الجزء الثاني: من السنة 1870 إلى 1900 - الفصل الثاني: الآداب العربية من السنة 1880 إلى ختام القرن التاسع عشر - أدباء النصرانية في هذه المدة

أدباء النصرانية في هذه المدة

قد امتاز في ختام القرن التاسع عشر نخبة من كتبة النصارى الذين تلقنوا الآداب العربية في مكاتب مللهم الخاصة أو في نوادي العلوم التي أنشأها المرسلون ولو أردنا ذكرهم فرداً فرداً لاتسع بنا المجال وحسبنا تعداد من برز بينهم بمعارفه.

كان في مقدمتهم رؤساء الطوائف من بطاركة وأساقفة وكهنة أفاضل لا يسعنا السكوت عن خدمتهم للآداب ومساعيهم الطيبة في ترويج أسواقها فضلاً عما خلفوه من آثار قلمهم. فكان على الطائفة المارونية السيد السند (البطريرك بولس مسعد) رعاها مدة 36 سنة بتقى واجتهاد وكانت وفاته في أواسط نيسان من السنة 1890 وله من العمر 85 سنة. وكان متضلعاً بالتاريخ الشرقي الديني والعالمي ومن آثاره كتابه التحفة الغراء في دوام بتولية العذراء وكتابه الدر المنظوم الذي طبع في طاميش وسعى هناك بطبع لاهوت القديس الفونس ليغوري معرباً إلى غير ذلك من الأعمال المفيدة.

واشتهر بين أساقفة الموارنة المطران (يوحنا حبيب) مطران الناصرة شرقاً (1816 - 1894) ومنشئ جمعية المرسلين الكريميين. تولى في لبنان القضاء زمناً على عهد الأمير بشير الكبير وبرع في معرفة الفقه والحقوق وكتب في ذلك تأليفاً. ومن مآثره تعريب اللاهوت الأدبي للأب يوحنا غوري اليسوعي في مجلدين وذيل ترجمته بملحوظات فقهية من الشرع الحنفي. وله رد على الشيعة الماسونية وعدة رسائل في مواضيع مختلفة لا تزال مخطوطة. أما جمعية المرسلين اللبنانيين فإنما أنشأها سنة 1865 ونسبت إلى الكريم وهو الدير الذي اتخذه في لبنان لإدارتها.

وممن عرفوا بسمو الهمة في تعزيز الآداب في الربع الأخير من القرن السابق أساقفة حلب الموارنة (السيد يوسف مطر 1814 - 1882) أنشأ في الشهباء مكتباً لملته واستجلب إليها مطبعة أدت للحلبيين خدماً مشكورة سبق لنا تفصيل مطبوعاتها (في الشرق 3(1900): 358). ودرج إدراجه خلفه (السيد بولس حكيم الحلبي 1817 - 1888) له مواعظ وخطب شتى. وكان يقول بديهاً القدود والقصائد والزجليات اللطيفة والأناشيد التقوية على اللهجة العامية.

وأناف عليها شهرة خلفهما السيد (جرمانوس الشمالي) من سهيلة كسروان المولود سنة 1828 والمتوفى في 8 ك1 1895 تهذب في مدرسة مار عبدا هرهريا الاكليريكية وبرع في معرفة اللغتين العربية والسريانية وعلّم هناك مدة عشر سنين بعد كهنوته سنة 1855 ثم انضوى إلى جمعية المرسلين اللبنانيين فكان أحد أعضائها الممتازين بأعماله الرسولية وتقاه وبلاغته إلى أن رقّاه غبطة البطريرك يوحنا الحاج إلى رئاسة أسقفية حلب سنة 1888 فأخذ اسم جرمانوس ذكراً بنابغة حلب السيد جرمانوس فرحات فساسها مدة سبع سنين بحكمة عجيبة وغيرة لم تعرف الملل حتى أدى به تفانيه في خدمة رعيته إلى انحلال القوى ثم إلى انقضاء الأجل يوم عيد حبل العذراء بلا دنس. وكان السيد جرمانوس مثالاً حياً لكل الفضائل الأسقفية. أما شهرته في الآداب العربية فتشهد عليها آثاره الباقية. منها مجلدان ضمنها مجموع خطبه وعظاته ثم ديوانه المسمى (نظم اللآلئ) وفيه كثير من المنظومات الجيدة. وقد سبق المشرق فأثبت ترجمة حياته مطولة (850:5 - 860) فنحيل إليها القراء. وهذا مثال من شعره نضيفه إلى ما هنالك وهو مدحه لمصر قاله سنة 1889:

أحسن بمصرَ وما شاءت مَواليها

من لي بهادٍ إلى مدحٍ يوازيهـا

عاينتُ أكثرَ مما كنتُ أسمـعـهُ

من عزةِ النفس والتقوى بأهليها

محروسةٌ صانها المولى بقدرتـهِ

وعينهُ لم تزل يَقْظى تراعيهـا

فيها مباني عِمادِ المجـد مـن قِـدَمٍ

تُعَدُّ أعجوبةَ الدنـيا مـبـانـيهـا

من فائض النيل تُسقى مثلما شرعت

من فائض العلم تَسْقي من ثوى فيها

تبارك الله ما أشهـى خـمـائلـهـا

تستنشق الروح رَّياها فتُـحـييهـا

فالبحرُ أوسطُها والَبرُّ حـاط بـهـا

والسهلُ والوعر كلُّ من فحاويهـا

سبحان من يجمع الـدنـيا بـواحـدةٍ

فتحتوي كل ما تحوي أقاصـيهـا

أهرامها الشمُّ وآثـارهـا شـاهـدةٌ

بعزةٍ الملك من إعصار بـانـيهـا

تُدعى بقاهـرة الأعـداء عـن ثـقةٍ

ومنبعُ العلم من اسْمي أسامـيهـا

ودَّعتُ قلبي لدى نظمي مـؤرخَـه

وداعً مصرٍ فإني غير نـاسـيهـا

(1889) وعرف أيضاً في هذا الزمان أحد رؤساء أساقفة قبرص المطران (يوسف الزغبي) درس في مدرستنا الاكليريكية في غزير ثم علّم في كلية ليل من أعمال فرنسة اللغتين العربية السريانية وسعى في أيام أسقفيته بإنشاء مدرسة قرنة شهوان سنة 1885 فنالت بهمته نجاحاً. وله كتاب في الفلسفة لم يسعده الوقت على إتمامه. وتوفي في أواسط كانون الأول من السنة 1890.

أما الكهنة الموارنة فنال السبق بينهم في الآداب الخوري (أرسانيوس الفاخوري) ولد في بعبدا سنة 1800 وتوفي في غزير سنة 1883 خدم الكنيسة والوطن بكل تفان فاتخذه القصّاد الرسوليون كمعاون لهم في أشغالهم. ولزم مدة أعمال القضاء في لبنان ودرس العلوم العربية والقوانين الفقهية لكثير من الطالبين كما ذكر في ترجمته المطولة التي نشرناها في المشرق (3 (1900): 606 - 616). وعددنا هناك ما أبقى من الآثار الجليلة كشرح ديوان المتنبي وشرح ديوان المطران فرحات ومطول في الصرف والنحو. وقد طبع من تآليفه كتابه روض الجنان في المعاني والبيان وكتابه زهر الربيع في فن البديع والميزان الذهبي في الشعر العربي. وله ديوان كبير اقتطفنا منه بعض قصائده في المشرق منها بديعيته (المشرق 4 (1901): 26) وقصيدته في خميس الأسرار (20 (1922): 385) وفي قبر المسيح (3 (1900): 363) وغير ذلك.

ومن شعره في الطهارة من أبيات:

يا صاحِ عِش متسربلاً بطهـارةٍ

 

تُصبِ المعالي في عُلى سربالها

لا إرْثَ في ملك الإله لفـاجـرٍ

 

هيهات أن يأوي السما مع آلها

فالله من دون الطهارة لـن يُرى

 

أنَّ النعيم معلَّق بكـمـالـهـا

وقال مخمساً لبيتين نظمهما أحد الشعراء:

أتوق لودِّ من يهـوي ودادي

 

وفي شكلٍ كلانا باتـحـادِ

كأني في وفاقٍ بـالـفـؤادِ

 

رأيتُ بنفسجاً في ظل وادي

وغصنَ ألبانِ منعكفاً علـيهِ

 

 

فكل يجذب الثاني لحب

 

كمغناطيس قد كنا يجـذب

وقلبه شاخص عيناً لقلـبـي

 

فقلت تأملوا بصنيع ربـي

شبيه الشكل منجذبٌ إلـيهِ

 

 

وله أرجوزة طويلة قالها 1869 ليبين فيها حرية الإنسان وخلو إرادته من الاضطرار السابق هاك أولها:

الحمدُ لله القدير الـسـرمـدي

 

حمداً يقيناً من شرور المعتدي

خلقنا الله عـلـى صـورتـهِ

 

وشبههِ جلَّ عُلَـى قـدرتـهِ

لكي نحبَّه هـنـا ونـعـبـدا

 

ونرثَ الملك الذي قد خُلِـدا

فينا اختياراً كاملاً قـد أوجـدا

 

لكلّ قولٍ ثم فـعـلٍ يُبْـتـدا

حرّيةٌ مـطـلـقةٌ وفـــيَّه

 

في فعل ما تريدهُ المـشـيّهْ

قد ضلَّ من قبل به الخـلافـا

 

