشا لما أتى عكا ليتولاها بعد وفاة الجزار. أولها:
لِهوى الأحبَّة في الفؤَاد مُخّيمُ |
|
نيرانهُ بين الجوانح تُضرَمُ |
ومنها:
صيدا ابشري عكَّا افرحي حيفا أطربي |
|
والقاطنون بهـنَّ فـلـيتـرنَّـمـوا |
كن يا سلـيمـان الـوزير مـؤَازراً |
|
للخاضعين وجارماً من يجـرمـوا |
وأعظم وسدْ وارحمْ وعد وانعم وجُـد |
|
واسلمْ ودمْ بسـعـادةٍ لـك تـخـدمُ |
وختمها بهذا التاريخ:
وإذا انتهى شعري بمدحك مرةً |
|
أرخَّتُ يبدأ مدحك لا يخُتـمُ |
ومما قاله في الزهد والدعاء قوله في مقدمة تاريخه الرهباني:
إني لفي عِظَـم الـوجـلْ |
|
من قُـرْب أيَّام الأجـلْ |
من بـعـده لا بُـدَّ مــا |
|
يعروني في الدين الخجلْ |
إذ إنني قَضَّيتُ عـمـري |
|
بالملاهـي والـبَـجَـلْ |
والحكم لـم يُقَـبـل بـهِ |
|
عُذرٌ ولم ينفـع وجـلْ |
ألجأ لعـونـكِ مـريمـاً |
|
فاعطفي نحوي النجَـلْ |
وتشفعـي بـي يا بـتـو |
|
لاً وأدركيني بالعـجـلْ |
ولما توفي الجزار سنة 1219 (1804م) وكان بالغ في الظلم وجنح إلى العصيان وضع كل شعراء ذلك العصر من مسلمين ونصارى قصائد هجوه فيها وأرخوا وفاته (أطلب المشرق 2 (1899) 7380) فقال القس حنانيا أبياتاً أثبتها في آخر تاريخه للشوف ورواها الأمير حيدر الشهابي في تاريخه (المشرق 4 (1901):970). ومن رثائه قصيدة قالها في البطريرك أغناطيوس صروف لما قتله إلياس عماد سنة 1812 أولها:
علامَ دمعي من عيونـي يُذرفُ |
|
وإلامَ يرفا ولا يتكـفـكـفُ |
هل كابدت كبدي لظىّ لا ينطفي |
|
أم في الحشا جذوةُ نارٍ تنطفُ |
ومنها في مدح الفقيد:
يا شمسَ أفق الـشـرق ذاع ضـياؤهُ |
|
في الغرب أنَّى شمس فخرك تكسَفُ |
يا راس كَهنْة بيعة الـلـه الـتـقـي |
|
ثِق أنتّ أيضاً في الأعالي أسـقـفُ |
أواهُ وا أسفي ولـوعـاتـي عـلـى |
|
من كلُّ مـن يدري بـهِ يتـأسَّـفُ |
قسماً فلو يُفـدى لـكـنـتُ فـديتـهُ |
|
بالروح مـرتـاحـاً ولا أتـوقـفُ |
وكان القس حنانيا يتفنن بالنظم وله قصائد بالشعر العامي غاية في اللطف منها قصيدة في الخمارة والعرق لم نحصل عليها. وهو الناظم للزجلية الشهيرة المعروفة بالبرغوث كنا أثبتناها أولاً في كتابنا علم الأدب سنة 1886 ثم وجدناها تامة وافية في كتاب مخطوط من أيام المؤلف وفي آخرها أسمه نرويه هنا بحرفها تفكهة للقراء: أعد بيوت مع قصدان - وأخبركم بما قد كان - طول الليل وأنا قلقانْ وأصبح جلدي كالجربانْ جاء البرغوث وأنا نائم - وصار على صدري حائم - وقال لي من شهرين صائمْ في حسابي خلص رمضان قلتلوا لا تجادبني - علامك أنت تكاربني - بالله عليك لا تتعبني كل النهار وأنا تعبان قال لي ليس أنا بهمَّك - إن كان سرّك أو غمَّك - عشاي الليل من دمَّكْ وبكرة يفرجها الرحمانْ قلت يا برغوث أنا بداريك - وبين الناس أنشد