الجزء الثاني: من السنة 1870 إلى 1900 - الفصل الثاني: الآداب العربية من السنة 1880 إلى ختام القرن التاسع عشر

الفصل الثاني

الآداب العربيَّة من السنة 1880 إلى ختام القرن التاسع عشر

نظر عام

الكليات والمدارس

لم تبلغ الآداب العربية في القرن التاسع عشر كله ما بلغته في حقبته الأخيرة فإنها أصبحت إذ ذاك كالزهرة المتفتحة من زرها المعطرة الأرجاء بعرفها وكالشجرة التي بسقت أفنانها ومدَّت في قاع الأرض أصولها فلم تعد ترهب الأنواء أو تكترث لزعازع الرياح. وكان الفضل الأكبر في نجاز هذا المشروع العظيم لبلاد الشام وخصوصاً لبيروت التي أضحت كمركز دائرة الآداب تجتذب إليها زهرة الشبيبة من أنحاء سوريَّة ومصر والعراق فتغذيهم بأفاويق العلوم وتعيدهم إلى أوطانهم فيرقَّون شيئاً فشيئاً عقول مواطنيهم ويوسعون نطاق التمدن بنفوذهم.

ولا مراء أن المدارس لعبت الدور الأهم في هذا الترقي الشريف فكانت الكليَّة الأمركيَّة بلغت عزَّ قوتها تحت نظارة رئيسها النشيط الدكتور دانيال بلس وبهمة بعض أساتذتها ولا سيما الدكاترة كرنيليوس فان ديك ولويس وجرج بست ويوحنا ورتبات مع مساعدة بعض الوطنيين. وكان وقتئذٍ تعليم المدرسة باللغة العربية فوضعت عمدة الكلية في العربية أو نقلت إليها عدداً وافراً من التآليف العلميَّة التي أدت خدماً مؤقتة لنشر العلوم في الشام وغيرها إلى أن عدلت المدرسة عن العربية إلى الإنكليزية لما تحققت إن تلك التآليف تحتاج في كل سنة إلى إصلاح وتحسين بتقدم العلوم فلا تفي بالمرام بعد زمن قليل ما لم يكرر طبعها مع وفرة نفقاتها.

وكانت الكلية اليسوعيَّة مع حداثة نشأتها تباري رصيفتها الأميركية في نشر المعارف الدينيَّة والدنيويَّة. وكان الأحبار الرومانيون يعلقون عليها الآمال الطيبة في إعلاء منار الدين والعلم بين الطوائف الشرقية فمنحها السعيد الذكر بيوس التاسع سنة 1874 اسم كلية وقام من بعده خلفه المغبوط لاون الثالث عشر فخصها سنة 1881 بامتيازات أخرى وخصوصاً أن تعطي طلبتها شهادة الملفنة في اللاهوت والحق القانوني والفلسفة.
وكانت الدولة الفرنسوية في تلك الأثناء ساعية في تعزيز مدارسها في الشرق فرأت في كلية القديس يوسف محققاً لغايتها ضامناً لحسن نياتها فمنحت لطلبتها الإجازة كطالبي مدارسها في فرنسا. ثم وكلت إلى رؤسائها أن يلحقوا بالكلية مكتباً طبياً. فتم ذلك فعلاً سنة 1883 وأنشئت الدروس الطبية بكل فروعها التي تبلغ الأثني عشر لكل منها معلمها الاختصاصي. فزادت هذه الإنعامات كليتنا نشاطاً وعزيمة ورقتها إلى درجة ما كانت لتطمع فيها الآمال. وكان للدروس العربية في ذلك الترقي حظها من الاهتمام كما أثبتنا الأمر في خطبة ألقيناها على الحضور في حفلة توزيع الجوائز سنة 1898 (المشرق 1(1898): 699) فخصصنا فيها الكلام عن تدريس العربية في كليتنا وقد كررنا طبعها في السنة الحالية 1925 بنسبة وقوع يوبيل الكلية الذهبي وعددنا تآليف نيف ومائتين من تلامذتها بينهم الكتبة والخطباء والشعراء والصحافيون واللغويون.

