الجزء الأول: من السنة 1800 إلى 1870 - الفصل الخامس: الآداب العربية من السنة 1850 إلى 1870 - الآداب الإسلامية في هذا الطور (1850 - 1870)

الآداب الإسلامية في هذا الطور (1850 - 1870)

انحصرت الآداب الإسلامية في هذا الطور الثالث أعني من السنة 1850 إلى 1870 في العلوم اللسانية خاصة من صرف ونحو ولغة وبديع وبيان وشعر وأدبيات منثورة. أما التاريخ والعلوم الطبيعية والهيئة والرياضيات فإن التأليف فيها كان نادراً. إلا أن بعض الأدباء كالشيخ الرفاعي الطحطاوي في مصر وسليمان الحرائري في الجزائر عربوا عدة مؤلفات أوربية في العلوم المستحدثة والاختراعات الجديدة فكان تعريباتهم دليلاً على سعة اللغة العربية ومرونتها وكفايتها لترويج المعارف العصرية. فنهج غيرهم منهجهم بعد ذلك لا سيما جماعة الأمريكان في بيروت. وهانحن نختصر تاريخ أدباء المسلمين في هذا الطور بذكر مشاهيرهم بلداً بلدا مباشرة بالشام ثم مصر ثم العراق وبقية البلاد.

(أدباء المسلمين في الشام) يحضرنا منهم أسماء قليلين ولعل مصنفات أكثرهم لا تزال مدفونة في بيوت الخاصة. فممن اشتهروا في هذه المدة بآدابهم السيد مصباح البربير اسمه محمد بن محمد البربير وجده أحمد البربير الشاعر الذي ذكرناه في جملة أدباء الطور الأول من القرن التاسع عشر. ولد محمد مصباح سنة 1261 (1845) وأظهر منذ صغره نجابة عظيمة فبعد إتقانه أصول اللغة ومن بعده العلوم على شيوخ بيروت في أيامه كالشيخ عبد الرحمن أفندي النحاس والشيخ عبد الله أفندي خالد البيروتي وأخيه الشيخ إبراهيم البربير استخدم في مجلس التحقيق بوظيفة كاتب وكان في شرخ شبابه مولعاً بالشعر فينظم في أوقات الفراغ القصائد الرائقة التي تعرب عن جودة قريحته. وقد وافاه أجله فقصف غصن شبابه طرياً في وباء الهواء الأصفر الذي حدث سنة 1282 (1865م). له ديوان صغير جمعه شقيقه الأديب عمر البربير فطبعه في المطبعة الأميركانية سنة 1290 (1873م) ودعاه البدر المنير ي نظم مصباح البربير. فمما نظمه مصباح قوله مؤرخاً بناء دار لوالده سنة 1279 (1862):

لمحمَّد البربير داراً قد زهت

 

ونجومُ مطلع عزّها حرَّاسُها

في بابها كتبَ المؤرخ قلُ بها

 

دارٌ على التقوى أقيم أساسها

ومن ظريف أقواله تهنئة بمولد ابن عمه محمد نجيب بن محمد البربير سنة 1282:

بُشراك أحمد قد أتاكَ نـجـيبُ

 

حيَيَتْ بمرآهُ نُهىّ وقـلـوبُ

نجلٌ كُسي من كل ظرفٍ حلَّةً

 

فهو الحبيبُ بلا أبوهُ حبـيبُ

قد لاحَ في أفق السعادة ساطعاً

 

إن غابت الأقمارُ ليس يغيبُ

في مهدهِ كالعندليب مـغـرداً

 

وكذا اللبيبُ من المهاد لبيبُ

نادت علاماتُ السعود بوجهـهِ

 

يحيي سـعـيداً إنـه لأديبُ

وله مكاتبات مع بعض أدباء زمانه نخص منهم بالذكر ناصيف اليازجي وكان هذا كتب إليه:

برعتَ واللهِ في قولٍ وفي عملٍ

 

لفظاً ومعناً وتهذيباً وإفصاحـا

أعطاك ربك نوراً يستضاءُ بـهِ

 

فقد أصاب الذي سماكَ مصباحا

فأجابه محمد مصباح بقوله:

يا من غدا شعرهُ الشعريَ فكان لنا

 

قاموسَ فضلِ وللتلخيصِ إيضاحا

لأنتَ شمسُ علومٍ حين مطلعـهـا

 

كم أخجلتْ قمراً يزهو ومصباحا

وقد رثاه الشيخ إبراهيم الأحدب وأرخ ضريحه بهذه الأبيات:  

ضريحٌ حلهُ مصباحُ فضـلٍ

 

سناهُ في سماء المجد عالي

إلى عليا بني البربير يُعـزى

 

لهُ نسبٌ ينير دجى الليالي

فقال منظّم الـتـاريخ وافٍ

 

سنا مصباحَ مشكاة المعالي

(محمد أرسلان) واشتهر أيضاً في الشام بأدبه وتآليفه الأمير محمد ابن الأمير أمين أرسلان ولد في الشويفات سنة 1254 (1838) وطلب العلوم منذ حداثة سنه وتعلم اللغات الأجنبية فضلاً عن اللغات الوطنية. ولما بلغ الخامسة عشرة من عمره فوضت إليه الحكومة السنية إدارة الغرب الأسفل فتولاها تحت نظاره والده حتى مات والده سنة 1275 (1858) فقام بعمله. ثم انتقل إلى بيروت مع أهل بيته واستوطنها وتفرغ للتأليف والكتابة وكان عضداً لكل طالبي الآداب ساعياً في ترويج العلوم يجمع في داره محبي المعارف. وسنة 1275 (1868) استدعته الدولة العلية إلى الأستانة لتعهد إليه بعض المهام لكن الموت عجله عند وصوله فمات بمرض القلب وله من العمر 31 سنة وقد أبقى المترجم عدة تآليف لا تزال مخطوطة منها كتاب في أصول التاريخ وعدة تآليف في الصرف والنحو والمنطق وكتاب حقائق النعمة في أصول الحكمة والمسامرة في المناظرة وتعديل الأفكار في تقويم الأشعار وتوجيه الطلاب في علم الآداب والتحفة الرشدية في اللغة التركية الذي نشر بالطبع. وكان بين الأمير محمد أمين وأدباء زمانه مكاتبات تدل على براعته في فنون الآداب. وهو ممن مدحه الشيخ ناصيف اليازجي فله في أبيه الأمير أمين وفيه أقوال حسنة فقال في الأمير أمين:

كريمٌ لا يضـيعُ لـديهِ حــقُ

 

فقد سُمّي أميناً بالـصـوابِ

وليس يخلو في الدنيا بـشـيء

 

لغير المال من حفظ الصحاب

ويُدركنـا نـداه حـيثُ كـنـا

 

على حال ابتعادٍ واقـتـرابٍ

وتُكسبنا مكارمـهُ ارتـفـاعـاً

 

كصفر زاد في رقم الحسابِ

فدام نـداهُ يَقْـرَع كـلَّ بـابٍ

 

ويأتيهِ الثنا مـن كـل بـابِ

ومن حسن أقواله في الأمير محمد ما كتبه إليه يعزيه في أبيه بقصيدة كان مطلعها:

ما دام هذا اليومُ يخلـفـهُ غـدُ

 

لا تُنْكروا أن القـديمَ يُجَـدَّدُ

لا تُقَطع الأغصانُ من شجراتها

 

إلا رأينا غـيرهـا يتـولَّـدُ

هذا الأمينُ مضى فقام محمَّـد

 

خلفاً فنابَ عن الأمين محمَّـدُ

وختمها بقوله:

خَلفٌ كريمٌ أشبهَ السلفَ الذي

 

كانت لهُ كلَّ الخلائق تَشْهَدُ

ما كان يوجَدُ كالأمين بعصرهِ

 

واليومَ مثلُ محمدٍ لا يوجـدُ

وقد مدح أحمد فارس الشدياق بلامية أولها:

إن الأمير محمداً مفضـالُ

 

من آل رِسلانَ ونعمَ الآلُ

وقال يصف معارفه:

سيَّان في نظمٍ ونثـرِ قـولـهُ

 

فصلٌ وحكمٌ لا يليهِ عـدالُ

قد ألفَ الكُتب التي شهدت بأنْ

 

أصحاب أرسطو عليهِ عيالُ

فأجاد في التاريخ أي إجـادةٍ

 

وبكلّ فنٍّ لم يَفُتـهُ مـقـالُ

وقال الشاعر المشهور أسعد طراد يعزيه بوالده بقصيدة هذا مطلعها:

الأرضُ تخبر والجماجمُ تشهدُ

 

إن ابن آدم فوقها لا يخْلـدُ

ومنها في مدح الفقيد:

غدت بنو رسلانَ نـائحةً ومـن

 

فرط الأسى أمست تقومُ وتقعدُ

لك يا أمين مع القلـوب أمـانةٌ

 

حزنٌ بها أودعتهـا لا يُنْـفـدُ

فارقتَ لبنان الـذي مـهَّـدتـهُ

 

عدلاً وكان الظن لا يتمَّـهـدُ

أضرمتَ ناراً في القلوب كأنها

 

نارُ القرى بحماك ليست تخمدُ

(محمود بن خليل) وممن نقدر وفاته في هذا الوقت الشاعر محمود بن خليل الشهير بالعظم الدمشقي له في المكتبة الخديوية (353:4) ديوان شعر خطه سند 1284 (1867م) الأديب أحمد زكية. وكان صاحب الديوان موجوداً سنة 1285 (1868م). ولا نشك في أنه اشتهر في هذا الطور من أدباء المسلمين في الشام غير هذين المذكورين إلا أن أخبارهم لم تنشر حتى الآن فلم نقف على تاريخهم. ومما وقع في أيدينا منذ عهد قريب مجموع فيه قصائد لشعراء بلاد الشام في القرن السابق نظموها في مدح على بك الأسعد من البيوتات الشريفة في طرابلس فهناك أسماء عدة أدباء مر لنا ذكر بعضهم كالشيخ عمر اليافي والسيد أحمد البربير والشيخ عبد اللطيف أفندي فتح الله مفتي بيروت وبطرس كرامة والياس أده والبعض الآخر لم نعرف منهم غير أسماؤهم كالشيخ عثمان والشيخ عمر البكري والشيخ مصطفى الكردي والحاج علي ابن السيد البكري والسيد عمر أفندي الكيلاني. ولكلهم قصائد أجادوا فيها لكننا نعرض عن ذكرها لجهلنا أخبار قائليها.

