الجزء الثاني: من السنة 1870 إلى 1900 - الفصل الأول : الآداب العربية من السنة 1870 إلى 1880 - الأدباء النصارى

الأدباء النصارى

ظهرت في هذا العهد ثمرة المدارس المسيحية التي أنشأت في أنحاء الشام فخرج منها جمهور من الأدباء أخذوا يحررون الجرائد ويصنفون التآليف المختلفة وينظمون القصائد ويمثلون الروايات التشخيصية ويعقدون الجمعيات الأدبية فيلقون فيها الخطب ويهتمون بتنشيط العلوم فحصلت بذلك نهضة استوقفت الأبصار وبعثت في القلوب رغبة الترقي والتمدن.

بنو اليازجي

وأول من يتحتم علينا ذكرهم الشيخ ناصيف اليازجي وأسرته التي كاد الموت يقصف آخر غصونها بوفاة نجليه المرحوم الشيخ إبراهيم والسيدة وردة. وهانحن نلخص أخبارهم جميعاً لائتلاف الموضوع وفراراً من التكرار. أصل هذا البيت من روم حمص. ثم نمت أسرتهم وتفرعت إلى عدة فروع فهاجر قوم منهم في العشر الأخير من القرن السابع عشر إلى لبنان فسكنوا جهة الغرب واستوطن غيرهم وادي التيم وكان بعضهم دخل في خدمة عمال الدولة في أواسط القرن الثامن عشر بصفة كاتب فعرف باسم اليازجي أي الكاتب وعرف به أبناؤه من بعده. وقد جاهر هذا الفرع بالمذهب الكاثوليكي مع أسر أخرى كبيت البحري وبيت كرامة في منتهى القرن الثامن عشر وسكنوا كفر شيما. من قرى ساحل بيروت. وكان عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط والد الشيخ ناصيف طبيباً درس الطب على بعض رهبان الشوير وتعاطاه بالعمل فحذق به وكان مع ذلك محباً للآداب العربية يطالع من كتب اللغة ما يحصل عليه ووسائل التعليم في ذلك الوقت قليلة. وتعلم للشعر فنظم بعض القصائد التي أخذتها أيدي الضياع. ومما روى له حفيده الشيخ إبراهيم قوله يمدح ديوان شعر للقس حنانيا منير صاحب التآليف التي سبق لنا وصفها:

عش بالهنا والخير والرضوانِ

 

يا من عُنيتَ بنظم ذا الديوانِ

إني لقد طالعتهُ فـوجـدتـهُ

 

نظماً فريداً ما له من ثـانِ

وكان مولد ناصيف ابنه في كفر شيما في 25 آذار سنة 800 درس مبادئ القراءة والكتابة على القس متي الشبابي. ثم شعر برغبة عظيمة في معرفة أصول اللغة وفنون الآداب فانكب عليها بنشاط وحرص على إتقانها ما أمكنه فنال منها نصيباً حسناً. ثم درس الطب على والده ووضع فيه أرجوزةً سماها (الحجر الكريم في أصول الطب الكريم) لم تنشر بالطبع. ودرس أيضاً فن الموسيقى ووعى كثيراً من أصولها ودقائقها. وكان مغرى بالتاريخ مواظباً على قراءة أخبار القدماء فيحفظ منها تفاصيل كثيرة لا تبرح من ذاكرته إذا انطبعت فيها مرة.

لكن الأدب غلب على الشيخ ناصيف فبلغ فيه مبلغاً عجيباً قيل أنه استظهر القرآن وحفظ كل ديوان المتنبي وقصائد عديدة من العشر القديم والمولد لا يخل فيها بحرف. وكان في أوقات الفراغ ينسخ ما يحصل عليه من الآثار الأدبية بخط جميل أشبه بالقلم الفارسي.

ومما امتاز به على أهل زمانه شعره فإنه نبغ فيه على ما روي وعمره لا يتجاوز عشر سنين فكان يقول الشعر عفواً عن البديهة ويأتي بكل معنى بليغ. وكان في أول أمره ينظم المعنى والزجليات تفكها. وقد تلف معظم هذه المنظومات العامية.

وسطع في ذلك الوقت نجم الأمير بشير الكبير فقصده الأدباء والشعراء ومدحوه ونالوا من سجال فضله منهم المعلم الياس أدّه ونقولا الترك وبطرس كرامة فسار الشيخ ناصيف إلى بيت الدين واتصل بهؤلاء الأدباء فقربوه من الأمير الذي اتخذه كاتباً لأسراره ورفع شأنه. وللشيخ في مخدومه قصائد جليلة منها رائيته التي قالها مهنئاً له بانتصاره من أعدائه سنة 1240 (1824م) وأولها:

يهنيك يهنيك هذا النصرُ والظفرُ

 

فانْعمْ إذن أنت بل فلننعم البشرُ

وبقي في خدمته اثنتي عشرة سنة. فلما كُفَّت يد الأمير عن تدبير لبنان سنة 1840 فارقه الشيخ ناصيف ونزل مع أهله إلى بيروت فسكنها إلى سنة وفاته.

وفي هذه الثلاثين السنة الأخيرة من عمره انقطع إلى التأليف في بيته وإلى التدريس ومراسلة الأدباء فحظي بشهرةٍ عظيمة. وسمع به المستشرقون فكاتبوه واقترحوا عليه عدة مصنفات أجابهم إلى وضع بعضها فطبعوها في مجلاتهم. وكان علماء الشرق يتسابقون إلى مكاتبته ويتناوبون بينهم القصائد والرسائل. ومن فضل الشيخ ناصيف أنه سعى مع بعض أدباء الشام بعقد الجمعية السورية لترقية الآداب ورفع منار العلوم. وكان له في كل المساعي الأدبية يد مشكورة حتى أصبح في بلاد الشام كقطب العلوم العربية وشرعة المعارف الوطنية.

واشتغل أيضاً مع أصحاب الرسالة الأميركية فنظم لهم المزامير وبعض الأغاني الدينية واستفادوا منه أيضاً في تعريب الأسفار المقدسة التي نشروها في مطبعتهم. وكان أحد أعضاء جمعيتهم التي أنشئوها سنة 1848 (الشرق 40:12 ثم ZDMG V. 96).

أما تآليف الشيخ ناصيف فكلها مشهورة سردنا أسماءها في تاريخ الطباعة في أعداد سنتنا الثالثة وأشهرها مقاماته الستون المعروفة بمجمع البحرين التي عارض فيها المقامات الحريرية طبعت مراراً في المطبعة الأميركية ثم في مطبعتنا الكاثوليكية. وله كتاب فصل الخطاب في الصرف والنحو. وجوف الفرا والخزانة وهما أرجوزتان في أصول النحو نظمهما وعني بشرحهما. وعقد الجمان في البيان مع ملحق في العروض. وله شرح على المتنبي أتمه ابنه الشيخ إبراهيم ووسمه باسم العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب. وشعره متفرق في ثلاثة دواوين: كتاب نفحة الريحان وكتاب فاكهة الندماء في مراسلات الأدباء وكتاب ثالث القمرين. وقد قصد الأديب ميخائيل أفندي إبراهيم رحمة جمع شعره في ديوان طبع منه نبذتان في المطبعة الشرقية في الحدث وفي المطبعة الأدبية مصححاً بقلم نجله المذكور. وعساه أن يضيف إليهما ما لم يزل مخطوطاً أو شارداً من القصائد.

وشعر الشيخ ناصيف يجمع بين الرقة والمتانة يضارع نظم أجود الشعراء في كل أبواب المعاني ود مر لنا عدة أقوال من قلمه تشهد على براعته ورسوخ قدمه في آداب الشهر. وقد مدح أكثر مشاهير عصره وأدباء زمانه ورثى قوماً من الكرام الذين انتقلوا إلى دار البقاء في أيامه وله التواريخ المتعددة التي زان بها قبورهم أو عقلها على الآثار البنانية والكنائس وغيرها. فمن مديحه قوله من قصيدة غراء رفعها إلى جلالة السلطان عبد العزيز وضمن كل شطر منها تاريخاً لسنة 1283:

ظل الإله علينـا أوجُ طـالـعـهِ

 

قد فاق فوق جهات الأفقِ كالعَلَمِ

في خلقِه عجبٌ في عزّهِ طـربٌ

 

راحاتهُ سحبُ بَهْمرنَ بالـكـرمِ

أمين ربَ الورى في الكون مؤتمنُ

 

على العباد لَحِقّ العهد والـذمَـمِ

ومدح نابوليون الثالث بقصيدة افتتحها بهذه الأبيات:

من قال أن الدهر ليس يعـودُ

 

هذا زمانٌ عادَ وهـو جـديدُ

قد عاد نابُلْيون بـعـد زوالـهِ

 

فكأنَّ ذلك يومهُ المـوعـودُ

لا تُفَقد الدنيا لفقد عـزيزهـا

 

ما دامَ يخلفُ مَيْتَها المولـودُ

تتجدَّد الأشخاص فيها مثلـمـا

 

يُغْرَى القضيبُ فينبت الأملودُ

وله في مديح الملكة فيكتوريا لما جلست على عرش بريطانيا العظمى من قصيدة:

اليوم قامت فتـاةُ الـمـلـك بـارزةً

 

وقام من قبلهـا أسـلافُـهـا الأوَلُ

فرعُ الأصول التي مرَّت وبهجتـهـا

 

أنَّ الثمار من الأغـصـان تُـبـدَلُ

في قلبها خاتَمُ التـقـوى وفـي يدهـا

 

من خاتم الملك ما يجري به المثَـلُ

قد التقى الدينُ والدنيا بـسـاحـتـهـا

 

كما التقى الكُحل في الأجفانِ والكَحَلُ

وله قصائد أخرى في مدح الخديويين أصحاب مصر إبراهيم باشا وسعيد باشا وإسماعيل باشا. وكثيراً ما كان يجمع في هذه المدائح أنواع الجناسات والفنون البديعية الصعبة المرتقى الدالة على تذليله للمشكلات اللفظية والمعنوية لكن التعسف ظاهر في بعض هذه المنظومات التي وضعها لمعارضة قوم من شعراء القرون المتأخرة. ومن هذا القبيل بديعيته التي التزم فيها تسمية الجناس والنوع أولها:  

عاج المتَّيمُ بالأطلال في العَـلَـمِ

 

فأبرعَ الدمعُ في استهلالهِ العَرِمِ

ومن أحسن الشعر صاحب الترجمة مراثيه التي أوردنا منها أمثلة. وله من قصيدة يرثي بها الطيب الذكر البطريرك مكسيموس مظلوم:

ركنٌ هوى في دار مصرٍ أوشكت

 

منهُ رُبى لبنان أن تـتـفـطَّـرا

ضجَّت به الإسـكـنـدرَّية هـيبةً

 

فكأنَّ فوق سريرهِ الاسكـنـدرا

يا أيها الطَّود الـذي عـبـث بـهِ

 

