نذكر الذين اشتهروا من النصارى بخدمة الآداب العربية في هذا الطور مدونين أسماءهم على توالي الزمان.
(جبرائيل المخلع) هو جبرائيل بن يوسف المخلع ولد في دمشق في أواخر القرن الثامن عشر وتفقه في العلوم العربية والتركية والفارسية ثم سافر إلى مصر وبقي فيها مدة يتنقل في دواوين الإنشاء في الإسكندرية ثم عاد إلى دمشق ومات نحو السنة 1851. ومن مآثره ترجمة كتاب شهير عند العجم يسمى الجلستان أي روضة الورد لصلاح الدين السعدي. عربه تعريباً متقناً بالنظم الرائق والنثر المسجع المنسجم ثم طبعه سنة 1846 في بولاق. وهذا مثال من ترجمته (ص84): (حكاية) نظرت أعرابياً في حلقة الجوهرية بالبصرة، وهو يقول: اسمعوا يا ذوي النقد والخبرة، كنت ضللت في الصحراء طريق الجواز، ولم يبقى معي من معنى الزاد ولا المجاز، فأيقنت بالهلاك، وسمحت له بالفؤاد إذ ذاك، فبينما أنا في البيداء اقتضى الضر، وإذا بي وجدت كيساً ممتلئاً بالدر، فلا أنسى ما علاني من الفرح والمسرة، إذ توهمت أن أجد قمحاً مقلياً في تلك الصرة، فلما تحققت فيه وعاينت الدر والملس، دهشت من الفم الذي لا يبرح عن الفكر بحلول الياس.
في يابس البيد أو حرّ الرمال فـمـا |
|
لظامئ القلب يُغني الماسُ والصَّدَفُ |
العادم الـزاد إذ تـهـوى بـهِ قـدمٌ |
|
لهُ استوى الذهبُ المكنوزُ والخزفُ |
(حكاية) كان بعض العرب يُنشد من شدَّة الظمأ، وقد علا عليه حرُ البادية وحَمَى:
يا ليت قبل منيَّتـي |
|
يوماً أفوزُ بمُنيتي |
نهراً يُلاطم ركبتي |
|
وأظلُ أملا قُربتي |
(حكاية) كذلك ظلَّ في قاع البسيطة بعض السفَّار، ولم يبقَ معهُ قوتٌ ولا قوة اقتدار، ما خلا يسراً من الدراهم قد ادَّخره في وسطِه ولم ينفقه في الضيق، ولا اهتدى بعد أن طاف كثيراً إلى الطريق، فهلك بالمشقَة، وبعد المشقَّة، فمرَّ عليه طائفة من الناس، فوجدوه قد وضع الدراهم عند الرأس، وخط على التراب من عدم القرطاس:
جميعُ نُضار الجعفريّ لمـن خـلا |
|
عن الزادِ لا يغنيه شيئاً من الضرِ |
ومن يحترق في الفقر فقراً فأنـهُ |
|
لهُ السلجمُ المطبوخُ خيرٌ من التبرِ |
وفي تقريظ ترجمة هذا الكتاب قال شهاب الدين الشاعر المصري:
كواكبٌ أشرقتْ تزهـو بـأنـوارِ |
|
أم لاح لي روضُ أزهار وأنوارِ |
كلاّ بل الألمعيُّ الـلـوذعـيُّ بـدا |
|
منهُ بدائعُ أسـجـاعِ وأشـعـارِ |
زهتْ معاني جُلِستانَ البديعةُ فـي |
|
ما صاغِ من عربيّ اللفظِ للداري |
لا غرو أن جاءَ جبريلُ الكريمُ بمـا |
|
مقرؤهُ حيثُ يُتلى يعجب القـاري |
معرَّب عبَّرت عنـهُ بـراعـتـهُ |
|
عبارةٌ أظهـرتـهُ أي إظـهـارِ |
منثورهُ دررٌ في سمطهِ نُظـمـت |
|
نظماً بلاغتهُ جـاءَت بـأسـرارِ |
وإذ زها حسنهُ بالطبع مبتـهـجـاً |
|
أرَّختُ أزهى بهيجٌ روضَ أزهارِ |
(مارون النقاش) هو مارون بن الياس بن مخائيل النقاش ولد في صيدا سنة 1817 ثم انتقل مع والده إلى بيروت وانكب على دروس اللغات والآداب العربية حتى حذق فيها واخذ عن المرسلين اللاتينيين مبادئ اللغتين الفرنسوية والإيطالية. وكان مارون مع سعة علمه فاضلا تقياً متشبثاً بالدين مثابراً على تعاليمه وقد جعلتهُ الحكومة السنية باشكاتباً لدواوين (كمارك) بيروت وملحقاتها. ثم تجول مدة في القطر المصري وأجتمع بأدبائه ثم ساح في أنحاء أوربا ورجع مغرى بفن التمثيل فعرَّب عدة روايات وسعى بتشخيصها وكان أول من مهد الطريق لهذا الصنف من الملاهي في هذه البلاد. وقد طبع بعد وفاته أخوه نقولا المحامي الشهير قسماً من رواياتهِ في كتاب سماهُ أرزة لبنان يحتوي روايات البخيل والمغفل والحسود حذا فيها مارون حذوَ الرواية موليار الفرنسوي وأودعها كثيراً من العادات الشرقية. وجارهّ في عملهِ أخوهّ نقولا المذكور وسليم ابن أخيهِ خليل فراجت بذلك سوق الروايات ويا ليتها كسدت مع كثرة مضارها وقلة من يراعون فيها الأدب الصالحة. ثم سافر مارون النقاش إلى طرسوس المتاجرة وفيها كانت وفاتهّ سنة 1855 فقال أخوهّ نقولا يرثيهِ:
بدرٌ هوى لا بل ذوى |
|
غصنٌ وذا مرقـدُهُ |
نقّاشُ علمِ سيد الـع |
|
لم ارتضى يسعـدهُ |
يا رحمة المولي على |
|
ماروننا تعـضـدُهُ |
ويصبُ هاطل غيتها |
|
أرخ وتـغـمـدهُ |
ثم نقلت بعد ذلك رفات المرحوم إلى بيروت ودفنت فيها سنة 1856 فقال شقيقه:
ناديتُ مذ عاد سؤلي منتهى الأمـلِ |
|
طرسوسُ لا ناقتي فيها ولا جملي |
عودا كبدرٍ تولاّهُ الخـسـوف لـذا |
|
ها قد أرختُ سناهُ غير مكتمـلِ |
وكان مارون صديقا للشيخ ناصيف اليازجي يتناوبان على الرسالات الودية الأدبية منها رسالة وجهها الشيخ ناصيف إلى مارون إذ كان في طرسوس أولها:
ماذا الوقوف على رسوم المنزل |
|
هيهات لا يجدي وقوفك فارحلِ |
قال فيها:
يا أيها النحريرُ جهبذَ عصـرهِ |
|
مالي أبثُّك علم ما لم تجهـلِ |
إنَّ المقّدم لـلـحـكـيم إفـادةً |
|
كمقدمِ للشمس ضوءَ المشعلِ |
بَعُدَ المزارُ على مشوقٍ لم يكن |
|
يشفى عن قرب المزار الأولِ |
وختمها بقوله:
إن كان قد بَعُدَ اللقاء لعلةِ |
|
فابعث إلي بأبهة المتعللِ |
فأجابه مارون بما مطلعهُ:
وردت إلي من المقام الأفـضـلِ |
|
غرثى الوشاح من الطراز الأولِ |
إلى أن قال:
يا من ذا سمح الزمان بـنـعـمةِ |
|
أبقاك نورا في الظلام لينجلـي |
كلُّ الرجال إذا مضوا يُرجى لهم |
|
بدلٌ سواك فلست بالمُستَـبـدَلِ |
جاريتَني فقصرتُ دونـك هـمَّة |
|
حتى عجزتُ فقد يحقُ العُذر لي |
إنَّ الضعيف مقيَّداً بـلـسـانـهِ |
|
مثلُ الأسيرِ مقـيَّداً بـالأرجـلِ |
فلما نعي إلى الشيخ صديقهُ بعد أشهر نظم في رثائه قصيدتين من أجود مراثيه قال في الواحدة:
مات الحبيبُ الذي مات السرور بـهِ |
|
من القلوبِ وعاش الحُزن والضَرَمُ |
قد كنت اشكر بعاد الدار مـن قِـدَمِ |
|
فحبّذا اليوم ذاك البعـد والـقـدَمُ |
ومنها:
أيُ الفضائل ليست فيك كـامـلةً |
|
وأيُ عيبٍ تـراهُ فـيك يُتَّـهـمُ |
فيك التُقى والنقا والعلم مجتـمـعٌ |
|
والحلم والحزم والإحسان والكرمُ |