(أدباء مصر) خلف لنا أدباء المسلمين المصريين مادة أوسع من أخوتهم في الشام ومما ساعد على حفظها انتشارها بالطبع فسلمت من الضياع. ودونك أسماءهم: (علي الدرويش) هو السيد علي أفندي الدرويش بن حسن بن إبراهيم المصري الشاعر المفلق أصاب في أواسط القرن التاسع عشر شهرة كبيرة في القطر المصري وتقرب من أصحاب الأمر ومن أدباء وطنه فمدحهم وكاتبهم. ولما توفي سنة 1270 (1853م) جمع ديوانه وأقواله النثرية تلميذه مصطفى سلامة النجاري فطبعه على الحجر في مصر في 482 صفحة وعنونه بالأشعار في حميد الأشعار (1270). وهانحن نورد منه بعض أمثلة بياناً لفضل قائله. قال مؤرخاً فصر صديقه عرفي أفندي:

وقصـرٍ كـالـسـمـاء بـه نـجـومٌ

 

مطالعُهـا الـسـعـادة والـبـدورُ

علـى أقـطـاره تـبـكـي عـيونٌ

 

إذا ابـتـسـمـت لـوارده زهـورُ

فلـيس وافـد وافـاهُ نـــهـــرُ

 

وقد نفذت لمـدحـتـه الـبُـحـورُ

وحسبُـك روضةٌ فـي كـل مـجـدٍ

 

وفـضـل بـالـبـنـان لـهُ يشـيرُ

تقـاصَـر مـن سـنـاهُ ذو ثـنــاءً

 

وحسن القصر مـا فـيه قـصـورُ

يقـول الـعـزّ والإسـعـــاد أرخْ

 

سعود البيت يا عرفي منيرُ (1259ه).

وقال شاكراً:

سُررتُ بالنيل القصد من غير مـوعـدٍ

 

ولا شيء أسهى من سرورِ مـجـددِ

سُررت بنعماه ولكـن حـزنـتُ مـن

 

قصوري بحق الشكر في فضلَ سيدي

لهُ الحمدُ والشكر الـذي هـو أهـلـهُ

 

وقلُّ لهُ حمدي وشكري ومنـشـدي

فلو كل عضـوٍ فـيهِ عـدَّة ألـسُـنِ

 

لأعجزني شكر الندى الـمـتـعـددِ

وهل أنا إلا عبد إحسـان عـفـوكـم

 

فأضحى لديهِ مدحكم كـالـتـعـبُّـدِ

تعودتُ لولا لطفكـم غـير عـادتـي

 

وصعب على الإنسان ما لـم يعـودِ

وزدتـم نـعـيمـي نـعـمةً أبــديةً

 

وزدتم مقامي رفعة فوق مقـصـدي

وكدرتمُ ظن الـحـسـود بـنـعـمة

 

وأشهى من الإنعام تكـدير حـسَّـدي

وحمَّلتـنـي مـا لا أطـيق وجـوبـهُ

 

فينطق حالي عن لساني المـعـقّـدِ

فيا أسعدَ الله الـسـعـيدَ لـمـلـكـهِ

 

ودولتهِ والمـوكـب الـمـتـجـددِ

فقد اشغل الدرويش شكـراً مـؤرخـاً

 

مليك سعيد النجـم خـير مـحـمـدٍ

(شهاب الدين) وقد فاق علي درويش شاعر آخر كان يعاصره وهو الأديب الأريب السيد شهاب الدين محمد ابن إسماعيل ولد في مكة سنة 1218 (1803م) ثم قصد مصر فدرس على مشايخها لا سيما شيخي الأزهر محمد العروسي وحسن العطار فبرع في الكتابة والشعر. ولما أنشأ الشيخ حسن أول جريدة طبعت في الشرق وهي الوقائع المصرية سنة 1828 اتخذ كمساعد له في إنشائها شهاب الدين المذكور ثم خلفه في إدارتها سنة 1252 (1836م) وجعل مصححاً لمطبوعات مطبعة بولاق الشهيرة وبقي في مهنته إلى السنة 1266 (1849م) وانقطع إلى الكتابة والتأليف. وكانت وفاته سنة 1274ه (1857م) وقد أبقى السيد شهاب الدين من تآليفه كتاب (سفينة الملك ونفيسة الفلك) ضمنها مجموعاً وافياً من الزجليات والموشحات والأهازيج والموالي التي يتغنى بها أرباب الفن في مجالي الأفراح ومعاهد السرور ولما أتمه سنة 1259 قال في تاريخه:

هذه سفينةُ فنٍ بالمُنـى شُـحـنـتْ

 

والفضلُ في بحرهِ العجَّاج أجراها

وإذ جرت بالأماني فـيهِ أرَّخـهـا

 

سفينةُ البحر بسمِ الله مجـراهـا

 

ثم طبع سنة 1277 (1860م) ديوان شعره في 380 صفحة وفيه القصائد الرنانة في كل فنون العروض ومعاني الشعر. فمن نظمه قوله يصف مزولة أنشأها حضرة سلامة أفندي المهندس لجامع القلعة لبيان الأوقات والساعات بحساب البروج الإثني عشر:

ومُظهرةٍ للوقت ظهـراً وغـيرهُ

 

والبرج أيضاً فهي واحدةُ العصرِ

سلامةُ منشي رسمها وحسابـهـا

 

لجامع خيراتٍ تفرَّد في مصـرٍ

وقال من قصيدة يمدح بطرس بكتي قنصل دولة روسية إذ زاره يوماً:

أتى ينجلي كالبدر فـي سـنـدسَّـية

 

وهل حلَّ في الآفاق بدرٌ بأطلـسِ

فتم لي الصفو الـذي كـاد حـظُـهُ

 

يكونُ كحظي يوم ايناسِ بـطـرسِ

ألا وهو تاج الفخر والحسن والبـهـا

 

مشيّد أركان المكرماتِ المؤَسـسِ

جميل السجايا الألمـعـيّ فـطـانةً

 

رقيق الحواشي ذو الحجى والتفرُّسِ

هشوشُ المحيَّا ضاحك السـن دائمـاً

 

حليفُ المعاني ذو الجناب المقـدَّسِ

بنـفـسٍ أفـديهِ وقـد جـاءَ زائراً

 

بتشنيف أسماعٍ وتشريف مجـلـسِ

يصوغُ لهُ نظمـي نـفـيسَ مـدائحٍ

 

فتثنيهِ غايات الكمـال بـأنـفـسِ

وقال عن لسان بعض الكاثوليك يمدح كبير ملتهم وكان المذكور التمس منه ذلك:

بابا النصارى مربي روح ملَّتـهـم

 

حامي حمى كل شماَّس وقسّـيسِ

شخصٌ ولكن هيولى روحهِ مـلَـكٌ

 

وجسمهُ صورةٌ في شكـل قـديسِ

أقام وهو وحيد العصـر مـفـردهُ

 

دين النصارى بتثليثٍ وتغـطـيسِ

تسعى الملوك إلى تقبـيل راحـتـهِ

 

في البحر والبرّ فوق الفلك والعيسِ

أحيا الكنائسَ جسماً بعد مـا درسـت

 

وشيّد الروح تشـييداً بـتـأسـيسِ

فعظّموا الربّ فيها بالـصـلاة لـهُ

 

ومجدوهُ بـتـسـبـيحٍ وتـقـديسٍ

وله في مديح حنا البحري من قصيدة:

هو كهفٌ إذا لـجـأنـا إلـيهِ

 

في مَخُوفٍ ممَّا نخافُ أمنَّـا

من أتاهُ مستنصراً بـحـمـاهُ

 

عاد بالنصرِ بالغاً ما تمَّنـى

كلَّما عن أمرُ خطب مـهـمْ

 

بك فيما نراهُ عن استعـنَّـا

يصنعُ المكرمات سراً وجهراً

 

وهو في عون من يقولُ أعنَّا

كلُّ من قد رآهُ وهو بشـوشُ

 

عنه ولَّت همومهُ واطمأنّـا

وله قصيدة طويلة في مدح نصر الله (نصري) الطرابلسي الشاعر الذي مر لنا ذكره هذا أولها:

لا رعى الله يوم حـان وداعـي

 

أنه جالبٌ لَحـيْنـي وَداعـي

فيه قد أزمع الرفـاقُ فـراقـاً

 

واصات الشتاتُ شمل اجتماعي

وغدا الدمع سـائلاً يتـجـارى

 

وفؤادي في مـوقـفِ الإيداع

إلى أن قال:

أتُرى هل تعودُ أوقاتُ أنـسـي

 

وبقرب المزار تحضى رباعي

وإذا ما الزمان جاءَ بنـصـري

 

وبحمد يُجزى وبشكر مساعي

هو بحرٌ تُروى المآثـر عـنـهُ

 

بل هو البرّ في جميع البقـاعِ

روضُ آدابهِ الغضيضُ جـنـاهُ

 

عَطِرُ النشر طّـيب الإينـاع

وختمها بقوله:

زادك الله بـهـجةَ وكـمـالاً

 