أيدي المنون فمال محلول العُرى

غدَرتْ بك الأيام مظلومـاً كـمـا

 

تُدعى فألقَت في التراب الجوهرا

وله في رثاء صغير وأجاد:

استودعُ الله في طي الضريح فتىً

 

كالغصن معتدلاً والبدر مكتمـلا

كنا نؤمل أن نَجْنـي لـهُ ثـمـراً

 

فخَيب الدهرُ منا ذلـك الأمـلا

خان الزمان له عهد الصبا وبغـى

 

عليه داعي المنايا إذ أتى عَجـلا

قد ألبسوهُ الثياب البيض فاصطبغت

 

بُحمرةٍ من دم الدمع الذي انهملا

والناس من حولهِ تمشي وقد نكست

 

رؤوسها وصراخُ الباكيات عـلا

يا رحمة الله حُلّي فوق تـربـتـهِ

 

كما حللت على نعشٍ به حُمـلا

ومن مراثيه ما قاله في موت ابنه حبيب وهو آخر نظمه قاله شهراً قبل وفاته ولم يتم رثاءه لحزنه:

ذهب الحبيبُ فيا حشاشتي ذوبي

 

أسفاً عليه ويا دموعُ أجـيبـي

ربيته للـبَـين حـتـى جـاءهُ

 

في جنحِ ليل خاطفاً كـالـذيبِ

يا أيتها الأمُّ الحزينةُ أجـمـلـي

 

صبراً فإنَّ الصبرَ خيرُ طبـيبِ

لا تخلعي ثوب الحداد ولازمـي

 

ندباً عليه يليقُ بـالـمـنـدوبِ

هذا هو الغصنُ الرطيبُ أصابَهُ

 

سهمُ القضاء فمات غيرَ رطيبِ

لا أستحي إن قـلـتُ نـظـيرهُ

 

بين الرجال فلستُ غر مصيبِ

إني وقفتُ على جوانب قـبـرهِ

 

أسقي ثراهُ بدمعي المصبـوبِ

ولقد كتبتُ له على صفحـاتـهِ

 

يا لوعتي من ذلك المكـتـوبِ

لك يا ضريحُ كرامةٌ ومـحـبَّةٌ

 

عندي لأنك قد حويتَ حبيبـي

وله يرثي الأمير بشير الشهابي لما توفي الآستانة سنة 1850:

إذا طلع النهـارُ أرى الـرجـالا

 

كما أبصرتُ في الليل الخـيالا

وأعجبُ كيف تطوي الأرض ناساً

 

لو اجتمعوا بها كانـوا جـبـالا

يخونُ الدهرُ شخصاً بعد شخـصٍ

 

كما ترمي عن القوس النـبـالا

إذا أغلقتَ دون الـمـوت بـابـاً

 

تناول ألف بـابٍ كـيف جـالا

ومن حَذَرَ المـنـية عـن يمـينٍ

 

تدور بهِ فـتـأخـذهُ شـمـالا

من اللـه سـلام عـلـى أمـيرٍ

 

دفنا المجد مـعـهُ والـجـلالا

كأنَّ الموت لم يجـسـر عـلـيهِ

 

مجاهرةً ففـاجـأهُ اغـتـيالا

فتى كالسيف إرهافاً وقـطـعـاً

 

ومثل الرمح قـدًّا واعـتـدالا

ومثل البدر إشراقـاً وحـسـنـاً

 

ومثل الغيث جـوداً وابـتـذالا

أجلُّ بني الـكـرام أبـاً وجـدّاً

 

وأكرمُ رهطهم عـمـاً وخـالا

وأحسنُهم وأجمـلـهـم فَـعـالا

 

وأوثقهم وأصدقـهـم مَـقـالا

كريمٌ مـن كـريمٍ مـن كـرامٍ

 

بنوا في المجد أعمـدةً طـوالا

سلـيل أمـير لـبـنـانٍ ينـادي

 

أنا لبنانُ لـمـا مِـلـتُ مـالا

إذا قلتَ الأمير ولم تسـمّـعـي

 

فلا يحتاج سامعـك الـسـؤالا

سألنا تخت ممـنِ عـن نـظـيرٍ

 

لهُ هـل قــام قـــال لا لا

ستبكيهِ البـلادُ ومـن عـلـيهـا

 

إلى أن تستعيضُ لـه مـثـالا

وتحصي الناس ما فعـلـت يداهُ

 

ولكن بعد أن تحصي الرمـالا

إلى أن قال:

إلى دار السعادة سرتَ فوزاً

 

كأنك عاشقٌ يبغي الوصالا

رأيت العيش في الدنيا طريقاً

 

لها فاخترتُ أقربهُ مجـالا

وقال مؤرخاً سنة وفاته:

هذا الأمير السعيد الحظ تخدمـهُ

 

ملائك الله حول العرش تجتمعُ

تقول أرقام تاريخٍ تـحـيط بـه

 

إن الشهاب على الأفلاك ترتفعُ

ومن تعازيه اللطيفة قوله يخاطب تاجراً أصيب بماله:

يا بائع الصبر لا تُشفق على الـشـاري

 

فدرهمُ الصبر يسوي (كذا) ألف دينارِ

لا شيء كالصبر يشفي قلب صاحـبـهِ

 

ولا حوى مثَلـهُ حـانـوتُ عـطَـارِ

هذا الذي تُخمد الأحـزانَ جـرعُـتُـه

 

كبارد الماء يطـفـئ حـدّة الـنـارِ

ويُحفظ القلبُ باق (كذا) في سلامـتـهِ

 

حتـى يُبـدَّلُ إعـسـارٌ بـأيســارِ

يا من حزنتَ لفقـد الـمـال انـك قـد

 

خُلقتَ عارٍ (كذا) وما في ذاك من عارِ

كما أتى أمسِ ذاك المالُ امكـتـسـبـاً

 

يأتي غداً من بديع اللـطـف جـبّـارِ

ومن زهرياته قوله:

مرَّ النسيم على الرياض مسلّماً

 

سَحراً فردَّ هزارَها مترنما

أحنى إليهِ الزهر مفرق رأسه

 

أدباً ولو مَلكَ الكلام تكلَّمـا

يا حبّذا ماء الغدير وشمـسـهُ

 

تعطيه ديناراً فيقلب درهمـاً

محت الرياحُ بها كتابة بعضها

 

فتخاصمت من فوقه فتهشَّما

وله هجو قليل فمن ذلك قوله في ثقيل:

كفَّ عنّي لا أبـا لـكْ

 

قد تبَّيَّنا مُـحـالـك

وعـرفـنــاك وألا

 

فمتى نعرفُ حالـكْ

قد مضي لي بك عصرٌ

 

حاملاً فيه مَـلالـكْ

حسبُ قلبي منك جورٌ

 

كاد منهُ يتـهـالـك

سنرى الـنـادم مـنَّـا

 

ويُسيء اللهُ فـالَـكْ

وقال في نجيل:

قد قال قومٌ أن خبزك حامـضٌ

 

والبعض أثبت بالحلاوة حكمَهٌ

كذب الجميع بزعمهم في طعمهِ

 

من ذاقهُ يوماً ليعرف طعمـهُ

ومن حكمه المأثورة:

إني لقد جرَّبتُ أخلاقَ الـورى

 

حتى عرفتُ ما بدا وما اختفى

كل يذمُّ الناس فـالـذي نـجـا

 

من ذمّهِ يدخلُ في ذمَّ الـمـلا

ولا يحبُّ غير نفـسـه فـمـا

 

أحبَّهُ فهو إلى النفسِ انتـهـى

يعرف كلُّ حالَهُ في مـضـى

 

إلا الذي كان دنياً فـارتـقـى

وكل علمٍ يُدرك المـرءُ سـوى

 

عرفانِ قدرِ نفسهِ كما اقتضى

وكلُّ من لا خير منهُ يُرتـجـي

 

إن عاش أو مات على حدٍ سوا

ومما برز فيه قوله في الدين المسيحي:

نحنُ النصارى آل عيسى المتي

 

حسبَ التأَنُس فلبتـولةِ مـريمِ

وهو الإلهُ وابن الإلـهِ روحـهُ

 

فثلثةٌ في واحدٍ لم تُـقَـسـمِ

للأب لاهوتُ ابنهِ وكذا ابـنـه

 

وكذا هما والروح تحتَ تَقُنُّـمِ

كالشمس يظهرُ جرمُها بشُعاعها

 

وبحرّها والكلّ شمسٌ فاعلـمِ

والله يَشهدُ هكذا بالحـق فـي

 

سفر لتوراةِ الكليمِ مُـسـلَّـمِ

عن آدمٍ قد قالا (وصار كواحـدٍ

 

منا) بلفظ الجمع من ذاك الفمِ

خلقَ البسيطةَ واحداً في جوهرٍ

 

أحدٍ لخدمة آدمَ المسـتـخـدَمِ

لكن عصاه بزلَّةٍ لا تنمـحـي

 

إلا بإرسال ابنهِ المتـجـسـمِ

فأتي وخلَّصهُ وخلَّصَ نسـلَـه

 

ذاك المخلصُ من عذابِ جهنْمِ

ومنها في وصف أعمال السيد المسيح وآياته:

شهدَت عجائُبُه لهُ فـي عـصـرهِ

 

فدرَى الحكيمُ وتاهَ من لم يفـهـمِ

ولـنـا عـلـيهِ أدلَّةُ قـطـعَّـيةٌ

 

عقلاً ونقلاً ليس قطعَ تـحـكُّـمِ

قد جـاءَ لا سـيفٌ ولا رمـحٌ ولا

 

فرَس ولا شيءٌ يُبـاعُ بـدرهـمِ

يأوي المغارة مثل راعي الضأنِ لا

 

راعي الممالكِ في السريرِ الأعظمِ

وهو ابنُ يوسف لا ابنُ قيصر عندهم

 

يغزو بجيشٍ في البلادِ عـرمـرَمِ

فأتاهُ من شعبِ اليهـود جـمـاعةٌ

 

كانوا على الدين التـلـيد الأقـدمِ

وتباعدوا من قـومـهـم بـمـذلةٍ

 

يأبـون كـلَّ كـرامةٍ وتـنـعُّـمِ

قالوا هو ابن اللهِ جهـراً والـعـدى

 

من حولهم مثلُ الـذئاب الـحُـوَّمِ

والنـاسُ بـين عـواذِل وعـواذرٍ

 

لهمُ وبين مُـحـلـلٍ ومُـحِـرّمِ

ما غرَّكـمْ يا قـومُ فـيه أسَـيُفـهُ

 

أم جاههُ أم مالـهُ فـي الأنـعُـمِ

هو ساحرٌ يُطغي فقالوا لـم نـجـدْ

 

من ساحرٍ يُحيي الرميم بطَلَـسـمِ

كانت رجالُ اللـهِ تُـحـيي مـيتـاً

 

بصلاتها ودعائهـا الـمـتـقـدّمِ

وتراهُ يُحيي المـثـنـين بـأمـرهِ

 

فهو الإلهُ ومن تـشـكَّـك ينـدمِ

ولئن هُم انخدعوا لغَفلتـهـم فـقـد

 

ضعُفت عقولهُم كمن لـم يحـلـمِ

فترى بما خدعوا البلاد ومن بها

 

من عالمٍ يُفتي ومن مُتعـلّـمِ

فإذا اعتبرنا ما ذكرتُ بدا لنـا

 

بالحقّ وجهُ الحقّ غير مُلثّـمِ

وأصيب الشيخ ناصيف في السنتين الأخيرتين من عمره بفالج نصفي تحمل مضضه بالصبر ثم دهمته سكتة دماغية فتوفي فجأة في 8 شباط سنة 1871 رحمه الله. ومما طبع له من التآليف في أوربة رسالته إلى المستشرق دي ساسي نقلها إلى اللاتينية الأستاذ مهرن (Mehren) وعلق عليها الحواشي وطبعها في ليبسيك. وقد وجدنا في مكتبة برلين الملكية رسالة مطولة في أحوال لبنان وسكانه وأمرائه وأديان أهله لا نشك أنها له وإن يذكر فيها اسمه. وهذه الرسالة نقلها إلى الألمانية العلامة فليشر (Fleischer) ونشرها في المجلة الآسيوية الألمانية (ZDMG. VI 98 388) ثم نشرتها أيضاً مجلة الهلال في سنتها الثالثة عشرة (ص513 و566) ونسبتها إلى اندراوس صوصه.