ولا يرى رأياً بذا مُعـافـى

أمامك النيرانُ والمـاءٌ فـمـا

 

تختارُ منهما له أمدُدْ مِعْصما

بذا ابنْ سيراخَ الحكيم علـمـاًّ

 

كذا لنا الدينُ القويمُ سَـلّـمـا

لولا اختيارٌ لفـعـالِ فـاعـلِ

 

لم ُيجْزَ عنها من وليٍّ عـادلِ

وفي هذا العشر التاسع أي نحو 1880 وتوفي أحد شعراء لبنان الراهب الفاضل (القس أغناطيوس الخازن) من الأسرة الخازنية والرهبانية اللبنانية تولى زمناً طويلاً رئاسة دير البنات وكان معروفاً بفضله وجودة قريحته عارفاً بالفقه. وقد وقفنا له على ديوان مخطوط يدل على توقد فهمه وذكاء عقله ضمنه كثيراً من تواريخ لبنان من السنة 1850 إلى 1877 لكن نسخة هذا الديوان سقيمة قد تشوهت أكثر قصائدها بأغلاط النساخ. ومما يروى له قوله في دير سيدة ميفوق يشكو أثقال الرئاسة:

ويلٌ لمن طلب الرئاسة فاعتلـى

 

فالرفعُ بالخفض استبانَ ما ولى

كم بات مضطرباً لصرف مـلـمَّةٍ

 

كم ضاق من تعب الفؤاد فولـولا

تباً لها من مـهـنة بـل مـحـنة

 

يُلهْى بها النُّساَّك عن ربّ المـلا

كم حاسدٍ جلبَـت وردّت حـاسـداً

 

والبالُ فيها لا يزال مـبُـلـبـلا

مملوءةٌ مـرا ولا حُـلـوٌ بـهـا

 

تخلو من الحلوى وهل صبرٌ حلا

إن قيل كـلُّ الـمـرئاسة مـائلٌ

 

قلتُ الفراشةُ تشتهي ضوءاً صلى

وقال مؤرخاً وفاة الأمير حيدر اللمعي قائمقام النصارى المتوفى سنة 1854:

بكتِ العيونُ أمير عُربٍ حيدرا

 

من بعده هجر القلوبُ سلاما

إذ غاب عنها صاح كل مؤرخ

 

آهاً ببيتِ اللمعِ صار ظلاماً

وقال متفكهاً في أقرع أتته من بعض أصحابه قرعة مملوءة من الخمر الجيدة فعثرت رجله بها وأفاض الخمر:

قد صبَّ أقرعُ في طريقٍ قرعة

 

وأتى بعذرٍ يشتكي من تَعسـهِ

عزّيُتهُ بالقول طِبْ نفساً وسِـر

 

فالكل شيء آفهُ من جنـسـهِ

واشتهر بفنون الآداب كاهنان مارونيان من غزير وقعت وفتهما في الربع الأخير من القرن السابق. الأول (الخوري يوسف الهاني) وكان يدعى قبل كهنوته منصور الهمش تعلم في مدرستنا الاكليريكية في غزير وعلم فيها العربية. ومن آثاره مقاماته الغزيرية التي طبعت سنة 1872 في مطبعتنا الكاثوليكية وفي آخرها قصيدته العامرة الأبيات في لاموريسيار وجنوده المتطوعين البسلاء المعروفين بالزواوة الذين ماتوا شهداء في خدمة الكرسي الرسولي في كستلفيدردو سنة 1860 وكانوا من نخبة الشبيبة وأجال لشرف الأسر الكاثوليكية هذا مطلعها:

كريمَ النفس قُمْ بالنفـسِ فـادٍ

 

فقد نَسيَ العَقُوقُ ثَدى الولادِ

عهدتُ الحرَّ يعتنق العوالـي

 

ويدفعُ عنقهُ مـن ذي ودادِ

وإن خان الدعيُّ حـلـيبَ أمٍّ

 

فذاك بنفسهِ عنهـا يُفـادي

ومنها يصف ثورة أعداء الدين وشهامة أنصاره:

أثاروا ضـدَّ رأس الـدين حـربـاً

 

حِرَابُهمُ بهـا كـانـت صـوادي

ونادوا ابن مَـن يحـمـي ذمـاراً

 

ترومُ في نـزالَـهُ فـي أي نـادٍ

فما لـبـث الـرواوةُ أن أتـوْهـم

 

بأسرعَ من صدى الصوت المُنادي

وصـاحـوا يا لـحـقّ بـابـويٍ

 

متين الأصل مرتَفَعِ الـعـمـادِ

وشاقَتْهم كؤوس الحَتْـف شـربـاً

 

وحنُّوا للـمـهـنَّـدةِ الـحـدادِ

رويداً أيهـا الأبـطـال مَـهْــلاً

 

فسيفُ عُـداتـكـم الـدم صـادِ

حُسـامٌ مـن جـهـنَّـمَ قُـلّـدوهُ

 

تقدُّ شـفـارُهُ صُـمٍّ الـجـمـادِ

ألا دَعْنا نُلاقي الحـتـف عـفـواً

 

ولا تَحِرم جـياعـاً حـسـن زادِ

بمَ الأعضاء تـحـيا بـعـد رأسٍ

 

وكيفَ الجسمُ دون القلـب هـادٍ

فكُفَّ مـلامةَ الـحُـسـاَّدِ عَّـنـا

 

ونادِ على السطوح وفي المِهـادِ

دَعوهم ينصرون الحـقَّ جـهـراً

 

على أهل الضلالةِ والـفـسـادِ

دَعوهم في الفـخـار لـجـرِ ذيلٍ

 

ونَيلِ أكـلةٍ عُـقـبـى جـهـادِ

ولا تخشوا علـيهـم مـن ضـلالٍ

 

فلامـوريسـيَارُ أحـقٌ هــادٍ

إلى أن قال يمدحهم بفوزهم إكليل الشهادة:

فإذ شهد الرواوةُ تِي الـرزايا

 

ونارَ الحرب تُضرَمُ باتقـادِ

بدمِهمِ الزكـيَّ أطـفـئوهـا

 

وما أحلى الدماءَ بذا الجهادِ

فلا تحزن عليهـم نـادبـاتٌ

 

خرائدُ سافرات فـي حـدادِ

فإن غابوا فأقمـار تـوارت

 

وليس أفولها حدَّ الـنـفـادِ

وإن فقدوا الحياةَ فقد أصابـوا

 

بدار الخُلدِ مجـداً بـازديادِ

أتوا مولاهمُ شـهـداءَ حـقٍ

 

وعدوُّا القَتْل أشهى من شهادِ

وللخوري يوسف الهاني مآثر أخرى أخصها كتاب منارة الطلاب في التصريف والأعراب طُبع في مطبعتنا الكاثوليكية.ولهُ أناشيد متفرقة كقولهِ على لسان مريم العذراء عند مهد طفلها يسوع:

نَمْ يا حياتي بألـهـنـا

 

يا نور عيني والمُنـى

ذوقَنْ بطَرفٍ أنـعَـسِ

 

وسَناً يَلذُّ لـنُـعـسِ

في جَنْح ليلِ الحنـدسِ

 

فإلى جفونك قد دنـا

ولدي أيا زهر الرُّبـى

 

تسمو البنين كما الصَّبا

قد فُقتَ عِقداً مذَهـبـا

 

بل عقدُ درِ بالسـنـا

ما سوسنٌ في جـامـهِ

 

قد ذرَّ من أكمـامـهِ

مع وردهِ وخُـزامـهِ

 

يحيك يا بدر المُنـى

كانت وفاة الخوري يوسف الهاني في السنة 1885. أمَّا وطنيهُ الآخر (فالخوري حنَّا رعد) المعروف بالعاصي أيضاً كان ذا قلمٍ سيَّال يحسن الكتابة نُظماً ونثراً. ولهُ ديوان شعر مخطوط يضنُّ بهِ آلهُ ويحاولون نشرهُ سلس مطبوع روينا منهُ سابقاً قصيدة في مريم العذراء(المشرق 7: 431). ومن جملة أقوالهِ قصيدة دعاها جبر الكسر يذكر فيها وفاة البطريرك بولس مسعد ويهنئ بها خلفهُ السيّد يوحنا الحاج سنة 1890:

بالأمس كان الرثا والدمعُ ينـسـجـمُ

 

واليوم عمَّ الهنا والثغـرُ يبـتـسـمُ

طافت بنا الكأس من صابٍ ومن عسلٍ

 

والحمدُ لله في الحالـين مـلـتـزمُ

لا يهملُ الله في الجُلَّى كـنـيسـتَـهُ

 

ولو أحاطت بها الأرزاءُ تلـتـطـمُ

أزال بالحبر يوحـنـا مـصـائبـنـا

 

فالكَسرُ مُنجَبرٌ والجرحُ مـلـتـئمٌ

وهي طويلة ختمها بقولهِ:

أنت المؤمَّل أن تُضحي رئاستُـهُ

 

لنا وللدين حصناً ليس ينـثـلـمُ

آمالنا فيك كالألحاظ شـاخـصةٌ

 

لها معانٍ ولكن ما لهـا كَـلـمُ

جئنا نهنيك لكن ألـهـنـا لـنـا

 

فإنَّ نعماك للأبناء مـغـتـنـمُ

فاقبل ثناء بلا مـنِّ وتـهـنـئة

 