فيك - روح لغيري يعشيكْ واتركني الليلي نعسانْ قال لي ما هو عاكيفك - وهلليلي أنا ضيفك - عيب يا حيفكْ أكون عندك وأبات جيعانْ لا تحسب أني بهابكْ - بجي وبدخل في عبابك - بدور حول جنابكْ إن كنت نائم أو سهرانْ قلت يا برغوث اسمع مني - وهلليلي ارجع عني - ودعني راقد متهّني يبقى لك عندي إحسانْ قال لي شوارك مرذولة - وعندي ما هي مقبولةْ - مواعيدك هي مجهولةء وعمري ما بصدق إنسانْ قلتلوا ويلك يا عقوق - لا يا أسود يا ممحوقْ - بتخدعني وما عندك ذوقْ وعجزك هن قريب يبان قال أنا بالعين صغير - ولي في الليل فعل كبيرْ - أنا ما بفزع من وزير ولا من حاكم ولا سلطانْ بتعيرني بسوادي - وأنا اليوم لك معادي - لأجيك أنا وأولاديْ بعلمك فعل السودانْ قلتلوا ما أنا بهمَّكْ - ولا أولادك ولا أولاد عمَّكْ - لأحرق أبوك مع أمكْ وبناتكم مع الصبيانْ قال بخليك حتى تنامْ - أجيك أنا وأولادي قوامْ - لما تلبس ثوب الخامْ وعن مسكي تبقى عجزانْ وحالاً بتصير تتقلبْ - وأنا في جلدك مكلبْ - وأنت تبقى متغلبْ بصبغ جلدك والقمصانْ قلت يا برغوث إن كنت عائق - امتحني وأنا فائقْ - وضوء الشمس يكون شارقْ لننظر من هو الغلبانْ قال أنا بالنهر بصوم - بقضيها ارتياح ونوم - عند غياب الشمس بقومْ وأدور حول السيقانْ وإن صار لي بالنهار فرصةْ - لا بد ما أقرص لي قرصةْ - ولولا خوفي من جرصةْ ما كنت بسيب إنسان قلت الرهبان لا تقربهم - والشرير محاربهمْ - روح عنهم لا تعذبهمْ يكفاهم شر الشيطانْ قال الراهب هو ملزومْ - بالسهر والصلاة والصومْ - لئلا يتمادى بالنومْ ما هو مليح يكون كسلانْ وأنا من يومي بحبه - بجي وبدخل في عبه - كي يقوم يعبد ربه ويطلب للعالم غفران وأنت ما فيك تربطني - وأنا ربي مسلطني - ولما بدك بتلقطنيْ بصير بفر كالغزلان وبعرف لما بتمسكني - ما بتصور تتركني - حالاً بتصير تفركنْ وفي قتلي بتبقى شمتانْ وأنا في أول الليل - بتصيد بقوة مع حيل - وبصير بركض مثل الخيلْ وعصدرك بعمل ميدان قلت يا برغوث يا محقورْ - حقاً من جنسك مقهورْ - لا بد ما أعملَّك تنورْ وأحميه بالشوك والبلانْ قال لي كلامك كله فشارْ - قرائبي وأولادي كنارْ - وترّبوا عند الجزارْ وتسلَّطوا على البلدانٍْ وعلى ايش حتى تحرقني - حيث ربي خالقني - وأنا الدم يوافقني وطالب من دمك فنجانْ قلت يا برغوث بالك فاضي - وعليك ما أنا راضي - لا بد أشكيك للقاضي وأخرج في قتلك فرمانَ قال حكم القاضي أنا عاصيهَ - ومن يومي أنا معاديهْ - وفرمانه لا يعمل فيَ وعلي ما لهُ سلطانْ قلت يا برغوث قل لي كاركْ - وأهديني لباب داركْ - قصدي أقطع جداركْ أحرق نسلك بالنيرانْ قال لي لعشيه بقلكْ - وعلى باب دارك بدلَّك - حتى أدخلَ في ظَّلكْ وأرقصك رقص السعدانْ قلت يا برغوث صدقة عّنك - عرّفني طريق فنّك - وكيف بقدر خلص منكْ صرت في أمري حيرانْقال إن كان تعرف فني - طاوعني واسمع مني - أنا نصيحك أمِنّي قصدي خيرك يا إنسانْ كلّس بيتك في طُّيون - ورشُه بزوم الزيتون - وخليه أنظف من ماعونْ وطينه بتراب ولفان وتيابك قبال تلبسها - برغتها أو شمسَها - وأرض الدار كنّسها كذلك أعمال بالدكاَّنْ لمَّا بيضميك شربكْ - عند النوم غّير توبك - ما أحد يجي صوبكْ وعلى التخت أفرش ونامْ هذا ما قد صار فيي - عند السهرة من عشييّ - وكان في بدء الصيفيي في آخر يوم من نيسانْ (تمت القصة من القس حنانيا منيّر) وكذلك اشتهر بين شعراء ذلك الدهر المعلم الياس أدّه وكان مولده في قرية أدّه من أعمال جبيل سنة 1741 وتوفي في بعبدا سنة 1828 وهناك ضريحه وقد صحب الأمراء الشهابيين ومدحهم لا سيما الأمير يوسف والأمير بشير وكذلك خدم مدة أحمد باشا الجزار في عكا حتى هرب منه خوفاً على نفسه. وقد أتسعنا في المشرق (2 (1899): 693 و736) في ترجمة الياس أدّه وأعماله وشعره فلا حاجة إلى الإطالة هنا. وممَّا وقفنا له بعد ذلك من الآثار الأدبية مجموعة ذات 235 صفحة ضمَّنها نخبة من أقوال الأدباء والعلماء واللغويين جمعها وهو في حلب الشهباء سنة 1207 (1792م) وسمَّاها (الدر الملتقط من كل بحر وسفط) وجدنا منها نسخة تاريخها 1247 (1831م) وهي عند أحد أدباء عينطورة الخواجا جاماتي. وللمؤلف في وصف هذه المجموعة قولهُ:
إذا نظر الرائي إليها يخـالُـهـا |
|
رياضاً بها زَهرٌ وزُهرٌ زواهرُ |
عرائس يجلوها عليك خدورُهـا |
|
ولكنَّها تلك الخـدورُ دفـاتـرُ |
وممَّا لم نذكرهُ من شعرهِ قولهُ في وفاة الشيخ سعد الخوري سنة 1785:
لا ريب بعد السعد لاشـيء فـاخـرُ |
|
وقد قُرحت بالدمع منَّا المحـاجـرُ |
لقد غبت يا شمس الكمال فـأُرعـدتْ |
|
فرائصنا والحزنُ للقلـب فـاطـرُ |
وفاضت مياهُ الدمع منَّا فـمـا لـنـا |
|
وحقَك قلبٌ بعد فـقـدك صـابـرُ |
وليل الشقا فينا اكفـهَّـر ظـلامـهُ |
|
وضاقت علينا بالفراق الـسـرائرُ |
لتبكِ المعالي بعد بُـعـدك حـسـرةً |
|
كما لبستْ ثوب الحداد المفـاخـرُ |
أيا لـوذعـيَّا كـان الـدهـرُ سـيدا |
|
ومن كفّهِ للجـود هـام وهـامـرُ |
عليك من الرحمان أضعاف رحـمة |
|
ورضوانهُ ما ناح في الروض طائرُ |
وما قال بـالأحـزان فـيك مـؤرخٌ |
|
فلا ريب بعد السعد لا شيء فاخـرُ |
وقد خلف لنا آثاراً أدبية أوسع من السابقين رجلٌ سبقت لنا ترجمتهُ وإطراء فضلهِ في باب التاريخ (ص23 - 24) نيقولا الترك فان طول باعه في الآداب ليس دونهُ في التاريخ ولدينا من نظمهِ الرائق ونثره المسجع الفائق ما يشهد لهُ بالتقدُّم بين آل عصرهِ. وفي مكتبتنا الشرقية نسختان من ديوانهِ تنيف النسخة على 400 صفحة ترى فيها كل مضامين الكتابة في الرثاء والمدح والوصف والهجو