المدارس الكاثوليكية

وكانت المدارس الثانوية بعضها للمرسلين وبعضها للوطنيين تركض جيادها في ذلك المضمار. فمنها ما كان سبق إنشاؤه تلك الحقبة فمر لنا ذكره ومنها ما استجد افتتاحه كمدارس (الفرير) في بيروت وقدس وحيفا ويافا وطرابلس ومدرسة الآباء الكبوشيين في صليما والآباء الكرمليين في القبيات والآباء اليسوعيين في صيداء وحمص ومدرسة القلعة. وأعظم منها مدرسة القديسة حنة الأكليريكية المعروفة بالصلاحية التي أسسها سنة 1882 نيافة الكردينال لافيجري وخصها بتهذيب طلبة الكهنوت من طائفة الروم الكاثوليك تحت إدارة الآباء البيض (أطلب في المشرق 10 (1907): 865 مقالة المرحوم الخوري نقولا دهان في تاريخ تلك المدرسة وأعمالها). وتعددت المدارس الابتدائية للذكور وللإناث فحظيت بها أكثر قوى بها وسهول البقاع ونواحي حوران بهمة المرسلين اليسوعيين واللعازريين فضلاً عما عني بإنشائه المرسلون البروتستانت في أنحاء شتى.

أما المدارس الطائفية فأنشئ منها للدروس الثانوية مدرسة غزير المارونية كان الساعي بها الخوري لويس زوين سنة 1880 ومدرسة قرنة شهوان المعروفة باللبنانية من أثمار همة السيد يوسف الزغبي سنة 1883. وفتح الروم الكاثوليك في دمشق مدرستهم البطريركية التي أقبل عليها الأحداث لحسن نظامها. وكذلك مدرستهم الأسقفية في زحلة أهتم بتدبيرها كهنة أفاضل أخصهم الخوري فيلبوس غير والخوري بطرلاس الجريجري قبل انتخابه إلى كرسي بانياس. وفي السنة 1898 أقامت الرهبانية الباسيلية الحناوية مدرستها الشرقية وقد نعتتها بالكلية فكانت إلى أيام الحرب الكونية من المعاهد التي تزين مدينة زحلة. وأنشأ الروم الكاثوليك بعد ذلك مدرسة حلب التي يدبرها عدة كهنة من تلامذة القديسة حنة تحت نظارة راعيها الغيور السيد ديمتريوس القاضي قبل ارتفاعه إلى السدة البطريركية. وزيد أيضاً بمساعي الطوائف الشرقية عدة مدارس الابتدائية في عدة أمكنة فأصبحت بذلك أثمار العلوم دانية القطوف حتى بين القرويين والفقراء.

المدارس غير الكاثوليكية

وما نعرفه من أكور المدارس غير الكاثوليكية إنشاء الروم الأرثوذكس لمدرسة كفتين سنة 1882 فتقبلت عليها الأحوال بين تقدم وتأخر حتى أقفلت. ومثلها المدرسة الأكليركية في دير البلمند التي أصابت بعض النجاح مدة. وأنشأت السيدة أملي سرسق مدرسة وطنية في الثغر لبنات طائفتها دعتها زهرة الإحسان عام 1880. وقد وجد الروم الأرثوذكس مساعداً كبيراً في الدولة الروسية لتوفير مدارسهم وحسن تنظيمها. فأن شركة فلسطين المسكوبية أخذت بإنشاء عدة مدارس في الشام وفلسطين كانت تنفق عليها المبالغ الوافرة. وفتح الإسرائيليون مدرسة في بيروت ترأسها زكي أفندي كوهن سنة 1875 فخدمت طائفة اليهود نحو 25 عاماً ثم أبطلت وقامت بدلاً منها مدرسة الاتحاد الإسرائيلي.