ما ترَّجى حسنَ الختامِ الداعي

ونظم الأبيات الآتية لترسم على سفرة الطعام:

أيُّها السـيد الـكـريم تـكـرَّمْ

 

وتناولْ ما شئت أكلاً شـهـياً

وتفضَّلْ بجبر خاطر مَـنْ هُـمْ

 

أتقنوا صُنْعهُ وخذ منـهُ شـياً

وتحدَّث على الطـعـام وآنـسْ

 

واحداً واحداً بشوش المـحـيَّا

واستزدهم أكلاً وقـلْ إن هـذا

 

طابَ نضجاً وصار غضاً طرياً

فهلـمَّـوا بـنـا ومـدُّوا إلـيه

 

أيدياً باعُـهـا ينـالُ الـثـريَّا

ثمَّ قُلْ يا أحبَّتي هل لـكـم فـي

 

بعض شئٍ من النبيذ المـهَّـيا

ولئن ساغَ شربهُ لـلـتـمـري

 

فكلوا واشربوا هـنـياً مـرياً

فإذا ما آكلـت ضـيفـاً فـأرخ

 

أن هذا لرزقنـا كـل هـنـياً

(الشيخ البيجوري) وأشهر من السابقين شيخ الإسلام إبراهيم البيجوري. ولد في قرية البيجور بمديرية المنوفية سنة 1198 (1784م) وطلب العلوم في الأزهر مدة وتتلمذ للشيخين محمد الفضالي وحسن القويسني وغيرهما حتى نبغ بين طلبة الأزهر وتفرغ للتأليف فوضع كتباً عديدة في التوحيد والفقه والمنطق والتصريف والبيان واشتغل بالتدريس ثم انتهت إليه رئاسة الأزهر. قيل إن صاحب الدولة الخديوي عباس باشا كان يحضر دروسه في الأزهر. وكانت وفاته سنة 1277 (1860م). (إبراهيم بك مرزوق) ويلحق بأدباء مصر أحد مشاهير كتبتها إبراهيم بك مرزوق. ولد سنة 1233ه (1817م) وكان منذ نعومة أظفاره مغرى بالآداب كثير الحفظ من مختار الشعر قيل إنه كان يحفظ منه عشرين ألف بيت كما أنه أحرز جملة وافرة من منتخب المتون العلمية ومأثور الأخبار. وكان كثير التصرف في فنون الكتابة ويحسن نظم الشعر. ورحل إلى بلاد السودان فكانت وفاته في الخرطوم سنة 1283 (1866م) وقد عني بجمع قصائده وطبعها الهمام محمد بك سعيد بن جعفر باشا مظهر وقسمها إلى سبعة أبواب على حسب معانيها ووسم هذا الديوان (بالدر البهي المنسوق بديوان الأديب إبراهيم بك مرزوق) وكان طبعه سنة 1287 (1870م) ومما جاء فيه من الحكميات قوله:

إن الفضيلة في الأنام غدت على

 

شرف النفوس الشُّمّ أقوى حجَّة

فإذا ادعيت بأن أصلك يا فـتـى

 

من سادة الأبطال أهل الهـمَّة

أوضح لنا نور الشهامة مثلـهـم

 

وعلى رفيع المجد أحْسنَ غيرة

وإذا أردت الفخر فاسهر دائبـاً

 

لطلابهِ واهجر لذيذ الهجـعةِ

فتكون ذا شرفٍ فتـلـك دلائل

 

دلت على شرفٍ وكل فضيلةِ

وقال مستعطفاً لصديق نفر عنه:

يا معرضاً متـجـنـبـاً

 

حاشاك من نقض الذمامْ

مولاي ما لك قد بخلتَ م

 

عليَّ حتى بـالـكـلامْ

سلّم عـلـيَّ إذا مـرر

 

تَ فلا أقلَّ من السلامْ

وقال يرثي اسكاروس أفندي الباش كاتب القبطي:

لا شـكَّ عـنـدي فـي فـنـاء الـوجـودْ

 

فأفـضـلُ الـسـيرةِ خـيرُ الـوجــودْ

والـمـرء مـجـزيُّ بـأعـمــالـــهِ

 

فشـأنـهُ يومَ تُـقــامُ الـــحـــدودْ

وإنـمـا طـوبـى لـمـن قـد قـضــى

 

دنـياهُ بـالـخـير وسـعـد الـسـعـودْ

كالـبـارع اسـكـاروسَ فـي فـضـلـهِ

 

باهي الحجا والـجـد غـيظ الـحـسـودْ

فقـل لـراجـــي شـــأوهِ أرّخـــوا

 

يكفى ثوى اسكاروسُ دارَ الخلودْ (1860م).

وقد عرف في مصر غير هؤلاء ممن ورد ذكرهم في كتب الأدباء كالأستاذ الشيخ أحمد عبد الرحيم والشيخ مصطفى سلامة وكان كلاهما محرراً للوقائع المصرية في هذا الوقت. مدحهما صاحب كنز الرغائب في منتخبات الجوائب (ص121 و129). وكذلك في مصنفا الشيخ ناصيف اليازجي مراسلات دارت بينه وبين أدباء مصر من المسلمين كالشيخ محمد عاقل أفندي كاشف زاده الإسكندري والشيخ حمد محمود أفندي الإسكندري. ولكلهم قصائد جيدة أثبتها الشيخ ناصيف في مجموع شعره لكننا لا نعرف من تاريخ أصحابها شيئاً. فمتا روى للشيخ محمد عاقل قوله يصف الهواء الأصفر:

دهانا بوادي النيل كالسَّـيل حـادثُ

 

لهُ تذْهل الألبابُ حـين يحـيفُ

دَعوُه بريحٍ أصفـر شـاع ذكـرهُ

 

وما هـو إلا هـيضةٌ ونـزيفُ

به احتارت الأفكارُ والعقل والنُّهى

 

وكلُّ طبيب شأنهُ العلمُ موصوفُ

فلم يبقِ داراً لم يَزُرْهـا ولـم يذرْ

 

جناناً بهِ ركبُ السرور يطـوفُ

ثُكلنا رجالاً للـزمـان نـعـدَّهـم

 

طروساً وهم للمعضلاتِ سيوفُ

تراهم ليوم اليأس والـبـأس عُـدَّةً

 

وجاهُهُم القـاصـدين مـنـيفُ

وكم فيهم من أهل ذوقٍ وفـطـنةٍ

 

وفيهم لطيفُ ألمعي أو ظـريفُ

لقد أقشبت أقطارُ مصر لفقـدهـم

 

وكان بهم روح الكمال قطـيفُ

نأوا وأقاموا بارح الحزن في الحشا

 

فليس بـديلاً تـالـدُ وطـريفُ

فشيعهم عقلي وفكري وفطنـتـي

 

ولم يبقى من لبي لديَّ طـفـيفُ

وناقصَ أمثالي صحيحٌ مضاعـفٌ

 

ومهموز حزني أجوفٌ ولفـيفُ

وقال يمدح بيروت وأدباءها وخصوصاً الشيخ ناصيف اليازجي:

لقد قـصـدوا بـيروتَ دارَ أعـزَّةِ

 

لهم تنتمي الآلاء في اللفظ والمعنى

نزيلهمُ قـد شـكَّ فـي أصـل دارهِ

 

وصار يقين الأمر في علمه ظَّنـا

مدينة ظرفِ ما بها غـير فـاضـلِ

 

بسيم وسيم قد حوى الحُسنَ والحسنى

تشد لـهُ الألـبـابُ كـل مـطـيةٍ

 

مجرَّبة الإسعاف في كل ما عـنَّـا

صغيرهُم في المـجـد سـيّد غـيره

 

على أنّ ذاك الغيرَ قدوةُ من أثنـى

وما منهم إلا وقـد شـبَّ طـوقـهُ

 

بنادي ناصيف اليازجي وقد أقنـى

مجيد المعاني وهو للـقـول حـجَّةٌ

 

لأهل النّهى كم قد أجاد لنـا فـنَّـا

ومن أقوال الزيلعي في المدح:

بلغتَ مقامـاً لـم تـنـلـه الأوائلُ

 

وخزتَ كمالاً لم تبتغيه الأفاضـلُ

ولستُ براءٍ غير فضلك يرتـجـي

 

لكل مُلمٍ فيه تُدمى الـصـياقـلُ

ولولاك لك تدر العلـوم بـأنَّـهـا

 

تُجَلُّ وإن قد بانَ مـنـهـا دلائلُ

يطول لسان الفخرَ في فضلك الذي

 

بنيتَ لهُ ركناً لـيرجـع ثـاكـلُ

ويقصر باع الدهر عن وصف ماجدِ

 

لهُ جُمعت في المكرمات الفضائلُ

فيا لك من مجـدٍ ويا لـهُ مـن يدٍ

 

تطول إذا مُدَّت وإن حال حـائلُ

وقال حمد محمود أفندي من قصيدة متشوقاً إلى أهل الفضل في بيروت:

يا أهل بيروت إن لاقيتمُ كـبـدي

 

فمتعوا جدركم من قبلُ بالخفـرِ

أكبادُ أهل الهوى حرَّى وما بردت

 

ألاّ لترمي من الأشواق بالشررِ

ودونكم حرَّ لي فـهـو رقـكُـم

 

وارعوا ذمام شجٍ فيكم على سفرِ

ما كتموه بألـفـاظ هـمُ غـررُ

 

ورابحٌ من شرى الألبابَ بالغُرَرِ

وللشيخ حسن بن علي اللقاني الإسكندري يصف ديوان الشيخ ناصيف:

بدائع ما فيها سوى السحر منـطـقٌ

 

حلالٌ وفي أجنـاسـهـا لا أدافـعُ

إذا جرَّ غوق الطرس سُمْر براعـهِ

 

تصافحـهُ الآداب وهـي رواكـعُ

وإن راح ينثي أو يكاتب صـحـبـهُ

 

فغرُّ معانيه الحـسـان تـسـارعُ

كانَّ صرير السمر في روض طرسهِ

 

غناء حمامٍ وهو بالشعـر سـاجـعُ

تآليفهُ قد فصحت في كـل أعـجـم

 

بليدٍ وكَـم وَّلـى بـلـيغٌ وبـارعُ

لآلئ من زهر الربـيع تـنـاثـرت

 

علينا وفي منظموها الـسـرُّ ذائعٍ

لئن فاح في أرض الـشـام ثـنـاؤه

 

ففي مصرنا منهُ شذا الذكر ضـائعُ

(أدباء المسلمين في العراق) تذكر العراق في أواسط القرن التاسع عشر مفاخرة السابقة فأراد أن يحييها فنزل في حلبة الآداب وركض فيها جياد الألباب فنال قصبة السبق والغلاب. وهانحن نذكر الذين وقفنا على شيء من أخبارهم نقلاً عن مخطوطات مكتبتنا الشرقية وبعض المطبوعات النادرة مباشرة بالآلوسين والسويديين.

