الجزء الثاني: من السنة 1870 إلى 1900 - الفصل الأول : الآداب العربية من السنة 1870 إلى 1880

الجزء الثاني

من السنة 1870 إلى 1900

الآداب العربية في القرن التاسع عشر

الفصل الأول

الآداب العربية من السنة 1870 إلى 1880

نظر إجمالي

جرينا شوطاً أول في عدة مقالات كتبناها عن آداب القرن السابق فأدى بنا سيرنا إلى السنة 1870 فوقفنا عند ذلك الحد مدة ريثما نجمع قوانا فنواصل الجري في هذا الميدان. وهو لعمري مجال جديد يتسع أمامنا فتتوفر ركبانه وتنمو فتفوت الإحصاء فرسانه. ولولا ثقتنا بلطف القراء وأملنا بغضهم النظر عن قصورنا لكففنا القلم وأوقفنا اليراع لئلا يرشد بنا عن سواء السبيل. فنستأسف العمل مع تكرار الرجاء بأن يمد إلينا الأدباء يد الإسعاف وينبهوا فكرنا إلى ما نسهو عن ذكره ويصلحوا ما يرونه مخالفاً للواقع ليأتي هذا القسم أوفى بالمرام إن شاء الله.

كانت السنة 1870 مفتتح طور جديد في تاريخ نهضة الآداب العربية فصان في تلك السنة جرت أمور خطيرة قلبت بطناً لظهر أحوال الدوال الأوربية فكان لها فعل انعكاس في أنحاء الشرق فقامت العقول من رقدتها واستيقظت الأفكار بعد سنتها في دوي الحرب السبعينية طرق آذان الشرقيين فأسمعهم أصواتاً ما اعتادتها مسامعها فرأوا في طلب الآداب ودرس العلوم سداً لخللهم ومنجاة من خمولهم وكان السلام سانداً والأمن متوطداً في الدولة التركية لا شيء يعوق رعاياها عن ترويج الآداب وأنفاق سوقها لا سيما سورية ولبنان فإن الدعة والسكينة كانت قد مدّت عليها رواقها بعد نكبة السنة 1860 وأخذت الشبيبة تترعرع وهمها الأعظم الترقي في معارج التمدن. وعقد في ذلك العام المجمع الواتيكاني وفيه رأي الدين الشرقيون رقي أخوتهم الغربيين في العلوم فأحبوا مجاراتهم في ذلك المجال الشريف. وقد ساعدهم في تحقيق أمانيهم المرسلون اللاتينيون الذين تضاعف عددهم في هذه البلاد فأخذوا يجدون ويسعون بما عرفوا به من علو الهمم ليبعثوا في الأحداث الغيرة على إحراز المعارف. وكذلك المرسلون الأميركان فإنهم أفرغوا كنانة الجهد ليزرعوا في قلوب الشبان بذور المعارف والعلوم المستجدة. ويا حبذا لو اقتصر على هذه الغاية الشريفة ولم يتخذوا العلم وسيلة لنشر الزاعم البروتستانية ومناوأة الدين القويم.

ومما خص به هذا الطور الذي نحن في صدده إنشاء مدارس عامرة لم يسبق لها مثيل في الزمن السابق أخصها الكلية الأميركية التي خرجت في ذلك الوقت من قماطات مهدها فشرع أساتذتها وفي مقدمتهم فان ديك في تأليف أو تعريب قسم كبير من الكتب العلمية قدوة بالشيخ الطهطاوي بمصر ففتحت ترجمتها باباً جديداً طرقه الشرقيون لإحراز العلوم العصرية. وكانت المطبعة الأميركية تذلل لهم الصعاب في نشرها وبقيت تلك المطبوعات عهداً طويلاً كأساس التعليم في الكلية الأميركية وبعض المدارس الوطنية حتى بعد قصورها عن بلوغ غايتها لاتساع نطاق العلوم سنة بعد سنة فبقيت على نقصها حتى اضطرت عمدة المدرسة الأميركية إلى استئناف التدريس باللغة الإنكليزية.

وكان النجاح الذي فاز به أصحاب الكلية الأميركية باعثاً للكاثوليك على مزاحمتهم ليصونوا أبناء مللهم من الأضاليل البروتستانية. وكان اليسوعيون أول من تحفز لمناهضتهم فعززوا مدارسهم الثانوية في غزير وبيروت وصيداء ثم جعلوا يطلبون ما هو أنجع وسيلة لبلوغ أربهم بإنشاء كلية في بيروت تباري كلية الأميركان وتقدم لأبناء الشرق مناهل العلوم صافيةً من كل رنقٍ يكدرها. فما لبث بعد أربع سنوات أن تشيدت أبنية كليتنا الكاثوليكية ونقلت إليها مدرسة غزير 1875 فنالت من كرم الكرسي الرسولي كل انعامات الكليات بمنح شهادات العلوم الدينية لمستحقيها. كما أن الدولة الفرنسوية اعتبرت شهاداتها بمثابة الشهادات الممنوحة في فرنسة لذويها.