كذلك أنشأت حكومة للمسلمين في بيروت المكتب الإعدادي سنة 1309 (1885) وقابلتها المدرسة الرشيدية العسكرية ثم أنشأ بعض الأهالي أصحاب الهمة مدارس أهلية أخصها المدرسة العثمانية لصاحبها الشهير ورئيسها الشيخ أحمد أفندي عباس الأزهري سنة 1313 (1897) والمدرسة الوطنية والمدرسة العلمية وهذه المدارس أرقى نوعاً من المدارس الابتدائية فتزيد غالباً على المبادئ وأصول الدين واللغة درس اللغتين التركية والفرنسوية والإنكليزية مع أصول الحساب الجغرافية ومسك الدفاتر. ثم تألفت لجنة التعليم الإسلامية سنة 1317 (1899) كان يرئسها الشيخ عبد الرحمان الحوت ففتحت مدرستين الواحدة للذكور والأخرى للإناث.

المطابع والمطبوعات

وكانت المطابع السورية في هذه البرهة سيارة الآداب تجري على حريتها دون أن يضغط عليها المراقبون ويقصوا أجنحة أطيار الأفكار. فكان الصحافيون يعلنون الأخبار الجارية ويعبرون عن آرائهم في إصلاح الأمور وتلافي الشرور لا تأخذهم في ذلك لومة لائم وفي تلك الأثناء اتسعت مجلة المقتطف في أبحاثها وكبر حجمها بعد إلغاء مجلة الجنان لكنها وجدت في طريقها عثرات بمقاومة بعض الحساد فانتقلت إلى مصر سنة 1886 وجرت على سننها إلى السنة الجارية 1925 وهي السنة الخمسون من عمرها. وأنشئت بعد ذلك مجلة الطبيب كان يحررها بشارة زلزل والشيخ إبراهيم اليازجي ولم يطل عمرها على ثلاث سنوات. فقامت بدلاً منها مجلة أخرى باسمها حررها المرحوم الدكتور اسكندر البارودي. ونشر الروم الأرثوذكس مجلتهم الهدية خمس سنين وظهرت في مجلتنا الشفاء والصفا وخدمتنا الآداب بضعة أعوام. وكانت مجلة المشرق آخر ما بزغ في ختام القرن التاسع عشر من المجلات في بيروت ظهرت في غرة السنة 1898 وغايتها خدمة الدين العلوم والآداب خصوصاً نشر الآثار الشرقية. نفع الله بها أهل الوطن ومحبي الدين والأدب. وكذلك بوشر بعدة جرائد منها لسان الحال ظهرت سنة 1877 ثم جريدة المصباح كان ينشئها المرحوم نقولا النقاش ثم جريدة التقدم كان صاحب امتيازها يوسف الشلفون. وجريدة الأحوال لصاحبها الأديب خليل أفندي البدوي. وأنشئت الصحافة اللبنانية فظهرت في بيت الدين جريدة لبنان الرسمية ثم الروضة (1894) ثم لبنان لصاحب امتيازها جناب إبراهيم بك الأسود ثم الأرز في جونية لطيي الذكر الشيخين فيليب وفريد الخازن.

وطبعت عدة مطبوعات مفيدة منهال تاريخية ومنها أدبية. وكانت مطبعتنا الكاثوليكية في مقدمة المطابع فنشرت بهمة مديرها وآباء كليتنا مطبوعات جليلة لا تزال معدودة من خيار المنشورات العصرية. ومما وجهت إليه عنايتها الكتب المدرسية لتكون في أيدي الأحداث قدوة ودليلاً.

على أن إدارة المعارف في الآستانة أخذت تنشئ القوانين الصارمة لتقييد حرية المطبوعات ولم تزل تضايقها شيئاً بعد شيء حتى بلغت في ضغطها حداً لا يكاد يتصوره غير اللذين قاسوا مضضه. ولعل ذلك الضنك الذي بلغ الروح التراقي كان من أقوى أسباب الانقلاب العثماني. ومن المطبوعات الجديرة بالذكر التي صدرت في ذلك الوقت في بيروت دائرة المعارف باشر بها المعلم بطرس البستاني ولم يتم منها إلا نصفاً. وكذلك طبع ديوان الأخطل وديوان الخنساء وديوان أبي العتاهية وأقرب الموارد للشيخ سعيد الشرتوني وفرائد اللآل في مجمع الأمثال للشيخ إبراهيم الأحدب وتاريخ ابن العبري وشرح المتنبي للشيخ إبراهيم اليازجي ومجموع مجاني الأدب وشروحه وكتاب ألف ليلة وليلة منقحاً وكتب أخرى عديدة جعلت لبيروت بين المستشرقين سمعة طيبة حتى ضربوا المثل بحسن مطبوعاتها. وكان الحظ الأوفى في ذلك للمسيحيين وخصوصاً للكاثوليك.