بهما يُترِجمُ عن فحوى الفؤادِ فمُ

وكان المترجم مولعاً بفرنسا يعظم مفاخرها ويطرأ بشهامة أبنائها ويشكر لدولتهم التي أنقذت نصارى الشرق من نكبات المعتدين فمن ذلك عينيَّته الشهيرة التي قالها سنة 1860 بعد حوادث الشام:

كفَّ البكا وامسح عيوناً تـدمـعُ

 

واحفظْ بقيَّة مهجةٍ تتـصـدَّعُ

صبراً ولا تهلك أسى وتوجعـاً

 

فلعلَّ سعدك في الطوالع يطلعُ

يا شرقُ أمركَ مذهلٌ أو معضل

 

والقلب حيران لذاك وموجـعُ

قد كنتُ آلفت المـصـائب ذلّةً

 

حتى دهتك مصيبةُ لا توسـعُ

لبنانُ ما هذه الجماجمُ والـدمـا

 

ما للمنازل وهي قفرٌ بلـقـعُ

إلى أن قال على لسان الرب ملبياً دعوة المنكوبين:

حتّام تفتـرسُ الـذئاب رعـيَّتـي

 

فقطيعيَ المختار كـاد يُقـطَّـعُ

ولقد أقمتُ لنصر شعبي ظـافـراً

 

بطلاً تخرُّ لهُ الجهـات الأربـعُ

صحنا وكان إلى فرنس الصوت: يا

 

نابوليون. أجابنا: لا تـجـزعـوا

إني لمنجدكم وكاشفُ كَـربـكـم

 

برضى الإلهِ سواهُ فخراً يُمنـعُ

ومنها في وصف الحملة الفرنسويَّة:

وكواسرُ لا الهولْ في أوهـامـهـا

 

هولٌ ولا في الموت المريع يروَعُ

لا ترهبُ الأسيافَ إن سُـلَّـت ولا

 

تحمي الجيوشُ ولا المدافعُ تدفـعُ

منها الرؤافُ ولم تكن يوماً سـوى

 

الموت الزؤاف وكل عات موقعُ

تلك البُحورُ على البرور طمت ولا

 

سدٌ يصدُ ولا حـجـابٌ يمـنـعُ

ليس الملا إلا المراكـبُ والـمـوا

 

كبُ والقواضبُ والقنـا والأدرعُ

وهي السوابقُ والسرادق والـبـنـا

 

دقُ والصواعقُ والمنيَّةُ تـتـبـعُ

سعداً لـيوم بـشَّـرت أعـلامُـهُ

 

أن الحياة من الـمـنـية أسـرعُ

لله درك يا فـرنـسـا مـركـزاً

 

للدين والدنيا إلـيكِ الـمـرجـعُ

لولاكِ لم يشـرق نـهـارُ سـلامة

 

فينا ولا زال الشقا المستفـظـعُ

وهي طويلة أبياتها من غرر الأقوال تتدفق جوداً ورقَّة. ولهُ قصيدة مثلها في بلاغتها وهي نونيَّة قالها سنة 1871 لمَّا زار لبنان القنصل الفرنسوي روستان مطلعها:

حبٌ قديمٌ ثـابـتُ الأركـانِ

 

لفرنسَ قام على ذُرى لبنان

وللخوري حنَّا رعد عدَّة أناشيد يتغنى بها النصارى إلى يومنا هذا في المجتمعات التقوية كقولهِ في مدح البتول:

مَجْدُ مـريم يتـعـظّـمْ

 

في المشارقْ والغروبْ

وقولهِ:

عليك السلامُ بلا مـالْ

 

يا نجمة البحر والأملُ

وقولهِ في القربان الأقدس:

لك التسبيح والشـكـرانْ

 

لك المجد يا سرّ القربانْ

 توفي الخوري يوحنا رعد في 13 أيلول من السنة 1900  وفي 19 شباط من السنة 1889 فقدت الشهباء أحد كهنتها الموارنة الإجلاء (القس اغوسطينوس عازار) درس العلوم في مدرستنا الاكليريكية في غزير وكان يسمى جرجس وبرع في اللغة العربية فلمّا عاد إلى وطنه انقطع إلى التدريس والتأليف ونقل الكتب العربية وخدم الآداب نحو عشر سنين. ومن تآليفه كتاب خلاصة المعرفة في أخص قضايا الفلسفة طبع سنة 1886 في بيروت. ولهُ ديوان شعر أخذته يد الضياع إلا بعض القصائد التي نشرت في المجاميع الأدبية.فمن قوله في رثاء يذكر الموت:

من أين يرجو المرء خلـداً إذ يرى

 

كلاًّ يزول مع الزمـانِ ويُدفـعُ

إن الحياة لدى الحقيقةٍ عـهـدُهـا

 

يمضي كلمع البرق أو هو أسرعُ

كلّ لـهُ يوم يودّعُ أهـــلَـــهُ

 

فيه وداعـاً مـطـلـقـاً ويودَّعُ

لا فرق عند الموت بـين أكـابـرٍ

 

وأصاغرٍ حين القضاء يُلعـلـعُ

ما هذه الدنيا لدى عـينـي سـوى

 

سفرٍ إلـى أبـدية لا تـرجـعُ

إن رمتَ يا صاحِ السعادةَ والبقـا

 

فاسلك سبيل الله صدقاً تنـجـعُ

وله في يوبيل البابا لاون (سنة 1887 - 1888) قصيدة غراء افتتحها بقولهِ:

نادى المنادي بَوْحي اللـه مـا كـتـبـا

 

في آية النصر إنَّ الليث قد غـلـبـا

ليث من الأنس تخشى الأرض سطوتـه

 

في الغرب والشرق إن عجماً أو عربا

فأعجب له أسداً بالبأس مـنـتـصـراً

 

بالأنس مشتهرا في الكون مرتهـبـا

ومنها:

رعياً لراعٍ رعى حقَّ الإلـه ولـم

 

يُبدِ التساهلَ فيما العدلُ قد طلـبـا

مذ قام حق قيام فـي رسـالـتـه

 

بهمة بلغت غـاياتـهـا الأرَبـا

ووفق الدين والدنيا بـحـكـمـتـهِ

 

ولم يَدَعَ لهما عذراً ولا سـبـبـا

يمناهُ حاملةُ الإنجيل مـا بـرحـت

 

يسراهُ تعضد ساداتِ الورى الحُسبا

قوَّى الملوك على أعداء سلطتـهـم

 

بكبحهِ الثورة الشنعاء والغضـبـا

وقام بجهد في العمران طـاقَـتـهُ

 

فردَّ ما كان منهُ الدهرُ قد سلـبـا

هز العصا فأراع الكفر فارتعـدت

 

منها العُصاةُ فماذا لو بها ضربـا

وهي طويلة بليغة ختمها بهذا التاريخ:

قد حاز لاوون ما التاريخ ينـشـدهُ

 

اسماً مدى الدهر يبقى ذكرهُ عجبا

ولم يتأخر الأكليروس السرياني الكاثوليكي في نهضة الآداب العربية في ختام القرن التاسع عشر ففي سنة 1874 توفي البطريرك (فيلبُّس عركوس) وكان متضلعاً بعدَّة لغات شرقية وغربية. له كتاب مخطوط عنوانه قوت النفس فيه إرشادات ومواعظ. فخلفه السيد البطريرك (اغناطيوس جرجس شلحت) الحلبي الأصل (1818 - 1891) اشتهر بالعلوم الطقسيَّة وعززَّ الموسيقى الكنسيَّة. ومن آثاره الطيبة كتابان أحدهما يحتوي على مواعظ وخطب دينيَّة والآخر ضمّنه تاريخ الكنيسة الشرقية.هذا فضلاً عن عدَّة كتب طقسية سعى بتنقيحها وطبعها في السريانيَّة والعربية.

وقام من بعده السيد (اغناطيوس بهنام بني) الموصلي (1891 - 1897) درس في رومية العظمى ونال شهادة الملفنة في اللاهوت والفلسفة. وقد نشر في مطبعة الآباء الدومنكيين في الموصل كتاباً أثبت فيه حقيقة الكنيسة الكاثوليكية دعاهُ الدرَّة النفيسة في حقيقة الكنيسة ولهُ كتاب كلندار السَّنة لأبرشية الموصل السريانية. في رئاسة بطرس وخلفائه الأحبار الرومانيين.