وفي غرة سنة 1870 نشر الآباء اليسوعيون جريدتهم المجمع الفاتيكاني لنقل أخبار ذلك المجمع المسكوني. ثم أعقبوه بعد فراغ المجمع في أيلول بجريدة البشير لمناضلة النشرة الأسبوعية فصار لها رواج كبير ولم تزل تكبر وتتحسن حيناً تلو حين. وها قد مر عليها اليوم 50 سنة بنيفٍ وهي تدافع عن الدين مدافعة الأبطال فصارت لسان حال الكثلكة يرجع إليها أرباب الطوائف الكاثوليكية بأسرهم.

وفي هذه المدة أيضاً ترقت المطبعة الكاثوليكية بهمة رئيسها الهمام الأب امبرواز مونو الذي لم يشأ أن تتخلف عن المطبعة الأميركية في شيء فاستجاب لها الأدوات الجديدة وجهزها بالمخترعات المستحدثة وأرسل أحد رهبانه الطيب الذكر الأخ ماري الياس إلى عواصم أوربة ليدرس فن الطباعة على أحذق الطباعين فأخذ عنهم الاستكشافات واستعان بها على تحسين الطباعة الشرقية في مطبعتنا ومطابع البلدة. وكذلك تعلم غيره من رهبانها كالمرحوم الأخ أنطون عبد الله فن الحفر وسبك الحروف واستحضار سنابكها وأمهاتها فأغنوا المطبع بأشكال جديدة من الحرف العربية والسريانية وغيرها.

وتعهدت المطبوعات الدينية والعلمية التي ظهرت في تلك الأثناء من مطبعتنا وكان أجودها حرفاً وأتقنها طبعاً الكتاب المقدس (1876 - 1882) في ثلاثة مجلدات مزيناً بالتصاوير والنقوش. وكان الآباء المرسلون لم يذخروا وسعاً في تعريبه عن اللغتين الأصليتين العبرانية واليونانية ساعدهم في تصحيح عبارة الترجمة وتثقيفها اللغوي البارع المرحوم الشيخ إبراهيم اليازجي. وقد صدق على هذه الترجمة الجديدة غبطة السيد منصور براكو بطريرك أورشليم اللاتيني وأثنى عليها سائر بطاركة ومطارنة وأساقفة الطوائف الكاثوليكية في الشرق.

ثم أخذ مديرو المطبعة الكاثوليكية يهتمون بالكتب المدرسية وكانت قبلهم عزيزة جداً لا يصل إليها الأحداث إلا بعد شق النفس فتوفرت الكتب التعليمية وزادت بذلك مدارس الشرق ترقياً ونجاحاً. وكانت بقية الرسالات اللاتينية تسير سيرها الحثيث في نشر الآداب فاللعازريون كانوا يكسبون ثقة الأهلين بحسن تعليمهم وتهذيبهم في مدرسة عين طورا. ثم فتحوا في هذه الأثناء مدرسة أخرى في دمشق لا تزال عامرة. وكذلك الآباء الفرنسيسيون فتحوا مدرسة ثانوية في حلب علموا فيها اللغات وأصول الآداب.

ولم تتأخر الطوائف الشرقية في هذه الحلبة. فإنه تعين سنة 1872 لكرسي بيروت على الموارنة بعد الطيب الذكر طوبيا عون أحد رجال العلم والعمل السيد المبرور يوسف الدبس فأفرغ الوسع في ترقية أبناء رعيته في معارج التمدن ففتح لهم في بيروت سنة 1875 مدرسة الحكمة الشهيرة التي نمت فروعها وبسقت أفنانها وينعت ثمارها إلى يومنا هذا. فتقلد الكثير من المتخرجين فيها المناصب الجليلة وخدموا وطنهم بنشاط عظيم. ومن مساعيه الطيبة لتوسيع نطاق الآداب مطبعته العمومية الكاثوليكية التي اشتراها من يوسف الشلفون شركة مع رزق الله خضرا فنشر فيها مجموعاً واسعاً من المطبوعات الدينية والأدبية والمدرسية منها قسم كبير من قلمه.

وفي هذه المدة ثبت قدم جمعية المرسلين اللبنانيين التي أسسها المطران يوحنا حبيب سنة 1865 فأخذت تزداد عدداً وفضلاً بهمة منشئها الفاضل.