الجمعيات الأدبية

ومما يحيي الآداب ويبعث همم ذويها الجمعيات الأدبية وقد ذكرنا سابقاً ما أنشئ منها قي بيروت على أن تلك الجمعيات الأدبية انتقض حبلها وتضعضعت أركانها إذ تصدت لها الحكومة المحلية وكانت لا تزال تتصدرها وتتجنس بواطن أصحابها وتسيء الظن بهم فرأوا في شتاتهم خيراً لهم. وقد سعى مع ذلك الأدباء بإنشاء نوادي أدبية منها الدائرة العلمية المارونية التي عقد أصحابها من أساتذة لحكمة بعض جلسات في السنتين 1881 و1882 ونشرت نبذاً من أعمالها. ولم تطل كذلك حياة دائرة ثانية انتسبت إلى القديس جرجس دبرها الأب يوسف برنيه اليسوعي ثلاث سنوات وأتت ببعض النتائج الحسنة (1883 - 1886). وأسس الأمير كان جمعية أخرى مختلطة دعوها بشمس البر تلتئم حتى اليوم في أوقات معلومة وتتلى فيها الخطب في مواضيع شت تستشف من وراء بعضها حرية الأفكار.

المكاتب

وقد ساعد أيضاً على نشر الآداب في جهات الشام وبالأخص في بيروت أنشأ الكتبيين للمكاتب فأن باعة الكتب قبل السنة 1880 كانوا قليلين لا يزيدون على ثلاثة أو أربعة بين نصارى ومسلمين ففتحت عدة مكاتب حتى تجاوز عددها العشرين وكان بين الكتبيين رجال ذوو نشاط كانوا يجلبون المطبوعات من بغداد والعجم والهند ومن أوربا. ثم خمدت تلك الحركة بعد أن تشددت الحكومة في مراقبتها للمطبوعات فلم تكتف بأن تمنع الكتب المخالفة لسياسة الدولة بل حجزت على مطبوعات جليلة لمجرد ما توهمته فيها من المحظورات حتى لم تسمح بإدخال تاريخ أبي الفداء والعقد الفريد لأبن عبد ربه. وقد رأينا من مراقبة المأمورين عجائب وغرائب لو أثبتناها هنا لعدت من أساطير الأولين أو أقاصيص الأمم الهمجية.

ومع ما نفعت تلك المكاتب كنا نخص ذوي الأمر على إنشاء خزائن عمومية تودع فيها أخص المطبوعات الشرقية ليقتبس من أنوارها المشتغلون بالآداب كما هو جار في معظم البلاد المتمدنة لكننا كنا ننفخ في رماد ونضرب على حديد بارد. وإلى يومنا هذا نتمنى بفروغ الصبر أن تصرف بلديتنا نظرها إلى هذا الأمر النافع وقد أخذت تلوح اليوم بارقة أمل لتحقيق رغائبنا فلقي مطلوبنا إذناً سامعة.

على أن بعض الجمعيات استدركت المر وبذلت المال في تجهيز تلك الخزائن.

فأن المدرسة الأمريكية عنيت بفتح مكتبة في معاهد كليتها يبلغ عدد كتبها نحو عشرة آلاف بينها نحو ثلاثة آلاف كتاب عربي بين مطبوع ومخطوط وهي ترخص لأدباء البلدة فضلاً عن ذويها بمطالعة تلك المصنفات. وكذلك اهتمت إحدى السيدات الأمريكية بإنشاء غرفة للقراءة تعرض فيها الجرائد على القراء وتتضمن مع هذا عدداً وافراً من الكتب العربية وخصوصاً التآليف الدينية البروتستانية.