قيل إن من أشبه أباه ما ظلم. وقد صدق المثل تماماً في أولاد الشيخ ناصيف اليازجي فإنهم تعقبوا كلهم آثار والدهم. وكان أكبرهم الشيخ حبيب ولد في 15 شباط سنة 1833 ولما ترعرع وجد أباه كهلاً تام القوة كامل العقل مولعاً بالآداب فدرس عليه كل الفنون العربية. ثم إلى اللغات الأجنبية فأتقن الفرنسوية حتى برع فيها وتعلم غيرها كالإيطالية واليونانية والتركية. وكان يتردد على المرسلين اليسوعيين في بيروت ويستفيد منهم. وتجد اسمه في قائمة الأدباء المنتظمين في الجمعية المشرقية التي أنشئوها سنة 1850 واكتشف بعض آثار جناب مكاتبنا يوسف أفندي الياس سركيس (المشرق 15 (1912): 32) ثم تفرع الكتابة وعرّب بعض التآليف الأجنبية منها قصة عادليدة برنزويك. ومنها أيضاً قصة تليماك التي ألفها فنيلون فأجاد في تعريبها إلا أنها لم تطبع وقد طبعت في مصر ترجمة أخرى دونها حسناً. ومن تأليفه أيضاً كتاب اللامعة في شرح الجامعة فسر فيه الأرجوزة التي ألفها والده في علم العروض والقوافي وكان اسمها الجامعة ود طبع الكتاب سنة 1896 في المطبعة الوطنية. وكان الشيخ حبيب عاقلاً لبيباً رياضياً وقد اشتغل بالتجارة في آخر عمره وكان في شبابه يحب الشعر وله بعض منظومات منها رثاؤه للطيب الذكر البطريرك مكسيموس مظلوم بقصيدة أولها:

يسرُّ المرءَ إقبالُ الليالي

 

وينسى أنّ ذلك للزوالِ

ومنها:

دع الدنيا الغَرورَ وكُنْ مـجـدّاً

 

كحبر الشرق في طلب الكمالِ

هو المظلومُ حين رمى بـتـاجٍ

 

لهُ واعتاض أكفانـاً بَـوالـي

لقد ضُربت بهِ الأمثـالُ لـمَّـا

 

غدا الـرُّعـاة بـلا مـثـالٍ

إلى أن قال:

وفي الإسـكـنـدرَّية دُكَّ طـودٌ

 

فلم تنفكَّ فـاقـدةَ الـجـبـالِ

ثوى في تربـهـا بـدرٌ مـنـيرٌ

 

فقد حسدتهُ أفدتـهُ الـرجـالِ

رئيسٌ كان فـي دنـياهُ بـحـراً

 

فكانت تُجتَنى منـهُ الـلآلـي

لقد أرض الإلـهَ بـكـل أمـرٍ

 

وأرضى الناس في حُسن الفعالِ

فعاش كما نـؤرخـهُ سـعـيداً

 

وفي الدار قد بلغ المـعـالـي

وكانت وفاة الشيخ حبيب كهلاً قبل والده ببضعة أسابيع في سلخ السنة 1870. وكما عاجلت المنون بكر الشيخ ناصيف كذلك قطفت ابنه الشيخ خليل غصناً زاهياً في تمام شبابه وعز قوته. ولد هذا في السنة 1856 وأخذ الآداب العربية عن أبيه وآله فرضعها مع الحليب ولما نشأ دخل الكلية الأميركانية ودرس فيها العلوم. وفي 1881 رحل إلى مصر وزار بعض أعيانها وأنشأ مجلو مرآة الشرق إلا أن الثورة العرابية ألجأته إلى الرجوع إلى وطنه فعلم مدة اللغة العربية في المدرستين البطريركية والأميريكانية حتى أصيب بصدره فكف عن التعليم ولم يزل يطلب علاجاً لوجعه حتى غلبه الداء فمات في الحدث في 23 ك1 سنة 1889 ودفن في بيروت. وكان الشيخ خليل متوقد الذهن ذا قلم سيال وقد غلب عليه الشعر. ومن خدمه للآداب طبعته لكتاب كليلة ودمنة مضبوطاً بالشكل مع شرح الغريب من ألفاظه. وهذه الطبعة كما الطبعات الشرقية كلها في الشام ومصر والهند مبنية على طبعة العلامة دي ساسي لا تخالفها إلا في بعض العرضيات بخلاف النسخة التي وقفنا عليها فنشرناها في مطبعتنا سنة 1905 ثم كررنا طبعها سنة 1923 وهي أقدم نسخة مؤرخة لهذا الكتاب تخالف الطبعات السابقة مع موافقتها لترجمة ابن المقفع الأصلية ثم بينا عليها طبعة مدرسية سنة 1922. ومن آثار الشيخ خليل النثرية كتاب في إنشاء الرسائل وكتاب في الصحيح بين العامي والفصيح وكلاهما لم يزل مخطوطاً غير تام.

أما خلفة الشيخ خليل اليازجي الشعرية فهي أولاً روايته (المروءة والوفاء) نظم فيها وفاء حنظلة الطائي بوعده بعد قدومه على النعمان يوم بؤسه وضمان شريك له في غيبته ليصلح أمور بيته ويرجع إلى القتل ثم تنصر النعمان لنظره مروءة حنظلة. وهو حادث تاريخي معروف بنى عليه الشيخ خليل روايته لكنه طمس محاسنها بما أودعها من الأدوار العشقية المملة التي تنسي سامعها الواقع التاريخي الأصلي فيضيع الجوهر بزخرف الأعراض الباطلة.

ومن خلفته أيضاً مجموع منظوماته الذي عنونه بنسمات الأوراق فطبعه بالقاهرة سنة 1888 في 162 صفحة نروي منها بعض القطع تبياناً لفضله وجودة قريحته. فمن مديحه قوله في عبد الله فكري باشا ناظر المعارف في مصر:

الجاهُ عندك نال أكملَ جـاهِ

 

فهناكَ نورٌ فوق نـورٍ زاهِ

والفخرُ منك كُسي بأَبهى حلَّة

 

وعليك منهُ كلُّ ثوب بـاهِ

نالت مسامعُنا من اسمكَ لذَّةً

 

فغدت محسَّدة من الأفـواهِ

حتى قال وتجاوز الحد في الغلو:

ولئن يكُ فيك الثنا متـنـاهـياً

 

فاعذُر ففضلك ليس بالمتناهي

نُزَهتَ عن شبهٍ فتبغي شاعـراً

 

متنزًهاً في الشعر عن أشبـاهِ

ولأنت ذاك ومن لنـا بـبـدائع

 

لك آمراتِ للقـريضِ نـواهِ

فلقد أتاني الشعر يتني علـفَـهُ

 

ويقول ويقول إني عبدُ عبدِ اللهِ

ومن تهانئه قوله يهنئ المطران ملاتيوس فكاك بأسقفية بيروت:

حبَّـذا مـا بـهِ الـدهـرُ جـادا

 

من سرورٍ به فككنـا الـحِـدادا

حبذا ما أَنـالـنـا مـن صـلاحٍ

 

مُخجلاً مَن نمى إليهِ الـفـسـادا

فقد حبانـا بـسـيّد لـيس يدعـو

 

نا عـبـيداً وإنــمـــا أولادا

سيدُ شاد في المعالـي صـروحـاً

 

قام فيهـنَّ راقـياً حـيث سـادا

ربُّ حزمٍ فكَّاكُ مُعْـضـلةٍ مـن

 

كلّ أمـرٍ تـدبُّـراً وسَـــدادا

خيرُ راعٍ يرعى الرعيّة لا تخشى م

 

لديهِ حُـمـلانُـهـا الآســادا

يملأ العين بهجةً حينـمـا يبـدو م

 

ويمـلا آذانـنــا إرشـــادا

وختمها بقوله:

أيها السيِّد الكريم الذي لـيس م

 

يفيهِ الثناءُ مهمـا تـمـادى

إن مدحناك نالنا المدحُ أيضـاً

 

كالصدى راجعاً إلى من نادى

بك يسمو فخارنـا فـإذاً ازدد

 

تَ فخاراً ففخرنـا قـد زادا

فإذا كان في الثناء قـصـورٌ

 

فعلينا قصورُنـا قـد عـادا

وله من قصيدة في أحد قناصل فرنسة لما زار المدرسة البطريركية:

هذا رسولُ الدولة العظمى التـي

 

هي دوحُ مجدٍ وهو من أغصانهِ

دوحُ سقاهُ الفضلُ أعـذبَ مـائهِ

 

فجرت مياه العزّ في عـيدانـهِ

طابت مغارسهُ فأَثمرت المـنـى

 

وشذا المعارفِ فاح من بستانـهِ

أهلاً بزائرنـا الـكـريم فـأنَّـه

 

أهلٌ لِيُنزلهُ الفتى بـجـنـانـهِ

لا يُدْعَ ضيفاً في حـمـانـا أنـهُ

 

في بيتهِ منه وفـي أوطـانـهِ

ومن أوصافه قوله في القاهرة يذكر لبنان وطيب هوائه:

قِفْ فوق رابيةٍ من طور لبنـانِ

 

وقلْ سلامٌ على أرضٍ وسكَّانِ

أرضٌ إذا ما سقاها الغيثُ كاد بها

 

أن يستحيل إلى درٍّ ومرجـانِ

يا أهل لبنانَ ما لبنانـكـم جـبـلٌ

 