وزيَّن الشام في أواخر ذلك العصر خبران جليلان من الطائفة نفسها أعني السيد (تاؤفيلس أنطون قندلفت) الحلبي (1836 - 1898) الذي تعين مطراناً على طرابلس وسكن بيروت. وله تركة علمية واسعة منها دينية كالسراج الوهَّاج في سنة الزواج والرأي الأمين في حل بعض المشاكل الزيجية عند الشرقيين وكتاب مواعظ دعاه عقود الجمان في شرح قانون الإيمان في ثلاثة مجلدات أردفه بكتاب القلادة الدرية في شرح الوصايا الإلهية وكتاب القيثارة الشجية في التسابيح الإلهية جمع فيه تسابيح وأناشيد تقوية أدرجها في الكنائس وكل هذه الكتب إلا الأخير نشرت. بالطبع أما كتبه الأدبية فمنها رواية ظريفة تدعى الذميم والذميمة وكتاب الذكرى لمن اعتبر يحتوي انتقادات وحكماً وشذرات أدبية بالنثر والنظم لم يطبع. وله عدَّة مقامات وقصائد وروايات طبعت في مجلة النحلة وفي بعض المجاميع فمن قوله في مدح أحد أدباء الآستانة يوسف نعمة الله جد:

ما لي وللدهر دَعنْي أنني ثَـمِـلٌ

 

من راح أهل الوفا والفهم والكَرَمِ

من جدُّهم جاد واستعلت معالمهـم

 

حتى غدا فضلُهم ناراً على علـمِ

من أهل جدٍّ فتى رام العُلى فَعَـلا

 

بالفضل والعقل والإحسان والشيمِ

سميُّ رأي سني الفكـر ذو حـذقٍ

 

في وصف جانبهِ قد حار كل فمِ

وله مجيباً لقدسي زاده قدري بك وكان أرسل إليه قصيدة يعرب فيها عن أشواقه إلى وطنه وخلانه في الشهباء أوَّلها:

يا راقياً يبغي ذوى الشهباءِ

 

ومعرّجاً للبلدة البيضـاءِ

فوجَّه المطران انطون إليه بهذه القصيدة من بحرها وقافيتها:

يا صاعداً أوج العلى بـثـنـاء

 

ولواك منعقدٌ على الجـوزاء

وسواك يبغي المجد لكـن جـدُهُ

 

هيهات مثلك يا ذُرى الفضلاء

حسبٌ وفضلٌ قد جمعت كليهما

 

مع رقَّة ومكـارمٍ وسـنـاء

أوليتني الإحسانَ بالتـوديع فـي

 

مصرٍ بخير قصـيدة غـرَّاء

فيها الحنينُ إلى المواطن والحما

 

وإلى الأفاضل من بني الشهباء

فلثمتها وتلوتها ونـشـرتـهـا

 

وحسبتها من أوجه النعـمـاء

ومنها:

أنت الـمـلاذْ لآل قُـدْس وأنْ

 

ت الفخرُ للأوطانِ يا مولائي

لم تنس شيمتك الكـريمة دائمـاً

 

بالحلَ والترحـال دون وفـاء

فلتفتخر حلبٌ بعبد الـقـادر م

 

القُدسي على الأقطار والأنحاء

وختمها بقوله:

خذها لردّ صدى الوداد على الندى

 

من ذي وفـاء ودُهُ بـصـفـاءٍ

وأصفَحْ بفضلك عن قصوري إنني

 

في كنفِ عفوك قد وجدتْ حمائي

وزاد على من سبق ذكرهم شهرة السيد (اقليميس يوسف داود) ولد في الموصل من أسرة كلدانية في 23 تشرين الثاني سنة 1829 وبعد أن درس فيها مدة في مدرسة الآباء الدومنيكيين ثم في مدرسة الآباء اليسوعيين في غزير أتم دروسه في رومية وحاز السبق على أقرانه في العلوم الدينية والدنيوية ثم انضوى إلى الطائفة السريانية وعاد إلى وطنه وعلم عدة سنين في مدرسة الآباء الدومنيكيين فتخرج عليه كثيرون عرفوا بآدابهم ومنشآتهم ووكل المرسلون إليه نظارة مطبعتهم وإصلاح منشوراتها فقام بالأمر أحسن قيام واهتم بطبع تآليف جمّة لا تزال واسطة قلادتها.وقد اهتم بالأعمال الرسوليَّة اهتمام العبد الصالح فخدم النفوس بالمواعظ والكتابة والتأليف وإنشاء المدارس إلى أن عهد إليه الكرسي الرسولي تدبير أبرشية دمشق فلبَّى دعوته مرغوماً. وآثاره العديدة في الفيحاء لا تزال تنطق بفضله وهناك أقيم له نصف تمثال من الرخام في الدار الأسقفية التي زانها بفضائله وعلومه من السنة 1878 إلى تاريخ وفاته في 4 آب 1890. وقد استوفى جناب الفيكنت فيليب نصر الله طرَّازي ذكر أعماله في كتابه القلادة النفيسة في فقيد العلم والكنيسة الذي طبعه في مطبعتنا سنة 1891 وهناك تجد جدول تآليفه المطوَّل. ومجموع آثاره العلمية في كل الفنون والمعارف العصرية تنيف على الثمانين تأليفاً أو تعريباً أو إصلاحاً وتنقيحاً. بينها قسم واسع في الآداب العربية من صرف ونحو وعروض وخطب وتاريخ وآداب شعريَّة ونثرية لعله أول من زوَّد المدارس الكاثوليكية بكتب تعليم منقحة.وتعريبه للأسفار المقدَّسة ينبئ بفضله العميم. وأما آثاره بالسريانية فتكاد لا تحصى. وله حتى يومنا عدة تصانيف لم تنشر بالطبع مع كثرة فوائدها. وكان للسيد اقليميس داود مقام جليل بين العلماء الأجانب يقدرون قدره في كل الأبحاث الشرقية وقد رثاه كثيرون بالمراثي النفيسة ومن أجودها قول الدكتور لويس صابونجي:

وترثي دمشقُ الشام فَقْد عزيزهـا

 

مع الموصل الحدباء إذ قام مشهَدُ

سأبكي عليه ما تقطَّر مدمـعـي

 

وراح يمامُ فـي الأراك يغـردُ

بكتهُ طروسٌ والـيراعُ ونَـثُـرهُ

 

وناح عليه الشعر إذ بات يُنَشَّـدُ

بكتُهُ علوم الأولـين بـأسـرهـا

 

بدمعٍ غزير سيلـهُ لا يُجّـمـدُ

وراح عليه المجدُ يبكي تـأسـفـاً

 

وقلبُ المعالي بالمرائر يَفـسُـدُ

وراح من السريان مجمعُ شـرفةٍ

 

يُقرُّ لهُ بالفضل في مـا يحـدّدُ

ومجمعُ واتيكانَ يندب فُقْـدَ مـن

 

لديهِ تقاليد الـطـوائف تـوجـدُ

وهي طويلة منها قوله في قير الفقيد:  

عليك سلامُ الله ما ضـاءَ فـرقـدٌ

 

ودمتَ بقطْر الغيث تُسْقى وتُقْصدُ

سألت الهي أن يمنَّ بـفـضـلـهِ

 

عليَّ بتقبيل الضريح فـأحـمـدُ

واغسل ذاك القبر بالدمـع فـرجةً

 

لأن غليلي بـالـدمـوع يُبـرَّدُ

وممن اشتهر بين كهنة السريان الخوري (يوسف معمار باشي) المارديني تلميذ مدرسة بروبغندا ودير الشرفة رحل إلى أميركا سنة 1880 وسطر أخبار رحلته في كتاب دعاه إرشاد القريب والبعيد إلى معرفة العالم الجديد. توفي سنة 1879.

وكذلك عرف كاهن فاضل كان من تلامذة مدرستنا في غزير ومدرسة الشرفة الخورفسقفوس (ميخائيل دلاَّل) تولى كتابة الأسرار للبطريرك جرجس شلحت زمناً طويلاً وكان شاعراً مجيداً. ومن آثاره روايات أدبية كإحسان الإنسان والنفح في الفتى المهاجر والفتاة الخرساء. وله ديوان شعر غير مطبوع فمن أقواله الزهديّة:

أرى الدنيا بهاهـا لا يطـولُ

 

وزُخْرفها بـرمـتَّـهِ يزولُ

فعزَّتُها وبهجـتـهـا خـيالٌ

 

وزهرُ الحَقْل برهان دلـيلُ

فهذا الزهرُ عند الصبحِ يزهو

 

ويفتك في المساء به الذبولُ

فكيف الناس في لهوٍ حـيارى

 

ورأسهمُ تدور بهِ الشَّمـولُ

ألا ليت الأنامَ يعون قـولـي

 

ففي الأخرى لهم خيرٌ جزيلُ

وقال من قصيدة طويلة في مديح لاوون الثالث عشر:

حبرُنا لاوونُ من قـدراً سـمـا

 

وتعالى سـؤدداً دون مـثَـلْ

من حباهُ اللـه أوفـى مـنـحةٍ

 

إذ رآهُ مستحقـاً لـلـنِـحَـلْ

خلف المغبوط شمعونَ الصفـا

 

من مفاتيح السماوات اقتـبـلْ

فبغى نصراً لحق الـدين فـي

 

كل حال منه لا يهـوي بـدَلْ

وأزاح الستر عما قـد فـشـا

 

من ضلال الكفر في كل محلْ

إن أقُل فيهِ ختـامـاً قـد غـدا

 

مِحْوَرُ الدنيا علـيهِ لا جَـدَلْ

توفي القس ميخائيل دلال سنة 1894.

وقد جارى الأكليروس الكلداني اخوتهم السريان في رفع لواء الآداب إلا أن همتهم كانت مصروفة إلى لغتهم فإن مطبعتهم في الموصل عنيت خصوصاً بنشر الآثار الكلدانية. على أن (جرجس عبد يشوع خياط الموصلي) كان يتقن اللغتين السريانية والعربية وله في كلتيهما مصنفات. ومن تآليفه العربية مجموع بالنثر والنظم لإفادة طلبة المدارس دعاه روضة الصبي. وله فصول في التواريخ القدسية عربهُ من تاريخ بيليز (Beleze) وذيله وطبعه في مطبعة الآباء الدومنيكان. توفي السيد عبد يشوع سنة 1899.