والمزاح. وقد عارض أصحاب المقامات فوضع منها إحدى عشرة مقامة نسبها إلى راوٍ دعاهُ الحازم ومسفارِ فكه سمَّاه أبا النوادر. وفي كتابنا علم الأدب (1: 278) مقامة منها وهي الأولى المدعوَّة بالديريَّة نسبة إلى دير القمر قدَّمها المؤلف للأمير بشير وأودعها من حسن التعبير وبديع اللفظ وبليغ المعاني ما يدلُّ على براعتهِ في فنون الإنشاء. أما شعرهُ فمنسجم سهل المأخذ مطابق لمقتضى الحال مع كثرة التفنن في النعوت والأوصاف وفيهِ مع ذلك بعض الضعف إذ نبغ في الشعر بجودة قريحتهِ دون الدرس على أستاذ يلقنهُ ومعلّم يرشدهُ. وها نحن نثبت هنا شيئاً من شعرهِ لإفادة القراء وتنويهاً بحسن صفاتهِ فمن لك قولهُ في مدح الأمير بشير وهي أول قصيدة قالها فيهِ:
دنا البشرُ المجيد المستصابُ |
|
وأشرقَ في معاليهِ الشهابُ |
وتمَّ لنا المُنَى بمـزيدِ أمـنٍ |
|
بهِ زال العنا والاضطرابُ |
إلى أن قال:
لهُ في المشكلات حـمـيدَ رأي |
|
وحزمٍ لم يزغُ عنهُ الصـوابُ |
يلي الهيجاء فـي عـزمٍ شـديدٍ |
|
لديه لانت الصّم الـصـلابُ |
كماةُ الحرب عند لقـاهُ فـرَّت |
|
كما فرَّت من الليث الذبـابُ |
وإن خفقت بنور سطاه صاحت |
|
غشا الضرغام وانقضَّ العقابُ |
يبدد شملهـا مـنـهُ ويفـنـى |
|
كما يفنى من الشمس الضبابُ |
ملاذٌ مقصدٌ حـصـنٌ مـنـيعٌ |
|
رجـاءٌ لا يُرَدُّ ولا يخــابُ |
أذلَّ الـلـه أعـداه لــديه |
|
وقد خضعت لعزتهِ الرقابُ |
ولهُ أيضاً فيهِ من قصيدة قالها بعد واقعة حربٍ:
سواك إلى المعالي ليس يُدعـى |
|
لأنَّ الله أحسن فـيك بـدعـا |
وزانك بالـمـزايا يا حـمـيداً |
|
بهِ الدهر أرتضى واختار قنعا |
أميرٌ لا أمـيرَ سـواهُ يُرجـى |
|
مليك كاملٌ خلقاً وطـبـعـا |
بشير خول الـدنـياءَ بـشـراً |
|
بهِ طاب الورى قلباً وسمعـا |
شهابٌ أوعـب الآفـاق نـوراً |
|
على نور الثريا فلق سطعـا |
إذا أعـددتـهُ يومـاً بـفـرد |
|
من الأفراد كنت تراه سبعـا |
ندى كفَّيهِ حلّ عن إنـكـفـاف |
|
كأنَّ الله أجرى فيه نـبـعـا |
فما الفضل أبن يحيى وابنُ طيّ |
|
وهل معنىً لمعنِ بعدُ يدعـى |
بصارم عدلهِ كم بـتَّ جـوراً |
|
وأحيا لانتصار الحقّ شرعـا |
وقال مهنئاً قدس السيد أغناطيوس قطَّان بارتقائه إلى السدة البطريركيَّة سنة 1816 وكان اسمهُ أولاً القس موسى:
خوَّلت يا فخر البطاركة الهـنـا |
|
للشعب ثمَّ حسمت كلّ نـزاعِ |
لما ارتقيت لسدَّة بك شُـرفـت |
|
يا كامل الأوصاف والأوضاعِ |
وأنـرتَ يا قـطَّـان الـــديا |
|
ر وفيك باهت سائر الأصقاعِ |
يا حبر أحبار الـبـلاد وسـيدّا |
|
أبدا لهُ عينُ الإلـه تـراعـي |
وبك إستضا الكرسيُّ لمَّا أن وفى |
|
حسن الدعا للـه والأضـراعِ |
لبَّاه بالإفصاح أرّختُ الـمـدى |
|
موسى لشعب الله أفضل راعِ |