وكان رؤساء مدرستنا الكلية وجهوا جل اهتمامهم لإنشاء مكتبة واسعة تشتمل على أخص المآثر الشرقية التي لم تزل تمتد وتتسع حتى ينيف اليوم عدد كتبها على الخمسة والثلاثين ألفاً. بينها مجموع المجلات الآسيوية وأخطر التآليف وأعزها في كل ضرب من العلوم الشرفية. هذا فضلاً على ثلاثة آلاف كتاب مخطوط بنيف في العربية والسريانية والكلدانية والتركية والفارسية مع آثار قليلة في اليونانية والحبشية. فإذا أضيف إلى هذه الخزانة ما تحتويه المكتبة الغربية والمكتبة الطبية والمكتبة المدرسية وغيرها بلغ عدد كتب كليتنا نحو مائة وثلثين ألفاً. وكثيراً ما تلطف الرؤساء فسمحوا لآهل الأدب ويقطفوا ما شاءوا من تلك الثمار الجنية. ولم يريدوا أن يحرم طلبتهم الأحداث من مراجعة كتب الآداب فقربوا منهم منافعها وخصوا بهم مكتبة عربية يجدون فيها ما يهذب أخلاقهم وينير عقولهم ويفكه أرواحهم.

ومما يستحق الذكر بين مكاتب الشام خارجاً عن بيروت مكتبة الملك الظاهر في دمشق جمعت فيها على عهد مدحت باشا الكتب المتفرقة الموقوفة على الجوامع والمدارس فأضحت من أخص المعاهد الأدبية وهي تحتوي على نحو سبعة آلاف كتاب يغلب عليها الكتب الخطية النفسية.

فن التمثيل

ومما يعود فضله إلى بيروت خصوصاً في تعزيز الآداب العربية فن التمثيل وقد سبق لنا كيفية ظهوره على يد المرحوم مارون نقاش وما نجم عنه من المضرات بسوء استعماله في المراسح العمومية حيث مثلت روايات مخلة بالآداب. إلا أن هذا الفن الجليل عاد إلى شرف مقامه في المدارس المسيحية. وكانت كليتنا أول من سبق إلى تشخيص الروايات التمثيلية العربية سنة 1882 فكان مديروها يختارون لذلك الوقائع الخطيرة ولا سيما الحوادث الشرقية ليرسخ في قلوب طلبتهم مع حب الوطن ذكر تواريخ بلادهم. فمن جملة ما مثلوا حكم هيرودس على ولديه في بيروت واستشهاد القديس جرجس فيها ورواية صدقياً ثم داود ويوناتان. ومما اقتبسوه من تاريخ العرب رواية ابن السمؤل وراوية المهلهل وشهداء نجران ونكبة البرامكة وأخوة الخنساء. وكان للطلبة في تأليف بعض هذه الروايات سهم وافٍ إلا أن معظمها بقلم الآباء أو بعض أساتذة الكلية.

المحافل الأدبية

وكما مثلت المآسي والروايات الفاجعة أو الفكاهية كذلك كانت تعتقد في كليتنا محافل أدبية يحضرها أعيان البلد فيبحث الطلبة في بعض المشاكل التاريخية أو المسائل اللغوية والأدبية فيأتي كل منهم بما جادت به قريحته نظماً أو نثراً حتى يستوفوا الموضوع حقه أو يبرزوا محاسنه من كل وجه. فدارت بعض هذه المجالس على مفاخر بيروت ووصف الآداب العربية وتنصر النعمان ومآثر القديسين يوحنا فم الذهب ويوحنا الدمشقي وأعمال الرشيد وبني برمك والمأمون وعصره. وكان وجوه البلد يحضرون تلك الحفلات بملء الرغبة والشوق. وأخذت بقية المدارس تجري على هذه الآثار لا سيما المدارس الكاثوليكية كالمدرسة البطريركية ومدرسة الحكمة بهمة بعض أساتذتها الأدباء وخصوصاً عبد الله أفندي البستاني وتلميذنا المرحوم نجيب حبيقة.