نرثيك بالشعر يا نقّـاشَ بـردتـهِ |
|
والشعرُ يرثيك حتى تنفذ الكلـمُ |
تبكي عليك القوافي والمحابر وال |
|
أقلام والصحفُ والآراء والهَممُ |
وكلُّ ديوان شعرٍ كنت تنظـمـهُ |
|
وكلَ ديوانِ قومٍ فيكَ ينـتـظـمُ |
وفي ختامها:
إن كنت قد سرت عن دار الفناء فقد |
|
نلتَ البقا حيث لا شيبٌ ولا هـرمُ |
إن السعيد الذي كانت عـواقـبـهُ |
|
بالخير في طاعة الرحمان تُختَتَـمُ |
ومما قال في المرثاة الثانية:
الموت يختار النفيس لنفـسـهِ |
|
منا كما نختار نحن فما اعتدى |
وقد نال منّـا درة مـكـنـونة |
|
كانت لبهجتها الدراري حُسَدا |
كنزٌ ذخرناه لنا فـاغـتـالـهُ |
|
لصُ المنية خاطفاً متـمـردا |
وختمها بهذا التاريخ:
لو غبت عن نظر فقد خلّفت بالت |
|
اريخ ذكراً في القلوب مخلّـدا |
وكذلك رثاه الشاعر المفلق أسعد طراد بقصيدة طنانة أولها:
دهرٌ يغرُ فخذ من دهرك الخورا |
|
أما تراه بربك العجب والعبرا |
وختمها بتاريخ هذا منطوقه:
لو غاب قُلْ في السما تاريخهُ سيُرى |
|
فإنهُ في نعيم الله قـد حـضـرا |
ولمارون النقاش ما خلا رواياتهِ قصائد متفرقة وفقرات ورسائل جمع أخوه قسماً منها في أخر كتاب أرزة لبنان منها منظومة في نحو مأتي بيت علم العروض والقوافي. ومن نظمه قصيدة قالها في الشاعر الفرنسوي دي لامرتين لما الربوع السورية دعاها كوكب المغرب. ومنها أيضا قصيدة تهنئة رفعها إلى سعيد باشا خديوي مصر سنة 1270 (1853) أولها:
لِسعد سُعود مَن سلفوا حدودُ |
|
وسعدُ سعيد مصرَ لهُ خلودُ |
أتاه النيلَ معترفاً بفـضـلٍ |
|
لهُ إذ فاضَ من كفيهِ جودُ |
فهذا حكمـهُ مـدٌّ وجـزرٌ |
|
وهذا حلمـهُ طـامٍ مـديدُ |
فقد بلغت مناقبـهُ كـمـالا |
|
ومهما ازداد مدحاً لا يزيدُ |
وكتب من الإسكندرية مجيبا على قصيدة لخوري يوسف الفاخوري معلمه:
هل هلال هلَّ أم أهلُ الكرمْ |
|
نثروا التبر على خط القلمْ |
إلى أن قال:
أي أبي الروحي ولو لا لائمي |
|
قلتُ من يشبهْ أباه ما ظلـمْ |
فهو بحر نلت من فيضـانـهِ |
|
وأنا تلمـيذ ذيَّاك الـعـلَـمْ |
مخزنُ العلم وفي تـدريسـهِ |
|
معدن الحلم وكليُّ الهـمـمْ |
قد كساني ثوب تعلـيم بـمـا |
|
فتح الله عـلـيه وقـسـمْ |
لست أنسى جودهُ حاشا ولـم |
|
أنسَ أياماً تقضَّت في نعـمْ |
وللمرحوم عدة تواريخ منها تاريخ على لسان أسعد ابن أخيه حبيب ومات صغيراً سنة 1842:
إني هلالٌ قد دنوتُ من الثـرى |
|
قبل أن أتمَّ فهكذا ربـي أمـرْ |
لكن لعمري لم أغب عن منزلي |
|
إلاّ لأشرق في النعيم كما القمر |
وكما روى النقاش نَقش تأريخي |
|
لأفوز أسعد بالسعادة عن صغر |
(1842) ومنها قوله مؤرخا لوفاة البطريرك يوسف الخازن وارتقاء خلفه غبطة السيد بولس مسعد سنة 1854:
في أفق كرسي إنطاكية عجبٌ |
|
بدرٌ توارى وبدرٌ فوق سدَّتهِ |
إن غاب ذاك وأضناناً بعيبتـهِ |
|
فناب هذا وأشفانا بنوبـتـهِ |
دعا الإله لذاك المرتضي خلفاً |
|
أرَّخت بولس مختارٌ لدعوتهِ |
(1854) (إبراهيم بك النجار) وهو المعروف بإبراهيم أفندي ولد في دير القمر سنة 1822 كان رجلاً هماماَ محباَ للآداب منذ نعومة أظفارهِ فلما قدم لبنان الدكتور الفرنسوي كاوط بك رئيس أطباء العساكر المصرية سنة 1837 نال من محمد علي باشا بأن يدخله مع غيره من السوريين في مدرسة القصر العيني في مصر فتلقى فيها الدروس الطبية ونال الشهادة المؤذنة ببراعته سنة 1842 ثم سافر إلى الأستانة العلية ودرس على أساتذتها المتطببين وبقي مدة هناك يتعاطى مهنته فأصاب شهرة عظيمة حتى عينته الدولة العلية كطبيب أول للعساكر الشاهانية في مارستان بيروت العسكري. وفي سنة 1846 تجول في أنحاء أوروبة وطبع مرسيلية سنة 1850 كتابه (هدية الأحباب وهداية الطلاب) في المواليد الثلاثة وملخص العلوم الطبيعية ثم عاد إلى بيروت ومعه أدوات طبعية فأنسأ مطبعته الشرقية (أطلب المشرق 3 (1900): 1032) نشر فيها تاريخ رحلته إلى مصر وأعقبها بتاريخ السلاطين العظام (سنة 1272 - 1275ه - 1855 - 1858م) وسماه مصباح الساري ونزهة القاري فقرضه مفتي زاده السيد محمد مفتي بيروت بقوله:
جزا الله المؤَلفَ كلّ خـيرٍ |
|
لهذا العقد في جيد الحسانِ |
أمصباحٌ بدا أم بـدرُ سـارٍ |
|
بأفق سما البلاغة والمعاني |
ومن حسن مساعي إبراهيم بك إنه عني باستجلاب أدوات الطباعة لدير طاميش سنة 1855 كما ذكرنا سابقا (المشرق 4 (1901): 473). وكان للمترجم شعرٌ قليل منه قوله في مدح السلطان عبد المجيد:
ملكٌ أضاء على الأنام بسـبـعةٍ |
|
أحيا الزمان بها فمات الحُسَـدُ |
حزمٌ وعـدلٌ رحـمةٌ وطـلاقةٌ |
|
حلمٌ وبذلٌ غيرةٌ لا تُـجـحَـدُ |
دانت لباب جلاله أمـم الـورى |
|
فغدت بشوكته تسرُّ وتسـعـدُ |
خضع السدادُ لحزمهِ وبعزمـهِ |
|
هزم العدى بالسيف حيث يُجَردُ |
فإذا الخطوبُ تجمَّعت قاتلوا لها |
|
عبدُ المجيد فإنـهـا تـتـبـدَّدُ |
وإذا تصوَّر في الـدجـنَّة ذاتـهُ |
|
لاح الصباح ونـوره يتـوقَّـدُ |
وتوفي إبراهيم بك بعز كهولته في 12 أيلول 1864. وكان المذكور قليل الدين في حياته إلا أنه قبل وفاته أنعم الله عليه بالارتداد إلى التوبة على يد المرحوم الخوري جرجس فرج فقال الشيخ ناصيف اليازجي يرثيه:
ضاق الرثا بنا من فرط ما اتَّسما |
|
كالماء طال عليه الورد فانقطعا |
ومنها:
قد كان في طبّهِ لـلـنـاس مـنـفـعةٌ |
|
فإذا أتى الموت ذاك الطبُّ ما نـفـعـا |
وكان يبري من الناس الجـراحَ فـهـل |
|
يبري جراح فؤادِ بـعـده انـصـدعـا |
سارت إلى الله تلـك الـنـفـس تـاركةُ |
|
جسما يرى في تراب الأرض مضطجعاً |
كلُّ إلى أصلهِ قـد عـاد مـنـقـلـبـاً |
|
فانحطّ هذا وهذا طـار مـرتـفـعـا |