ومن رثائهِ ما قالهُ في الشهيد بطرس مرَّاش سنة 1818 لمَّا قُتل في حلب بإغراء جراسيموس أسقف الأرثوذكس مع غيره من الكاثوليك:
وا فجعتاهُ بهِ ويا أسـفـي عـلـى |
|
ذاك الشباب الغضّ كيف تهشَّـمـا |
شُلَّت يدُ الباغي الذي قـد أهـرقـت |
|
دمهُ الزكيَّ وحلَّلت مـا حُـرمـا |
حيَّاهُ من شـهـم شـجـاع بـاسـل |
|
بطلٍ إلى القتل المريع تـقـدَّمـا |
بدل الحـياةَ الـدنـيوية بـالـبـقـا |
|
واختار مجـداً سـرمـديِّا دوَّمـا |
لله فجعةُ بـطـرس كـم فـتَّـتـت |
|
كبدي وألقت في فؤادي اسهـمـا |
لله فرفه بطـرس كـم أوحـشـت |
|
تلك الربوعَ وأظلمت ذاك الحـمـا |
لله لوعة بـطـرسٍ كـم أجَّـجـت |
|
في مهجتي الحرَّاء جمراً مضرما |
ما حيلتي ما طاقتـي فـنـيَت وهـا |
|
جَلَدي وهاك الصبر مني معـدمـا |
طوباه إذ من بعـد اصـلـحِ سـيرةٍ |
|
ومناقبِ منذ الصبا فـيهـا نـمـا |
وأفى إلى سفك الـدمـا شـهـامة |
|
وغشية المنايا مسرعاً متقـحـمـا |
وانضمَّ منحازاً مع الشـهـداء فـي |
|
جنّات خلدٍ بالسمـاء مـنـعـمّـا |
يا طيب مثوّى ضمَّ طاهر جسـمـه |
|
يا فوز من وافى إلـيه مـيتـمـا |
فلذاك قلت صلوهُ تـمـجـيداً بـتـا |
|
ريخي ففي دمهِ الزكي ورث السما |
وهي طويلة. ومن فكاهاته قوله يهجو بعض الشوَيعرين الذين يسرقون أبياتاً وقصائد قديمة وينسبونها لنفسهم:
أصبح الشعر كالشعير مقـامـاً |
|
لا بل الشعر منهُ أرخص قيمة |
غُر من قد غدا بذا الدهر ينفـي |
|
حقُ ما فيهِ من لآلي نـظـيمة |
حيثما قد غدت بنو الخلط تنـشـأ |
|
فيهِ بئس المؤلفات الـذمـيمة |
ويحهم كيف جـوّزوا وأبـاحـوا |
|
هتك ما فيهِ من عروض سليمة |
يا لهم من فواجر بـغـبـاهـم |
|
والخطا غَوروا البحور العظيمة |
نقضوا كـل كـامـل مـوزون |
|
ذي احتكام وعوّجوا مستقـيمة |
افسدوا جوهر البـسـيط وفـيهِ |
|
ركبوا اقبح الصفات الذمـيمة |
قل أن يُنقذ الـخـفـيف فـرارٌ |
|
منهم أو تقي السريع هـزيمة |
ضعضعوا الوافر المديد وأمست |
|
بينهم حالة الطويل مـشـومة |
كلهم كالذئاب قـوم لـصـوص |
|
يستحلون سـرقة مـحـرومة |
قاتل الله مثلهـم مـن يسـطـو |
|
بافتراء على البيوت الـقـديمة |
كم بهم ابـكـمٌ يقـلـد قـسـاً |
|
فيهِ قد كانت الفصاحة شـيمة |
بل وكم بينهـم تـرى مـهـذاراً |
|
فاتحاً شدقهُ كشـدقِ بـهـيمة |
حرفة الشعر يا عبـاد تـوفـت |
|
فاسكبوا فوقها الدموع الحميمة |
عظمها في التراب ما زال يشدو: |
|
يعلم اللـه إنـي مـظـلـومة |
ومن موشحاته ما قالهُ في مدينة طرابلس ومدح أهلها:
بأبي عهد التهاني والصفا |
|
زمنٌ مرَّ بطَربَـلُـسِ |
يا هنا عيش رغيدٍ سلفـا |
|
لي بذاك المعلم المؤتَنَسِ |
دور
حبذا الفـيحـاء أهـنـا كـل نـاد |
|
والحمى المعمور والركن الحصين |
كتب السعـدُ عـلـيهـا يا عـبـاد |
|