الآداب العربية في مصر

هذه لمعة من أحوال الآداب العربية في بلاد الشام في الخمس الأخير من القرن التاسع عشر. وكانت مصر بعد تقدمها على الشام في النهضة الأدبية أصابها بعض الخمول رغماً من انتشار العلوم الحديثة في مدارسها ووفرة مطبوعاتها العربية وهمة خديويها محمد علي باشا وزير معارفها الهمام علي باشا. مبارك. ولعل سبب هذا الخمول إنما كان انصراف نظر أهلها إلى العلوم الأجنبية فكأن شيوخها ساعين في نقل التأليف الأوربية إلى العربية فيدرسونها في مدارسهم فيشغلهم الأمر على الاهتمام بالآداب العربية.

ثم حدث الثورة العرابية سنة 1881 واحتلت الجيوش الإنكليزية القطر المصري فكان الاحتلال مضراً للغة العربية من جانب ومفيداً من جانب آخر أما ضرره فقد حصل باتخاذ اللغات الأجنبية كلغات التدريس فحرمت العربية من التآليف المنقولة من غيرها إليها وأهمل كثيرون درسها. إلا أن مصر اعتاضت عن هذه الخسارة بفوائد أخرى كتنظيم الدروس العربية في مدارسها وإدخال تلك اللغة في جملة الدروس الثانوية لنوال شهادة الحكومة. وزاد عدد مدارس الأجنبية التي لم تكن لتغضي عن درس العربية كمدرسة العائلة المقدسة في القاهرة للآباء اليوسعيون ومدرستهم في الإسكندرية وكمدارس الأفريقيين في طنطا وزقازيق ومدارس عديدة لأخوة المدارس المسيحية.

وكذلك المدارس الوطنية زادت عدداً ونمواً في القاهرة وبقية بنادر القطر المصري حتى جعل لها ديوان يهتم لها ديوان يهتم بشؤونها دعي ديوان المدارس ثم عرف بديوان المعارف العمومية. وفي هذا الوقت حورت طرق التعليم في بعض المدارس المنشأة سابقاً لا سيما مدرسة الأزهر التي نالها بعض الإصلاح بدخول فروع جديدة من التعليم كالجغرافية والتاريخ لكنها لم تزل بعيدة عن مرتبة الكليات الأوربية.

وفتحت إذ ذاك بعض المكاتب الجامعة لمنفعة العموم. وكان أخصها المكتبة الخديوية التي أنشأت في عهد محمد علي إلا أنها لم تنظم ولم تحتفل بالمطبوعات والمخطوطات النادرة إلا بعد ذلك بهمة نظارها الأوربيين كالمرحوم الدكتور فولرس والدكتور مورتس.

ونشأت عقيب الاحتلال الإنكليزي الحياة السياسية بما منحته المطبوعات من الحرية واتسعت دوائر الصحافة خصوصاً فبلغ عدد الجرائد والمجلات العربية في مصر ما يربي على المائة. وكان للسوريين في هذه الحركة نصيب عظيم حتى كان أكثر مديري تلك المنشورات ومنشئيها من أهل سوريا وزاد عددهم في وادي النيل بعد ضغط الدولة العثمانية على المطبوعات حتى أناف على ثلثي الكتبة المصريين فتقدموا على غيرهم بما عرفوا بهم من النشاط والذكاء والتفنن في الكتابة. والحق يقال أن أكبر مجلات القطر المصري في تلك الأوان كالمنار والمقتطف والضياء والهلال وأعظم جرائده كالمقطم والأهرام والعمران كان يحررها السوريون. ومما اكتسبته مصر من الاحتلال الإنكليزي لنشر آدابها توفر المطابع وتحسن مادياتها فأمكن المصريين لو شاءوا أن يطبعوا الكتب طبعاً متقناً مطبوعات الشام. وقد استعاروا من مسابكها حروفهم. فنشرت إذ ذاك في وادي النيل معاجم جليلة كلسان العرب وتاج العروس ونهاية ابن الأثير. وكتب لسانية خطيرة كسيبويه ومخصص ابن سيده. وكتب تاريخية أخصها ما نشرته المكتبة الخديوية كتاريخ ابن اياس وتاريخ ابن دقماق وتاريخ ابن جيعان وتاريخ الفيوم. ومثلها تاريخ السخاوي وطبقات الأطباء لأبن أبي أصيبعة. وكتب أدبية كخزانة الأدب وحلبة الكميت للنواجي وبعض دواوين وتآليف أخرى. ومع ما أجدت هذه المطبوعات المصرية من المنافع للعلم لا يسعنا السكوت عن نقائض كثير منها كقسم طبعها وكثرة أغلاطها وقلة ضبطها بالشكل وخلوها من المقدمات المفيدة والشروح واللحوظات والروايات والفهارس. وربما عمد أصحابها إلى مطبوعات المستشرقين فنسخوها بحرفها ومسخوها بالتصحيف وجردها عن محاسنها وقد بينا كل ذلك في نظر سابق انتقدنا فيه مطبوعات مصر (في المشرق (11: 430 - 440) فشكونا عليه أو لو الذوق ومحبو الأدب أما الجمعيات الأدبية في مصر فسعا بإنشائها بعض ذوي الفضل والعلم من الفرنسويين وغيرهم فخدموا بها القطر المصري خدماً صادقة كما تشهد على ذلك منشوراتهم المطبوعة في كل عام وكان بعض الوطنيين من جلة القوم يشاركنوهم في الأعمال. وقد أراد الوطنيون غير مرة أن يجمعوا قواهم بالانضمام ويعقدوا جمعية علمية فلم ينجحوا وكان عقدهم ينفرط بعد قليل لتباين الأغراض.