(الآلوسيون) هم قرم من أدباء بغداد أحبوا العلوم والآداب فأوقفوا نفوسهم لخدمتها ونشروا معالمها في وطنهم. وأصلهم من آلوس أجدى قرى الفرات ثم انتقلوا إلى بغداد وامتازوا فيها بحسن الخصال. ولما كانت أواسط القرن التاسع عشر برز بينهم أولاد السيد صلاح الدين ابن السيد عبد الله الآلوسي. وكانوا ثلاثة رضعوا كلهم أفاويق الأدب وذهبوا في فنونه كل مذهب. وأولهم أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود أفندي المعروف بالشهاب الآلوسي. ولد في بغداد في 14 شعبان سنة 1217 (1802م) وهناك توفي في 5 ذي القعدة سنة 1270 (1854م) كلف بالعلوم منذ حداثة سنه وبذل النفس والنفيس في إحراز جواهرها حتى أن رغبته في طلب المعارف شغلته عن حطام الدنيا وأنسته هناء العيش وملاذ الحياة وبزر بالعلوم الدينية فصار إماماً في التفسير والإفتاء وكان مع ذلك كاتباً بليغاً وخطيباً مصقعاً وفي 1262 (1845م) سافر برفقة عبدي باشا المشير إلى الوصل ثم إلى ماردين فديار بكر فأرزووم فسيواس فالأستانة العلية واجتمع حيث دخل بإعلام العلماء وأئمة الأدباء وكانوا يتهاتفون إليه ليقتبسوا من أنواره ويغرقوا من بحاره. ثم عاد إلى وطنه معززاً ممدحاً بكل لسان مشمولاً بألطاف الحضرة العلية السلطانية. وكان جلالة السلطان عبد المجيد منحه الوسام المرصع العالي الشأن. فلما عاد إلى وطنه سنة 1269 انقطع إلى التأليف. وفصل أخبار رحلته في عدة مصنفات منها كتابة رحلة الشمول في الذهاب إلى اسلامبول طبع في بغداد سنة 1291 واتبعه بكتاب نشوة المدام في العود إلى بلاد السلام ثم كتاب غرائب الاغتراب في الذهاب والإقامة والإياب ويدعى أيضاً بنزهة الألباب ضمه تراجم الرجال والأبحاث العلمية التي جرت بينه وبين حضرة السيد أحمد عارف حكمت بك شيخ الإسلام. وكان السيد محمود سريع الخاطر ونسيج وحده في قوة التحرير وسهولة الكتابة ومسارعة القلم قيل أنه كان لا يقصر تأليفه في اليوم والليلة عن أقل من ورقتين كبيرتين. وقد ألف كتباً عديدة في التفسير والفقه والمنطق والأدب واللغة كشرح السلم في المنطق. وكتاب كشف الطرة عن الغرة وهو شرح على درة الغواص للحريري. ومن تآليفه رسالة في الانسان. وله حاشية على شرح قطر الندى لابن هشام ألقها وعمره لا يتجاوز ثلاث عشرة سنة. وكتاب المقامات طبعه في كربلاء وكتاب التبيان في مسائل إيران وكتب أخرى غيرها. وكان له شعر قليل إلا أنه غاية في الرقة يذكر العراق في غربته:

أهـيمُ بـآثـار الـعـراقِ وذكـره

 

وتغدو عيوني عن مسرَّتها عَبْـرىَ

وألثم إخـفـاقـاً وطـنَ تـرابـهُ

 

وأكحلُ أجفاناً بتربته العَـطْـرَى

وأسهر أرعى في الدياجي كواكبـاً

 

تمرُّ إذا سارت على ساكني الزورا

وانشقُ ريح الشرق عند هبـوبـهـا

 

أداوي بها يا ميُّ مُهجتَي الـحَـرّا

وقال في وصف بغداد وفراقه لها:

أرضٌ إذا مرَّت بها ريحُ الصـبـا

 

حملت من الأرجاء مسكاً أذفـرا

لا تسمعنَّ حديث أرضِ بـعـدهـا

 

يُروى فكل الصيد في جوف الفرا

فارقتها لا عن رضى هجرتـهـا

 

لا عن قلى ورحلتُ لا متـخـيَّرا

لكنها ضاقت علـيَّ بـرحـبـهـا

 

لما رأيتُ بها الزمان تـنـكَّـرا

ومن حسن قوله وصفه لشاعر سهل الألفاظ بعيد المعاني:

تتحَّيرُ الشعراء إن سمعـوا بـه

 

في حسن صنعته وفي تأليفـه

فكأنهُ في قربه من فـهـمـهـم

 

وتقولهم في العجز عن ترصيفهِ

شجرٌ بدا للعين حسـنُ نـبـاتـهِ

 

ونأى عن الأيدي حتى مقطوفهِ

وقال مستغفراً وقد افتتح به كتاب مقاماته:

أنا مذنبٌ أنا مجرمُ أنا خاطـئ

 

هو غافرٌ هو راحمُ هو عافي

قابلـتـهـنّ ثـلاثةُ بـثـلاثةٍ

 

وستغلبَن أوصافُهُ أوصافـي

وكانت وفاة الشهاب الآلوسي في السنة التي ذكرناها فرثاه قوم من الفضلاء كما مدحوه في حياته وقد جمعت تلك المدائح في كتاب حديقة الورود في مدائح أبي الثناء شهاب الدين محمود. وكان أولاده أغصاناً نضرة في تلك الدوحة الباسقة سنذكرهم في وقتهم. واشتهر في زمانه أخواه عبد الرحمان وعبد الحميد فعرف عبد الرحمان بفصاحة لسانه وخلابة أقواله في الخطابة والوعظ وكان يدرس العلوم الدينية في أكبر جوامع الكرخ إلى وفاته سنة 1284 (1867م) وعمره نحو ثلث وستين سنة.

أما عبد الحميد الآلوسي فكان مكفوف البصر ولم تصده تلك العاهة عن طلب العلوم فأخذها عن أخيه السيد محمود الذي أجازه في المعقول منها والمنقول والفروع والأصول فجعل يدرس في مدرسة بغداد المعروفة بالنجيبية ويتقاطر لاستماعه الناس حتى علية القوم وفي مقدمتهم علي رضا باشا والي بغداد وله بعض مصنفات نثرية بليغة وقصائد غراء منها قصيدة في مدح أحد مشايخه العظام أولها:

تنوحُ حماماتُ اللـوح وأنـوحُ

 

وأكتمُ سرّي في الهوى وتبوحُ

وتُعجم إن رامت أداءَ مرامهـا

 

ولي منطق فيما أروم فصيحُ

لها مقلةٌ عند التنـائي قـريرةٌ

 

ولي مدمعٌ يوم الفراق سفوحُ

لى أن قال مادحاً:

فتى كلُّه عفوٌ ولـطـفٌ وعـفَّةٌ

 

وعنْ زلَّة الشاني الحسود صفوحُ

حليمٌ وهل كالحلم في المـرء زينةٌ

 

سموحٌ وذو الشان الجليل سموحُ

وفارس فضلٍ لا يجازيه عـارفٌ

 

وأنى يجاري العاديات جـمـوحُ

يفوح بأفواه العدى نشرُ فضـلـهِ

 

كما فاح نشراً في المجامر شيحُ

لقد عطَّر الأرجاءَ منك الفضـائلٌ

 

فوصفك مسكُ في الأنام يفـوحُ

ومن نثره قوله يصف الأولياء: لقد فاز قوم عاملوا الله بالإخلاص والصدق، وعاملوا الناس بحفض الجناح وحفظ الوداد مع اللين الرفق، تحملوا من أجله ألم الأذى والمشاق، فأزالوا بأنوار شهود جماله عن بصائرهم حجب العوائق الإنسانية، وتحملوا إذا أذاقهم الورى مر المراء والشقاق، فأماط بعذوبة أنسه ووصاله عن رقابهم ربق العلائق النفسانية، أعرضوا عن الدنيا وأغرضوا في طلب الأخرى حيث علموا بأن الأولى والأحرى السعي في تقديم الباقية على الفانية. فانحلوا الأجسام بالصيام والقيام، لما أن حلا لهم شرب صافي المدام... فرضوا على نفوسهم القناعة والصبر، ورضوا عن هذه الدنيا بالقليل النزر. وراضوا زكي أنفسهم عن النفس جواهرها وأعراضها، ترفعوا عن الشكوى وتمسكوا بعرى التقوى، لأنها الركن الأوفى والسبب الأقوى، فانجابت عن قلوبهم غمائم آلامها وأمراضها...

وكانت ولادة السيد عبد الحميد سنة 1232 (1817م) وطالت حياته ولم نقف على سنة وفاته.

