الجزء الثاني: من السنة 1870 إلى 1900 - الفصل الأول : الآداب العربية من السنة 1870 إلى 1880 - المستشرقون الأوربيون

المستشرقون الأوربيون

الفرنسيون

بقيت أزمة الدروس الشرقية في أيدي الفرنسويين في السنين العشر التي تمتد من السنة 1870 إلى 1880 وان خدمت تلك الحركة بعض الخمود بعد الحرب السبعينية. وكان معظم المستشرقين في فرنسا قد تخرجوا على أولئلك الأئمة اللذين سبق ذكرهم كالبارون دي ساسي ودي كاتر مار ورينو فتقفى تلامذتهم آثارهم إلا أن الموت حل ببعضهم فرزئت بهم الآداب العربية. وأول من يستحق أن تشق عليه الآداب جيوبها العلامة (كوسان دي برسفال) (A. P. Caussin de perceval) الذي سبق لنا ذكر والده. ولد في 13 ك1 سنة 1795 وانكب منذ شبابه على الدروس الشرقية ثم أرسلته حكومته بصفة ترجمان إلى الأستانة ثم إلى أزمير ثم جال ثلاث سنوات في بلاد الشام فيكن جبلها ومدنها وتوغل في باديتها حيث أبتاع لحكومته جياداً أصيلة. وكان في سياحته أتقن اللهجات العربية فألف فيها غراماً طيقاً وأصلح معجم الأستاذ القطبي اليوس نجتر فجدد طبعه. وقد ندبته الحكومة إلى تدريس اللغة العربية في مكتب دروسها العليا فلم يلبث أن أحرز له شهرة كبيرة في التعليم. ثم خص حياته في درس آثار العرب وتاريخهم القديم وقد ألف في ذلك كتاباً واسعاً في ثلاث مجلدات لم يبلغ فيه أحد شأوه وقد نفد فيه طبعه حتى بيع بثلاثمائة فرنك إلى أن جدد طبعه بالنور والحجر. وللمسيو دي برسفال تآليف أخرى عديدة ومقالات فنية في كل آداب الشرق أخضها تراجم الموسيقيين العرب. كانت وفاته وقت حصار باريس وفيها مات في 15ك2 1871.

ومن مشاهير المتوفين من المستشرقين في هذه السنين (لويس أمالي سيديليو) (L. A. Sedillot) ولد في باريس في 33 حزيران سنة 1808 وتخرج على أبيه الفلكي المغرم بآداب الشرق (ج1 ص65) فتعقب آثاره وجعل ينقب في المكاتب الشرقية ليستخرج منها دفائنها فنجح في ذلك بعض النجاح. ونشر سنة 1833 كتب أبي الحسن علي المراكشي المدعو جامع المبادئ والغايات في الآلات الفلكية الذي نقله أبوه إلى الفرنسوية ثم نشر القسم الثاني منه في مجموعة المقالات الأكاديمية الفرنسوية. (Mem presentes par divers Savants I S. R VOL I - 225) ونشر مقالات أخرى رياضية لأحمد بن محمد السنجاري وللإمام المظفر الأسفرلدي وصنف تاريخاً للرياضيات عند اليونان والعرب. وقد بالغ المسيو سيديليو في تعظيم اكتشافات العرب الفلكية وغيرها حتى بخس حقوق اليونان فقام بينه وبين علماء زمانه جدال عنيف في ذلك فخطأوه وأثبتوا له أنه تجاوز في كلامه حدود الحقيقة. وكذا يقال عن تاريخ العرب الذي ألفه وطبعه مرتين فأنه قد رمى الكلام على عواهنه وشط في مزاعمه وقد خدع في كتابة المصريون فنقلوه إلى العربية ظناً منهم أنه من الآثار الفريدة. توفي المسيو سيدلو في 2 ك1 سنة 1875 في باريس.

ولبى دعوة ربه بزمن قليل المسيو (جول موهل) (J. Mohl) كأن هذا الألماني الأصل فولد في ستوتغارت سنة 1800 ودرس في كلية توبنغن. ثم شعر في نفسه ميلاً إلى الدروس الشرقية فقصد باريس ودرس على علمائها ثم تجنس بالجنسية الفرنسوية وتفرغ للتأليف فكتب الفصول الواسعة في كل الفنون الشرقية. حتى أن خطبة ألقاها في الجمعية الآسيوية الفرنسوية عن الشرق تقوم مقام كتاب يشمل كل تاريخها الحديث. وكان متعمقاً في آداب الفرس وهو الذي نشر في باريس كتاب الفردوسي المعروف بشاه نامه طبعه طبعاً بديعاً في سبعة مجلدات ضخمة ونقله إلى الفرنسوية وذيله بالحواشي وعلم سنين طويلة اللغة الفارسية في مكتب باريس الأعلى. توفي في 4 ك1 سنة 1876.