لكنَّهُ قمةُ العـلـياء والـشـانِ

فيهِ العشائر أصحاب المفاخـر أر

 

بابُ المآثر من مجدٍ وعـرفـانِ

إمارةٌ قد سمت فـيه ومـشـيخةٌ

 

نشت أصولهما من عهد أزمـانِ

ملجأ الوبـاء الـحَـرّ يقـصـدهُ

 

مصاب هذين من قاص ومن دانِ

وملجأُ المبتلي من كل ذي سـقَـمٍ

 

بطيبِ مـاءٍ وأهـواء وجـيرانِ

وقال في الختام:

هذا هو الوطن المحبوب أذكرهُ

 

وما أنا بمراعٍ حُبَّ أوطـانِ

وقال مؤرخاً ميلاد أبنه حبيب سنة 1884:

نجلٌ بهِ جاد المهيمن حيث قـد

 

حَيِيَتْ وطابت أنفسٌ وقلـوبُ

لمَّا بتاريخٍ حبـيبَ سـمَـيُتـهُ

 

قلت الحبيبُ إلى الخليلِ حبيبُ

ثم توفي الطفل في السنة التالية فقال:

وضيفٍ زارنا ومضى قريباً

 

وما كادت تُعَدُّ لهُ شهـورُ

تركتَ مؤرّخاً بالويل حزني

 

كبيراً أيها الطفلُ الصغيرُ

وبقي من بعد الشيخ خليل شقيقه الشيخ إبراهيم رافعاً أعلام اللغة والأدب مواصلاً لأعمال أسرته الكريمة بين العرب مزيناً للصحائف بمقالاته في صنوف المعارف. ولد الشيخ إبراهيم في بيروت في 2 آذار من السنة 1847 فأستروح روح الآداب منذ حداثة سنة بقرب والده عمدة البلغاء في وقته فاستقى من منهله وخاض في ميدانه وجعل يمارس الكتابة حتى برع في النثر والنظم. واستأنف حينئذ أدباء بيروت الجمعية العلمية السورية فأنتظم في سلكها وألقي فيها الخطب وأنشد القصائد ثم حرر مدة جريدة النجاح. ولما عمد الآباء اليسوعيون إلى تعريب الأسفار المقدسة عن أصلها العبراني واليوناني رأوا أن أمانة التعريب لا تفي بالمرام إن لم يغط المعرب حقه من الفصاحة والبلاغة بتنقيح العبارة وسبك الكلام وكان إذ ذاك صيت الشيخ إبراهيم نال بعض الشهرة فدعوا به إلى مدرستهم في غرير سنة 1872 وباشروا معه في العمل. فكان الأب أوغسطين روده الذي درس العربية في الجزائر وعلم العلوم الكتابية في فرنسا ينقل الكتب المقدسة فصلاً فصلا وآيةً آيةً بعد مراجعة تفاسير الآباء والمعلّمين والترجمات الشرقيَّة العديدة منها ثلاث ترجمات عربيَّة. فإذا أتم عمله نظر فيه الشيخ نظراً مدققاً فعرض على العرب ملحوظاته ثم تفاوض كلاهما إلى أن يتفقا على رأي واحد فيدونانه بالكتابة ثم يعرضان شغلهما على أربعة أساتذة من الآباء المتضلعين بالعلوم الدينية ومعرفة اللغات الشرقية فلا يطبع شيء إلا بعد مصادقتهم على كمال الترجمة.

وأشتغل الشيخ إبراهيم في تنقيح التوراة العربية نحو تسع سنوات في غرير وبيروت. وقد علم سنين طويلة في المدرسة البطريركية فتخرج عليه كثيرون من أحداثها أشتهر بعضهم بالتآليف. وفي السنة 1884 أتفق على الدكتورين بشارة زلزل وخليل سعادة على نشر مجلة الطبيب فكان الشيخ إبراهيم يحرر فصولها اللغوية والأدبية. ثم أنفرط عقد وصلتهم بعد سنة وأنتقل الشيخ إبراهيم إلى مصر حيث أبرز أولاً مجلة البيان في آذار من السنة 1797 ثم أبدلها بمجلة الضياء التي أنشأها ثماني سنوات إلى تاريخ وفاته في 28 كانون الأول من السنة 1906. فقدت به الآداب العربية أحد أنصارها المعدودين. وقد حضرنا بالسرور في شهور تموز من العام الماضي سنة 1924 حفلة نصب تمثاله في أحد شوارع بيروت فنال ما يستحقه من الإكرام بل أكرمت بشخصه أسرته الفاضلة: وليس من حاجة هنا أن نعرف صفات الرجل مع قرب عهده بيننا ومما أشتهر به حسن ذوقه في الكتابة وانسجام كلامه فيظهر لقرائه كأنه المرآة الصقلية أو الماء الزلال فكان لا يزال يردد النظر في ما كتب وينقحه مراراً حتى يخرجه كالبرد القشيب والخميلة الناعمة. وكان عارفاً باللغة معرفة واسعة كما تدل عليه بعض مؤلفاته أخصها (نجعة الرائد في المترادف والمتوارد) في جزأين على طريقة كتاب الألفاظ الكتابية لعبد الرحمان الهمذاني. ومنها اختصاره أو شرحه لبعض تآليف والده كمختصر نار القرى ومختصر الجمانة وشرح ديوان المتنبي المسمى بالعرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب وكذلك تصحيحه وتهذيبه لعبارة بعض كتب الأدباء كتاريخ بابل وأشور للمرحوم جميل مدور ونفح الأزهار في منتخبات الأشعار لجامعة المرحوم البتلوني ودليل الهائم في صناعة الناثر والنظم له. وكانت مطبعتنا وكانت إلى الشيخ إبراهيم وضع معجم للغة العربية فأشتغل فيها زمناً طويلاً ثم أهمله فانتدبت حينئذ الشيخ اللغوي سعيد الشرتوني إلى وضع كتابه أقرب الموارد بدلاً منه ثم عاد الشيخ إبراهيم إلى عمله مراراً وأتم منه قسماً لكنه مات ولم يمثله للطبع. وكان الشيخ كما هو معروف قليل الصحة بطيء الشغل ومجلة الضياء تستنفد همته فلا تسمح له بمعاناة سواه.

ومن آثاره اللغوية عدة مقالات مطولة وانتقادات لسانية كالأمالي اللغوية ولغة الجرائد وأغلاط العرب المولدين واللغة والعصر ونقد لسان العرب وغير ذلك مما أصاب في بعضه وأخطأ في البعض الآخر فتصدى له كثيرون من المكتبة فقامت بينه وبينهم الجدالات الطويلة وكان الشيخ (كثير الأباء ظاهر الأنفة إلى حد الترفع) كما قال في ترجمته صاحب الهلال (15: 267) فأذى به طبعه إلى كتابة فصول ما كنا لننتظرها من مثله أطلق فيها العنان لأهوائه وأنتهك في بعضها حقوق الدين وأربابه سامحه الله.

وللشيخ أيضاً قصائد متفرقة ومنظومات رشيقة لم تجمع حتى اليوم. روى بعضها جناب الأديب عيسى أفندي إسكندر معلوف في ترجمة حياته التي نشرها في المقتطف. ومن اقدم ما وجدنا له من القصائد ما أنشده في الجمعية السورية في أوائل سنة 1868 وهي منظومة حماسية ذكر فيها العرب فقال في أولها:

سلامُ أيها العَـرَبُ الـكـرامُ

 

وجادَ ربوعَ قطركُم الغمـامُ

لقد ذكر الزمان لكم عهـوداً

 

مضت قِدَماً فلم يَضع الغمامُ

ثم قال في وصف مجالس العلم:

مجالسُ العلوم غـدت مـنـاراً

 

به ليغلب الجهـل انـصـرامُ

جلاهـا كـلُّ أبـلـج أريَحـيٍ

 

تقرُّ له الـبـلاغةُ والـكـلامُ

تُجرَّدُ من أياديهِ الـمـواضـي

 

وتُرسَلُ من لواحظهِ السـهـامُ

رجالٌ في انتشار الفضل جـدُّوا

 

وفي حب العلوم صَبوا وعاموا

تلاعبت الحمَّيةُ فـي نُـهـاهـم

 

كما لَعِبت بشاربهـا الـمـدامُ

تهـزُّ الأريحَّــيةُ كـــلَّ يومٍ

 

معاطفهم كما أهتزَّ الحـسـامُ

هُمُ الشُهبُ والمطيرةُ فوق أرضٍ

 

يلوح لنَوْئِهم فـيهـا غـمـامُ

غمامٌ قـد تـخـلَّـلـهُ بـروقٌ

 

يصافحها الرجاءُ متى تُـشـامُ

جهابذةٌ يقوم الـفـردُ مـنـهـم

 

بما أعيا بهِ جـيش الـلـهـامُ

ومن أبياته الحماسية فيها قوله عن العرب:

وما العَربَ الكرام سوى نصالٍ

 

لها في أجفُن العُليا مقـامُ...

لَعمرك نحن مصدرُ كل فضلٍ

 

وعن آثـارنـا أخـذ الأنـامُ

ونحن أولو المآثر مـن قـديمٍ

 

وأن جحدَتْ مآثرَنا اللـثـامُ

فقد علمَ العراق لنـا قـديمـاً

 

أياديَ ليس تنكرها الـشـآمُ

وفي أرض الحجاز لنا فيوضٌ

 

يسيل لها إلى اليمين انسجـامُ

وفوق الأندَلوس لنـا بـنـودٌ

 

لهامات النجوم بها إعـتـامُ

وسلْ في الغرب عن آثار فخرٍ

 

لها في جبهة الزَمَن إرتسامُ

ولسنا القانعين بـذكـر هـذا

 

وليس لنا بعروتِه اعتـصـامُ

ولكنَّا سنجهَدُ في المـعـالـي

 

إلى أن يستقيمَ لـهـا قـوامُ

ومن محاسن نظمه ما كتبه في المجموع الذي خص بمدح كريستوف كولمب في السنة المئوية لتذكار موته:

أبقى خِرِيستوفُ الشهير لنفسهِ

 

ذكراً على الأيام ليس يبـيدُ

رجلٌ لقد فتح البلاد بصـرهِ

 

ولهُ من الهَمم الجسام جنودُ

قد زاد هذي الأرضَ أرضاً مثلَها

 

ليدَيهِ ألقي كنزُها المـرصـودُ

برزت إليهِ من الغيوب كأنَّـهـا

 

خَلْقٌ سوى الخَلْق القديم جـديدُ

فكـأَنـهُ إذا حـلَّ فـيهــا آدمٌ

 

وكأنَّها فردوسهُ المـعـهـودُ

وقال يشكو تقلب الأيام من قصيدة:

كأني بالبلاد تنـوحُ حـزنـاً

 

وقد أودى بعظمتها الثبـورُ

يحنُّ الأرزُ في لبنانَ شجـواً

 

وتندبُ بعد ذاك العِزّ صُورُ

وتدمرُ في دَماٍر مستـمِـرّ

 