وممن عني من الكلدان بنشر الآثار العربية القس يعقوب نعمو نشر كتاباً جليلاً للبطريرك النسطوري ايليا الثالث المعروف بابي الحليم ابن الحديثي في القرن الثالث عشر يدعى التراجم السنية للأعياد المارونية يحتوي عدداً من أنفس الخطب الدينية وأبلغها كلها مسجعة يقر لها بالبلاغة كل من يسمعها. وقد نشرنا في المشرق خطباً له لم نجدها في هذا المجموع.

أما الروم الأرثذكس فقد أشتهر في أكليرسهم بالآداب العربية السيد (جراسيموس يارد) مطران صيدانيا ومعلولاً زحلة. كان مولده في راشية سنة 1840 وبعد درس في مدرسة طائفة في دمشق علم في مدرسة حماة ثم أرسل إلى موسكو سنة 1858 لتدبير أو نطش ملته فيها فوجهت إليه الدولة الروسية أنظارها ودعته إلى تدريس اللغات الشرقية في مدارسها فقد ألف هناك كتباً بالروسية طبعت على نفقة الدولة منها تاريخ فوطيوس في نظر الروم. وفي السنة 1883 عاد إلى بلاد الشام وخدم الكرسي الأنطاكي بنشاط حتى رقي إلى رتبة الأسقفية سنة 1889 فدبر ابرشيته عشر سنوات وكانت وفاته في أيلول سنة 1899. ومما تركه من الآثار تعريف كتاب خلاص الخطاة ورواية إقرار بيلاطس وكراريس في الرتب والطقوس والأعياد الكنسية. وكان خطيباً مفوهاً.

البستانيون

نقدم ذكرهم على بقية الأدباء العالميين الذين اشتهروا في ترقية الآداب العربية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وكان أشهرهم المعلم (بطرس البستاني) لأنه ولد في الدبية من إقليم الخروب سنة 1819 من عائلة مارونية وجيهة وفي صغره تلقى العلوم في مدرسة عين ورقة وهوريد الانتظام في سلك الأكليروس ثم جنح إلى البرتستانية وأخذ عن مرسليها المعارف المستحدثة ودرس عليهم العبرانية وعلم في مدرسة أعبيه لرسالتهم الأمريكية وأظهر من الاجتهاد في التحصيل والبراعة في التعليم ما حببه إلى أصحاب تلك الرسالة كالدكتور عالي سميث والد الدكتور فان ديك فأستدعوه إلى بيروت بمؤازرتهم في أعمال مطبعتهم فساعدهم في عدة تآليف أخصها ترجمة التوراة من العبرانية إلى العربية وتولى مدة منصب الترجمة في قنصلية أميركا ثم تفرع للتأليف ووضع عدداً من الكتب المدرسية في الصرف والنحو والحساب ثم باشر بقاموسه المطول المعروف بمحيط المحيط واختصروه في قطر المحيط فنال من السلطان عبد العزيز الوسام المجيدي من الطبقة الثالثة ومبلغاً وافراً من المال كجائزة على عمله. ولما رأى الصحافة في سورية ضيقة النطاق عدل إلى إنشاء الصحف فحرر مع آله الجنان والجنة والجنينة وكان الجنان مجلة تتضمن المباحث السياسية الحرة والمقالات العلمية والتاريخية والأدبية ثم عهد إلى ابنه سليم مواصلة هذا العمل وأبتدأ أول دائرة علمية ظهرت في اللغة العربية فأبرز منها سبعة أجزاء قبل وفاته. وكان المعلم بطرس مع وفرة هذه الأعمال يتعاطى التدريس فأنشأ في بيروت مدرسته الوطنية التي نالت بهمته نجاحاً إلى أن اضطرته أعباء الأشغال إلى انتداب ابنه سليم إلى إدارتها ثم أقفلت بعد حين. وكانت وفاة المعلم بطرس فجأة في غرة أيار سنة 1883 وممن رثاه الشيخ خليل اليازجي فقال من قصيدة:

يا قُطرْ دائرة المعارفِ والحجى

 

ومحيط فضل فاض في إمدادهِ

تبكي العلوم عليك واللغة التـي

 

بقريضها توثيك في إنـشـادهِ

فإذا المحيط بكاك لم يكُ دمعـهُ

 

دون المحيط يزيد في إزبـادهِ

يبكي الحسابُ عليه متَّخـذا لـهُ

 

دمعاً يسيل عليك من أعـدادهِ

تبكي المدارس والجرائد حسرةً

 

والشرق بين بلادهِ وعـبـادهِ

وفي السنة الثانية 1884 نشبت مخالب المنون في نجله (سليم البستاني) وكان سليم يتقيل أباه في نشاطه وهمته وآدابه وقد ساعده في تحرير مجلة الجنان فكتب فيها فصولاً واسعة وتولى إدارة صحيفة الجرائد وأنجز الجزء السابع من دائرة المعارف ونشر الجزء الثامن. ولم يظهر من هذا التأليف بعد ذلك إلا ثلاثة أجزاء تولى نشرها شقيقاه البستانيان نجيب ونسيب ولا سيما أن عمهم سليمان النابغة الشهير المتوفى حديثاً ولعل الباقي أن ينشر أبداً. وكان الأجدر بمؤلف هذه الدائرة أن يقسم الشغل على جملة من الكتبة فيتولى كل منهم تحرير القسم الخاص به فأن ذلك كان أضمن لإنجازها فضلاً عن كونه أشمل لموادها وأوفى بفوائدها فإن هذه الدائرة مع محاسنها بعيدة عن الدوائر الأوربية التي يتولاها قومٌ من الاختصاصيين. ومن أكبر خللها أن موادها الشرقية فان مؤلفيها نقلوا خمسة أو ستة من الكتب العربية الشائعة ولم يعنوا بالبحث عن كثير من المطالب التي تهمنا من تاريخ بلادنا.

ولسليم البستاني روايات قصصية نشر كثيراً منها في الجنان وروايات تمثيلية كرواية الإسكندر وقيس وليلى جرى تمثيلها في الجمعية السورية وكان أحد أعضائها الممتازين. ونشر أيضاً باسمه تاريخ فرنسة بمجلد كبير وإنما الفضل في تأليفه لجناب الشيخ خطَّار الدحداح. توفي سليم البستاني في 13 أيلول 1884 وكان مولده في اعبيه في 28 ك1 سنة 1848 وكان في العربية أحد المتخرجين على الشيخ ناصيف اليازجي. وممن شرفوا الأسرة البستانية بآدابهم دون أن تصيبهم في دينهم شائبة كالمعلم بطرس وابنه سليم السيد الجليل (بطرس البستاني) رئيس أساقفة صور وصيدا. على الموارنة (1819 - 1899) وأحد تلامذة عين ورقة خلف عمَّه المطران عبد الله البستاني منشئ مدرسة مشموشة في تدبير كرسي صور وصيدا وكان متضلعاً بالعلوم الدينيَّة والفقهية واشتهر بتعليم الحقوق والفرائض واتخذه مدة السيد البطريرك بولس مسعد لكتابة أسراره إلى أن سامه أسقفاً سنة 1866 واستصحبه إلى رومية في رحلته إليها سنة 1867 احتفالاً بالتذكار المئوي لاستشهاد القديسين الرسولين بطرس وبولس وسنة 1870 لحضور المجمع الواتيكاني. توفي في 2 تشرين الثاني 1899.

وقد اشتهر من الأسرة البستانية غير هؤلاء سيأتي ذكرهم في تاريخ آداب العربية في القرن العشرين. فإنهم إجمالاً قد حققوا معنى اسمهم فأغنوا الآداب بما غلَّه بستانهم من الأثمار الجنيَّة.

ومن مشاهير لبنان في الأدب وفنون الكتابة (يوسف حبيب باخوس) الكسرواني الغزيري من الأسرة الباخوسية الشائعة الفضل ولد في 5 أيار سنة 1845 في غزير وفيها توفي سنة 1882 في ريعان شبابه وقد أدى للآداب العربية مع قصر حياته خدماً مشكورة. فانه بعد أن تلقن العلوم في مدرسة مار عبدا هرهريرا قريباً من عرامون انقطع مدة للتدريس في مدرسة عينطورا ثم في مدرسة الحكمة في بيروت حتى انتدبته حكومة دولة إيطالية إلى تحرير جريدة عربية في كالياري من أعمال سردينية فرضي بذلك وباشر بالعمل وأنشأ جريدة (المستقل) وحررها سنتين. ثم حرر جريدة البصير في باريس خدمة للمصالح الإفرنسية وقد أصابت الجريدتان بهمته بعض النجاح لولا أن المرض أحوجه إلى مغادرة القلم للاهتمام بصحته. فرجع إلى وطنه وما نشب أن توفى. وقد نشر المشرق ترجمته مطولة بقلم أحد آله الأدباء نحيب أفندي باخوس (المشرق 5 (1902): 151 و497) وهناك عدة مقاطيع نثرية وشعرية تشهد له بانسجام الكلام ورقة النظم والتفنن في الكتابة فعليك بها. وكذلك مر لنا وصفه في باريس (في المشرق 3 (1900): 348) ولدمار بومباي (3: 462) وقصيدته في حكمة النفس (3 : 322) وليس في الإعادة إفادة.