ادخـلـوهـا بـسـلام آمـنـين |
بلـدةٌ طـيبةٌ خـير الــبـــلاد |
|
والمقام المشتهى لـلـنـاظـرين |
أهلهـا قـوم لـطـاف ظـرفـا |
|
نعم أنـجـالُ كـرام الأنـفـس |
ما لهم عيب سوى حسـنِ الـوفـا |
|
والخلوصِ المنتـإي عـن دنـسِ |
وهو موشَّح طويل. ومما أمتاز به الترك مداعباتهُ وأقواله الفكاهيَّة. فمن ذلك ما رويناهُ له في كتابنا علم الأدب (249:1) مناظرة بين الزيت واللحم. ومنها قولهُ يطلب من الأمير بشير شروالاً وعمامة:
وشروالِ شكا عتقاً وأمـسـى |
|
يراودني العتاق فما عتقـتُ |
وكم قد قال لي بالله قِـلـنـي |
|
وهبني كنت عبداً وانطلقـتُ |
أما تدري باني صرتُ هرمـاً |
|
وزاد عليَّ إني قد فُـنـقـتُ |
فدعني حيثُ قلَّ النفع مـنـي |
|
وعاد من المحال ولو رُتقـتُ |
ولا تعبأ بتـقـلـيبـي لأنـي |
|
بعمر أبيك نوحاً قد لحـقـتُ |
ولـم يبـرح يجـدّد كـل يومٍ |
|
عليَّ النعي حتى قد قلـقـتُ |
وقلت لهُ عُتقت الـيوم مـنـي |
|
لأني في سواك قد اعتلقـتُ |
فأشعرتِ العِمامةُ في مقالـي |
|
لهُ فاستحسنتُ ما قد نطقـتُ |
فراحت وهي تشدو فوق رأسي |
|
ليَ البشرى إذن وأنا عُتِقـتُ |
وممَّا نقش من شعره في معاهد بيت الدين التي ابتناها الأمير بشير قولهُ وهو مرقوم فوق باب إحدى القاعات:
دارُ المعالي التي فاقت مفاخرهـا |
|
والعزُّ قد زادها حسناً وجمّلـهـا |
تزينت في معاني الظرف واكتملت |
|
بقاعةِ أرخوها لا نظـير لـهـا |
وكتب على دائرها هذه الأبيات استغاثة إلى العزَّة الإلهيَّة على لسان الأمير:
اللـه الـلـه أنـت الـواحـدُ الأحـدُ |
|
والسرمدُ الأزليُّ الدائمُ الـصـمـدُ |
حيٌ عـزيز قـديرٌ خـالـقٌ ولــهُ |
|
من في السماء ومن في أرضنا سُجُدُ |
لا رب غيرك يا مـولايَ نـعـبـدهُ |
|
ولا سواك إلهـاً فـيهِ نـعـتـقـدُ |
أنت الغنا والمُنا والفـوزُ أجـمـعـهُ |
|
والعون والغوثُ والانجاءُ والـمـددُ |
ما لـي سـواك غـياثٌ أُطـالـبـهُ |
|
كلاَّ وغيرك ما لي في الورى سنـدُ |
خوَّلتني يا إلهـي خـير تـسـمـية |
|
فكنت فيك بشيراً أنت لي عـضـدُ |
بل كل جـارحة مـنـي وعـاطـفة |
|
تصبو إليك ونار الـحـبّ تـتـقـدُ |
إذا أنت علّة نفسي أنت مـركـزهـا |
|
يا ربَّ كلّ ومنهُ الخلق قد وُجـدوا |
يا رب أُمنن بعفوٍ منك لـي كـرمـاً |
|
واغفر جنايات عبد منـك يرتـعـدُ |
وجُد بخـاتـمةٍ يا رب يعـقـبـهـا |
|
ذاك النعيم السعيد الثابـت الـوَطِـدُ |
هذا ولو شئنا لا تسعنا في ذكر منظومات نيقولا الترك وإنما نجتزئ بهذا القليل وفيه كفاية لتعريف طريقة ذلك الشاعر الذي كان من أعظم السُعاة في النهضة الأدبية في مبادئ القرن التاسع عشر وديوانهُ يستحقُّ الطبع لان صاحبهُ الأديب نظمهُ في وقت كسدت فيهِ تجارة الآداب فيشفع في ضعف بعض أقسامهِ الكثير من محاسنهِ.