(طنوس الشدياق) هو الشيخ طنوس بن يوسف بن منصور الشدياق ولد في أوائل القرن التاسع عشر في الحدث من سلالة قديمة أصلها من حصرون يعرف نسبها من القرن السادس عشر. درس طنوس مع أخوته في مدرسة عين ورقة وتعاطى التجارة مدة ثم انقطع إلى خدمة الأمراء الشهابيين فأرسلوه إلى عكا ودمشق وقام بأعباء خدمته بكل نشاط وأقيم بعد ذلك قاضيا على النصارى في لبنان. وقد اشتهر طنوس بمعارفه التاريخية. وكان كافا بتاريخ لبنان فصنف كتابه المسمى بأخبار الأعيان في تاريخ لبنان جعله ثلاثة أقسام في جغرافية لبنان ثم في أنساب أعيانه ثم في أخبار ولاته وقد راجع في تأليف كتابه عدة مخطوطات سرد أسماءها في المقدمة. وهو أدق وأضبط ما وضع إلى يومنا لا سيما في تاريخ الأزمنة الأخيرة وساعده في تهذيبه وتنقيحه ونفقات طبعه المعلم بطرس البستاني. وكان نجازه سنة 1859 بعد شغل نحو خمس سنوات وإنما نقصته فهارس للاستدلال على مضامينه. وقد عُرف صاحب هذا الكتاب بتجرده عن الأعراض كما قال:
خلا تاريخنا من كل مـيل |
|
ومين بين أخبار الزمانِ |
وجاءَ بعون مولانا سـديدا |
|
مقيَّدا ما لهُ في النفع ثانِ |
توفي سنة 1861 وله شعر لم يطبع وكان شديد التمسك بالدين مستقيم السيرة محبا للصدق. وهو أخو فارس الشدياق لكنه لم يتبعه في ضلاله. ومما يذكر من آثاره أيضاً أنه كان يشتغل بمعجم الألفاظ العامية ولم ينجزه (إبراهيم العورا) هو ابن المعلم حنا العورا الرومي الملكي الكاثوليكي ولد في عكة في أواخر القرن الثامن عشر وتخرج بالآداب هو وأخوه ميخائيل على أبيهما الذي خدم في ديوان إنشاء محمد باشا الجزّار ثم في ديوان سلفه سليمان باشا. فبرع إبراهيم في الكتابة وضُم إلى كتاب ديوان الإنشاء تحت نظارة والده وخاله إبراهيم نحَّاس وذلك سنة 1229 (1814م). وكان مغرما بتاريخ بلاد الشام يدون من حوادثها ما أمكنه ثم جمع ذلك في كتاب ضمنهُ تاريخ سليمان باشا وافتتحه بمجمل أخبار القرن الثامن عشر ثم اتسع في تاريخ الأحوال التي جرت في آخر أيام الجزار ولا سيما في عهد خلفه سليمان باشا إلى وفاته سنة 1234 (1818) ولم يزل يحسن هذا التاريخ ويهذبه حتى أتمه سنة 1269 (1853) وفي مكتبتنا الشرقية نسخة منه وهو سفر جليل يحتوي أموراً عديدة وتفاصيل لا تكاد تجدها في غيره روى أكثر عن أدباء عصره وعن معرفته الخاصة مما عاينه بنفسه فزادت بذلك خطورته. توفي إبراهيم العورا سنة 1863 فكتب الشيخ ناصيف اليازجي هذا التاريخ على قبره:
لا تجزعوا يا بني العورا واصطبروا |
|
فمن ذخر لكم بالأمس قد فُـقـدا |
من فوقهِ أحرف التاريخ نـاطـقةٌ |
|
في طاعة الله إبراهيم قـد رقـدا |
(ناصيف المعلوف) هو أحد الذين اشتهروا في هذه المدة بين نصارى الشرق بآدابه ومعارفه اللغوية. وقد مر له في المشرق (8 (1905):773: 847 الخ) ترجمة مطولة بقلم الكاتب البارع عيسى أفندي معلوف نقتطف منها ما يليق بالمقام. هو ناصيف بن الياس بن حنا المعلوف. كان أبوه في خدمة الأمير بشير الشهابي يقطن مع أسرته قرية زبوغا وفيها ولد ابنه ناصيف سنة 1823 فسلمه أبونا إلى بعض أفاضل المعلمين من كهنة ومرسلين فانكب على درس اللغات والعلوم بكل رغبة ثم رافق التاجر الشهير يوحنا عرقتنجي في رحلته إلى أزمير سنة 1843 وأتم هناك دروسه في مدرسة الآباء اللعازاريين وأتقن اللغات التركية واليونانية الحديثة والإفرنسية والإيطالية حتى أمكنه أن يصنف عدة كتب في كل هذه اللغات (أطلب قائمتها في المشرق 8: 1049) لكنه برز خصوصا في التآليف التركية التي أقبل عليها المستشرقون وافاضوا في مدحها ونال بسببها الأوسمة الشريفة والامتيازات الخاصة. وبين تآليفه ما يشهد له أيضاً بمعرفة آداب لغته العربية وحسن إنشائه فيها وكان وجوه الأوربيين وأعيانهم يحبون أن يتخذوه كترجمان في أمورهم لكثرة آدابه وطلاقة لسانه في كل لغات الشرق. توفي ناصيف في وباء الهواء الأصفر في أزمير سنة 1865.
هذا ما أمكنا جمعه من مآثر النصارى في تلك المدة ولا غرو أنه فاتنا من أعمالهم شيء كثير كما أننا لم نذكر بعض الذين عرفوا بآدابهم ولم يصبر على الزمان إلا القليل من كتاباتهم كالدكتور يوسف الجلخ الذي وردت له بعض خطب في أعمال الجمعية السورية. توفي سنة 1869 وقد جُمعت في كراس المراثي التي قال الأدباء في وفاته منها تاريخ للشيخ ناصيف اليازجي:
قفْ عند تُربة يوسف الجلخ الذي |
|
ما زال يغلـبُ دينُـهُ دنـياهُ |
ولذاك نال ختـامَ خـيرِ فـائزاً |
|
أرَخ برحمة ربّـهِ ورضـاهُ |
ومنهم الشيخ حبيب اليازجي ابن الشيخ ناصيف توفي سنة 1870 وسنذكره مع والده وأخوته في تسطير تاريخ الآداب في الطور الرابع إنشاء الله. ومنهم الشيخ مرعي الدحداح (1782 - 1868) كان درس في عين ورقة وكتب في دواوين الأمراء وتنقَّل في البلاد وله رسائل وكتابات متفرقة وقد نشرت سيرة حياته في كراس خاص. قال الشيخ ناصيف في تاريخ وفاته:
مضى الشيخ مرعي راحلاً عن ديارنا |
|
ولكن تهيَّأ في السماء لهُ قـصـرُ |
وأولى بني الدحداح حزناً مـخـلَّـداً |
|
يدومُ كما يبقى لهُ عنـدهـم ذكـرُ |
همام تلقَّى الحـادثـاتِ بـنـفـسـه |
|
فتمَّ له من بعدها المجدُ والفـخـرُ |
إذا زرتَ مثـواهُ فـأرّخ وقـل بـهِ |
|
عليك الرضى والعفوْ يا أيها القبـرُ |
(الأمير حيدر الشهابي) ذكرناه ذكراً حنيفاً (ص 22) فنفرد له باباً أوسع هنا لوقوفنا على بعض أخباره. هو ابن الأمير احمد بن حيدر الشهابي الذي حكم لبنان مدة مع أخيه الأمير منصور (1754 - 1763) ولد سنة 1763 وتخرج في الآداب منذ حداثة سنه فعشقها وأحب الفضيلة وأهلها وكان محسناً إلى الفقراء أنفق عليهم جانباً عظيماً من ماله وكذلك أوقف على رهبان طائفتي الموارنة والروم الكاثوليك أملاكا كثيرة. وكان زاهداً في الدنيا يفضل العيش المعتزلة على الشغل بالسياسة حتى انه أبى غير مرة الولاية على لبنان. وله تاريخه المشهور غور الحسان في تواريخ حوادث الزمان قسمه ثلاثة أجزاء تبتدئ بأول الهجرة وتنتهي بتولي الحكومة المصرية على الشام. طبع هذا الكتاب بتصرف ودون فهارس في مصر سنة 1900. ومنه في مكتبتنا الشرقية نسختان في عدة مجلدات. ويذكر المؤلف تاريخ آخر مخطوط يتناول حوادث الشام في عهد الأمير بشير الكبير وما بعده لم نقف عليه. توفي الأمير حيدر سنة 1835.