وما سكَّانها إلا النـسـورُ

وأضحت بعلبكُّ وليس فيهـا

 

سوى خُرَبٍ لعضمتها تشيرُ

فلو درتِ البلاد بما عراهـا

 

لكادت من تلهفها تـمـورُ

ومن لطيف قولهِ في مدح سمو الخديوي عباس:

همامٌ توَّلى الأمر وهو على شفا

 

فشَّيد من أركانهِ ما تضعضعا

تقلَّد أعبـاءَ الـرئاسةِ أمـرداً

 

وقد عرفَتْهُ قبل ذلك مرضعاً

فكانت له أمّاً وكـان لـه أبـاً

 

غذته ورباها وقد نشأا مـعـا

وله تاريخ في الطبيب يوسف الجلخ المتوفى سنة 1869:

هذا الطبيب الذي من بعد مصرعِه

 

أبلى القلوبَ بأسقامٍ وتـعـذيبِ

أجرى عيون بني الجلخ الكرامِ لهُ

 

بكل دمعٍ من الأجفان مصبـوبِ

فقِفْ على تربهِ وأهتف بمـرحة

 

عليهِ تهبطُ من تلك المحـاريبِ

وقل ليوسف أرّخْ طيًّ مضجعـهِ

 

أبَّدتَ في كل قلبٍ حزنَ يعقوبٍ

ويعجبنا قوله في ساعة دقاقة:

ومُحْصيةٍ أعمارَنا كلَّما انقـضـت

 

لنا ساعة دقَّت لها جرسَ الحـزنِ

فيا بنت هذا الدهِر سرتِ مـسـيرهُ

 

فهل أنت دون الناس منهُ على أمنِ

ومثله حسناً قوله في عود طربٍ:

وعودٍ صفا الندمانُ قدماً بظّـلـهِ

 

وما برحت تصفو لديهِ المجالسُ

تعشَّقَهُ طيرُ الأراكةِ أخـضـراً

 

وحنّض عليهِ ريشهُ وهو يابسُ

ورأى قدرة بعلبك فذكر قدرة الرحمان بقوله:

يا بعلبكَّ غريبة الأزمـانِ

 

والعهد والصنَّاع والبنيانِ

لم تُبِلكِ الأَّيام في حدثانهـا

 

إَّلا لتُظهر قدرة الرحمانِ

ويا ليت قلمه لم يرقم غير هذه المعاني البليغة ويسودنا ذكر قصائد وكراريس ظهرت غفلاً من اسم مؤلفها ثم صرحت الجرائد بأنه من إنشائه كقصيدته السينية التي نشرها سليم أفندي سركيس في كتابه سر مملكة. وقد تطرف الشيخ حتى قال فيها عن أرباب الأديان:

ما هم رجالُ الله فـيكـم

 

بل همُ القوم الأبـالـسْ

يمشون بين ظهـورهـم

 

تحت الطيالس والقلانسْ

ومثلها شقيقتها البائية التي مطلعها:

تنبهوا واستـفـيقـوا أيَّهـا الـعـربُ

 

فقد طمى الخطبُ حتى غاصتِ الرُّكبُ

وفي هذه القصائد والمنشورات مطاعن في الدين وتهييج الخواطر على السلطة الشرعية ما كان الشيخ في غنى عنه صوناً لعرضه ولشرف أسمه.

وممن فاتنا ذكره في القسم الأول من هذا الكتاب ولا يسعنا السكوت عنه وهو أحد نجوم تلك الثريا اليازجية المنيرة الشيخ راجي أخو الشيخ ناصيف وجدنا شيئاً من آثاره في حاشية ذيل بها جانب الكتاب الأديب عيسى أفندي اسكندر المعلوف تاريخه المعنون (دواني القطوف في تاريخ بني المعلوف (199)) فذكر أن الشيخ راجي (1803 - 1857) ديواناً مخطوطا وان شعره يشهد له بالبلاغة وقد أطلعنا له في مجموع مراثي السيد مكسيموس مظلوم على قصيدة في ذلك الفقيد الجليل أولها:

معدن البرّ محمد الطهر مكسـيم

 

وسُ ربُ الحجى حميدُ الخصالِ.

من سرى في طريق مولاهُ حتـى

 

سبق السابقـين بـالإفـضـالِ

ونحا صارفاً إلى الـلـه فـعـلاً

 

بالتقي لا بالقـلـب والإعـلالِ

كم محلٍّ سـامٍ أشـاد وكـم مـن

 

منزلٍ قد بنى من مجـد عـالِ

فجعتنـا بـهِ صـروف زمـانٍ

 

جائراً لا يزالُ في كـلّ حـالِ

ورمتنا النـبـالُ مـنـهُ إلـى أن

 

لم يَعُدْ موضعٌ لوقع الـنـبـالِ

توفي الشيخ راجي سنة 1856 يؤخذ من تاريخ قاله فيه حنا بك أسعد أبي الصعب:

مذ سار راجي اليازجيُّ إلى السما

 

وغدا إلى المولى العليّ مناجـياً

قد جاء في ذاك المؤرخ راقمـاً

 

قد زار فضلك يا إلهي راجـياً

وللشيخ راجي يدعى بالشيخ ملحم كان يتعاطى الآداب كأبيه وكان سابقاً نزيل زحلة ولا نعلم شيئاً من أخباره حاضراً. وقد وقع لنا من شعره مرثاة نظمها سنة 1869 في وفاة الدكتور يوسف الجلخ مطلعها:

كؤوس البين دارت في الأنامِ

 

من الشيخ إلـى الـعـلام

إلى أن قال:

طبيبٌ كان يشفـي كـلّ داءٍ

 

إذا استولت تباريحُ السقـام

دعاه اليوم ما لا منهُ شـافٍ

 

ولا منهُ سليمُ فـي الأنـامِ

وأعقب فيهِ آل الجلخ سكـراً

 

بكأس الحزن لا كأس المدامِ

وختمها بقوله:

تركتَ العالم الغرّار طوعاً

 

وبتَ مجاوراً دار السـلامِ

لئن تكُ قد رحلتَ اليوم عنا

 

فذكرك لا يزال إلى الدوامِ

ونختم هذا الفصل بذكر آخر فرع من الدوحة اليازجية من أولاد الشيخ ناصيف وهي السيدة وردة وأبنته التي عمرت زمناً طويلاً ولم ينطفي سراج إلا منذ زمن قليل فنؤجل عنها الكلام ونذكر أن شاء الله في تاريخ الآداب العربية في الربع الأول من القرن العشرين.

ولا يزال في قيد الحياة محيياً لأسم الأسرة اليازجَّية الخوري الفاضل الشيخ حبيب اليازجي وله كسائر قرابته أنار أدبية طيبة أمد الله في عمره.

آل المراش

كما برز اليازجيون الملكيون في لبنان وبيروت بأنصبابهم على العربية في القسم الثاني من القرن التاسع عشر كذلك كان آل مراش الملكيون يتقدمون في الحلب أهل نحلتهم في رفع منار تلك اللغة. وبنوا المراش عرفوا في حلب منذ القرن الثامن عشر ومنهم كان بطرس المراش الذي قتل في سبيل دينه سنة 1818 في حلب بإغراء جراسيموس أسقف الروم الأرثوذكس مع عشرة آخرين من الكاثوليك (أطلب قصيدة المعلم نقولا الترك في رثاثه المشرق 10 (1907): 664) وعرف بعد قليل فتح الله المراش وكأنه له الماء بالعلوم اللغوية والأدبيات أبقي منها آثاراً مخطوطة ثم أراد أن يخوض ميداناً لم يكن من فرسانه فعثر جواده وكبا زنده. وذلك انه ألف سنة 1849 كتاباً في أنبشاق الروح القدس فزعم انه من الأب وحده على خلاف معتقد على الآباء والكنيسة الرومانية فدحض أقواله الطيب الذكر السيد البطريرك بولس مسعد باثبت الحجج في كتاب طبع في رومية سنة 1856 فلما أطلع عليه فتح الله المراش أرعوى عن غيه وأذعن المحق الواضح.

وخلفه أبنه فرنسيس فنال شهرة طيبة بذكائه وما عرفه وخلفته الأدبية. ولد في 29 حزيران سنة 1836 ثم تلقن العلوم اللسانية وآداب الشعر وأنكب على دراسة الطب أربع سنوات تحت نظارة طبيب إنكليزي كان في الشهباء وأراد أن يتم دروسه في عاصمة الفرنسيس فسافر إليها في خريف سنة 1866 وقد وصف سفره إليها في كتاب رحلة باريس الذي طبعه في بيروت سنة 1867. ولم يسعده الدهر في غربته فكر راجعاً إلى وطنه وتفرغ للتصنيف لا يكترث لما أصابه من ضعف البصر وانحطاط القوى حتى أفل نجم حياته فمات في مقتبل الكهولة سنة 1873. وكان فرنسيس صادق الإيمان كثير التدين وقد ألف كتاباً بناه على مبادئ العلوم الطبيعية والعقلية بياناً لوجود الخالق وإثباتاً لحقيقة الوحي سماه (شهادة الطبيعة في وجود الله والشريعة) أعرب فيه عن دقة نظر ومعرفة بأحوال الطبيعة والعلوم العصرية. ومن مصنفاته التي تجمع بين الفلسفة والآداب فأودعها الآراء السياسية والاجتماعية على صورة مبتكرة كتاب (غابة الحق) الذي في حلب سنة 1865 ثم كرر طبعه في بيروت ومصر ومثله كتاب (مشهد الأحوال) المطبوع في بيروت سنة 1883 على أسلوب لطيف ونسق حديث. وفي بيروت طبعت له رواية حسنة دعاها (در الصدف في غرائب الصدف) ومما طبعه قبلها في حلب (1861) كتاب (المرآة الصفية في المبادئ الطبيعة) لخص فيه علم الطبيعة. ثم (خطبة في تعزية الكروب وراحة المتعوب) (1864) وكتاب (الكنوز الغنية في الرموز الميمونة) (1870) وهي قصيدة رائية في نحو خمسمائة بيت ضمنها رموزاً خفية على صورة رواية شعرية. ومن نظمه أيضاً (ديوان مرآة الحسناء) طبعه له محمد وهبه سنة 1872 في مطبعة المعارف في بيروت.