(السويديون) هم من أسرة فاضلة أصلها من سر من رأى أو سامرّا فانتقلوا إلى بغداد وعرفوا بين أكابر علمائها. منهم الشيخ أبو البركات عبد الله السويدي صاحب المؤلفات الأدبية العديدة كشرح دلائل الخيرات وكتاب مقامات بليغة والأمثال السائرة والرحلة المكية توفي سنة 1170 (1756م). ومنهم الشيخ أبو الخير عبد الرحمن زين الدين البغدادي السويدي ابن أبي البركات كان ذا باع طويل في العلوم الدينية واللسانية. ولد سنة 1134 وتوفي سنة 1200 (1722 - 1786م) فأرخه أخوه الشيخ أحمد السويدي بقوله من أبيات:

وفارقنا فرداً فقـلـتُ مـؤرخـاً

 

أبو الخير في أزكى الجنان نريلُ

وكان الشيخ أحمد المذكور إماماً في التصوف وقد رد على الملحدين بكتاب سماه الصاعقة المحرقة في الرد على أهل الزندقة. توفي سنة 1210 وكان مولده سنة 1153 (1740 - 1795).

ومن السويديين الشيخ علي ابن الشيخ محمد سعيد السويدي المتوفى سنة 1237 (1822م) له كتاب في تاريخ بغداد وقد رثاه شاعر أبيات ختمها بهذا التاريخ:

مذ وُسّد اللحدَ نادانـا مـؤرخـهُ

 

إنَّ المدارس تبكي عند فقد علي

ومنهم أيضاً الشيخ أبو الفوز محمد أمين السويدي أحد كبار الكتبة في بغداد وله مؤلفات جليلة في عدة فنون منها كتاب سبائك الذهب في معرفة أنساب العرب الذي نشر بالطبع وقد مر لنا وصفه (المشرق 10 (1907): 566) وكتاب الجواهر واليواقيت في معرفة القبلة والمواقيت. وكتاب رد على الرافضة. ورسالة في الواجب والممكن. وله شرح تاريخ ابن كمال باشا مع نظم لطيف. كانت وفاته سنة 1246 (1830). واشتهر من السويديين في العهد الذي وصلنا إليه الملا نعمان السويدي ابن الشيخ محمد سعيد ابن أحمد وهو خاتمة السويديين توفي في رجب سنة 1279 (1863م).

واشتهر بالآداب العربية في بغداد والعراق غير الآلوسيين والسويديين في أواسط القرن التاسع عشر بعض الأئمة. وها نحن نذكر منهم الذين أبقوا آثاراً من علمهم طبعاً أو خطاً على ترتيب سني وفاتهم.

(البيتوشي) هو ابن محمد عبد الله بن محمد الكردي البيتوشي من كبار أدباء بلاده. ولد في بيتوش من قرى العراق سنة 1161 (1748) وجد في طلب العلم ثم تقدم بغداد طلباً لمعاش وارتحل منها إلى بلدة الاحساء فابتسم له الدهر وحسنت حاله واشتهر صيته وانقطع إلى التأليف في الصرف والنحو ونظم كتاب كفاية المعاني وشرحه وذيل شرح الفاكهي على قطر الندى لابن هشام. وله نظم حسن منه قوله متشوقاً إلى وطنه:

ألا حيِّ بيتوشاً وأكنافَها التـي

 

يكاد يروّي الصادياتِ سرابُها

بلادٌ بها حلَّ الشبابُ تـمـانـي

 

وأوَّل أرضٍ مسَّ جلديَ ترابُها

لقد كان لي منها عرينُ وكان من

 

مقامي لي سُحب سُكُوب زُبابهُا

ولم تشبُ لي إن يَنبُ يوماً بأهلهِ

 

مكانُ ولم ينعق عليَّ غراُبهـا

توفي البيتوشي سنة 1213 (1798). وكان الأحقَ بنا أن نذكرهُ في الأبواب السابقة فأثبتنا أخبارهُ هنا بقيَّة أفاضل العراق وكذا فعلنا بالشيخين الوارد ذكرهما.

(الشيخ عثمان بن سند البصري الوائلي) أصلهٌُ من النجد فسكن البصرة وكان يتردَّد كثيراً إلى بغداد وأشتغل بفنون لسان العرب وكان لهُ في اللغة باع طويل وألف عدَّة تآليف مفيدة منها كتاب في تاريخ بغداد أرَّخ فيهِ ما وقع في زمانهِ من الوقائع وسماها مطالع السعود في بطيب أخبار الوالي داود وقد طبع مختصرهُ في بمبي سنة 1304. ومن تآليفهِ منظومة في علم الحساب ونظم قواعد الأعراب والأزهريةِ ومغني اللبيب. ولهُ رسائل أدبيَّة كفاكهة المسامر وقوَّة الناظر. ونسمات السحرَ وروضة الفكر. وكانت لهُ شهرة عظيمة في البصرة ونواحيها يُقبل كلامهُ جميع أهاليها. توفي سنة 1250 (1834).

(الشيخ علاء الدين الموصلي) هو علاء الدين علي أفندي الموصلي واحد شيوخ شهاب الدين الوسني زاده. ذكرهُ في كتابهِ نزهة الألباب في غرائب الاغتراب وأثنى على آثارهِ الأدبيَّة لكنهُ ذمّ أخلاقهُ وضيق صدرهِ وجهلهُ بمداراة الناس قال:

كان لا يدري مداراة الورى

 

ومداراة الورى أمرٌ مهم

وروى لهُ شعراً حسناً منهُ:

لئن لم تشاهدني أخـافِـشُ أعـينٍ

 

فلي من عيون الفضل شاهد رؤيةِ

وإن أنكرتني الحاسدون تجـاهـلاً

 

كفانيَ عرفاني بقدري وقيمـتـي

فأين لشمسِ الاستواء من السُّـهـا

 

وأين زلالُ من سـرابِ بـقـيعةِ

وليس الذي في الناس كالحي مـيتٌ

 

لفضلً وإفضالٍ فحـيٌّ كـمّـيتِ

وقوله:

وزمانٍ عدَتْ علـى لـيالـهِ

 

وقصَتْني قوادمي وجناحـي

ودعتني صروفهُ في شتـات

 

وعـنـاء وخـيبةٍ ونـزاحِ

لا لذئبٍ أتيتُـهُ غـير أنَّ ال

 

فضل لم نلقَهُ قرينَ نجـاحِ

وإذا ما الصلاحُ فيكم فسـادٌ

 

ففسادي الذي لديكم صلاحي

وكانت وفاته بالطاعون سنة 1243 (1827م) وأنشد قبل وفاتهِ:

أسفي على فصلٍ قضيتُ ولم أكن

 

أبصرتُ عارف حقهِ فـيبـينُ

ومن العلوم الغامضاتِ ورمزها

 

أملي قضيتُ وللفـنـونِ ديونُ

وأخذتُ في كفني علوماً لم أجـدْ

 

مستودعاً هي في الدفين دفـينُ

(عبد الحميد الموصلي) هو عبد الحميد ابن الشيخ جواد الموصليّ الشهير بابن الصبّاغ أحد شعراء العراق الذين شرَّفوا تلك الأصقاع بآدابهم. وشعرهُ رقيق لكنّهُ مفرَّق لم يُجمع في ديوان. فمن قولهِ أبيات كتبها إلى الشاعر بطرس كرامة والتزم في كل صدورها وأعجازها تاريخاً المسنة المسيحيَّة 1844 إلا المصراع الأخير فجعلهُ الأخير هجرياً هذا مطلعهُ:

بعثنا إليكم بنتَ رمز مـن الـفـكـرِ

 

دهاها جوًى أعطتْ بهِ خالصَ الشعرِ

آمنتم صروع الدهر من قـيد حـادثِ

 

شهدتم هلال الأفق من كامل الشهرِ

ميامن ترعى بطرسـاً فـي كـرامةِ

 

إلى غاية الدنيا إلى أوحـد الـدهـرِ

هديتم بنور الـرب بـابّـا فـأرخـوا

 

هو الله لا ما زلَّ من مشرق الفجـرِ

فأجابهُ بطرس كرامة برسالة طويلة نظماً ونثراً أفتتحها بقولهِ:

عشقتُكم من قبل لقـياكُـمُ

 

وكلُّ معشوقٍ بما يوصفُ

كالشمس لا تدركها مقـلةٌ

 

لكنَّها من نورها تعـرفُ

وقال الشيخ عبد الحميد يمدح شيخ ناصيف اليازجيّ من قصيدةِ:

كبشُ الكتائب والكـتـاب وأنـهُ

 

بالنحر ينطحُ هامة ابن خروفِ

متوقد الأفكار يوشك في الدُّجى

 

يبدو لهُ المستورُ كالمكشـوفِ

فطنُ تمنطق بالفصاحةِ وارتدى

 

جلبابَ علمِ النحو والتصـريفِ

إلى أن ختمها بقولهِ وفي البيت الأخير تاريخ السنتين الهجريَّة والمسيحيَّة (1264 - 1847):

لا زال محفوفاً بـحـظٍ وافـرٍ

 

والخطُ مثل الخطَ بالتصحـيفِ

فيهِ صفا عبد الحميد مـؤرخـاً

 

ناهيتُ نظمي في مديح نصيفِ

ولهُ مخمساً لقصيدة الشيخ ناصيف المهملة فجعل تخميسهُ مهملاً كقصيدة الشيخ:

عدوَ المـرء أولادٌ ومـالُ

 

لو اسمهم أساودها صِلالُ

أحاول طَولْهم وهو المحالُ

 

لأهل الدهر آمالٌ طوالُ

وأطماعٌ ولو طال الملالُ

 

 

ومنها:

مرور العُسر مرْمرَ كل حالٍ

 