(بعض أدباء الروم) نذكر هنا بعض الإفادات عن أدباء الروم الأرثوذكس وكنا
سهونا عن ذكرهم فألفت إليهم نظرنا الكاتب الشهير عيسى أفندي اسكندر
المعلوف. نبغ منهم في القسم الأول من القرن التاسع عشر قوم من الأكليروس
الأورثذكسي عرفوا بآدابهم منهم أثناسيوس المخلع الدمشقي أسقف حمص الذي
ذكرنا في المشرق (20 (1922): 288) بعض آثاره مع آثار سميه مطروبوليت عكا.
قال جنابه: انه انتقل إلى كرسي بيروت ولبنان وكان عالماً بارعاً اقتنى
مكتبة نفيسة وتوفي سنة 1813. ومنهم الخوري يوسف مهنّا الحداد الذي قتل في
دمشق في حركة سنة 1860 وكان مغرماً بالعلم واشتهر بالوعظ والتدريس في
الفيحاء وعرّب لطائفته بعض الكتب الدينية (اطلب المشرق 5 (1902): 1012 و20
(1922) 1010). ومنهم الخوري اثناسيوس قصير الدمشقي مؤسس مدرسة البلمند سنة
1833. والخوري يوحنا الدومائي منشئ المطبعة العربية في دمشق (المشرق 4
(1901): 878) والخوري اسبيريديون صرّوف الذي درّس في المصلبة بالقدس الشريف
وصحح مطبوعات القبر المقدس وألّف وعرّب وتوفي سنة 1858 (اطلب العدد الخامس
من هذه السنة ص 371) والمطران أغابيوس صليبا اداسيس (الرها) الذي ألف وعرّب
كثيراً من الكتب التي طبعت في روسيا.
(الفرنسيون) بقي السبق في درس اللغات الشرقية عموماً والعربية خصوصاً العلماء الفرنسويين في هذا الطور الثالث الذي بلغنا إليه في سياق تاريخنا للآداب العربية. وكان تلامذة العلامة دي ساسي يمشون على آثار معلمهم فيخوضون بحر الآداب الشرقية ويستخرجون من أغوارها اللآلئ الفريدة فينظمونها قلائد تزيد يوماً بعد آخر ثمناً وفخراً وهانحن نذكر بعض الذين وقفنا على أخبارهم وهي إلى اليوم متفرقة لم تجمع في سفر خاص.
فمنهم فلجانس فرينل (F. Fresnel) ولد سنة 1795 وانقطع في شبابه إلى درس اللغات الشرقية حتى أرسلته حكومته سنة 1837 إلى جدة وتعين هناك بصفة قنصل لدولته. وفي سنة 1852 توجهت أنظار العلماء إلى خرائب بابل فتشكلت بعثة علمية وكلت فرنسة نظارتها إلى فرينل لما عهدت فيه من الأهلية فسافر إلى بغداد وقام بأعباء مهمته بنشاط مدة ثلاث سنوات وكانت وفاته في حاضرة العراق في 30 ت2 سنة 1855 وعمره 61 سنة وقد خلف فرينل عدة آثار تدل على سعة معارفه منها ترجمة لاميّة العرب للشنفري ومنها رسائل واسعة في تاريخ العرب في أيام الجاهلية وله أيضا مقالات أخرى مفيدة في الكتابات الحميرية التي وجدت في جهات اليمن طبعت في المجلة الآسيوية الفرنسوية.
واشهر منه نابغة همام وعالم عامل جارى في فضله أمام عصره العلامة دي ساسي نريد به آتيان كاترمار (Et. Quatremere) كان سليل أسرة شريفة كثر فيها الأدباء والعلماء وأصحاب السيف والقلم وزادها هو بأعماله شهرة. ولد آتيان في باريس في 12 تموز سنة 1782 وتخرج منذ حداثة سنه في العلوم الشرقية على دي ساسي الموما إليه. واستحق بفضله أن يدخل في جملة نظّار المكتبة العمومية ومخطوطاتها الثمينة ثم تولى التدريس في المدارس العليا قبل أن يبلغ العشرين من سنه وفي السنة 1815 نظمه مجمع فرنسة العلمي في سلك أعضائه ثم ندبته الحكومة إلى تدريس اللغات العبرانية والسريانية والكلدانية والفارسية في مدارسها الخاصة فأحرز له في تعليمها شهرة عظيمة حتى أضحى بعد وفاة دي ساسي نسيج وحده في كل العلوم الشرقية إلى سنة وفاته في 18 أيلول سنة 1857. ومن يطلع على تآليف هذا الرجل المقدام يقضي منه العجب لأنه خلّف بعده نيفاً ومائة كتاب في كأبواب الفنون الشرقية وكل اللغات السامية وغيرها وقد أودع كل هذه المصنفات كنوزاً من المعارف يتحير لها عقل المطالعين. أما تآليفه العربية فعديدة ونهاية في الحسن والضبط منها ترجمته لتاريخ المماليك في مصر للمقريزي في أربعة أجزاء وحواشٍ ضافية. وله مجلدان في مبهمات تاريخية وجغرافية مصرية وتأليف عن النبطيين ومآثرهم ومن مطبوعاته العربية نشره لمقدمة ابن خلدون في ثلاثة أقسام وترجمتها الفرنسوية مع ملحوظات وفهارس في ثلاثة أقسام أُخر ومنتخبات من أمثال الميداني وكتاب الروضتين ومقالات متسعة في جغرافيي العرب وفي مؤرخيهم وفي عادات أهل البادية وله في التركية ترجمة تاريخ المغول لرشيد الدين في مجلد ضخم آية في حسن الطبع. وقد ألف كتباً عديدة في آثار القبط والبابليين والهند والسامرة والأفريقيين والعبرانيين ومجمل القول لم يدع فناً إلاّ صنف فيه كتباً تعد إلى يومنا معادن ثمينة غنية بمضامينها العلمية. ومن تلامذة دي ساسي المعدودين غرانجره دي لاغرانج (J - B. Grangeret de la Grange) ولد سنة 1790 وأحكم درس العربية والفارسية فوكلت إليه دولته سنة 1830 تصحيح المطبوعات الشرقية في مطبعتها العمومية فقام بالعمل القيام المشكور. وتوفي سنة 1859 وقد أبقى من الآثار مجموعاً في النظم والنثر نقله إلى الإفرنسية وله منتخبات من شعر المتنبي وابن الفارض علق عليها الحواشي وترجمها. وقد صنف كتابا في تاريخ العرب في الأندلس ودافع عن محاسن الشعر العربي واشتهر في هذا الوقت نويل دي فرجه (Noel des Vargers) بين المستشرقين الفرنسويين وكان مولده سنة 1805 ووفاته في كانون الثاني سنة 1867 نشر عدة تآليف شرقية كقسم من تاريخ أبي الفداء وتاريخ بني أغلب لابن خلدون وله تاريخ افرنسي في عرب الجاهلية اختصره عن تاريخ معلمه دي برسفال وأضاف إليه مختصر تاريخ الحلفاء إلى عهد المغول. وهو من التآليف الحسنة المفيدة وكان ضليعاً بالمعارف الشرقية يلتجئ إليه العلماء في مشاكلهم وفي سنة وفاة دي فرجة توفي مستشرق آخر ذائع الشهرة جوزف رينو: (J. V Reinaud) المولود في 4 كانون الأول سنة 1795 والمتوفى في 14 أيار سنة 1867 كان أيضاً من تلامذة دي ساسي وانكب على مثال أستاذه على درس آثار الشرق ولغاته وكان أحد حفظة خزانة المخطوطات الشرقية في باريس فاستقى من تلك المناهل الطيبة ما شاء. وفي سنة 1838 بعد وفاة دي ساسي تولى تدريس اللغة العربية في مدرسة اللغات الشرقية الحية ثم رُئس عليها سنة 1864 وبقي في وظيفته إلى سنة وفاته. وللعلامة رينو منشورات جليلة منها في الآثار الشرقية كوصفه لمتحف الكنت دي بلاكاس في جلدين وهو سفر خطير في تعريف العاديات الإسلامية. واشتغل بتاريخ الشرق فنقل إلى الفرنسوية معظم ما كتبه العرب في الحروب الصليبية وترجم رحلة تاجرين عربيين إلى الصين تدعى سلسلة التواريخ ونشر كتاب تقويم البلدان لأبي الفداء ونقله إلى الإفرنسية وزيَّنهُ بالمقدمات الأثيرة والحواشي. وله ما خلا ذلك عدة مقالات لغوية وتاريخية في العرب وغيرهم من شعوب الشرق يطول تعدادها وفي ما سبق ما ينبئ بفضله الواسع.