الآداب العربية في أنحاء الشرق

أما الأقطار الخارجة عن الشام ومصر فكانت حركة آدابها خفيفة لم يشتهر في نهضتها إلا الأفراد. ففي هذه المدة أبرزت مطبعة الجوانب مطبوعات مفيدة حسنة الطبع كديوان البحتري وأدب الدنيا والدين وشرح مقصورة ابن دريد ورسائل فلسفية وأدبية متعددة لأبن سينا والثعالبي وللضبي وغيرهم. وأدى المرسلون الدومنيكان في الموصل بمطبوعاتهم الجديدة ومدارسهم خدماً تذكر فنشكر. وكذلك الآباء الكرمليون في بغداد عززوا مدارسهم فزاد إقبال الناشئة العراقية عليها. وقص آثارهم الكلدان الكاثوليك فجاروهم بتهذيب الأحداث.

وفي ذاك العهد دخل فن الطباعة إلى مكة فأنشئت مطبعتها الأميرية وأخص ما طبع فيها الفتوحات الإسلامية للسيد أحمد زيني دحلان وبعض الدواوين.

ونشرت في جهات العجم عدة منشورات بعضها تاريخية كمقاتل الطالبيين لأبي فرج الأصبهاني وروضات الجنات في أحوال العلماء والسادات. وبعضها أدبية ولغوية وأغلبها دينية وأكثر هذه المطبوعات سيئة الطبع يسقط بذلك معظم فوائدها. وربما كان طبعها على حجر في أسوأ صورة. ومثلها سقماً وسخافة مطبوعات الهند في لوكنو وبمباي فأن مطبوعات كثيرة ظهرت هناك كشفاء ابن سينا وقواعد العقائد الطوسي وشرح الهداية الأثرية لكنها لا تستحق اعتباراً لسوء طبعها. وأحسن منها رسائل أخوان الصفا وديوان علي بن أبي طالب وديوان الموسوي وديوان علي بن مقرب وديوان شرف الدين المقري وسبائك الذهب في معرفة قبائل العرب. وللحكومة الإنكليزية في كلكوتا مطبعة أصدرت عدة تآليف مفيدة أتقن طبعها وقد مر لنا ذكرها.

الآداب العربية في بلاد أوربة

أما المدارس العربية في أوربا فأنها نالت أكبر حظوى بهمة علمائها ومدارسها الكلية ومكاتبها الشرقية نخص منها بالذكر المكتب الشرقي الذي أنشأه الألمان في عاصمة برلين لدرس لغات الشرق وبالخصوص لتعليم العربية.