وأمرُ الله دمَّر كـلّ حـالٍ

سرورك والهمـوم دلاءُ دالٍ

 

كرورُ الدهر حوَّل كل حالٍ

هو الدهر الدوام لهُ خـالُ

 

 

وكانت وفاة الشيخ عبد الحمد ابن الصبّاغ 1271 (1854) فرثاهُ الشيخ اليازجي بقصيدة جميلة استهلها بقولهِ:

لا عين تشبت في الدنيا ولا أثـرُ

 

ما دام يطلع فيها الشمس والقمرُ

إلى أن قال:

قد كنت انتظر البشـرى بـرؤيتـهِ

 

فجاءني بغير ما قد كنت أنتظـرُ

إن كان قد فات شهدُ الوصل منهُ فقد

 

رضيت بالصبر لكن كيف أصطبرُ

أحبُّ شيء لعينـي حـين أذكـره

 

دمعُ وأطيب شيء عندها السهـرُ

هذا الصديق الذي كانـت مـودَّتـهُ

 

كالكوثر العذب لا يغتالهـا كـدرُ

لا غرو أن أحزن الرواءَ مسرعـهُ

 

فحزنهُ فوقَ لبـنـانِ لـهُ قـدرُ

فأستحسن أهل بغداد هذه المرثية وقرظّها السيد شهاب الدين العاويّ بأبيات منها:

وافت فعرَّت بتأساء وتـعـزيةِ

 

عليهما يَحسْد الأحياء مَنْ قُبروا

وأرَّخها بقولهِ:

أسديتَ سلوة محزونِ مـؤَّرخةَ

 

أسدى رثاء بهِ السلوان والعبرُ

(عبد الجليل البصري) هو السيد عبد الجليل بن ياسين البصري ينتهي نسبهُ إلى علي ابن أبي طالب ولد في البصرة سنة 1190 (1776م) ثم أرتحل منها إلى الزبَّارة فسكنها حتى استولى عليها صاحب الدرعيَّة ابن السعود فسار إلى البحرين وسكن بها إلى سنة 1259 (1843م) ثم أستوطن الكويت وتوفي هناك سنة 1270 (1854م). وأشتهر عبد الحكيم بالحكم والكرم وكان ذا أدبِ وعلم كما يشهد عليهما ديوان شعرهِ الذي طُبع سنة 1300 (1883م) في بمبي (ص 280). وأوَّل نظمهِ قالها مؤرخاً مولد أبنهِ عبد الوهَّاب سنة 1211 (1796):

حمدتُ اللـه أسـدى بـفـضـلِ

 

وآلاء تسامتْ أن تُـضـاهـي

كريمٌ مَـنَّ فـيمـن أضـحـت

 

رياضُ القلب مخضراً رباهـا

وطاب العيشُ وانكشفت هـمـومٌ

 

كذاك النفس منتقـياً عـنـاهـا

فيا من قد مَـنـتَ بـغـير مـنَ

 

بمن ساد الورى فخراً وجاهـا

أدمني فـيهِ مـسـروراً دوامـاً

 

وفيهِ العينُ قر بهـا كـراهـا

ووَفِقْهُ لما نـرضـي وجـنَـبْ

 

هوى الأهواء وأحفظ من غواها

وخيرُ الفالِ قد أرَّختُ لا بـنـي

 

بطلعتهِ بشيرُ السـعـد بـاهـا

وقال على لسان فقير من أبناء السبيل طلب منهُ أبياتاً يرتزق بها:

يا ماجداً ساد عن فضلِ وعن كـرم

 

وهمَّةِ بلغتْ هامَ السمـاك عُـلا

يا من إذا قصد الراجي مكـارمـهُ

 

نال الأماني وبرَّا وافرّا عَـجـلا

إنَّا قـصـدنـاك والآمـال واثـقة

 

بأنَّ جودك ينفي فقر مـن نـذُلا

جئنا ظماءً وحسنُ الضـنَ أوردنـا

 

إلى معاليكَ لا نبغي بـهـا بَـدَلا

لقد أضرَّ بنا جورُ الـعُـداة ومـا

 

أودي بنا الدهر يا بؤس الذي فعلا

عسرٌ وعُزبَةُ دارٍ ثـم مـسـكـنة

 

وذلَّةٌ وفـراق قـاتـلٌ وبَــلا

نشكو إلى الله هذا الحال ثـم إلـى

 

ندبٍ جوادٍ يفيد القاصـدَ الأمـلا

عسى نصادف من حسناك مرحمةَ

 

تكون رفداً لنا إذا نقطعُ السبـلا

وأغنم بذلك مـنـاَّ خـير أدعـيةٍ

 

يزفُّها قلبُ عافِ بات مبتـهـلاً

لا زلت تولي جميلاً كلَّ ذي أمـلٍ

 

في رفعةٍ ونعيمٍ دام مـتَّـصـلاً

وله يذمُ آفاتٌ يضيقُ ويعدّد مساوئه:

الغيظ آفاتٌ يضيقُ بها الفتـى

 

فإذا استطعتَ لهُ دفاعاً فأجهدِ

منها حجابُ الذهن عن إدراكهِ

 

أمراً تحاولهُ كأن لم يُعـهـدِ

وبهِ يرى الفَطِنُ اللبيبُ كـأنـهُ

 

ممَّا بهِ المعتوه أو كالأبـلـهِ

وبهِ الحليم إلى الجهالة صـائرٌ

 

ويهدُ عنهُ بهِ منارَ الـسـؤدُدِ

وبهِ يُسئُ لدى الورى أخلاقـهُ

 

حتى يُقال لهُ لئيمُ المَـحـتْـدِ

لا يرعوي لصحيح قول نصيحة

 

وبرى النَّصوح كعائبٍ ومفنّدِ

من حَبَّ طَبّ بما تناولَ علمـهُّ

 

وأخو النباهة يقتدي بالمرشـدِ

وقد سبق لنا حكم السيد عبد الجليل البصري لبطرس كرامة على الشيخ صالح التميميّ وروينا أبياتاً من قصيدتهِ في مدح الشاعر النصراني فراجعها (ص 64) (الشيخ عبد الفتاح شوَّاف زاده) أخذ العلوم الأدبيَّة عن الشهاب الآلوسي حتى صار من الفضل الأدباء. صنَّف تعليقات على كتب عديدة وقد كتب ترجمة شيخهِ الآلوسيّ في جزأين كبيرين ودعاهُ حديقة الورود في ترجمة أبي الثناء شهاب الدين محمود وضمنَّهُ دقائق أدبيَّة ومسائل علميَّة. توفي سنة 1272 (1855م). وأشتهر بعدهُ أخوه عبد السلام ووضع تصانيف عديدة منها كتاب في المواضع وانتهى إليه علم الفقه والحديث. ولا نعرف سنة وفاتهِ.

(السيد عبد الفتاح السافيّ) هو الشيخ محمَّد أمين الشهير بالواعظ. كان ذا خبرة تامَّة بالمسائل الشرعيَّة ونال من الفنّ الأدب بأوفر نصيب. وكان ماهراً في إنشاء الصكوك ودرَّس مدَّة في المدرسة الخاتونيَّة. وصنَّف عدَّة مصنَّفات كمنهاج الأبرار ونظم التوضيح وكان لهو النظم اللطيف منهُ قولهُ في مدح السيد محمود الآلوسيّ مخمساً:

يا سائلي عن بحر علمٍ قد طـمـا

 

بعلومهِ يروي العطاش من الظماّ

إن قلت صف لي نداك توسـمـا

 

إن الشهاب أبا الثناء لقد سـمـا

قدراً على أقرانـهِ مـن أوْجِـهَ

 

 

سعد السعود ببابهِ متقاعداً

 

والمشتري برحابهِ متـعـاقـداً

لا تنكـرنَّ لأنـسـهِ يا جـاحـداً

 

ما زارني إلاَّ حسبتُ عطـارداً

في الدار أمسى نازلاً من أوْجهِهِ

 

 

وتوفي سنة 1273 (1856) فقال السَيد عبد الغفَّار الأخرس فيهِ رثاءَ ختمهُ بهذا التاريخ:

بكى العلم والمعروف أرّخ كليهما

 

بقبرٍ ثوى فيهِ الأمين محـمَّـدُ

(السيد محمد سعيد) كان أبوهُ محمد أمين الشهير بالمدرّس يعلَم في بغداد العلوم اللسانيّة ووضع فيها بعض المصنَّفات فلمَّا توفي سنة 1236 (1821) خلفهُ أبنهُ السيد محمد وقلد عدَّة مناصب كالنيابة والإفتاء ثم أنفصل وبقي مشغولاً بالتدريس إلى سنة وفاتهِ 1273 (1857م) وتآليفهُ منها نحوية ومنها شرعية وصفهُ السيد نعمان أفندي الآلوسي بقولهِ: (إنهُ كان ذا تقوى وديانة وعفَّة وصيانة لا يغتاب أحداً ولا ينمُّ على أحد أبداً وكان بشع الخطّ حديد المزاج كثير الوسواس عيّ الكلام... وكان كثير الصدقات على اليتامى والأرامل). ولما مات رثاه السيد عبد الغفار الأخرس بقولهِ:

في رحمةَ الله حـلَّ شـيخٌ

 

وجَنَّةُ دارُها الـخـلـودُ

تفيض من صدرهِ عـلـومٌ

 

وقد طَمى بحرُها المديدُ

ولـم يزل مـيَتـاً وحـياً

 

من علمهِ الناسُ تستفـيدُ

سار إلى ربهِ غـير فـانٍ

 

بالعزّ وهو العزيزُ الحميدُ

ومذ توفـاهُ قـلـتُ أرّخ

 