وفي السنة 1867 توفي مستشرق ثالث فرنسوي موسوي الدين وهو سليمان مُنك (S. Munk) ولد في بلاد بروسيا سنة 1805 وتخرَّج بالآداب العبرانية على بعض الربَّانيين في بلده ثم جاء فرنسة سنة 1828 وتجنس بالجنسية الفرنسوية وحضر دروس دي ساسي وكاترمار فتعلم العربية والفارسية والسنسكريتية وبرع فيها وتجول مدة في القطر المصري مع الوزير كريميو. ثم تفرغ للكتابة والتعليم وقصدته التلاميذ ليدرسوا عليه العبرانية. وقد أصيب في آخر عمره ببصره فلم ينقطع عن التأليف والإملاء على الكتبة وهو في هذه الحالة عشرين سنة. وله عدة تآليف في العبرانية والعربية والفارسية في تاريخ الشرق نخص منها بالذكر تاريخ فلسطين وكتابات شتى في الشعر العربي والشعر العبراني ونشر مصنّفات بعض فلاسفة اليهود في العربية والعبرانية وترجمها إلى الفرنسوية كدليل الحائرين لابن ميمون ومعين الحياة لابن جبرول وكتب أيضا في فلسفة الهنود والعرب. وقد نقل إلى الفرنسوية مقامات الحريري. ومن مصنفاته أيضاً مقالات عديدة في آداب الفينيقيين وشرح كتاباتهم المكتشفة في سواحل الشام.
واشتهر في الجزائر مستشرق فرنسوي من تلامذة دي ساسي أيضاً وهو لويس جاك برنيه (L. J. Bresnies) ولد في فرنسة سنة 1814 وتوفي الجزائر في 21 حزيران 1869 كان درس على كبار المستشرقين الفرنسويين منذ حداثة سنه فخلفهم في نشاطهم وعملهم. وقد علّم اللغة العربية في حاضرة الجزائر 33 سنة بهمة عظيمة أكسبته شكر تلامذته. ومن ثمار اجتهاده عدة مطبوعات عربية مدرسية نشرها في فرنسة والجزائر مهدت الطريق لكثيرين لدرس العربية الفصيحة واللغة الشائعة في بلاد الجزائر فمن تآليفه شرح أصول العربية من صرف ونحو وعروض وله أبحاث في اللغة العامية ومجاميع عربية مختلفة مع ترجمتها إلى الافرنسية واعتنى أيضاً بالخط العربي وتعليمه. ومن آثاره ترجمته للاجرومية مع تعليقات عليها.
وفي زمن المسيو برنيه خدم الآداب العربية معلم آخر وهو المعلم كنباريل (E. Combarcl) نشر أيضاً عدة مطبوعات مدرسية لتعليم العربية في الجزائر بين السنتين 1845 و1865 ولم نعرف سنة وفاته. وكذلك عرف بين المستشرقين العلامة بيبرستين كازمرسكي (B. Kazimirski) الذي ولد في بولونية واستوطن فرنسة ونشر فيها مطبوعات شرقية مفيدة أخصها معجمه للغتين العربية والفرنسوية الذي جدد طبعه في مصر بعد طبعته الباريزية في مجلدين ضخمين. وقد نقل القرآن إلى الفرنسوية وترجمته معروفة بدقتها وسلاستها. مات نحو سنة 1870.
وممن لم نهتد إلى سنة وفاته من المستشرقين الفرنسويين واشتهر بمآثره العربية المسيو بارون (A. Perron) نشر تآليف جمة ونقلها إلى الفرنسوية ففي سنة 1832 ألف كتاباً في أصول اللغة العربية وطبعه على الحجر ثم نشر مقالات مفيدة في بعض مشاهير العرب كطرفة والمتلمس وعنترة ونقل طرفاً من أشعارهم إلى لغته ونقل أيضاً رواية سيف التيجان ورحلة محمد التونسي إلى الدرفور وكتاب الطب النبوي وكتاب كامل الصناعتين المعروف بالناصري لأبي بكر ابن بدر في مجلدين وكتاب ميزان الخضرية للشعراني في الفقه والمختصر في الفقه لخليل بن إسحاق المالكي في سبعة مجلدات انتهى من طبعه سنة 1854 بعد ست سنوات وعلق عليه تعليقات واسعة.
ونضيف إلى هؤلاء المشاهير من الفرنسويين الأستاذ كليمان موله (J. J. Clement - Mullet) الذي أدى المستشرقين خدماً مشكورة بأبحاثه عن الزراعة عند العرب ومن آثاره الباقية ترجمته الفرنسوية لكتاب الفلاحة للشيخ أبي زكريا يحيى الأشبيلي المعروف بابن العوام. وكان الأصل العربي قد طبع في مجريط سنة 1802 فنقله المسيو موله في مجلدين وعلق عليه التعليقات الخطيرة. وله أيضاً في المجلة الآسيوية الفرنسوية مقالات متسعة في المواليد الطبيعية عند العرب واصطلاحاتهم. توفي المسيو موله سنة 1870.
(الألمانيون) تقدمت الدروس العربية في ألمانية في هذه المدة بهمة بعض الأفاضل الذين أصبحوا أسوة لأهل بلادهم ويستحق السبق على جميع مواطنيه جرج وليلم فريتاغ (G. W. Preytag) ولد سنة 1788 وتوفي في ت2 من السنة 1861 وكان مثالاً للعزم والثبات فكلف بالآداب العربية ودرس اللغات الشرقية في باريس على فخر زمانه دي ساسي أتقنها وعهد إليه تعليمها في كلية بونة سنة 1819 فلم يزل مذ ذاك الوقت إلى سنة وفاته يفرغ كنانة مجهوده في نشر المآثر العربية منها قاموسه العربي اللاتيني في أربعة مجلدات ضخمة أتمه بسبع سنوات وكان يواصل الدرس كل يوم إحدى عشرة ساعة لا يكاد يأخذ فيها راحة. ثم اختصر ذلك المعجم بمجلد واحد. وقد نشر لأول مرة كتاب حماسة أبي تمام مع شروح التبريزي ونقلها كلها إلى اللاتينية. وقد نشر كتاب عبد اللطيف البغدادي في وصف مصر وقسما من تاريخ حلب لكمال الدين وفاكهة الخلفاء لابن عربشاه. وقد نقل كل هذه الآثار إلى اللاتينية وحشَّاها بالحواشي المفيدة. ومن مآثره الجليلة أمثال الميداني في أربعة مجلدات نشرها وترجمها وأضاف إليها الفهارس مع الملحقات العجيبة في كل ما كتبه العرب عن الأمثال ونشر معجم البلدان لياقوت الحموي في عدة مجلدات مع تذييلات وفهارس غاية في الدقة وسرد لائحة ممتعة في كل مؤرخي العرب. وله كتاب واسع في فن العروض بالألمانية ومنتخبات شتى بالنثر والنظم وقد بقي اسمه إلى يومنا هذا بين مواطنيه كمثال حي للحزم والنشاط.