وكان فرنسيس المراش يحب في كلامه الترفع عن الأساليب المبتذلة فيطلب في زثره ونظمه المعاني المبتكرة والتصورات الفلسفية فلا يبالي بانسجام الكلام وسلالته فتجد لذلك في أقواله شيئاً من التعقد والخشونة مع الأعضاء من قواعد اللغة فمن شعره قوله في الحماسة:

فيقوا (كذا) من الغفلاَت يا أهل الوطنُ

 

أن العدو دنا وها نَـقْـعُ الـفـتـنَ

حتَّـى مَ أنـتـم يا بُـزاةُ روابـضٌ

 

هبُّوا فقد حام الغرابُ عن الـدِمَـنْ

هجَمَ العدوُّ وها الـغـبـارُ وأنـتـمُ

 

من ذا الغبار ستنسجون لهُ كَـفـنْ

لا تخجلُ الغربانُ من سـعة الـفـلا

 

يوماً إذا نهضَ العُقابُ من الـوكَـنْ

ناداكُم الوطن الـذي قـد ضـمَّـكُـمْ

 

في حضنِه وساقكمُ لبـن الـمِـنَـنْ

كرُّوا إلـى الأعـداء كـرَّ الأسـد يا

 

أسدَ الوفاءِ فهم ثعالبةُ الـخَـمَـونْ

فأصغوا لصوتِ أبٍ لكم يرجو الحمى

 

منكم فهيّأ طاردوا عنهُ الـمِـحَـنْ

أو ما ترون الدمع منـهُ لأجـلـكـم

 

يهمي فقوموا نشَفوا دمع الـوطـنْ

لا يَحسن الموت الزؤام لـدى امـرئٍ

 

لكن فِدى الأوطانِ موتكـمُ حـسـنْ

وله في الزهريات:

هو ذا الصبـاحُ بـدا وبـالأنـوارِ

 

طُبعت وجوهُ الكونِ من الإبصارِ

والشمسُ قد نشرتْ بيارقها علـى

 

قمم الجبال أمام جـيشِ نـهـارِ

وعلى عَمُود الصُّبح قد شاد الضّحى

 

بُرْجَ النهار مسلَّحـاً بـالـنـارِ

والشرقُ أوتَرَ قوس نورٍ وانثـنـى

 

يرمي على الدنيا سهـامَ شـرارٍ

والليل مزَّق ثوبهُ حزنـاً عـلـى

 

فقد النجوم وغار فـي الأغـوارِ

ما زال مَدُّ النور يرفع في العُـلا

 

جَزْر الظلامِ كعاصفٍ لغـبـارِ

حتى امتلأ جوف انقضاء من الضيا

 

وزهت بذلك كـافَّةُ الأقـطـارِ

فترَّنمَ القُمْريُ فـوق غـصـونـهِ

 

طرباً وفاحت نسمةُ الأسـحـارِ

والنسرُ هبَّ إلى الـعـلا كـأنـه

 

يبغي المسير مع السحاب الجاري

وقال يشكو الدهر:

رمتْ قلبي نبالُ الدهر حتـى

 

رأيتُ دمي يسيلُ من العيونِ

فلو كان الزمان يُصاغُ جسماً

 

لكنت أذيقهُ كأس المـنـونِ

وقال في خواص الجسم:

الجسم معروفٌ بستّ خصائصٍ

 

فيهِ قعَنْهُ قطُّ ليس تـحـولُ

عدمُ التداخل وامتـدادٌ صـورةٌ

 

جذبٌ سكونٌ للتجزّي قبـولُ

ومن حكمة قوله:

صدّقونـي كـلُ الأنـامِ سـواءٌ

 

من ملوكٍ إلى رُعاةِ البـهـائمْ

كلُّ نفسٍ لهـا سـرورٌ وحـزنٌ

 

لا تني فـي ولائمِ أو مـآتِـمْ

كم أميرٍ في دستهِ باب يسـقـي

 

بالْهُ والسير في القيدِ نـاعـمْ

أصغر الخلق مثل أكبرها جـرْ

 

ماً لهـذا ولـذا مـزايا تُـلائمْ

والخلايا للنحل أعجبُ صنـعـاً

 

من قصور الملوك ذات الدعائِمْ

وكان فرنسيس الراش يراسل أهل الفضل في زمانه كالشيخ ناصيف اليازجي وغيره. وله مآثر عديدة وفصول إنشائية وأراجيز نشرها أرباب الجرائد في عهده كأصحاب الجوائب والمحلة والزهرة والجنان يطول هنا ذكرها. ومن جيد وصفه قوله في الحسود:

قال لـزيدٍ أنَّ عـمـراً فــاز إذ

 

ربحت تجارُتـهُ بـحـظٍّ كـيّسِ

فأزورَّ من غضبٍ وسكرَجَ (؟) عينهُ

 

وتنفَّس الصعـداء أيَّ تـنـفّـسِ

وغدا يقول مخرطماً ومبـرطـمـاً

 

ويلاهُ من تحسين حال المفـلـسِ

وكذاك لمَّا أخـبـروا عـمـراً أن

 

بكراً أغدا ذا رفعةٍ في المجلـسِ

أرغى وأزْبد خائراً كالمُـعـتـري

 

وانتاب سحنتَهُ ظلامُ الـحـنـدسِ

وأنحاز يصرخ قد كذبتم فاصرخـوا

 

أنَّ السعادة لا ترى في الْمَتـعـسِ

ورووا على بكـرٍ بـأنَّ صـديقـهُ

 

يحـيي بـعـزٍّ ذلٍ قـد كُـسـي

فأنسابَ كالأفعى وقال أعـوذُ مـن

 

عار غدا متبختراً في الأطـلـسِ

والكلّ يبدون المـسـرَّة كـلَّـمـا

 

سمعوا بنائبةٍ سرت فـي الأرؤسِ

تبّاً لبـغـيك أيهـا الإنـسـان مـا

 

إبليسُ ربُّ النحس منكَ بأنـحـسِ

ذي كـبـرياؤك يا لـهـا مـن آفةٍ

 

كالأفعوان سعت لقتـل الأنـفـسِ

وقد رثاه المرحوم بشاره الشدياق فقال يذكر تآليفه:

تركت يا مفـرداً شـأنـا يذكّـرنـا

 

شذاء كالمسك لما فاح في الـظـل

من مشهد قد جلا الأحوالَ بأن لـنـا

 

منهُ عجائب أفعـال بـلا خـلـلِ

ومن غرائب ما شهدت مـن صـدفٍ

 

أبهى من الدرّ أو أشهى من العسلِ

ورحا قبرت فيها قد حوت حـكـمـاً

 

صيغت من الدرّ من قولٍ ومن عمل

ولفرنسيس الفراش أخُ وأخت اشتهرا أيضاً بالآداب نؤجل ذكرهما فنروي أخبارهما في تاريخ القرن العشرين.

رزق الله حسون

وفي هذا الزمان أشتهر حلبي آخر لعب دوراً مذكوراً في نهضة الآداب العربية. نعني به رزق الله بن نعمة الله حسون. ولد هذا في حلب نحو السنة 1825 من أسرة كريمة أصلها من الأرمن ودرس العلوم في دير بزمار في لبنان. وبعد أن قضى مدة في وطنه متاجراً سافر إلى الأستانة فتوطنها برهة من الدهر وصار فيها ناظراً لجمرك الدخان ثم تجول في أوربا ودخل فرنسا وروسيا وحل مدة في لندن وكان في أسفاره يشتغل بالآداب العربية ويؤلف التآليف النثرية والشعرية. وكان خطه بديعاً وفي مكتبتنا الشرقية من قلمه عدة كتب تأخذ بالإبصار لجودة خطها وإتقانها كتبها على ورق جميل النقش كان انتسخها في أوقات الفراغ في خزائن كتب أوربا كصبح الأعشى القلقشندي وديوان الأخطل وديوان ذي الرمة والمتم لأبن درستويه ونقائض جرير والفرزدق والأناجيل المقدسة ترجمة الدبسي. وبعد حوادث سنة 1860 قدم إلى الشام في صحبة فؤاد باشا فكان يعرب مناشيره وأوامره. ثم عاد إلى إنكلترا وأشتغل بالتأليف في قرية ونزورث (Wandsworth) بقرب قصر الملكة فكتوريا ومما صنفه وقتئذ ثم طبع في المطبعة الأميركية في بيروت سنة 1869 و1870 كتابه (لشعر الشعر) أودعه نظم سفر أيوب ونشيد موسى في الخروج ونشيده في التثنية ثم سفر نشيد الأناشيد لسليمان وسفر الجامعة وختمه بمراثي ارميا. ودونك مثالاً من ترجمته وهو وصف أيوب للفرس:  

فهل تُعطي الجوادَ يخبُّ عزمـاً

 

وتكسو عُنْقهُ عَرْقاً بَـسـينـا

أتوثبه كـمـثـل جـرادةٍ نَـف

 

خُ منخرهِ مهيبُ السامعـينـا

ببطن الخَبْث بـحَّـاثٌ وَثُـوبُ

 

ببأسٍ يلتقي الحَرْب الزَّبـونـا

ويهزأ بالمخاوف ليس يخـشـى

 

عن الأسياف لم يُحجم جبـينـا

تصلُّ عـلـيه واقـعةً سـهـامٌ

 

وترهقهُ رماحُ الـدارعـينـا

ويطوي الأرضَ في وَثْبٍ ورجزٍ

 

ولم يُؤمن لصوت البوق حينـا

إذا ما البوقُ يُنُفْخَ قال هَهْ مِـنْ

 

بعيدٍ شُنَّتِ الهـيجـا شـؤونـا

وهذا المثال الآخر من نظمه لمراثي ارميا:

أنَّى خلا منهـا الأنـيسُ الـبـلـدةُ

 

ملأَى شعوبٍ بالجلاء تشَّـتـتـوا

صارت كأرملةٍ معظَّـمةُ الـمـلا

 

أم القُرى ضُربَت عليها الـجـزْيةُ

تبكي دماً والدمعُ فـوق خـدودهـا

 

فَقدت عزاءَ خليلـهـا ووَدُودِهـا

أصحابها غدروا بها طُـرًّا عـلـى

 

نمطِ العدى أضحوا شماتَ حسودِها

ومما طبع له في المطبعة الأمريكية (كتاب السير السيدية على ما أداه إلينا المبشرون اللذين كانوا شهداء الكلمة. رتبها بهذا النسق تتبعاً لأزمنة الوقائع والمعجزات من البشارة بمولد يوحنا إلى صعود الرب). وذلك على طريقة طاطيانوس الذي مزج بين الأناجيل الأربعة. وقد طبع في مطبعتنا كتاب من جنسه وهو المعروف (بالقلادة الدرية في الأربعة الأناجيل السنية) للأب يوحنا بلو اليسوعي.