وفي 15 نيسان السنة 1877 فجعت الآداب الشرقية بأحد أركانها المسيو فرنسوا الفنس بلن (F. A. Belin) كان قطناً زمناً طويلاً بلاد الشرق وخصوصاً عاصمة الملكة العثمانية حيث تعين قنصلاً لدولته. وكان مع تدبيره لشؤون القنصلية يهتم بدرس تاريخ الشرق وكشف أسراره فوضع مصنفات جليلة في تاريخ الترك وآدابهم. وكان يعني خصوصاً بتاريخ نصارى الشرق وأحوالهم وله في المجلة الآسيوية الفرنسوية فصول حسنة في كل أبواب المعارف الشرقية وقد ألف تاريخاً للطائفة اللاتينية في الأستانة العلية. كان مولده في باريس سنة 1817 ووفاته في الأستانة.

وفي السنة التالية (2 أيلول 1878) توفي المستشرق الشهير (غارسن دي تاسي) (Garcin de Tassy) ولد في مرسيلية سنة 1794 ودرس في باريس اللغات الشرقية على أمامها الأكبر دي ساسي. فأشتهر فيها ولا سيما في اللغتين الفارسية والهندستانية وقد توفرت مصنفاته فيها. ومن أناره (مجموع الرموز الشرقية) جمعه من آداب العرب وغيرهم ونقله إلى الفرنسوية. ومنها كتاب في العروض والنظم عند الشرقيين. وكتاب آخر في البيان البديع. وقد نشر كتاب كشف الأسرار في حكم الطيور والأزهار لأبن غانم المقدسي وحشاه وترجمه إلى الفرنسوية وله غير ذلك. وفي هذه السنة 1879 وقعت وفاة مستشرق آخر شهير أدى للآداب العربية عدة خدم يزيد به المسيو (دي سلان) (Bon Mac Guckin de Slanc) وجه الحاظه إلى بلاد المغرب ودرس أخبار البربر فألف فيهم تاريخاً في ستة مجلدات ثم تعشق أبن خلدون وأتم ترجمة مقدمته التي كان باشر بها العلامة دي كاترمار فطبعها في ستة مجلدات ثلاثة أفرنسية. ومن مآثره الطيبة نشره لديوان امرئ القيس مع ترجمته اللاتينية في باريس سنة 1837 ثم وفاة الأعيان لأبن خلكان ثم وصفه للمخطوطات العربية التي تصان في مكتبة باريس العمومية لكن الموت حال دون تتمة العمل فلأتمه المسيو زوتنبرغ (H. Zotenberg).

ومن الكهنة اللذين أبقوا لهم ذكراً بدرس الشرقيات في باريس (الأب غلار) (abbe Glaire) من جمعية سان سولبيس ولد سنة 1798 وبرز في الآداب الشرقية فندبته الحكومة الفرنسوية إلى تدرس اللغة العبرانية في مدرستها العليا خلفاً لكاهن آخر من جمعيته الأب لوهير (abbe Le her) الذي تخرج عليه رينان في درس العبرانية. وكان الأب غلار حاذقاً في تفسير الكتب المقدسة وتولى شرحها في مدارس دولته العمومية وكان عارفاً باللغة العربية وقد وضع في أصولها كتاباً مطولاً في اللغة الفرنسوية. توفي الخوري غلار في مدرسة إسي (Issy) قريباً في باريس سنة 1879.

وكان يعاصر هذين الكاهنين كاهن فاضل من إلا أنه سكن المغرب وأشتهر في تونس نريد به الأب (فرنسوا بورغاد) F.Bourgade)) ولد سنة 1806. وبعد كهنوته سنة 1832 طلب أعمال الرسالة فرحل إلى الجزائر سنة 1838 وخدم فيها راهبات مار يوسف ثم رافقهن إلى تونس سنة 1840 وولي هناك خدمة كنيسة مار لويس التي شيدتها الحكومة الفرنسوية ومن مساعيه المشكورة انه انشأ مستشفى لأبناء وطنه وفتح لهم مدارس أدارها بكل غيرة وفتح أول مطبعة عرقت في تونس. وكان الأب بورغاد محباً للآداب العربية مطلعاً على أحوال العرب وتواريخهم وقد وضع عدة تأليف تنبئ بسعة معارفه لآداب الإسلام منها كتابة المعروف بسامرات قرطجنة في ثلاثة أقسام طبعه بالفرنسوية والعربية. ومنها كتاب في تاريخ تونس. وله تنفيذ على سيرة المسيح التي ألفها الملحد رينان. وطبع بالعربية نبذاً من قصة عنتر وقلائد العقيان لأبي نصر الفتح بن خاقان وغير ذلك. وقد أنشأ جريدتين عربيتين عقاب باريس والبرجيس. وكان أتخذ له بصفة كاتب ومحرر سليمان الحرائري الذي ملا لنا ذكره. توفي الأب بورغاد في 20 أيلول سنة 1866.