ومن أفاضل الألمان خلَّدوا لهم ذكراً طيباً في هذا الزمان جان غدفريد كوسغارتن (J. G. Kosegarten) ولد في اَلتِنكرخن من أعمال بروسية سنة 1792 ودرس العلوم في مدرسة غريسفالد الشهيرة ثم تعشق اللغة العربية فأرسله أبوه ليروي غليله منها بالدرس على الأستاذ دي ساسي محور العلوم الشرقية في زمانهِ فتلقَّن اللغة العربية ثم درس التركية والفارسية والأرمنية واستنسخ قسماً من مخطوطات باريس ولم يلبث أن نشر في بلده منها طرفاً استوقفت أنظار أهل وطنه فدعاه أصحاب الأمر إلى تدريس اللغات الشرقية في غريسفالد وبقي في منصبه إلى وفاته فيها سنة 1850 منقطعا إلى نشر التآليف المهمة أخصها غراماطيق اللغة العربية في اللاتينية ثم قسمٌ من شعر الهذيليين طبعه في لندن وكذلك نشر مجلداً من كتاب الأغاني لأبي الفرج ونقله إلى اللاتينية وزينه بالمقدمات والشروح ونشر أيضاً مجلدين من تاريخ الطبري مع ترجمتها وطبع معلَّقة عمرو بن كلثوم وذيّلها بالملحوظات المفيدة وله غير ذلك من الآثار العربية والسنسكريتية والهيروغليفية. وليس دون السابقين همَّة ونشاطاً واتساعاً في التأليف وطنيهما غستاف فلوغل (G. Flugel) ولد سنة 1802 في بلاد سكسونيا ودرس في ليبسيك على مشاهير علمائها وأخذ عن بعضهم مبادئ اللغات الشرقية ثم سافر إلى فينا وبقي سنتين ينعم النظر في مخطوطات مكتبتها الشهيرة وتجول بعدئذ في عواصم أوربة إلى أن احتل باريس سنة 1829 وسمع معلميها ودرس مخطوطاتها الشرقية ثم عاد إلى بلاده فتولَّى التدريس في معاهدها العلمية مدة وصار له نفوذ كبير عند أمراء وطنه الذين عهدوا إليه بتآليف عديدة استوفى شروطها وهي تبلغ نحو خمسين مجلداً منها كتاب كشف الظنون للحاج خليفة في سبعة مجلدات ضخمة مع ترجمتها إلى اللاتينية وفهارسها الواسعة وملحقاتها الخطيرة ومنها وصف مخطوطات فينَّا العربية في ثلاث مجلدات. ونشر عدة كتب قديمة مع ترجمتها مثل كتاب مؤنس الوحيد الثعالبي وتعريفات الجرجاني ونجوم الفرقان وهو فهرس للقرآن بديع في بابه. وله تآليف في فلاسفة العرب ونحاتهم ونقَّلتَهم ونشر كتاب الفهرست لابن النديم من أنفس ما كتبه القدماء. وصنَّف تاريخاً موسعاً للعرب في ثلاثة مجلدات فكل هذه المصنفات مما يدهش العقل لسعة علم كاتبها الذي يعد من أكبر المستشرقين وأغزرهم فضلاً. كانت وفاته سنة 1870.
وممن برزوا في هذا الزمان في درس كتب العرب الرياضية والجبرية الألماني فرانتس فوبك (Fr. Woepke) ولد في بلدة قريبة من ليبسيك سنة 1826 ودرس في ويتمبرغ ثم رحل إلى برلين وتفرَّغ لدرس الرياضيات وفي سنة 1848 التقى بالمستشرق الشهير فريتاغ في بونة فعلمه العربية وفتح له باباً لدرس آثار العرب في الحساب والمقابلة والجبر والهندسة والهيئة فخصص مذ ذاك الحين نفسه لإحياء دفاتنها فنشر رسالة أبي الفتح عمر بن إبراهيم الخيَّامي في الجبر والمقابلة وكتاب الفخري فيهما لأبي حسن الكرخي وتفسير مقالة أوقليدوس العاشرة في الإعظام المنطقة والصم لأبي عثمان الدمشقي وقد كتب نيفاً وخمسين مقالة في كل الفنون الرياضية عند العرب نشرها في المجلة الآسيوية الفرنسوية وفي المجلات العلمية في برلين ورومية وباريس وبطرسبرج وكان إذا نشر أثراً ما قديما نقله إلى اللغات الأوربية وعلق عليه التعليقات الخطيرة حتى أصبح إماماً في هذه الفنون يشار إليه بكل بنان. وكانت أدت به دروسه إلى البحث في العلوم الرياضية عند الهنود وقدماء اليونان وأرباب القرون الوسطى فقابل بينها وبين آثار العرب وقد فاجأه الموت في 24 آذار سنة 1864 وهو في منتصف العمر.
وقد اشتهر غير هؤلاء أيضاً بين مستشرقي الألمان وإن لم يبلغوا شأوهم منهم جرج هنري برنستين (G. H. Bernstein) صنَّف كتاباً في نحو العربية ونشر بعض الآثار القديمة منه قصيدة لصفي الدين الحلي مع ترجمتها وشرحها ومنها كتاب في مبادئ وأصول الأديان المتفرقة في الشرق. وكانت شهرته في معرفة السريانية أكثر منها في العربية قد علَّم تلك اللغة في برسلو وله فيها عدة مطبوعات. توفي برنستين سنة 1860 وعمره 73 سنة.
ومنهم جان أوغست فولرس (J. A. Vullers) أحد تلامذة دي ساسي وكاترمار وفريتاغ ولد في ألمانية سنة 1803 وكانت وفاته في 21 ك2 سنة 1880 في غيسِن علم اللغات الشرقية في كلية غيسن. وقد برز فولرس خصوصاً في اللغة الفارسية فنشر معجماً فارسياً لاتينياً يعد من أتقن المعاجم وأبرز عدة آثار لمؤرخي العجم وشعرائهم. وكان عالماً باللغة العربية نشر معلقتي الحارث بن الحلزة وطرفة مع شروح الزوزني عليها ونقلهما إلى اللاتينية وصنَّف أيضاً كتابا في أصول لغة العرب ومنهم أيضاً فرنتس أوغست أرنُلد (F. A. Arnold) اشتهر بين أساتذة مدرسة هال في ألمانية وله مجموعة حسنة من تآليف العرب لطلبة المدارس الشرقية في جلدين طبعت سنة 1853 ونقلها اليونان في القدس إلى لغتهم فجددوا طبعها بهمة استيفان أثناسياديس سنة 1885. وكان سبق قبل ذلك ونشر سنة 1836 معلقة امرئ القيس ونقلها إلى اللاتينية وذيلها بالشروح. ولم نقف على سنة وفاته. ومنهم أيضاً الدكتور جان غدفريد وتسشتين (J. G. Wetzstein) أقام مدة في دمشق بصفته قنصل دولته وعني بدرس اللغات الشرقية وجمع عدة مخطوطات وصفها وصفاً حسناً وأرسلها إلى برلين وقد كتب تفاصيل رحلته إلى جهات حوران وبادية الشام ومن مطبوعاته كتاب مقدمة الأدب لجار الله الزمخشري طبعه في ليبسيك على الحجر سنة 1850 توفي معمراً في برلين في 18 ك2 سنة 1905.