ومما أفاد الدروس الشرقية كثيراً المؤتمرات الدولية التي كانت تعقد كل سنتين أو ثلاث سنين في عواصم البلاد وكان أول تلك الاجتماعات العمومية في باريس سنة 1873 ثم في لندن (1874) ثم بطرسبورج (1876) ثم فيرنزة (1877) ثم برلين (1881) ثم ليدن (1883) ثم فينا (1886). إلى أن عقد المؤتمر الخامس عشر العام 1909 في كوبنهاغن (أطلب المشرق 11: 746). وقد ألقيت في هذه المؤتمرات عدة دروس وأبحاث كانت تجمع عادة فتطبع ومجموعها اليوم بمثابة مكتبة واسعة. وزادت المطبوعات العربية في هذه المدة زيادة عظيمة فأن المجلات الآسيوية القديمة وفرت قسماً أكبر من صحائفها للعلوم العربية ونشأت مجلات جديدة في عدة بلاد للأبحاث الشرقية عموماً والعربية خصوصاً كالمجلة الآسيوية النمسوية (WZKM) والمجلة الآسيوية الإيطالية وكمجلة الشرق المسيحي (ROC) وأصداء الشرق (EO).

وفي المدة ذاتها طبعت قوائم موسعة الآثار العربية التي تحفظ في خزائن الدول حتى لم يكد يبقى بينها لم توصف مخطوطاتها ونوادرها وصفاً مستوفياً.

أما الآثار القديمة التي صدرت بالطبع فكانت تبلغ المئات في السنة. وقد امتازت بمطبوعاتها العربية مطبعة ليدن حيث نشرت تأليف جغرافية وتاريخية وأدبية تعد من أشرف المطبوعات وأعظمها فائدة كمجموع جغرافي العرب الذي عني بنشره فقيد الآداب المأسوف عليه الأستاذ دي غوي (de Goeje) وكتاريخ الطبري الكبير وفتح البلدان للبلاذري ومفتاح العلوم للخوارزمي والأخبار الطوال للدينوري ورسائل الجاحظ وجزيرة العرب للهمداني تزين هذه المطبوعات ما يقدم عليها من الفوائد التاريخية وتذل بالروايات والملحوظات الدقيقة وتختم بالفهارس الممتعة. وكانت بقية الدول تتنافس في نشر كنوز أخرى دفينة. فبرز في ألمانيا كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية للبيروني وكتاب التاريخ الهندي له. وظهر في باريس كتاب مروج الذهب للمسعودي وأخبار ملوك الفرس للثعالبي وكتاب البدء والتاريخ للمطهر ابن طاهر المقدسي. وظهر في رومية كتاب دياطاسرون طاطانيوس أي الأناجيل الأربعة التي جمعها هذا الكتاب في القرن الثاني للمسيح ففقد أصلها ووجدت ترجمتها العربية. وهناك طبع ديوان ابن حمديس الصقلي وقسم من جغرافية الإدريسي.

الآداب العربية في أميركة

وكذلك أخذ الأميركيون يوجهون نظرهم إلى الشرق فأبرزوا مجلة آسيوية بلغ اليوم عدد مجلداتها فوق الأربعين. ولما هاجر السوريون إلى العالم الجديد كان دخولهم إلى تلك البلاد كبعثة أثارت في قلوب البعض الحمية لدرس اللغات الشرقية. وجعل السوريون ينشرون هناك الجرائد فبرز منها في العشر الأخير من القرن التاسع عشر جريدة كوكب أميركا للمرحوم نجيب عربيلي سنة 1892. ثم طبعت في فيلادلفيا جريدة الهدى لصاحبها نعوم أفندي مكرزل سنة 1898 وقد نقلها بعد مدة إلى نيورك. وأصدر نجيب أفندي دياب جريدة مرآة الغرب في السنة عينها ونشر في سان بولو الأديب شكري خوري جريدة أبي الهول. ثم تعددت بعد ذلك الجرائد في أوائل القرن العشرين في أميركا الشمالية والجنوبية حتى كادت تبلغ الخمسين. أما المطبوعات غير الجرائد فكانت قليلة الجدوى مدارها غالباً على القصص والروايات الخيالية.