ونختتم جدول هؤلاء المستشرقين الفرنسويين بأحد الأثريين المسيو (دي سوسي) (L. F. Caignart de Saulcy) توفي في 3 تشرين الثاني سنة 1880 وعمره 73 سنة بعد أن أدى الدروس الشرقية خدماً عظيمة بتعريف آثار الشرق ولا سيما النقود القديمة فأنه ساح مراراً في الشام وفلسطين ومصر وبلاد اليونان وجهات تركيا فدرس آثارها درساً نعماً وفك كثيراً من أسرار كتاباتها القديمة في لغات الشرق كالعبرانية والفينقية والآشورية والعربية. والكتب التي ألفها في وصف العاديات التي أكتشفها أو في حل رموزها تنيف على المائة. وبعض هذه التآليف كتب ضخمة. وله أيضاً عدة تواريخ وأسفار كرحلته إلى الأراضي المقدسة في مجلدين وتاريخ هيرودس الكبير. لكنه برز في علم المصكوكات القديمة.

الألمانيون

سبق لنا الكلام عن مشاهير مستشر في الألمان كفريتاغ وفلوغل فبعث هؤلاء في مواطنيهم حمية الدروس الشرقية فأخذوا يجارون الفرنسويين في حلبة الآداب ويسعون نطاق مدارسهم الشرقية. وممن استحقوا شكر الأدباء في هذه البرهة من الدهر العلامة (ايفلد) (H. Ewald) ولد في غوتنغن سنة 1803 ودرس في وطنه العلوم الدينية ويعده البروتستانت من كبار أئمتهم في اللاهوت له فيه كتابات عديدة وقد علمه زمناً طويلاً في مدارس الألمانية وكان تبخر في درس اللغات الشرقية. ومن مآثره العربية غراماطيق واسع في جزأين صنفه باللغة الألمانية. وقد كتب أيضاً في الشعر والعروض ونشر كتاب فتوح الجزيرة المنسوب إلى الواقدي ووصف المخطوطات العربية المصونة في غوتا. توفي ايفلد في 4 أيار سنة 1875. وأشتهر أيضاً ألماني آخر أسمه (هرمان روديغر) (H. J. Roediger) كان أبوه أميل (Emil) روديغر سبقه إلى الدرس الشرقيات فنشر أمثال لقمان الحكيم وكتب في الترجمات الشرقية للأسفار المقدسة التاريخية توفي في 15 حزيران 1877 في برلين. وقد خلفه ابنه هرمان روديغر في درس الآداب العربية وعلمها مدة في مدينة هال (Halle). ومن آثاره اشتغاله بكتاب جليل يدعى الفهرست لأبي الفرج ابن النديم كان باشر بطبعه العلامة فلوغل ففاجأه الموت ولم يتممه فأنجزه العالمان أوغست مولر وهرمان روديغر. وقد كتب روديغر في بعض اللغويات العربية عدة مقالات منها تأليف واسع في أسماء الأفعال.

الروس

سبق لنا ذكر عنايتهم بالآداب العربية وكانت دولتهم لبسط سيطرتها على أنحاء من القارة الآسيوية أحست بحاجتها إلى لغة قسم كبير من رعاياها فأنشأت مكتباً خصوصياً للغات الشرقية من جملتها اللغتان العربية والفارسية عهدت بتدريسها إلى أثنين من تلامذة البارون دي ساسي وهما الأستاذان (ديمانج) (Desinanges) (وشرموا) (Charmoy) صاحب التآليف الخطيرة في تاريخ المغول والأكراد. وأخذ ديمانج تلميذه الروسي (بوتجانوف) (Bottjanoiff) الذي نشر بعض قصائد لأبي العلاء المعري وللنابغة الذبياني. وفي عهده كان (الكسيس بولديراف) (A. Boldyrew) الذي رحل إلى باريس وسمع دي ساسي وعلم في موسكو وترأس على كليتها. ومن تركته العلمية نشره لمعلقتي الحارث ابن حلزة وعنترة ثم منتخبات عربية طبعها في موسكو سنة 1832. وله فصول ومقالات شتى في منشورات بلاده. زكان عالماً باللغة الفارسية ترك فيها آثاراً مذكورة. وعاصره عالم روسي آخر (يوسف سيانكوفسكي) (J. Sienkowski) ولد في بلاد ليتيوانية في أوائل القرن التاسع عشر ودرس العربية وهو في مقتبل العمر ثم ساح في بلاد الشام ومصر وعاد إلى بطرسبرج حيث درس اللغتين العربية والتركية. وكان عالماً باللهجات العامية فكتب في ذلك عدة فصول مفيدة ونشر قصصاً وحكايات وبعض روايات عنتر. وله مقالة حسنة في ديوان لبيد. وساعد برغرغين (Berggren) في تأليف دليلة للسياح في الشام ومصر سنة 1844. ومن مآثره أنه جمع من تواريخ العرب والترك والفرس ما رووه عن قبائل الهونيين (Huns) وعن أمور وطنه بولنية.