ومنهم أيضاً هنري جوزف فتزر (H. J. Wetzer) ولد سنة 1801 ودرس اللغات الشرقية على علماء زمانه في ألمانية وفرنسة ولا سيما دي ساسي وكاترمار ثم درس اللغات الشرقية في كلية فريبورغ الكاثوليكية فأصاب له فيها ذكراً طيباً وقصدته الطلبة من أنحاء البلاد وهو أول من نشر مقالة المقريزي في نصارى الأقباط وترجمها إلى اللاتينية وله آثار أخرى في العلوم الكتابية. توفي سنة 1853.
ومنهم فيليب فولف (Ph. Wolf) عني بدرس آداب العرب ونشر البعض منها. وله كتاب دليل السياح لمصر والشام وفلسطين ضمنه أصول العربية العامية. وقد نقل إلى الألمانية كتاب كلية ودمنة وطبع المعلقات ونقلها أيضا إلى الألمانية وبين خفايا معانيها. ونشر شيئاً من ديوان أبي الفرج الببغاء كانت وفاته في غرة كانون الثاني سنة 1894.
ومنهم أخيرا ثيودور هاربروكر (Th. Haarbrucker) من علماء مدينة هال نقل إلى الألمانية كتاب أبي الفتح الشهرستاني الذي نشره وليم كورتون في لندن وذيله بالتذييلات الحسنة. وله مقالة في كتاب مجموع العلوم لمحمد بن إبراهيم السخاوي طبعه سنة 1859. ونشر في العربية تفاسير على أسفار يشوع بن نون وأسفار الملوك الأربعة والأنبياء من تأليف أحد علماء اليهود الربي تنحوم بن يوسف الأورشليمي ونقلها إلى اللاتينية توفي 17 ك2 سنة 1880.
(النمسويون) لم يبلغ النمسويون في درس العلوم الشرقية مبلغ الألمان في أواخر القرن التسع عشر. وإنما اشتهر منهم رجل مقدام كانت له قريحة عجيبة في تعلم اللغات والكتابة في كل فنون الشرقيين أعني به البارون جوزف دي هامر بورغشتال (J. d. Hammer - Purgstall) ولد في غراتس سنة 1774 ودرس في كلية فينا لغات الشرق حتى أمكنه قبل العشرين من سنه أن يتكلم بالعربية والفارسية والتركية ثم أرسلته الحكومة إلى الأستانة بصفة ترجمان ووكلت إليه نظارة قنصلياتها فتجول في الشام ومصر ودرس أحوال البلاد ثم لم يزل يتقلب في كل المناصب الشريفة حتى دخل في شورى الدولة. فانقطع حينئذٍ إلى التأليف وكان يحسن الكتابة في عشر لغات أجنبية فألف عدداً لا يحصى من الكتب والمقالات في كل المواضيع الكتابية وتغلب عليه التأليف في تاريخ الشرق وآدابه نسرد هنا أسماء بعضها: تاريخ الدولة العثمانية في عدة مجلدات. تاريخ الآداب العربية في سبعة مجلدات ضخمة من عهد الجاهلية إلى آخر الدولة العباسية ضمنه عشرة آلاف ترجمة من كتبة العرب وشعرائهم وكبار علمائهم. وقد نقل إلى الألمانية كتاب (أيها الولد) للغزالي وقلائد الذهب للزمخشري وتائية ابن الفارض ومقالات في موسيقى العرب ونشر قصصاً لم تعرف من كتاب ألف ليلة وليلة وديوان خلف الأحمر ونظم بالشعر الألماني كل ديوان المتنبي. وكتب أيضا تاريخ فارس ودولها وتاريخ الآداب التركية. ونقل عدة مصنفات فارسية إلى لغته وأدار المجلات الشرقية فأصبح في بلاده محورا للآداب الشرقية إلى سنة وفاته في 23 ت2 سنة 1856 وكان البارون هامر شديد التمسك بالدين الكاثوليكي وكان يقيم صلاته بالعربية وألف كتاباً في ذلك. ومجمل القول أنه يعد مع بعض مشاهير عصره كمحيي الآداب الشرقية بين الأوربيين.
(الهولنديون) سبق لنا وصف همتهم في درس اللغات الشرقية عموماً والعربية خصوصاً. ودونك أسماء بعض الذين أزهروا في الطور الذي نحن في صدده. أشهرهم ثاودور جوينبول (T. G. J. Juynboll) ولد سنة 1802 ودخل في سلك خدمة الدين في بلاده وكان متضلعاً باللغة العربية متقناً لتاريخ دول الشرق وآدابهم. فعلم اللغة العربية في مدارس مختلفة حتى صار من أساتذة كلية ليدن إلى سنة وفاته في 16 أيلول سنة 1861. ومن آثاره أنه نشر قصائد المتنبي وشعراء زمانه في مدح سيف الدولة وأضاف إليها ترجمة لاتينية ونشر أيضاً كتاب الجبال والأمكنة والمياه للزمخشري وسفر يشوع بن نون عن النسخة السامرية ونقله إلى اللاتينية. وكذلك نشر كتاب مراصد الاطلاع الذي هو مختصر معجم البلدان لياقوت الحموي. وكتاب النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة مع مساعدة أحد المستشرقين الهولنديين المدعو بنيامين ماتس (B. J. Matthes) وقد اجتمع ببعض أدباء وطنه فنشروا مجموعاً دعوه بالشرقيات (Orientalia). ومن مآثره أيضاً مقالة في الترجمة العربية السامرية المحفوظة في مخطوطات باريس. وكان لجوينبول ابن تقفى خطوات والده فاشتهر أيضاً بعلومه الشرقية اسمه إبراهيم وليلم (A. W. Juynboll) عاش بعده نحو عشرين سنة ونشر كتاب التنبيه في الفقه الشافعي لأبي إسحاق إبراهيم ابن علي الشيرازي ونقله إلى اللاتينية وقدم عليه المقدمات الحسنة وكذلك عني سنة 1861 بطبع كتاب البلدان لأحمد بن أبي يعقوب بن واضح المعروف باليعقوبي.
ومن معاصري جوينبول الأستاذ تاكو روردا (T. Roorda) أحد أفاضل الهولنديين الذين عرفوا بالهمة والثبات. باشر سنة 1825 منشوراته الشرقية بدرس أخبار أبي العباس أحمد ابن طولون والدولة الطولونية ثم ألف كتاباً في قواعد العربية وشرحه باللاتينية وألحقه بمنتخبات ومعجم. وقد ساعد جوينبول في نشر مقالاته الشرقية المار ذكرها. توفي روردا نحو السنة 1865.
ومنهم أيضاً هنريك فايرس (H. F. Weijers) له كتابات حسنة في شرقيات جوينبول المذكورة آنفاً ثم اتسع في وصف كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان ونشر مع أحد مواطنيه الدكتور مورسنغ (A. Meursinge) كتاب درة الأسلاك في دولة الأتراك لأبي الحسن بن عمرو بن حبيب واشتغل بوصف مخطوطات مكتبة ليدن الغنية بكنوزها الأدبية. ولا نعرف سنة وفاة فايرس كما إننا لم نقف على أخبار مورسنغ الذي كان نشر قبل ذلك كتاب طبقات المفسرين للسيوطي.