وفي السنة 1883 رزئت الآداب بأحد أبناء عائلة شريفة في بيروت المرحوم (سليم بن موسى بسترس) كان مولده في بيروت في 29 آب سنة 1839 وأقبل صغيراً على درس الآداب العربية وبعض اللغات الأجنبية وفي السنة 1855 تجول في أنحاء أوربة وزار عواصمها. وقد وصف رحلته في كتاب طبعه في المطبعة السورية دعاه النزهة الشهية في الرحلة السليميَّة. ثم تعاطى بعد ذلك الأشغال التجارية في الإسكندرية ثم انتقل إلى إنكلترة وسكن ليفربول ولندن واتسعت هناك أشغاله وعرف بفضله وسخاء يده فتوفر عدد أصحابه بين وجود البلاد وأعيانها ونال من محاسن الإمبراطور إسكندر الثاني التعطفات الفائقة وحاز الامتيازات الخاصة وكذلك الدولة العثمانية منحته أوسمتها العالية الشأن. وكانت وفاته في لندن في 3 شباط سنة 1883 لكن جثته نقلت إلى بيروت فدفن في ضريح عائلته وقد رثاه كثير من الأدباء نثراً ونظماً بنخبة الأقوال التي جمعت في كتاب خاص. فمن رقيق ما قيل عن لسان الفقيد عند نقل جثته إلى بيروت أبيات لالياس أفندي نوفل:  

لما قضى السُّقم أن يسطو على بدني

 

قد رقَّ حتى رأيتُ الروح تُشْقلنـي

فقلتُ: لا تدفنوا جسمي بغـربـتـهِ

 

فالشرق أقربهُ تربـاً إلـى عـدن

هناك فوق رباهُ خيرُ مـن تـركـتْ

 

عيني وتحت ثَراهُ خيرُ مُـرْتَـهـنِ

قد جئتكم أثراً يا جيرتـي مـوانـا م

 

العينُ التي شخصت للأهل والوطنِ

فعند مشهد نعشي فانـدبـوا أسـفـاً

 

صباي أو عند قبري فاذكروا زمني

أودعتُ جسمي لديكم في الممات وكم

 

أودعتكم في حياتي القلبَ في شجني

فاستعطفوا الله من أجلي فرحمـتـهُ

 

هي الغناء لنفسي يوم يَحْشـرنـي

وكان سليم دي بسترس شاعراً له منظومات متعددة جمع فيها بين سلاسة الكلام ولطف المعاني. فمما استحسناه من نظمه قوله وفيه ما يدل على إيمانه:

لا شيء غير نفوسنا يتخلَّـدُ

 

تلك البقَّية غيرها لا يوجدُ

وسواؤها فوق البسيط كلـهُ

 

يفنى وضمنَ ترابها يتوسَّدُ

وروحُ إله الكون أرسلها إلى

 

جسد الفنا نوراً به يتوقـدُ

فتقود ذاك الجسمَ في طرق الهُدى

 

وترى له الحقّ المبين وترشـدُ

حتى إذا كملَتْ مـواعـيدٌ لـهـا

 

نادى بها عودي إليَّ فتصـعـدُ

وتُفارق الجسم الذي سُجَنـتْ بـهِ

 

بحياتهِ وإلى السعادة تـقـصـدُ

حتى إذا تمَّ المـعـادُ وقـد أتـى

 

يومٌ بهِ كلُّ الخلائق تُـحَـشـدُ

تعطي إلى رب العباد حسابـهـا

 

في محفل فيهِ الملائكُ تشـهـدُ

في ساعةٍ يا هولَها مـن سـاعةٍ

 

أن لم تكن فيهِ الفضائل تعضـدُ

وتبيت مع طغمات أجنادِ الـعـلا

 

تجثو إلى العرش المنير وتسجدُ

وتشاهدُ المجد المشعشـع نـورُهُ

 

وتسبُح الرب العظيم وتحـمـدُ

وله تهنئة في عام جديد:

أتى العام الجديدُ يزيد عـامـاً

 

بتاريخ المـحـبَّة والـودادِ

على قدر السنين إليك يهـدى

 

تحيات السليم علـى بـعـادِ

اسرُّ بكـلّ عـامٍ حـيثُ فـيهِ

 

محبَّتنا تدومُ علـى اتـحـادِ

وإن كنُت البعيد فانَّ قـلـبـي

 

على طول المدى بين الأيادي

أوكُلهُ ينـوبُ الـيوم عـنـي

 

بتقديم التـحـيات الـجـدادِ

المعلم إبراهيم سركيس

هو أخو الوطني الشهير خليل أفندي سركيس صاحب مطبعة الآداب ومنشئ جريدة لسان الحال كان مولده في اعبيه سنة 1834 من عائلة مارونية إلا انه درس على المرسلين الأمريكان فجنح إلى مذهبهم وصار أحد شيوخ الكنيسة الإنجيلية في بيروت وعلم في إحدى. مدارسها. ثم اشتغل عدة سنين في مطبعة الأمريكان فأحكم صناعة الطباعة وتولى تصحيح المطبوعات ومبيع الكتب إلى أن توفي في 10 نيسان سنة 1885. وكان ذكي الفؤاد محباً للعلوم محسناً للكتابة وقد نفع مواطنيه بعدة مصنفات تأليفاً وتعريباً أخصها الدر النظيم في التاريخ القديم والدرة اليتيمة في الأمثال القديمة وصوت النفير في أعمال اسكندر الكبير والأجوبة الوافية في علم الجغرافية وأوضح الأقوال في متلف الصحة والصيف والمال وتحفة الأخوين إلى طلبة اللغتين (عربي وإنكليزي). وله تآليف أخرى دينية.

وكان ينظم أيضاً فمن منظوماته ترانيم روحية في مجموع أغاني البروتستانت. هذه ترنيمة منها في الحرب الروحية: 1

هلم جميعاً قـريبـاً بـعـيد

 

فها صوت بوقٍ لأجل القتال

جنودُ الأعاديّ نراهـا تـزيدْ

 

فهاتوا سلاحاً لذاك النـزالْ

قرار

 

 

مرّنمين نحن مرّنمين

 

سيوفكم احملوا هاجـمـينْ

هو ذا الحربُ شـديد طـويلْ

 

سيروا بقوات ربّ إسرائيلْ

2

عدوي أمامي بصفّ القتـالْ

 

فأثبت لا عن طريقي أحـيدْ

ونغمُتنا قوَّتـي ذو الـجـلالْ

 

فسيروا بإيمان عزم وطيد...

ومما نظمه فنشره تحت رسمه:

وإن نُقض البيتُ الذي أنا سـاكـنٌ

 

فلي في السما بيتٌ من اللهِ قد بُني

ونفسيَ تحيا عـنـد فـاديَّ دائمـاً

 

وإن يكن الجسمُ الترابيُ قد فنـي

إسكندر ابكاريوس

وتوفي في هذه السنة 1885 في 23 ك1 كاتب آخر أصاب بعض الشهرة في أوربة فضلاً عن الشرق بمنشوراته العربية أعني به إسكندر أغا ابكاريوس وكان أبوه يعقوب بن أبكار أرمينيا غريغوريا ذا شأن يسكن بيروت فلما مات أرخَّ وفاته الشيخ ناصيف اليازجي سنة 1845 بقوله:

مضى إلى الله من طابت سريرتـهُ

 

بالله وهو بعفو الله مـصـحـوبُ

فقُل لمن جاء بالتـاريخ يطـلـبـهُ

 

قد صار في حضن إبراهيم يعقوبُ

ونشأ ابناه اسكندر ويوحنا على حب الآداب منذ حداثتهما وجال اسكندر في أنحاء أوربة ثم عاد إلى بيروت واشتغل بالتأليف ثم دخل مصر وخدم أصحابها ومدحهم فأجازوه بتقليده عدة مناصب. وتوفي اسكندر في أواخر سنة 1885 في بيروت وكان أتى إلى وطنه طلباً للعلاج من مرض السَّحج. وله مصنفات مفيدة أنبأ في تأليفها بحسن ذوقه وكثرة مطالعته منها كتابه (نهاية الأرب في أخبار العرب) طبعه أولاً في مرسيلية سنة 1852 ثم زاد عليه وجدد طبعه في بيروت في المطبعة الوطنية سنة 1867. وألف سنة 1858 كتاب روضة الآداب في طبقات شعراء العرب قرظه من الأدباء منهم الشيخ أبو حسن الكستي حيث قال من أبيات:  

لله روضةُ آداب لقد جـمَـعـتْ

 

أوراقُها ثمر الأخبار والسـيرِ

ناهيك من طبقات شاد محكمَهـا

 

اسكندر فاحتوت من مبدع الأثر

ولاسكندر ابكاريوس ديوان شعر لم يزل مخطوطاً وكتاب ديوان الدواوين في أجود المتقدمين والمتأخرين وكتاب نزهة النفوس وزينة الطروس. وله ترجمة إبراهيم باشا دعاها المناقب الإبراهيمية والمآثر الخديوية وكلها مسجعة يتخللها الشعر في آخرها قائمة تآليفه. ومثلها أيضاً المآثر الخديوية ووزراء الحكومة المصرية نشرها في أعداد الجنان سنة 1874 وكتاب التحفة الغراء في محاسن تونس الخضراء. وله تاريخ مخطوط في المكتبة الخديوية (5 : 171) قدمه لمصطفى فاضل باشا وسماه نوادر الزمان في ملاحم جبل لبنان. ومن شعره قوله يهنئ الخديوي سعيد باشا لما زار بيروت سنة 1859:

شرَّفتنا فتزينـتْ أقـطـارنـا

 

وزهت مما لها وطلب المَورد

وتَنَّورت بيروت حتى أصبَحـتْ

 

من نور مجدك كوكباً يتوقـدُ

وقال يمدح إبراهيم باشا:

همامٌ كان في الدنيا فـريداً

 

وركناً في المهمات العظام

ولا زالت وقائعهُ المواضي

 

مخلدةً على طول الـدوام

وقائع لو رآها الطفلُ يومـاً

 

لَشاب لهولها قبل الفِطـام

وقال في محمد توفيق باشا إذ كان ولي العهد:

يا من بهِ آمالـنـا تـتـعـلـقُ

 

ونفوسنا للقـائهِ تـتـشـوقُ

فيك الفضائل واللطائف والتقـى

 

والمكرمات وكل حسنٍ يُرمقُ

لم تجتمع فيك المحاسن إنـمـا

 

منك المحاسنُ كلُّها تتـفـرَّقُ

تاهت بكم مصر السعيدة عـزَّةُ

 

وغدا جبين العصر فيكم يشرقُ

لا زالت للقصاد أحسن كـعـبةٍ

 

وطريق رزق بابهُ لا يُغْلـقُ

وأسلم ودمْ في غبطةٍ وسـعـادةٍ

 

وتُدام مأمولاً وأنت مـوفَّـقُ

أما (يوحنا ابكاريوس) أخو اسكندر فانه عاش بعده إلى سنة 1889 وتوفي في سوق الغرب في لبنان وقد جارى أخاه اسكندر بتآليفه منها كتاب قطف الزهور فمن تاريخ الدهور طبع غير مرة في المطبعة الأمريكية وقد تأسفنا لكون مؤلفه ضمَّنه بعض الفصول التي تحط من شأن الكنيسة. وله كتاب نزهة الخواطر جمع فيه عدة أخبار ومقاطيع أدبية وقصص شائقة فطبعه سنة 1877. ومن آثاره معجم إنكليزي عربي مطول اختصره لطلبة المدارس وقد عرب أيضاً للأمريكان بعض كتبهم الدينية.

أديب إسحاق

كان من الطائفة الأرمنية الكاثوليكية دمشقي الأصل ولد في 21 ك2 سنة 1856 في الفيحاء وتعلم في مدرسة مرسليها اللعازريين اللغتين الفرنسوية والعربية ثم أُغرم بالكتابة والإنشاء ونظم الشعر منذ ريع شبابه وقدم بيروت ودرس في مدرستنا القديمة في حي الصيفي ثم اجتمع بقوم من شبانها العصريين فنزع منزعهم واشتغل بالسياسة والتأليف ثم انتظم في سلك جمعية أنشأها الماسون سنة 1873 وكان المترجم من أخص أعضائها العاملين وقد ألغتها الحكومة مدة لتطرف أصحابها وطعنهم في الحكومة والدين كمألوف عادتهم. ثم تولى تحرير جريدة التقدم فضمَّنها فصولاً ثورية دحضتها جريدة البشير. ثم تنقل بعد ذلك فسافر إلى فرنسة ثم عاد إلى مصر وكتب عدة جرائد وأنشأ جريدة مصر وحرَّر في جرائدها إلى أن أصيب بداء السل فاقفل راجعاً إلى سواحل الشام ولم يلبث أن توفي في قرية الحدث قريباً من بيروت في 12 حزيران سنة 1885 وهو في عز شبابه ودفن دفناً مدنياً. وكان أديب إسحاق سلس القلم سريع الخاطر ذلق اللسان إلا أن مجاهرته بمعاداة الدين وأتباعه للتعاليم الماسونية أظلما عقله وأفقداه أصالة الرأي وسداد الفكر في أمور كثيرة. وكان إنشاؤه عصرياً يتشبه فيه بإنشاء كتبة الفرنج وهانحن نذكر من نثره فقرة كتبها في (الجزويت) تفكهة للقراء وبياناً لما أقربه من صفاتهم وهو ألد أعدائهم.

(ما أدراك وما رهبانية الجزويت؟ طائفة من أهل الكهنوت على مذهب الكاثوليك يبلغ عددهم ثمانية آلاف أو يزيدون (اليسوعيون اليوم ثمانية عشر ألفاً)... وهم أهل العلم والسياسة (كذا) والذكاء والاجتهاد والهمَّة والفضل والثبات والبأس لا يعارضهم في ذلك معارض ولا يدرك شأوهم فيه. ينشئون المدارس ويجلبون المنافع ويكشفون الغوامض ويستخرجون أسرار العلوم منتشرين في أقطار الأرض واصلين بياض النهار وسواد الليل سعياً في تعليم الجهلاء وتهذيب المتوحشين وتمدين الأقطار وجمع آثار المعارف). ثم شوَّه الكاتب هذه المحامد بما نقله من تهم أعداء الجزويت فجعلها على لسانهم مع كونها مضادة تماماً للفقرة السابقة فروى عن أولئك الخصوم أن الجزويت (يجيزون الكذب ويتسامحون في السرقة ويحللون القتل) إلى غير ذلك من الترهات التي تُضحك الثكلى وأبطلها الكاتب من حيث لا يدري بنسبتها إلى أعداء الدين فقال: (وذلك بعض ما يدعيه أعداء الجزويت وما أعداؤهم بقليل فان فرقة البروتستانت وهي ألوف ألوف وجماعة الماسون وأهل حريَّة الضمير أي الذين لا يدينون بدين كل هؤلاء لو تمثل لهم الجزويتي في الماء لما وروده وان كانوا ظماء!!!).

وكأن بالكاتب أحس ما نقله مثل هذه السفاسف من العار فألقى التبعة التبعة على القائلين كأن الناقل لا يحتاج إلى التروي في صحة ما ينقله لا سيما بعد مدحه للجزويت وإقراره بما عرفه من (الفضل والهمَّة والثبات وتعليم الجهلاء وتهذيب المتوحشين) فقال يبرئ نفسه مما نقل جزافاً: (وإنا لنبرأ من موافقتهم على جميع ذلك أو على بعضه ولا تبعة علينا في الحكاية نحن ننقله وليس على الناقل من سبيل (كذا)).
ولأديب إسحاق شعر حسن نختار منه قوله في وصف المرأة:

حَسِـبَ الـمـرأةَ قـومٌ آفةً

 

من يدانيها من الناس هلـكْ

ورآهـا غـيرهـم أمـنـيةً

 

مَلكَ النعمةَ فيها من مـلَـكْ

فتمنى معشـرٌ لـو نُـبـذَتْ

 

وظلام الليل مشتدُّ الحـلـكْ

وتمنى غيرهم لو جُـعـلـت

 

في جبين الليث أو قلب الفَلكْ

وصوابُ القولِ لا يجـهـلـهُ

 

حاكمٌ في مسلك الحق سَلـكْ

إنما الـمـرأة مِـرآةٌ بـهـا

 

كلُّ ما تنظرهُ منـك ولـكْ

فهي شيطانٌ إذا أفسـدَتـهـا

 

وإذ أصلَحتْها فهـي مـلَـكْ

وقد جمع الأديب جرجس أفندي نحاس منتخبات من إنشاء الأديب فطبعها بكتاب الدرر وأعاد فيها النظر أخو المترجم عوني بك اسحق. وللمترجم غير ذلك من التآليف لا سيما روايات عربها أو صنفها كاندروماك ورواية الباريسية الحسناء.

الياس صالح

توفي أيضاً في سنة 1885 في 15 أيلول. وهو إلياس بن موسى بن سمعان صالح ولد في 26 ك2 1839 في اللاذقية من أسرة وجيهة من طائفة الروم الأرثذوكس وبعد دروسه مبادئ العلوم في وطنه تمكن بكده وذكاء طبعه وثباته من التأليف ونظم الشعر وخدم عدة سنين كترجمان القنصلية الأميركية وكعضو في محكمة الدولة التركية. وسافر إلى مصر ومدح حضرة الخديوي إسماعيل باشا سنة 1875 بقصيدة مطلعها:

البشرُ في قطرِ مصرِ فاح عاطرهُ

 

واليُمن قد نوَّرت فيه أزاهـرُهُ

يقول فيها:

ربُّ المكارم إسماعيلُ من شرفت

 

بهِ المعالي وزاتها مفـاخُـرهُ

مولى عليٌ أثيلُ المجدِ بـاذخـهُ

 

شديدُ عزمٍ سديد الرأي باهـرُهُ

منيفُ فضلٍ وريفُ العدل ناشرُهُ

 

كثير حلم غزير الجود زاخـرُهُ

همومُ كل كئيبٍ فهو فارجُـهـا

 

وكسرُ كل كسيرٍ فهو جابـرُهُ

ركابهُ السعدُ بالإقبالِ يخدمـهـا

 

وجيشهُ الله أنَّى سار نـاصـرُهُ

كانت وفاة الياس صالح في وطنه وأبقى من بعده آثاراً منها نظم المزامير عني نجله رفيق أفندي بطبعه وله تاريخ مطول لمدينة اللاذقية وطنه لم يطبع وعرب عدة تآليف تاريخية من الإفرنسية وله ديوان شعر. وكان متقناً للغة التركية فعرب بعض تآليفها كالدستور الهمايوني وقوانين الدولة.