مضى إلى رَبهِ سـعـيدُ

(عبد الباقي العمري الفاروقيّ) هو أديب العراق عبد الباقي بن سليمان بن أحمد العُمَري الفاروقيّ الموصلي ولد في الموصل سنة 1204 (1789م) انتهت إليه رئاسة الشعر والأدب في وطنهِ. تغذَّى منذ صغرهِ لبان العلم. وأنتدبتهُ الحكومة السنيَّة وهو أبن عشرين إلى منصب كتخدا ووكيل الوالي فرافق القاسم باشا وعلي باشا إلى بغداد وقام بأعباء رتبتهِ أتمّ قيام وكذلك سار بالعساكر الشاهانيَّة إلى قبيلتي الزكرت والشمرت في النجف فقصَّ جناح الفتنة بينهما بحسن درايتها وعاد إلى بغداد مقروناً باليُمن والإسعاد ونال الحظوة من الدولة العلية. ثمَّ إلى الكتابة والآداب فشاع نثرهُ الرائق وشعرهُ الفائق فألف التآليف التي أحرز بها قصب السبق من مضمار أدباء العراق وفاز بين فصحائهم بالقدح المعّلى. وكانت وفاتهِ سنة 1278 (1861) قيل أنهُ أرَّخ نفسهُ في عام مماتهِ ببيتِ كتب على قبرهِ:

بلسـان يوجَـدُ الـلـه أرّخَ

 

ذاقَ كأس المنون عبد الباقي

أما تآليفهُ فكلُها ناطقة بفضلهِ وتوقّد فهمهِ منها ديوان أهلّة الأفكار في مغاني الابتكار وكتاب نزهة الدهر في تراجم فضلاء العصر وكتاب الباقيات الصالحات وكتاب نزهة الدنيا أودعهُ تراجم بعض رجال الموصل في القرن الثاني عشر والثالث عشر ولهُ ديوان شعر يسَمى بالترياق الفاروقي من منشآت الفاروقي طُبع مرَّة بمطبعة حسن أحمد الطوخي سنة 1287 بمصر في 336 صفحة ثم أعاد طبعهُ الشيخ عثمان الموصليّ بعد توسيع أبوابهِ وتكملتهِ سنة 1316 في 456 صفحة. وهانحن نذكر بعض نتفِ من شعرهِ تنويهّا بعلوّ مقامهِ في الآداب قال يؤرَخ جلوس السلطان عبد العزيز وأجاد:

للتِلغراف الفضلُ إذ جاءنا

 

يقولُ بشاركم بلفظٍ وجيزْ

قد أحرزتْ ملَّتكم أرّخـوا

 

هزَّا بظلَ الله عبد العزيزْ

وقال في التشبيه:

كأنْ ضوءَ البدر في

 

دجلةَ حين يشرقُ

والموجُ في أثنـائهِ

 

منهُ العُبابُ يخفقُ

قراضةٌ من ذهـب

 

طفا عليها الزئبقُ

وقال في فتح الدولة العلية لحصن سيوستبول مع دولتين الفرنسوية والإنكليزية:

أقول المدُّوَل المـنـصـورِ عـكـرُهـا

 

لا زال عكرها بـالـلـه مـنـصـورا

لما اتفقتم على صـدق الـمـحـبَّة فـي

 

ما بينكم واتـحـدتـم صـرتـمُ سُـورا

بسـطـوة دعـت الأطـوادَ راجـــفةً

 

دّمرتمُ محصنـات الـروس تـدمـيرا

مدافعٌ غـطّـتِ الـدنـيا غـمـائمـهـا

 

فغادرت صبح يوم الحـرب دبـجـورا

أفواهُـهـا دامـتَ الـمـنـار ألـسـنةُ

 

فقررت دَرس ملك الـروس تـقـريرا

رعدٌ وبرقٌ وغيمٌ مـن سـدىً ولـظـىً

 

ومن دخان أعاد الكـون مـمـطـورا

اقلُّـهـم فـرَّ لـمـا فـرَ أكـثـرهـم

 

لكونـهِ بـات مـقـتـولاً ومـأسـورا

والسيف غنَّى على هامـاتـهـم طـربـاً

 

حتى حسبناهُ فوق الغصـن شـحـرورا

غادرتمُ البر بـحـرا يسـتـفـيض دمـاً

 

والبحر براً على الأشـلاء مـعـبـورا

سبوَسْبتول التي أعـيتْ مـعـاقُـلـهـا

 

سخّرتم حصنَها أرختُ تسخيرا (1271ه)

وله مشطرا أبياتاً منسوبة لأبي نصر الفارابي الفيلسوف الشهير:

)كمّلْ حقيقتك التـي لـم تـكـمـل(

 

وعن ارتكاب النقص كُن في معزلِ

وابغ لنفـسـك مـا تـرقـيهـا بـهِ

 

(والجسمَ دَعهُ في الحضيض الأسفل)

(أتكملُ الفـانـي وتـتـرك بـاقـياً)

 

تكميلُـهُ أولـى بـحـقِّ الأكْـمـلِ

فهو الذي لا ينبـغـي لـك تـركـهُ

 

(هملاً وأنت بأمرهِ لـم تـحـفـلِ)

(فالجسمُ للنفـس الـنـفـسـية آلـهُ)

 

تقضي المرامَ بها إذا لم تـكـسـلِ

ولكم عليها من حـقـوقٍ لـلـعـلا

 

(ما لم تحصلها بهِ لـم تُـحـصـلِ)

(يفني وتَبْقَى دائمـاً فـي غـبـطةٍ)

 

إن فارقَـتْـهُ ودولةٍ لـم تـنـقـلِ

وسـعـادة أبـديةٍ لا تـنـقـضـي

 

(أو شقوةٍ ونـدامةٍ لا تـنـجـلـي)

(أعطيتَ جسمك خادماً فخَـدمْـتَـهُ)

 

وأحَلْتْ حكم مـعـزّز لـمـذلّـلِ

وجعلتَ من هو فـوقـهُ مـن دونـهِ

 

(أتُمَلّك المفضولَ رقّ الأفـضـلِ)

(شركٌ كثيفٌ أنتَ فـي حَـبـلاتـه)

 

قيد الحـياة أسـير قـيد مُـثـقـل

منـهُ وأنـت بـهِ بــأيَّةٍ حـــياة

 

(مادام يمكنك الخلاصُ فـعـجّـلِ)

(من يستطيع بلوغَ أعلـى مـنـزل)

 

متدرجاً فوق الـسـمـاك الأعـزلِ

ويرى الثريَّا تحت أخمـص رجـلـهِ

 

(ما بالهُ يرضى بـأدنـى مـنـزلِ)

ولعبد الباقي الفاروقي مع أدباء زمانه مراسلات لطيفة فمدحوه ومدهم بقصائد لا تحصى لا يسعنا ذكرها وكثير منها يتضمن الطرف المستطرفة ونكتفي بذكر بض أبيات قالها في تقريظ مقامات مجمع البحرين للشيخ ناصيف اليازجي أولها:

غُرَرٌ أم دُرَرٌ مـكـنـــونةٌ

 

في عُباب البحر بين الصَّدَفَيْنْ

إلى أن قال:

قد أتَتْني تتـقـاضـى دَيْنَـهـا

 

فوفتْ للمجد عنـي كـل دَيْنْ

بمزاياها العقـولُ ارتـسـمـتْ

 

فمحتْ عن عين عقلي كل غَينْ

وتجلَّت صُور الـعـلـم بـهـا

 

فجلت عن كل قلبٍ كـلّ رَينْ

وعلى الإحسان والحسن مـعـاً

 

طُبعت والطبع مشغوفٌ بـذَينْ

رحتُ من راحةٍ معناهـا ومـن

 

روح مبناها حليفُ النَّشـأتَـينْ

يا لسفرِ لسفَرتْ ألـفـاظُـهـا

 

بين أفَقْية سـفـورَ الـنـيّرَينْ

يا لهُ قاموس فضلٍ قـد طـوى

 

مجمع البحرين بين الدفَّـتَـينْ

وكان مدحه سنة 1264 (1848) بقصيدة بائية يقول فيها:

أبلى النوى جسدي النحيفَ كأنَّني

 

قلمٌ بدا بيدَيْ نصيف الكاتـبِ

حَبرٌ حلا في حِبرهِ قرطـاسُـهُ

 

كالتبر لمَّا لاح فوقَ تـرائبِ

فسطورهُ وطروسهُ في حسنهـا

 

حاكت سماءً زُينت بكواكـبٍ

وختمها بقوله:

لو قمتُ طول الدهر أنشد مدحـهُ

 

بين الأنام فلم أقُم بـالـواجـبِ

وبمدحهِ العُمَـريُّ آبَ مـؤرخـاً

 

ترتيب مدحي في نصيفِ الكاتبِ

فقال الشيخ ناصيف يجيبه بقصيدةٍ من البحر والقافية:

أحسنتَ في قول وفعلٍ بـارعـاً

 

وكلاهما للنفسِ أكبـرُ جـاذبِ

أنتَ الذي نال الكمال مـوفَّـقـاً

 

من رازق من شاءَ غير محاسبِ

فإذا نظمت فأنتَ أبلـغ شـاعـرٍ

 

وإذا نثرتَ فأنت أفصح خاطـبِ

وإذا نظرتَ فعن شهابِ ثـاقـبٍ

 

وإذا فكرت فعن حسامٍ قاضـبِ

هذا رسولٌ لي إلـيك ولـيتـنـي

 

كنتُ الرسولَ لها بمعرض نائبِ

ومن أقوال الفاروقي وصفه للتلغراف:

خطّ التلغراف حروفُ جرّ

 

يجيءُ بها من الغور البعيدِ

ويلفظها بغير فـمٍ ولـكـن

 