أما الروم الكاثوليك فإن مدرستهم البطريركية بلغت في هذه الآونة أوج عزها بحسن إدارة رؤسائها وشهرة أساتذتها. وكان جل اهتمامها إتقان اللغة العربية بفروعها. وعني السيد البطريرك غريغوريوس يوسف بإنشاء مدرسة أخرى لأبناء طائفته في دمشق سلم إدارتها إلى كهنة أفاضل أحكموا تدبيرها.

وفي هذا الطور أنشئت مطابع جديدة كالمطبعة السليمية لسليم أفندي مدور ومطبعة القديس جاورجيوس المروم ومطبعة جمعية الفنون المسلمين. وقد ظهرت في كل هذه المطابع تآليف متعددة نشرنا في المشرق أسماءها. وكذلك الجرائد والمجلات فقد أنشئ منها ما راجت سوقه. وكان الأدباء في ذلك الوقت حاصلين على حريتهم لا يعيقهم في نشر المطبوعات عائق المراقبة. والجرائد تروي الأخبار كما تشاء لا يعترض عليها إلا إذا خرجت عن طورها وتعدت حدودها. وقد سبق لنا ذكر مجلة الجنان التي أنشأها المعلم بطرس البستاني وعهد بتحريرها إلى ابنه سليم سنة 1870 وفيها باشر بجريدتين الواحدة أسبوعية وهي الجنة والثانية يومية دعاها الجنينة وهذه الأخيرة لم تطل مدتها. أما الأوليان فاشتغلتا خمس عشرة سنة فأكسبتا الأسرة البستانية شهرة بفصولهما. وقد أنشئت سنة 1874 جريدة ثمرات الفنون لصحابها صاحب السعادة عبد القادر أفندي القباني فخدمت مصالح الأمة الإسلامية بلا ملل إلى أيام الدستور. وبعدها بسنتين شرع الأدباء شاهين أبكاريوس ويعقوب صروف وفارس نمر من تلامذة الكلية الأميركية ينشرون مجلة علمية صناعية زراعية دعوها المقتطف وأودعوها كثيراً من المقالات العلمية وغيرها وبقيت تطبع في بيروت إلى أن نزعت عن الجرائد حريتها فانتقل محرروها إلى مصر وجروا فيها على خطتهم الحرة إلى هذه السنة وهي الخمسون من عمرها. وفي هذه المجلة من المنافع ما لا ينكر أولاً أن كتبتها صوبوا غير مرة سهامهم للتعاليم الدينية وناصبوا القضايا الفلسفية الراهنة ونسبوا إلى العلم ما هو بريء منه كما بينا لهم الأمر أحياناً عديدة في جريدة البشير ومجلة المشرق.

أما في بلاد الشرق خارجاً عن الشام فإن الآداب العربية فيها لم تخط خطوةً كبيرة في هذه السنين العشر فلا نرى لها من المنشآت ما يستحق الذكر. وإنما كانت المطابع المصرية وخصوصاً مطبعة بولاق تواصل اشتغالها فتنشر من التآليف القديمة ما كان يحبب إلى الأدباء درس اللغة وإحراز فوائدها لولا سقم طبعها وقلة العناية في تصحيحها. وكذلك الآستانة العلية فإن صاحب الجوائب الذي مرّ لنا ذكره نشر في مطبعته قسماً حسناً من التآليف العربية القديمة كديوان البحتري وأدب الدنيا والدين وبعض مصنفات الثعالبي. ومثله الخوري يوسف داود في مطبعة الدومنيكان في الموصل (أطلب المشرق 5 (1902): 423) فإنه نشر هناك فضلاً عن الكتب الدينة عدة تآليف حسنة عززت في الناشئة محبة الآثار العربية. وفي هذا الطور أصيبت الآداب العربية ببعض التأخر في الأصقاع الأوربية لما حدث فيها من المنازعات والاضطرابات السياسية. لكن هذه الحال لم تدم مدة طويلة لأن الأمور بعد زمن أخذت في السكون والهدوء وعاد العلماء إلى دروسهم بل اتسع نطاقها فامتدت في ألمانية وإنكلترا وأنشئت كليات جديدة كان للغة العربية فيها الحصة المشكورة. وقد شكلت جمعيات شرقية في إيطالية والنمسة بعثت همم أهلهما على الدروس الشرقية فانتشرت بذلك الآداب العربية. وكانت المطابع الأوربية تغني كل يوم لغتنا بنشر تآليف يخرجها المستشرقون من دفائن المكاتب ويحيونها بعد موتها منها بالذكر مطبعة ليدن في هولندة التي أبرزت قسماً كبير من أجود تآليف العرب وخصوصاً في التاريخ ووصف البلدان.