وقد تخرج على سيانكو فسكي كثيرون من الروسيين أشتهر بينهم (سافلياف) (P. Sawelieff) الكاتب الأول لأسرار الجمعية الأثرية في بطرسبوبرج وأحد خدمة الآداب الشرقية في بلاده. ثم غريغوراف (W. Grigorieff) معلم التواريخ الشرقية في عاصمة دولته توفي في 2 ك2 1882.

وعرف في ذلك الوقت الكاهن الروسي (بافسكي) (G. Pawsky) نقل الكتب المقدسة من العبرانية إلى الروسية وألف كتاب بأصول اللغة العبرانية وكان متضلعاً بالعاديات الشرقية في صنف فيها المقالات المستجادة. وأشتهر مثله في العبرانية العالم (كاجتان كوسوفتش) (C. Kossowicz) الذي نقل إلى الروسية غراماطيق جزنيوس (Gesenius) العبراني وحشاه وقد نشر منتخبات عبرانية توفي في 7 شباط 1883.

وفي السنة 1854 أنشأ في كلية بطرسبورج مكتب خصوصي لدرس العلوم الشرقية فدعي إلى تدريس العربية فيه المسيو نفروتسكي (M. Nawrotsky) الذي وضع في أصول اللغة العربية كتاباً يرجع إليه علماء الروس حتى يومنا هذا. وكان يسعفه في تدريس اللغة العامية الشيخ محمد الطنطاوي المتوفى سنة 1881 وله في اللهجة المصرية كتاب معروف.

واشهر من هؤلاء المستشرق الروسي الياس نيقولافتش برازين (E. N. Beresine) ولد سنة 1818 ودرس في كلية قازان اللغات الشرقية ثم أرسلته الكلية إلى بلاد الشرق فطاف أقطار العجم ثم الجزيرة وبر الأناضول والشام ومصر وسكن الأستانة مدة ثم عاد إلى بلاده ماراً بالقريم ثم رحل إلى سيبارية ودرس آثار التتار وكتب تاريخهم. ثم علم مدة في كلية قازان اللغة التركية وله فيها وفي الفارسية عدة تآليف. وكان يعرف اللغة العربية ودرس خصوصاً لهجات بلاد الجزيرة وما بين النهرين فوصفها ثم أنقطع إلى تاريخ الدول الإسلامية وكتب فيها كتابات أثرية وتاريخية وجغرافية وأدبية ولغوية وقد أجاد في وصف شيع اليزيديين والاسماعيليين وأسهب في تعريف نصارى الشام وما بين النهرين. وقد تولى إدارة المطبوعات الشرقية في قازان إلى وفاته نحو السنة 1870. وقد أشبه العلامة برازين روسي آخر سبق لنا ذكره (ج1 ص 126) المسيو خانيكوف (M. de Khanikoff) فأنه رحل أيضاً إلى العجم وأواسط آسية وكتب في آثار بخارى وسمرقند وفي آداب الفرس وشعرائهم. توفي سنة 1879.

ونختم بذكر مستشرق اسوجي لبى دعوة ربه في هذه الردحة نعني به كرل ترنبرغ (C. J. Tornberg) فإنه ولد في 23 ت2 سنة 1807 وتتلمذ لدى ساسي في باريس وعلَّم في كليَّة اوبسالا اللغة العربية. ولهُ تآليف في آثار العرب تستوجب شكر محبي الشرقيات أخصها تاريخ الكامل لابن الأثير طبعهُ في 14 مجلداً وأضاف إليه ملحوظات مهمة وفهارس. ثم تاريخ فاس المسمى كتاب الأنيس المطرب روض القرطاس للشيخ ابن أبي زُرع نشره ونقله إلى اللاتينية. وكذا فعل بمنتخبات من تاريخ ابن خلدون ومن خريدة العجائب لابن الوردي ووصف المخطوطات الشرقية المصونة في مدينة اوبسالا. توفي الدكتور ترنبرغ في لند في 6 أيلول 1877.