ومن مآثر رزق الله حسون كتابان آخران طبعهما في لندن: الأول كتاب النفثات ضمنه أربعين مثلاً من أمثال أحد كتبة الروس يدعى ايفان أندريفتش كورلف (I. A. Curlov) فنقلها حسون إلى العربية ونظمها شعراً وألحقها ببعض مقاطيع شعرية من نظمه. والتعسف في كثير منها ظاهر وأغلاطها عديدة هذا منها مثال:  

دفع الجوعُ والدُّجى الذئبَ حـتـى

 

أن تداني إلى سُهول الـبـقـاعِ

طارقاً لحـظـيرةٍ نـاظـراً مـن

 

نُقْبِ صخر يلوحُ ضوءُ شُـعـاعِ

فرأى الغَنَم المساكـين والـسـك

 

ين في كفْ حاسـرٍ مـن ذراعِ

يذَبحُ الحمَلَ الـسـمـين ويُلـقـي

 

للعَرَى الكِرْشَ والمعَى في الفقاعِ

والـكـلابُ روابـضٌ ونـــيامٌ

 

لا تذبٌّ ولا بِـنَـبْـح تُـداعـي

فقضى عجـبـاً ووَلـى كـئيبـاً

 

خائباً من مرامهِ والمـسـاعـي

قائلاً يا كلابُ كم تـنـبـحـونـي

 

لو تعدَّيتُ مثل هـذا الـراعـي

والكتاب الآخر هو ديوان حاتم الطائي طبعه سنة 1872 على نسخة مكتبة لندن في 33 صفحة وقد طبع هذا الديوان طبعة أخرى أفضل من الطبعة السابقة وأكمل منها على يد أحد المستشرقين الألمان أسمه شولتس (Schulthess).

وله كتاب آخر نفيس لم يطبع حتى الآن سماه (حسر اللثام) رد فيه على مزاعم بعض المسلمين منه نسخة بخطه في مكتبتنا الشرقية بمجلدين. وكان رزق الله حسون من رجال السياسة يسعى مع الأحرار في إصلاح تركيا وذلك ما ألجأه إلى سكنى لندن في آخر حياته وهناك طبع جريدته مرآة الأحوال سنة 1876 وكان سبق قبل ذلك طويلة فنشرها في الأستانة فكانت أقدم الجرائد العربية فيها (1 وشفعها سنة 1879 بمجلة سياسية كان مدارها على حال المسألتين الشرقية والمصرية. أما وفاة المترجم فوقعت السنة 1880 مات فجأة في لندن. وكان رزق الله حسون صديقاً لأدباء زمانه يكاتبهم ويساجلهم فمن ذلك ما كتب لبطرس كرامة:

خدبنَ المعالي وابن بَجْدتها الفـردُ

 

بقيتَ بقاءَ الدهر يخدمك السعـدُ

وزادك ربُّ العرشِ أسنى كرامةٍ

 

قرينٌ بها الإقبال والفخرُ والمجدُ

ولا زلتَ في أمنٍ وموفورَ نعـمةٍ

 

ويُمْنِ أيادٍ كسبُها الشكرُ والحمـدُ

وبعدُ فقد طال البعادُ ومهجـقـي

 

يكادُ من الأشواق يضرمُها الوجدُ

وما ليَ عن لُقْياك صبرٌ ولا غنى

 

ولكنّ خَطْبَ الدهر وما بيننا سدُّ

ألا بئسما الأيامُ أغَرتْ يد الـنـوى

 

بنا فاستطالَت ريثما قصرَ الجـدُ

موانعُ حالت دون فرضِ زيارتي

 

وقد كنتُ أرجوان يكون لك وفْدُ

وأصبحتُ من إبطائكم في هواجسٍ

 

تحيّرني لا يهتدي نحويَ الرشـدُ

فأبغي للاطمئنان منـكـم ألـوكةً

 

إذا لم يكن منكم قدومٌ هو القصدُ

ومما نظمه فيه المعلم بطرس كرامة أبيات قالها لما أقترن سنة 1848 بسيدة تدعى ماتلد فقال:

نهاديك يا نجل الفؤادِ تـهـانـئاً

 

تنبئُ عن أفراحنا حينما تـبـدُو

بخير اقترانٍ جاء وهو مـبـاركٌ

 

يقارنهُ بر ويصبحـهُ سـعـدُ

فلا زلتما طول الزمان بصـحةٍ

 

وعيشٍ رغيدِ بُرْدُهُ الأمن والرفد

زفاف سعيدُ والهـنـاء مـؤرخٌ

 

موافٍ لرزق الله بالخير ما تِلْدُ

وقد وجدنا لرزق الله في الهجاء قوله في يوسف حجاز أحد عمله نصر الله دلال الحلبي وكان استغنى بعد فقر فترفع:

المرء يُذكر بالأعمالِ لا الـمـالِ

 

أحْسْنْ بخيرهما عن كسب رئبالِ

ليس الثراءُ بمُجدي النائلـيه ثـنـا

 

ان كان ما جمعوهُ سُحْتَ أوبـالِ

وهل سمعت بذي كبرٍ وذي صلَف

 

يرقي المعالي بطول القيل والقالِ

قد ظنَّ يوسف حجارٌ بـغـرتـه

 

أن العلى هزّ عطفيهِ كمكسـالِ

فجاء يخطر لا يلوي علـى أحـدٍ

 

ينيه عجبـاً بـأدبـارِ وإقـبـالِ

الله أكبرُ هذا حـالُ ذي شـطـطٍ

 

نال المنى بعد إقـتـار وإقـلالِ

أن ساعدتك الليالي كن على حـذرٍ

 

فما تدوم علـى لـون ولا حـالِ

هَّلا تذكرت أيَّاماً سـلـفـنَ وقـد

 

مضت بخدمة نصر الـلـه دلالِ

ومنها:

أبا هبَّنقة القس الـذي اشـتـهـرتْ

 

أخبارهُ سُدْ بجـدٍ نـاعـم الـبـالِ

قد استرحتَ من العقل الرصين ورا

 

عي الضان يَحْكيك في جهلٍ وأمثالِ

لا تأسفنَّ على ما فات عن عـرَضِ

 

فالنَّوك داءٌ ولكـن غـير قـتَّـالِ

قد عاش قلبك عجلٌ وهو ذو أحَسـنٍ

 

لكنَّما أنـت لا تُـعْـزَي إلـى آلِ

القس أنطون بولاد

وممن توفاهم الله في هذه الحقبة القس أنطون بولاد أحد أدباء زمانه. ولد في ختام القرن الثامن عشر في دمشق من أسرة فاضلة نمن الروم الملكيين الكاثوليك. ترهب في دير المخلص قرب صيداء سنة 1815 ثم رقاه إلى رتبة الكهنوت السيد باسيليوس خليل أسقف صيداء في 16 نيسان سنة 1822 وقد فرضت إليه رهبانيته عدة وظائف أعرب فيها عن همة ونشاط وترأس على دير القديسة تقلا وعمر أبنية جديدة في دير المخلص ودبر دروس طلبة رهبانيته وعلمهم اللاهوت مدة. ثم جرت بينه وبين أخوته الرهبان منافرات ومنازعات دخل فيها القاصد الرسولي فيلازدل وغبطة البطريرك مكسيموس مظلوم حتى اعتزل القس انطون الأشغال في دير المخلص وأنقطع إلى الفرائض النسكية على السنة 1860. وفيها أنتقل إلى بيروت من جراء حوادث تلك السنة فسكنها إلى عام وفاته في 1 أيلول سنة 1871. وكان القس أنطون مولعاً بالآداب العربية ولاسيما التاريخ وقد أبقى من آثار اجتهاده كتابه راشد سوريا الذي طبع في بيروت سنة 1868 ضمنه عدداً وافراً من المعلومات والإفادات اقتطفت بعضها من مخطوطات قديمة كالصبح المنبي عن حيثية المتنبي ورسالة الحاتمي في ما أخذه المتنبي من حكم أرسطو فنظمه في شعره مع عدة فوائد في التاريخ والمصنفات القديمة. ومن آثار القس أنطون بولاد خلاصة تاريخ البطريركية الأنطاكية واتحاد أبنائها مع الكنيسة الرومانية أقترحه عليه الأب غغرين (Gagarin) اليسوعي والأمير الروسي المرتد إلى الكثلكة. ومن هذا الكتاب نسخة في مكتبتنا الشرقية وهو مطبوع على الحجر. وفيها أيضاً القس المذكور ملحق ذيل به كتاب التختيكون للقس يوحنا عجيمي وأودعه تاريخ طائفته من السنة 1759 إلى زمانه مع خلاصة أخبار الرهبانية المخلصية. وله كتابات أخرى ورسائل متفرقة. وقد وجدنا في مكتبة الثلاثة الأقمار بعض مخطوطات كان ابتعها لمكتبته منها مجموعة لقدماء كتبة اليونان وفلاسفة العرب نشرناً قسماً منها.

الخوري جرجس عيسى

وعاصر القس بولاد راهبٌ آخر جاراه بالأدب وهو الخوري جرجس عيسى السكاف الذي أثبت المشرق (9 (1906): 494 و541) ترجمته بقلم الكاتب البارع عيسى أفندي إسكندر المعلوف. ولد الخوري جرجس عيسى في معلقة زحلة وانضوى إلى الرهبانية الحناوية في الشوير سنة 1845 ثم تلقى العلوم الدينية وأنس في نفسه ميلاً إلى الآداب العربية فتخرج فيها على الشيخ ناصيف اليازجي فأتقنها. ودرس الفقه على الشيخ يوسف الأسير فبرع فيه ونصب مدة حاكماً للنصارى في عهد الأمير بشير أحمد اللمعي. وفي أثر حوادث السنة 1860 سافر إلى أيرلندة فجمع احسانات وافرة خص منها بعد عودته إلى سوريا قسماً لبناء المدرسة البطريركية. ولما فتحت هذه المدرسة سنة 1866 كان الخوري عيسى أول رؤسائها وقام بشؤونها الدينية والأدبية أحسن قيام ودبرها سنتين وإليه أشار سليم بك تقلاً في مدحه للمدرسة المذكورة حيث قال:

وقد خصَّها من قبلُ في جرجس الذي

 

أبان أبتداها وابتغى الكدَّ والقهـرا

وقاسى بها كل الصِعاب مجـاهـداً

 

وجملها علماً وقـدراً كـذا ذكـراً

ثم عاد الخوري جرجس إلى دير مار يوحنا الصابغ وتعاطى أعمال الرسالة والوعظ وإرشاد المؤمنين في لبنان وبيروت بغيرة وتقى حتى ذهب في 8 آب سنة 1875 شهيد تفانيه في خدمة المصابين في الهواء الأصفر. فمات في بيروت مأسوفاً عليه وقد رثاه الشيخ خليل اليازجي بداليته التي أولها (المشرق 9 (1906): 499):

سقاكِ من الحَيا صوبُ العهادِ

 

بدمعٍ سال من مُقَلِ الغوادي

وكان الخوري جرجس عيسى شاعراً مجيداً له ديوان مخطوط أنتقى منهُ صاحب ترجمته بعض الشذرات تجدها في عشر صفحات من مجلة المشرق (9: 541 - 551). ومن نظمه قوله من قصيدة يمدح بها الشيخ ناصيف اليازجي:

إذا عُرضت مسائلنـا لـديهِ

 

نراهُ لحلها حالاً تـصـدَّى

فيُوضح رمزَها لفظاً ومعنىً

 

ويكشف سرَّها قرباً وبُعداً

لهُ في مجلس العلماء مرأىً

 

تجاوز في المهابة منهُ حدّاً

إذا أختلف النحاة بحكم أمـرٍ

 

وقدَّم رأيَهُ فـيه تـبـدَّى

وإن أفتى بخطٍ أو لـسـانِ

 

ففتواهُ الصحيحةُ لن تُـردَّا

وله مؤرخاً وفاة السيد البطريرك مكسيموس مظلوم سنة 1855:  

مكسيموسُ المفضال بطركنا الذي

 

كان الأمينَ لشعب مولاهُ العلي

لما أرتقي دار الخلود ممـجَّـداً

 

لاقته أجواق العلاءِ بمحـفـلِ

وهناك من فرحٍ مؤرّخـهُ تـلا

 

أحسنت يا عبداً أميناً فـأدخـلِ

والمترجم ما عدا الديوان الشعري كتابان دينيان طبعهما سنة 1872 في المطبعة الأدبية أحدهما (فرض العبادة الواضحة لطالبي الميتة الصالحة) والآخر (كتاب صلوات خشوعية لنظم الحيوة الروحية).