وممن نلحقهم بهؤلاء الشعراء بعض من معاصريهم النصارى ابقوا لنا آثاراً من فضلهم وهي تآليف ومصنفات أدبية غير الشعر وأولهم جرمانوس آدم الحلبي الذي لعب دوراً مهماً في تاريخ زمانهِ. ولد في حلب في أواسط القرن الثامن عشر ونشأ فيها ثم تخرج في الآداب الكنسية والعلوم الدينية والمعارف الدنيويَّة في رومية العظمى حتى أصاب منها قسماً صالحاً. وقد عُهدت إليه لمقدرته عدَّة مهمات قام بها قياماً حسناً وتولى القضاء مدَّة في لبنان ولهُ تآليف متعددة تشهد لهُ بقوة الفهم واتساع المعارف وأكثرها دينيَّة منها كتاب إيضاح اعتقاد الآباء القديسين في الحاد المشاقين وهو سفرٌ كبير وإيضاح البراهين اليقينية على حقيقة الأمانة الأرثوذكسية وكتاب المجامع لكباسوطيوس (Cabassut) ولهُ تآليف أخرى شطَّ فيها عن تعليم الكنيسة الكاثوليكية لكنَّه رذلها قبل وفاته نادماً. وتوفى في زوق ميكائيل في 10 ت2 سنة 1809. وفي عهده عرف راهب من ملته الروم الكاثوليك وعاش بعده ردهاً من الدهر أعني به سابا بن نيقولا الكاتب الشهير بالخوري سابا. كان مولده حمص وكان أبوه من الروم الأرثوذكس وأمه كاثوليكية فنشأ على دين والده مدة ثم أهمل نفسه لملاذ الدنيا حتى ارعوى وارتد إلى الله بعد أن رأى عيشة الرهبان الكاثوليك في دير المخلص فتبعهم في دينهم ثم في طريقتهم النسكية وأخذ العلوم العربية عن الشيخين يوسف الحر من علماء الجباع وأحمد البزري. وبعد كهنوته سافر إلى رومية حيث أتقن العلوم الفلسفية واللاهوتية وتعلم اللغات الأوربية ثم رجع إلى الشرق وانكب على الأعمال الخيرية إلا أن الأمراض دهمته فأحوجته إلى لزوم ديره فانقطع إلى التأليف وصنف كتباً عديدة في أخص المعتقدات المسيحية أكثرها لا يزال مخطوطاً طبع منها شيئاً الأديب شاكر أفندي البتاوني. وله مصنفات أخرى في معظم الأبحاث الفلسفية منها رسائل في النفس وجوهرها وخواصها. ومنها كتاب في المنطق نشر بالطبع وغير ذلك مما عددناه في مقالاتنا عن مخطوطات الكتبة النصارى ورقي إلى رئاسة رهبانيته العامة نحو تسع سنوات وكانت وفاته في أيلول من السنة 1827.
وقبل أن نختم تاريخ هذا الطور الأول من الآداب العربية في القرن المنصرم يجمل بنا أن نذكر المستشرقين الأوربيين الذين استحقوا ثناء الأدباء بما نشروه من المصنفات العربية.
ومما يقال بالإجمال أن هذه ثلاثة أعشار القرن لم يبلغ أحد فيها بين الأجانب مبلغ العلامة ساوستر دي ساسي لكننا نؤجل الكلام فيه إلى الطور التالي لأنه فيه مات. وكان دي ساسي كنقطة المركز لدائرة زمانه يشيرون إليه بالبنان لتفنن معارفه بل كان مناراً يستضيء بنوره كل من أراد العلوم الشرقية في فرنسة وغيرها فيقدمون باريس ليحضروا دروسه ويدورون في فلكه كالأقمار المستنيرة به.
وقد جاراه في علومه دون يبلغ أن شأوه بعض أهل وطنه الذين قدمنا ذكرهم (ص14) كالعلامة دي غيني لينغلاي ودوبرون وهربان ولكلهم الآثار الناطقة بعلو علمهم وسعة معارفهم. وممن تتلمذوا له وفازوا بالشهرة في آداب العرب المسيو أمابل جوردان (A. L. Jourdain) (1788 - 1818) كتب تاريخاً للعجم وانتقد تأليف مرخند وصنف كتاباً في البرامكة ونقل إلى الفرنسوية نبذاً من تاريخ العرب عن حروب الفرنج في بلاد الشام. لكن هذا المستشرق مات في مقتبل العمر.
ومن تلامذة دي ساسي في هذا الطور أنطون ليونارد دي شازي (Chezy) نبغ اللغات الشرقية وكتب عدة مقالات في آثار العرب والعجم وغيرهم في مجلة العلماء وله تاريخ العجم ومجان أدبية فارسية ومنتخبات من كتاب عجائب المخلوقات للقزويني. توفي سنة 1831 وكان مولده سنة1773.
ومما يذكر من حسن مساعي الفرنسويين في خدمة الآداب الشرقية في ذلك العهد نشأة الجمعية الآسيوية الباريسية أنشأها دي ساسي ورصفاؤه وتلامذته سنة 1821 ثم باشروا بنشر الآثار القديمة والمقالات المستحسنة في كل فنون الشرق وآدابه ولغاته لا سيما اللغات السامية منذ السنة 1822 ومجلتهم تبرز كل سنة في مجلدين فيكون مجموع ما ظهر منها إلى يومنا بالغاً مائتي مجلد وهي تحتوي كنوزاً ثمينة في كل آداب الشرق. وقد نشرنا في المشرق (20 (1922): 612 - 619) خلاصة أخبارها بنسبة التذكار المئوي لإنشائها.