بالسنةٍ حدادٍ مـن حـديدٍ

هذا وقد أشرنا سابقاً إلى قصيدته الخالية التي عارض بها خالية بطرس كرامة تجدها في ديوانه (ص247 - 243) من الطبعة الجديدة فدارت بسببها المراسلات بين الشاعرين. وقد هنأه بطرس كرامة برتبته الكتخداوية بقصيدة مطولة يقول فيها:

الشاعر الفرد الذي أهـدى لـنـا

 

دُرَر البُحور نُظْمنَ في الأوراقِ

درٌّ بجـيدك أم حـبـاك قـلائداً

 

من شعرهِ العُمَريُّ عبد الباقـي

جمعَ الفصاحة بالبلاغة مثلـمـا

 

قرن الحجى بمحاسن الأخـلاقِ

وممن خدموا الآداب بين العراقيين غير المذكورين بعض أهل الفضل ممن لم نعلم من أحوالهم إلا النزر القليل فنثبت هنا أسماءهم تتمة للفائدة فمنهم (الشيخ يحيي المروزي العمادي) أصله من العمادية من قرى الأكراد قرب الموصل برز في التدريس وصار عليه المعول في مذهب الأمام إدريس وكان أحد مشايخ الشهاب الآلوسي الذي أثنى على زهده وعلو في نفسه وخصه ببيتين قيلا في الشافعي:

عليَّ ثيابٌ لو يُباعُ جـمـيعـهـا

 

بفلسِ لكان الفلسُ منهنَّ أكثـرا

وفيهنَّ نفسٌ لو تُباع بمـثـلـهـا

 

نفوس الورى كانت أعزَّ وأكبرا

توفي الشيخ العمادي سنة 1250 (1834). ومنهم (الشيخ أحمد بن علي بن مشرف) كان أصله من نجد فأنتقل إلى العراق وطار صيته فيها ومات بعد السنة 1250 وكان أعمى يحسن نظم الشعر فمن قوله في المدح ما أنشد في آل مقرن:

ومهما ذكرنا الحيَّ من آل مقرنٍ

 

تهلَّل وجهُ الفخر وأبتسم المجـدُ

همُ نصروا الإسلام بالبيض والقنا

 

فهم العدى حنفٌ وهم الهدى جندُ

غطارفة ما أن يُنال فـخـارهـم

 

ومعشرُ صدقٍ فيهم الحدُّ والجدُّ

ومنهم (عبد الغني بن الجميل) هو عبد الغني أفندي الشهير بابن جميل. ولد سنة 1194 (1780) وأتقن الفنون العربية واتسع سائر العلوم. ورحل مراراً إلى دمشق الشام وصاحب فضلاءها كالشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ حامد العطار حتى فوض إليه رضا باشا إفتاء الحنفية في بغداد ثم أصيب ببعض الآفات والبلايا وتوفي ابن جميل سنة 1279 (1862) وله شعر طيب كله في الحماسة فمن ذلك قوله:

أيذهب عمري هكذا بين معـشـرٍ

 

مجالسهم عاقَ الكريم حاولُـهـا

وأبقـى وحـيدا لا أرى ذا مـودَّة

 

من الناس لا عاش الزمانَ مَلولُها

وكيف أرى بغداد للحرّ مـنـزلاً

 

إذا كان مَفريُّ الأديمِ نـزيلُـهـا

فما منزلٌ فيهِ العداءٌ بـمـنـزلٍ

 

وفي الأرض للحرّ الكريم بديُلها

ومنهم (محمد الأخفش) هو محمد سعيد أفندي البغدادي الشهير بالأخفش. قرأ على العلامة الآلوسي وشرح الألفية في النحو للإمام السيوطي. وكان محباً للآداب وله شعر حسن أخذته يد التلف وكان كثير المزاح واللطائف توفي سنة نيف وثمانين بعد المائتين والألف (1863). ومنهم الشيخ جمال الدين الكواز كان أصله من الحلة ويرتزق بحرفة الكوازة إلا أنه كان مشغوفاً بالآداب خفيف الروح حسن المحاضرة وله شعر كله في الغزليات وقيل انه نظم الشعر قبل البلوغ. توفي في الحلة سنة 1279 (1862). ومنهم (الشيخ عيسى البندبيجي) هو أبو الهدى عيسى أفندي صفاء الدين البندبيجي أصله من بندبيج على حدود بلاد العجم فسكن بغداد ودرس العلوم اللسانية والفقهية والأدبية حتى أشتهر فيها وكأن ذا تقوى وصلاح ودرس زمناً في مدرسة داود باشا وجعل رئيس المدرسين. ومن تآليفه كتاب تراجم من دفن في بغداد وضواحيها توفي سنة 1283 (1876).

(أدباء المغرب) أن أخبار المغرب تكاد تكون مجهولة في أصقاعنا فدونك النزر القليل الذي أمكنا جمعه في تراجم أدباء تلك الجهات.

(سليمان الحرائري) هو أبو الربيع عبده سليمان بن علي الحرائري الحسني ولد في تونس سنة 1241 (1824) وأصله من أسرة قديمة قدمت من العجم إلى المغرب فدرس العلوم الدينية في وطنه ثم تفرغ لدرس اللغة الفرنسوية والعلوم الرياضية والطبيعيات والطب. وعهد عليه تدريس الرياضيات في بلده وعمره 15 سنة ثم أتخذ بأي تونس كرئيس لكتاب ديوانه. وفي سنة 1846 قدم إلى باريس فصار أحد أساتذة مدرسة لغاتها الشرقية وكان يحرر في جريدة عربية هناك تدعى البرجيس. ونشر فيها قسماً من سيرة عنترة وكتاب قلائد العقيان للفتح بن خاقان ثم طبعهما على حدة. ومما طبعه في تونس كتاب مقامات الشيخ أحمد بن محمد الشهير بابن المعظم أحد أدباء القرن الثالث عشر للمسيح. ووصف معرض باريس سنة 1867 في كتاب سماه عرض البضائع العام. وله رسالة في القهوة دعاها (بالقول المحقق في تحريم البن المحرق) وعرب الأصول النحوية للغوي الفرنسوي لومون (Lhomod) وكذلك وضع كتاباً في الطبيعيات والظواهر الجوية لخصه عن كتب الفرنج وسماه رسالة في حوادث الجو وطبعه سنة 1862 في باريس. ولا نعرف تاريخ وفاة الحرائري ولعله مات بعد سنة 1870 إلا أن تآليفه كلها قبل هذا العهد.

(محمد التونسي) هو محمد بن عمر بن سليمان التونسي ولد سنة 1204 (1789م) وتخرج على شيوخ الأزهر في مصر ثم سافر إلى درفور والسودان وكتب تفاصيل رحلته في كتاب دعاه: كتاب تشحيذ الأذهان بسيرة بلا العرب والسودان. وقد طبعت هذه الرحلة على الحجر في باريس سنة 1850 بهمة المستشرق الفرنسوي بارون (perron) الذي نقل مضامينها إلى الفرنسوية وذيلها بالحواشي. ولما عاد التونسي من رحلته خدم الآداب في مطبعة بولاق فتولى تصحيح مطبوعاتها توفي سنة 1274 (1857).

(محمود قبادو) هو الشيخ السيد أبو الثاء محمود قبادو الشريف. كلف بإحراز الآداب فنال منها نصيباً وافراً. وكانت له ذاكرة عجيبة لا ينسى شيئاً مما سمعه قيل انه سمع يوماً رسالة افرنسية وهو لا يعرف تلك اللغة فأعادها بحرفها. وكان متضلعاً بكل علوم العرب لكنه برز في الشعر وكان يقوله بديهاً. وله ديوان شعر في جزأين جمعه تلميذ الشيخ عبده محمد السنوسي فطبعه في تونس (1293 - 1296). توفي السيد محمود ولم يدرك الخمسين من عمره نحو السنة 1288 (1780). وكان بينه وبين الكنت رشيد الدحداح صداقة ومراسلات. وقد روى له الشيخ رشيد بعض الآثار الدالة على فضله من ذلك تشطيره لقصيدة بشر بن عوانة في مبارزة الأسد بعد أن أفتتحها بأبيات حسنة يقول فيها:

أفاطمَ هل علمت مضاء عزمـي

 

ومطمح هّمتي نخـواً وكـبـرا

وَجُود يدي وإقـدامـي وبـأسـي

 

ولا أعصي لباغي العُرف أمـرا

تلين لمن يسالـمـنـي قـنـاتـي

 

وتصلب أن يرم ذو الغمز هَصرا

وأنـي لا أعـدُّ الـوفـرَ ذُخـراً

 

ولكنـي أعـدُّ الـذكـر ذخـرا

ثم يليها التشطير الذي هذا أوله:

(أفاطمَ لو شهدتِ لبطن خبـتٍ)

 

لهانت عندك الأخبارُ خُبْـرا

ولو أشرفتِ في جنحٍ عـلـيهِ

 

(وقد لاق الهزَبْرُ أخاك بشرا)

(إذاً لرأيتِ لـيثـاً رام لـيثـاً)

 

وكلُّ منهما بأخيهِ مُـغْـري

يرى كلٌّ على كـل ثـقة أخـاهُ

 

(هزبراً أغلباً لا في هـزبـرا)

فكـاد يربـيهُ فـيخـال مـنـي

 

(محاذرةً فقلتُ عُقِرْتَ مهراً)...

ومن نظمه قصيدة دالية قالها تهنئة للسلطان عبد المجيد سنة 1276 (1856) ضمنها عدداً وافر من التواريخ وتفنن فيها على طرائق عجيبة. ومن مديحه قوله في الكنت رشيد:

فيا مخبراً لاحت بمرآة طبعـهِ

 

خبايا طباع الدهر فهي لهُ تبدو

بقيتَ رشيداً طبق وسمك مرشداً

 

يُهيأ من كل الأمور لك الرشدُ