(الإنكليز) اشتهر قليل منهم في هذا الطور بالآداب العربية. أخصهم وليم كورتون (W. Cureton) ولد سنة 1808 وتوفي في لندن في 17 حزيران سنة 1864 كان من خدمة الدين البروتستاني وتخرج في كلية أوكسفرد وكان جل اهتمامه باللغة السريانية وآدابها. وقد الآداب العربية ببعض المصنفات الدينية منها ما نشره سنة 1843 من تفاسير تنحوم بن يوسف الاورشليمي على مراثي ارميا النبي وكذلك نشر مقالة في الكهنوت من كتاب مصباح المرشد ليحي بن حزير (ويروي جرير) التكريتي. ومن آثاره الباقية التي أتقن طبعها كتاب الملل والمحل للشهرستاني نجز طبعه في لندن سنة 1842. وكان طبع قبل ذلك عهدة عقيدة أهل السنة لحافظ الدين عبد الله بم أحمد النسفي وهذان الكتابان نشرا في جملة منشورات أخرى تولت طبعها في بريطانيا شركة طبع التآليف الشرقية Society for the Publication Oriental Texres نفعت الدروس الشرقية نفعاً جزيلاً. ومما كانت نشرته ترجمة رحلة البطريرك الانطاكي مكاريوس التي سبقت للمشرق الكلام عنها (1009:5) وبهمة كورتون طبع أيضاً القسم الأول من وصف مخطوطات لندن العربية الذي أتمه بعده الطيب الذكر ريو (C. Ricu). وممن أحرزوا لهم بعض الشهرة في الآداب العربية بين الإنكليز وليم ناسولييس (W. Nassau Lees) كان هذا مقدماً على جمعية بنغال الآسيوية وورث عن خلفه ماثيو لومسدن (M. Lumsden) حبه للآداب العربية. فكان لومسدن أفرغ المجهود في تجهيز مطبعة كلكوتا ونشر فيها مطبوعات مفيدة كمقامات الحريري سنة 1809 ونفحة اليمن لأحمد الشرواني سنة 1811 وشرح المعلقات ومختصر المعاني للقزويني وقاموس المحيط للفيروزابادي وكتب أخرى أوسعت شهرة تلك المطبعة الهندية. ثم توفي 18 آذار سنة 1835 فلما قام بعده ليس زاد على خلفه نشاطاً واهتم بنشر تآليف أوسع وأكثر فائدة فطبع تاريخ الخلفاء لجلا الدين السيوطي ونوادر القليوبي والكشاف للزمخشري وفتوح الشام للواقدي وفتوح الشام للبصري وكشاف اصطلاحات الفنون لمحمد علي الفاروقي التهانوي ونخبة الفكر ونزهة النظر لابن حجر العسقلاني. وكان ليس يستعين في تلك المطبوعات ببعض علماء الهند كالمولوي كبير الدين والمولوي عبد الحق غلام قادر وكان أيضاً يساعده في نشر تلك المطبوعات المستشرق سبرنغر (A. Sprenger) الوارد ذكره بعد هذا توفي في ناسو ليس في 9 آذار سنة 1889.
وقد نشر أيضاً في هذا الزمان الإنكليزي هاريس جونس (J. Harris Jones) ذكر فتح الأندلس لابن عبد الحكم القرشي المصري فطبعه في غوتا سنة 1858 ونقله إلى الإنكليزية.
(الروسيون وغيرهم) كانت حركة الدروس الشرقية خامدة في روسيا في أواسط القرن التاسع عشر ثم أخذت الأكاديمية الملكية تبعث الهمم وتنشط العزائم فنشأت بذلك نهضة محمودة وعقدت بعض الجمعيات العلمية لترويج تلك المقاصد. وهذه أسماء التآليف العربية التي نشرت في روسيا في الطور الذي يشغلنا.
نشر منهم الأستاذ غوتولد (J. M. E. Gottwald) معجماً القرآن وللمعلقات في قازان سنة 1863 ونشر في بطرسبرج تاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء تأليف حمزة الأصفهاني ونقله إلى اللاتينية توفي غوتولد في قازان سنة 1897 - وفي بطرسبرج نشر الأستاذ كولسون (D. A. Chwolson) سنة 1869 كتاب الأعلاق النفيسة لابن دسته (والصواب رسته) وترجمه إلى الروسية وله أيضاً بحث خطير في آثار الآداب البابلية في كتب العرب سنة 1859 في مجلة بطرسفرج العلمية توفي كولسون وعمره 92 سنة في 5 نيسان سنة 1879 في مدينة فيلنا وكان يهودياً فتنصر وهو الذي أثبت أن الصابئين المذكورين في القرآن هم المندئيون وعلم في بتروغراد اللغات العبرانية والسريانية والكلدانية - واهتم الأستاذ اسكندر كرستيانوفتش (Al. Christian owitsch) بالموسيقى العربية فوضع فيها مقالة وزينها برسم الآلات الشائعة عند العرب وطبعها في كولونية سنة 1863 - وفي هذا الزمان أزهر أحد الأعاجم المتنصرين اسكندر قاسم بك الذي علم مدة اللغات الشرقية في قازان وبطرسبرج وجعله القيصر من أعضاء الشورى. كان يعرف اللغات التترية والفارسية والعربية وقد نشر في كلها تآليف عديدة وله في العربية مختصر الوقفيات ورسائل دينية ومقالات لغوية وفصول تاريخية في أخبار الدول الإسلامية ونشر قنصل الروس في تبريز نيقولا خانيكوف (N. Khanikoff) كتاب ميزان الحكمة للخازني وطبعه في المجلة الشرقية الأميركانية سنة 1859 وهو سفير جليل في المواليد والفلزات والجواهر وترجمه إلى الإنكليزية وكذلك (الاسبانيون) في هذه البرهة من الدهر شعروا بحاجتهم إلى درس اللغات الشرقية ولا سيما العربية لما فيها من الآثار المفيدة لمواطنهم ونال لهم بعض الشهرة وطنيهم كاينكوس (Pasc. de Gayangos) الذي نشر في لندن ومجريط بعض التآليف العربية منها ترجمة نفح الطيب للمقري في مجلدين كبيرين ومنها وصف قصر الحمراء مع بيان آثاره وتفسير كتاباته الحجرية وكذلك نشر ترجمة كتاب كليلة ودمنة وتاريخ أحمد بن محمد الرازي أما (الإيطاليون) فإن درس اللغات الشرقية كان عندهم منحصراً في بعض المبادي ولم ينشروا في تلك المدة من الآثار العربية شيئاً يذكر اللهم إلا الكردينال العظيم أنجلو ماي (Ang. Mai) الذي دخل في الرهبانية اليسوعية في العشر الأول من القرن التاسع عشر وتوفق إلى الاكتشافات العجيبة التي خلدت له ذكراً في العالم كله في إعادة الكتابة على الرقوق التي حكت نصوصها السابقة (Palimpsestes). وأقامه الحبر الأعظم إلى رتبة الكرادلة ووكل إليه نظارة المكتبة الواتيكانية. وقد نشر في السريانية والعربية أيضاً بعض ما وجده من الآثار النصرانية وأثبتها في مجموع مطبوعاته. توفي الكردينال ماي سنة 1854 وممن نلحقهم بهؤلاء المستشرقين بعض المرسلين الذين خدموا بمدارسهم ومنشوراتهم الآداب العربية. فمن اليسوعيين الأب اسكندر بوركنود (Al. Bourquenoud) الذي سبق رينان إلى درس آثار الشام ووصفها وصفاً مدققاً فمهد الطريق لأبحاث رينان الأثرية. توفي الأب بور كنود في 1 ت 1 سنة 1868 في غزير ومنهم اليسوعيان الأب لويس فنيك (1868) والأب بولس ريكادونا (1863) ألفا في العربية إرشادات وكتباً دينية وقصائد تقوية أما المرسلون الأميركان فأشتهر بينهم عالي سميث الذي تجول في أنحاء الشام ونظم أحوال الجمعية الأميركية ووسع أعمال مطبعتهم وباشر مع الشيخ ناصيف اليازجي ترجمة الكتاب المقدس وقد أنجزه من بعده الدكتور فان ديك. توفي عالي سميث سنة 1857 وكان منهم أيضاً هنري دي فورست (H. de Forest) وادورد سالسبوري (Ed. Salisbury) ولكليهما مآثر حسنة من تاريخ وجغرافية وعادات ووصف أديان نشراها في المجلة الشرقية الأميركانية (Journal of the American Oriental Society) وكانت هذه المجلة صدرت سنة 1850 فأخذت تباري بمقالاتها المجلات التي تقدمتها وبهذا النظر الإجمالي نختم تاريخ الآداب العربية في طورها الثالث من القرن التاسع عشر وبه أيضاً ختام القسم الأول من تأليفنا هذا الذي جمعناه في كتاب مستقل وألحقناه بفهرس الأدباء الذين أوردنا ذكرهم في مطاوي كلامنا