جرجس إسحق طراد

وكذلك عرف في تلك المدة شاعرٌ من أسرة وجيهة في بيروت أسمه جرجس أسحق طراد تكرر ذكره في منشورات زمانه كالجوائب والنحلة وغيرهما. وله هناك فصول نقلها من اليونانية وقصائد منها قصيدة دعاها المصباح مدح فيها العلم: ومن أبياتها قوله:

العلم مصباحٌ منيرٌ في الورى

 

والجهل ليلٌ مظلم لن يلمعـا

فاسعوا بكسب العلم سعياً كاملاً

 

واللهُ يعلي كلَّ خير من سعى

واجلوا شموس العلم في بيروتنا

 

فالجهلُ غيرَ بسيفهِ لن يُردعا

وله من أبيات في مدح مجلة النحلة سنة 1870:

هيَ نحلةٌ من كلّ فنّ قد جـنـتْ

 

وجلّت عن التاريخ ما هو مظلمُ

هبُّوا بني الأوطانِ واجنُوا شهدها

 

قد حان آنُ قطافهِ والمـوسـمُ

وشي صحائفها جـلـيلٌ مـاجـدٌ

 

في وصفهِ الأوطانُ تزهو وتبسمُ

وقد رثي الطيب الذكر المطران طوبياً عون رئيس أساقفة بيروت الماروني سنة 1871 بمرثاة قال فيها:

خطبٌ جسيم دهانا اليوم وا أسفـي

 

كلُّ إذا قائلاً قد ضاع مصطبري

فقدُ الهمامِ الكريمِ الحـاذق الـورع

 

م الذي تردَّى بثوب الخير والطُهر

عونُ الفقيرِ حليمٌ مـاجـدٌ فـطـنٌ

 

شهمٌ شهيرٌ وذو قلبٍ بلا وضَـرِ

وقد مدح أيضاً إسماعيل باشا خديوي مصر فقال من قصيدة:

على إسماعيل سـيدنـا سـلامٌ

 

تردّدهُ الأكابرُ والـصـغـارُ

إذا ما غاب غاب العزُّ مـعـهُ

 

كما أن عاد عاد لنا الفـخـارُ

لعزَّتِه تخـرُّ الأسـدُ طـوعـاً

 

كما للموت وللموت اضطرارُ

فما الإسكندرية فـي حـمـاهُ

 

سوى روضٍ يجلّله اخضرارُ

ومصر الآنَ في الأقطار خُـودٌ

 

تميس بحلَّةٍ لا تُـسـتـعـارُ

ومن حكمه قوله:

ما كلُّ من رامَ نظم الشعر يدركُه

 

ولا الذي رام يفدي الناس يفديها

ليس الذي عاش أيّاماً مـطـولةً

 

بل الذي عـركَ الأيام يدريهـا

بين الحيوة وكلِّ الناس معـركةٌ

 

بالحظّ والبؤس تفنينا ونفنـيهـا

وكان مولد هذا الشاعر سنة 1851 ووفاته في كانون من السنة 1877. أما أخباره فقد تخفينا في السؤال عنها فلم نحصل على شيء منها. وكذلك لم نقف على أخبار كاتب آخر تلوح من آثاره لوائح النجابة والذكاء نريد المرحوم (قيصر أبيلا). ومن العجب أن الذين أفادونا عن تاريخ بيت أبيلا (المشرق 6 (1903): 654) لم يتعرضوا الذكر قيصر. وقد كنا عثرنا له على قصيدة دينية حسنة النظم فأثبتنا النظم فأثبتناها في مجلتنا (7 (1904): 256) وهي عبارة عن مفاوضة غاية في الرقة بين الله والخاطئ أولها:

يدعوك رُّبك أيها الـمـتـمـرّدُ

 

حتى مَ في الليل المعاصي تَرقدُ

فأجبْ نداهُ وأعتصم بحـبـالـهِ

 

فهو المجيرُ وغيرهُ لا يَعضـدُ

وله غير ذلك من الآثار منها نبذ في مواد علمية وصناعية وأدبية نشرها في مجلة النحلة سنة 1870 (ص 22، 36، 52 الخ). توفي قيصر في شرخ شبابه في صيداء سنة 1873 فأرخ وفاته نقولا أفندي النقاش:

قد غبت يا بـدراً مـنـيراً بـالـثـرا

 

وغدا الظلامُ مخيّمـاً فـوق الـورى

وكسـوت أبـيلا كـسـاءَ تـفـجـعٍ

 

حاشـاهُ أن يغـنـي وان يتـغَّـيرا

رفـقـاً بـأدمـع والـهِ يا آلـــهُ

 

وتصَّبروا فكفاكُـم مـا قـد جـرى

أين القياصرة المـعـظـمُ قـدرُهـم

 

فالكل ساروا والـبـقـاءُ تـعـذَّرا

ونعم فقـدتـم قـيصـراً لـكـنـمـا

 

أَرَخْ غدا بالله قيصرُ قيصرا (1873)

ومن شعر قيصر أبيلا قوله في وصف الدنيا ونكباتها:

ذر الدَّهرَ فالأَّيام فاسخةُ العـقـدِ

 

وناشرة البلوى وطاوية العـهـدِ

وما هذه الـدنـيا سـوى دارِ ذلَّةٍ

 

وفيها يجولُ المرءُ في الهمّ والكدّ

نروم بها طول البـقـاء ودونـهُ

 

سيوفُ القضا بالفتك ماضيةُ الحدّ

تُخادعنا الدنـيا بـوعـدِ مـسـرَّةٍ

 

وليس البأساءِ فيها وفا الـوعـدِ

تسلُّ على ذي الملك والجاه سيفَهـا

 

كما إنّها تسطو على أحقرِ العَبْـدِ

وهيهاتُ ما الدنيا الغَرورُ بمنـزل

 

ولكن بها نجري إلى منزل الخلدِ

وكلٌّ على هذا الطريقِ مسـافـرٌ

 

فلا صاحبٌ يَفْدي ولا ثروةٌ تُجدْي

ومن مديحه قوله في مجلة النحلة:

ألا حبَّذا القومُ الكرامُ الألـى لـهـم

 

على وطنِ من خير أفضالهم فضلُ

علـيهـم ثـنـاءٌ لا يزال مـؤَّبـداً

 

يطيبُ كما طاب الذي جنتِ النحلُ

فأكِرمْ بمَنْ من روضِ أفكارهم لنـا

 

جني نحلةٍ يحلو وأثمانهُ تـغـلـو

تطيب لنـا مـمـا حـوتـهُ فـوائدٌ

 

وأعذبُ شيء ما يلَذُّ بهِ الـعـقـلُ

ونضيف إلى من سبقوا أديباً آخر توفي نحو السنة 1873 أسمه (أسعد باز) صنف موشحات وأغاني تقوية منها تسبحتان في مريم العذراء شائعتان: (أنت الشفيع الأكرم) و(يا بتول ارحمي عبيدك). ومما أفادنا به جانب القانوني جرجي بك صفا أبيات لأسعد باز قالها سنة 1830 في تاريخ بناء كنيسة دير القمر المعروفة بسيدة التلة:

يا مَقْدس الدين الذي يسمو على

 

قمر العلى نوراً بإشراقٍ بـدا

فقد زانهُ الرحمان فـي آياتـهِ

 

وبجودة المنَّان عاد مـجـددَّا

طوبى لمن وافى إليهِ طالـبـاً

 

من مريم البكرِ العنايةَ والهُدى

ويقول تاريخاً بهِ مـتـرنـمـاً

 

أنتِ رجا القصّادِ بل سببُ الفدا

ولما أهدى الفاضل غالب أفندي صورة السيدة تلك الكنيسة قال أسعد باز:

تَخذُتكِ يا بتـولاً لـي مـلاذاً

 

حصيناً يُرتجي عند المخاطرْ

فأرجوك العناية بـي لأنـي

 

أنا عبدٌ لكِ بذنوبي شـاعـرْ

وله أيضاً بقيام لعازر:

يا بيت عنيا قد غدوتِ مشـاهـداً

 

لعجائب الله التي تسبي الورى

قد جاءك المولى المخلّص زائراً

 

أحيا بكِ البيتَ الرميم من الثرى

وتوفي في هذا الزمان (26 كانون الأول سنة 1870) أحد وجوه الأسرة الدحداحية أجادوا بالكتابة (الشيخ أمين) الذي أتخذه الأمير حيدر كرئيس كتبته لما فوضت إليه قائمقامية النصارى في لبنان. وقد ذكر له في مكاتبنا الأديب الشيخ سليم الدحداح في مقالته عن الكنت رشيد وأسرته (في المشرق 4 (1901): 395) آثاراً أدبية ومنظومات شهدت له رسوخ القدم في الآداب العربية وأيد قوله بذكر ما دار بينه وبين أدباء عصره من المساجلات والمكاتبات المنبئة بفضله وباعتبار معاصريه له.


هذا ما أمكنا جمعه من أخبار أدباء النصارى في هذه الحقبة ولا مراء أنه فاتنا منها أشياء كثيرة وأملنا من أصحاب الفضل والهمة أن يسدوا الخل أو يرشدونا إلى ما يعرفونه من الفوائد فنشرها شاكرين. وقد عدلنا عن ذكر الذين قصروا همتهم إلى تآليف دينية أو جدلية قليلة كالسيد أمبرسيوس عبده المتوفى سنة 1876 بعد تدبيره مدة لكرسي زحلة ونقله إلى القلاية الأورشليمية وهو مؤلف كتاب كنز الرياضة الروحية. وكالار شمندريت غبريل جبارة أحد الذين عدلوا جهلاً عن الكثلكة إلى الأرثوذكسية بسبب تغيير الحساب. توفي سنة 1878 في أزمير. وله كتابات جدلية لتأييد راية الباطل في الحساب الشرقي وبعض كتب دينية ومواعض. وغير هؤلاء ممن أبقوا لنا بعض آثار من فضلهم وآدابهم. أما أخبارهم فلم يفدنا أحد منها شيئاً مع قرب عهدهم من زماننا.