وحذا الإنكليز حذو الفرنسويين في العام التالي سنة 1823 فشكلوا أيضاً جمعية دعوها باسم جمعية بريطانيا العظمى وأيرلندة الآسيوية الملكية. وكان الساعي في هذا المشروع بعض كبار الأثريين مثل كولبروك (Colebrooke) وجنستون (Johnston) وستونتن (Staunton) وفين (Wynn) وهوغتون (Haughton) فنشروا أيضاً نشرة علمية (Transactions) سنة 1824 ثم وسعوها سنة 1836 ودعوها مجلة لندن الآسيوية الملكية. لكن العلماء الإنكليز كانوا يوجهون اهتمامهم خصوصاً إلى الهند وإلى لغات الهنود وآدابهم. وكذلك نشر الألمان والنمسويون مجموعات شرقية منها (معادن الشرق) للعلامة هامر (Hameer) و (جريدة المعارف الشرقية) التي طبعت في بونة من أعمال ألمانية. أما الجمعية الآسيوية الألمانية فلم تنشأ إلا بعد ردهة من الدهر. ومن مشاهير المستشرقين في تلك الأيام غير الفرنسويين رازموسن (Rasmussen) الدنيمركي (1785 - 1826) درس العلوم الشرقية في باريس ثم عاد إلى وطنه فتولى تدريس لغات الشرق في حاضرة بلاده كوبنهاغن. له عدة تآليف في تواريخ العرب في الجاهلية نقلاً عن ابن قتيبة وابن نباتة والنويري مع جدول لتوفيق التاريخ الهجري والتاريخ المسيحي. ونقل قسماً من كتاب ألف ليلة وليلة. ومن مصنفاته كتاب له في المعاملات التي دارت بين العرب والصقالية في القرون الوسطى.
واشتهر بين الألمان فلمت (Wilmet) الذي نشر معجماً عربياً لاتينياً ونقل معلقتي لبيت (سنة 1814) وعنترة (سنة 1816) وعلق عليهما الحواشي الواسعة والتذييلات المهمة. ومنهم أيضاً كرل رودلف بيبر (C. R. S. Pieper) نقل قسماً كبيراً من مقامات الحريري إلى اللاتينية وحشى معلقة لبيت ونشر رسالتين فيما بعد الطبيعة لبهمنيار بن المرزبان. وكذلك عرف بينهم كرل تيودور جوهنسن (C. T. Johannsen) الذي ترجم تاريخاً لمدينة زبيد عنوانه (بغية المستفيد في أخبار زبيد) ونشره في بونة سنة 1828. وهو تاريخ حسن ألفه في غرة القرن العاشر للهجرة الإمام سيف الإسلام ابن ذي يزن الفقيه عبد الرحمان الربيع.
وكانت الدروس العربية قد ضعفت قليلاً في إيطالية فأنهضها أحد فضلاء الأسرة السمعانية نريد به شمعون السمعاني الذي ولد في طرابلس ودرس في مدرسة الموارتة في رومية العظمى ثم تجول مدة في مصر والشام لجمع المخطوطات الشرقية. ولما كانت السنة 1785 عهدت إليه كلية بادوا تدريس اللغات الشرقية فعلمها إلى سنة وفاته في 7 نيسان 1821. له تأليف في عرب الجاهلية وأصلهم وتاريخهم وأحوالهم في مجلدين ووصف الآثار الكوفية في المتحف النانياني والمتحف البرجياني ومتحف السيد مينوني.
وفي الوقت عينه اكتسب أحد كهنة إيطالية المسمى جان برنرد دي روسي (di Rossy) (1742 - 1831) شهرة واسعة في المعارف الشرقية. فإنه كان أولاً ناظراً على متحف مدينة تورينو ثم تولى تدريس اللغات الشرقية في كلية بارما نحو خمسين سنة. ومن مشروعاته الطيبة إنشاؤه في بارما مطبعة شرقية متقنة الأدوات جميلة الحروف أصدرت عدة مطبوعات بديعة الطبع. وكان دي روسي حاذقاً في اللغة العبرانية له فيها عدة مصنفات. منها وصف مكتبة واسعة جهزها بالتآليف النادرة والمخطوطات الجليلة ومنها تأليف في الشعر العبراني. وكان يحسن العلوم العربية كما يدل عليه كتابه الطلياني (معجم أشهر أدباء وكتبة العرب) الذي طبعه سنة 1807.