وكان المرحوم الياس صالح تقياً متعبداً للعذراء وقد نظم في مديحها عدة أناشيد نشرت في ديوانه (ص 134 - 144) كقوله:

كلّ من في مدح مـريمْ

 

قد تغـنـى وتـرَّنـمْ

من خطوب الدهر يسلمْ

 

آمنا كل المعـاطِـبْ

زاد في الدنـيا بـلائي

 

وحتى ظهري شقـائي

بكِ علَّـقـتُ رجـائي

 

يا رجا أهل المتاعـبُ

أنت فـي كـل بـلـيَّةْ

 

مُلتجى كل الـبـرَّيةْ

من دعـاكِ يا تـقَّــيةْ

 

فهو لا يرتـدُّ خـائبْ

في الخطايا ضاع عمري

 

ونما جهلـي وشـرّي

لك قد سلَّمـتُ أمـري

 

فاقبلي من جاء تـائبْ

ولالياس المذكور سمي آخر عرف مثله بالياس صالح من ملته ولعله من قرابته اشتهر بعده بقليل. ولد في بيروت سنة 1869 وقيل 1870 وتلقى العلوم في الكلية الأميركانية ونبغ في العربية إلا أن الموت لم يسمح له بخدمة الآداب زمناً طويلاً فقصفته المنية غصناً رطباً في 2 حزيران سنة 1895 وكان سافر إلى مصر فكتب في جريدة المقطم وله قصائد كثيرة وكان سلس النظم مبتكر المعاني يقول الشعر عفواً وكان حر الأفكار يجاري في ذلك بعض المحدثين. وله قصيدة في الحرية مزج فيها الغث بالسمين. ومن أقواله الزهدية الحسنة ما ورد له في جملة موشح:

يا إلهي من ذنوبي والخـطـا

 

مُلئ الدلوُ لعقد الـكُـرب

وفد الشيب بفَوْدي وخـطـا

 

وأحاطت بي دعاوى الكرب

يا مليكي في يدي قد سقُطـا

 

وأنا بـعـدُ أنـا لـم أتُـب

إنما في دم فـادي إلا نـمـا

 

أرتجي تطهير كل الدنـسِ

فهو عوني كلما الخطبُ طما

 

وادلهّم الهم وسط الحنـدس

ومن ظريف قوله لغز في اسمه (الياس صالح):

أفصحْ لنا يا صاحبي

 

ولك منا المـنـنُ

ما أسم فتى تفسيرهُ

 

قطعْ الرجاء حسَنُ

وله في ذم النحو متفكهاً:

ما ذا الـذي يهـمـنّـي

 

أن قـام زيدٌ أو قـعـدْ

أو أن ذهبـتُ مـاشـياً

 

أو راكباً نحو الـبـلـدْ

أو كـان زيدٌ مـبـتـدأً

 

أو فاعلاً سدّ المَـسَـدّ

أو أن يكُن ذا الاسمُ يبنى م

 

أو يَكُـنْ هـذا يُهَــدّ

تَصالـح الـفـعـلانِ أو

 

تنازعـا طـول الأبـدْ

في النحو لا تقهـرُنـي

 

إلا تفاصـيل الـعـدَدْ

وأفعلُ التفـضـيل كـم

 

قد شـذّ فـيه وشـرَدْ

وغـير هـذي عُـقَــدٌ

 

تباً لهاتـيك الـعُـقَـدْ

ترى بـهـا قـواعــداً

 

بدون معـنـى وزَبَـدْ

مختـومةٌ جـمـيُعـهـا

 

بقبس علـيهِ مـا ورَدْ

وقال يصف سفينة سافر عليها:

تلك السفينة بسم الله مـجـراهـا

 

على دموعيَ مسراها ومرساها

تجري وفي قلبها النيرانُ موقـدةٌ

 

مثلي كأنَّ هوى الأوطان أشجاها

سكرى تميد بمن فيها فتُسكرهـم

 

وهماً فكيف إذا ذاقوا حمَّـياهـا

وليس بدعٌ إذا سارت بنا مـرَحـاً

 

فتلك جاريةٌ يهتزُّ عطـفـاهـا

هيفاء لكنَّها بالقار قد خُضـبـت

 

كالخَوْد يُخَضب بالحنَّاءِ كفَّاهـا

سلطانهُ البحر إذ ترسو يحيط بهـا

 

من القواربِ جندٌ من رعاياهـا

وإن سرَتْ نشرتْ أعلامها وشـدا

 

صوت البخار لها والموج حيَّاها

طوراً ترى في قرار أليم غائصةً

 

وتارةً فوق هام السُّحبِ تلقاهـا

لم أنسَ ليلة بتنا والرفـاقُ بـهـا

 

نرى النجوم ولو شئنا مسَسْناهـا

وحولنا الماء من كل الجهـات ولا

 

شيءٌ سوى الماء يغشانا ويغشاها

أنطون صقال

هو أيضاً أحد رجال النهضة الأدبية التي حصلت في بلاد الشام في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ولد في 3 آذار سنة 1842 وتوفي في الشهباء في 8 كانون الأول سنة 1885. أقبل على الآداب صغيراً وتعلم اللغات الشرقية والأوربية في مدرسة عين ورقة ثم في حلب ومالطة. وخدم في هذه الجزيرة المعارف زمناً طويلاً ثم رافق الجنود الإنكليزية في حرب القريم بصفة ترجمان أول سنة 1854. وله مراسلات نثرية ومنظومات شعرية ومقالات أدبية تنوه بفضله ووفرة إطلاعه على دقائق اللغة. وله ديوان شعر أكثره حكم لم يطبع. وقد نشر منه شيئاً نجله الأديب ميخائيل أفندي صقّال في كتابه السمر في سكان الزهرة والقمر وهو على شكل رواية فلسفية ضمنه رؤيا خيالية شخّص فيها والده بعد وفاته نازلاً من مقامه في الزهرة ليعلمه ما يجري في العالم الآخر وقد ادعى فيها الكاتب بعض المدعيات الغريبة التي تبعد عن التصديق أو قل أنها تمويه وتلفيق لو لا كونها من أضغاث الأحلام. ومما روى في كتابه لوالده من الشعر قصيدته العينية ومنها:

تدورُ بيَ الأسواء لم أدرِ مأثـمـي

 

وما ليَ إسعافٌ بذي الدار من عَينِ

ودهري قد أنفقتُ دينـارَ حـظَـهِ

 

يطالبني بالأصل منه وبـالـعـين

فيا أيها الدهر الخـؤون ألا ارتـدعْ

 

على أنني ما بعُتك العَينَ بالعـينِ

فعـين الـهـوى دمٌ وآخــرهُ دم

 

ومعظمه ليلٌ فما فيه مـن عـينِ

لعمري هم الأعيانُ بالعين خُـضٌـع

 

جُشياً على عـينٍ أذلاء لـلـعـينِ

وفيتينَ في المكيال والعينُ شأنـهـم

 

يجودونَ بالارواح فضلاً عين العين

يرؤون في حقل الأماني بـذورَهـا

 

بتسكاب دمع سال كالماءِ من عين

         

وله قوله:

كم أراعي النذلَ حلمـاً

 

وهو مشتدُ الخصـامْ

وألين القول لـطـفـاً

 

وهو فظٌ في الكـلامْ

جاز من جـاراك يا م

 

قلبي بقطعٍ وانصرامْ

واعتزَالْ من خان عهداً

 

وأخلُ من سوء اتهامْ

نوفل الطرابلسي

هو نوفل نعمة الله نوفل ولد في طرابلس الشام سنة 1812 من أسرة وجيهة. ولما ترعرع رافق والده في خدمة محمد علي باشا إلى مصر فدرس على أساتذتها ثم عاد إلى الشام سنة 1828 وبعد ثماني سنين سنة 29 حزيران 1836 قتل والده ظلماً إبراهيم باشا وكان خُدع بوشاية أعدائه ثم عرف غلطه فقدم نوفل ابن المرحوم وقلده عدة مناصب في بيروت وطرابلس إلى أن استقال من الخدمة وتعين كترجمان لقنصليتي ألمانية وأمريكا في وطنه. وقضى بقية عمره في التأليف إلى سنة وفاته سنة 1887. وله تآليف حسنة تشهد له بسعة علومه وتنقيبه. طبع منها كتاب زبدة الصحائف في أصول المعارف وسوسنة سليمان في أصول العقائد والأديان وصناجة الطرب في تقدمات العرب وهو أعظمها فائدة. ونشر عدة مقالات في جرائد بيروت ومجلاتها لا سيما الجنان. وقد عرب عن التركية كتاب قوانين المجالس البلدية وكتاباً في أصل ومعتقدات الأمة الشركسية وكتاب حقوق الأمم وكتاب دستور الدولة العلية في جزأين نال عليه جزاء من الدولة.

ومن آثاره المخطوطة (أخبار تاريخية) وهي مجموعة مفيدة من تاريخ جودت باشا التركي ومن كتاب تاريخ بربر لإلياس صدفه ومن مطالعات كثيرة منها نسخة في مكتبة الكلية الأميركانية يسعى اليوم بنشرها وتذييلها جناب الأستاذ أسد أفندي رستم في مجلة الكلية.

ومن أنسباء نوفل نعمة الله المذكور (سليم دي نوفل) ولد في طرابلس سنة 1828 وبعد أن أحرز جانباً من مبادئ اللغة والعلوم في وطنه تعين وكيلاً لشركة البواخر الروسية ثم ترك الوكالة وسافر إلى أوربة وعاين التمدن العصري في انكلترة وفرنسة. وبعد عودته إلى مسقط رأسه أكب على الدرس والمطالعة ونقل إلى العربية رواية المركيز دي فونتانج فطبعها سنة 1860 وبقي على ذلك مدة إلى أن انتدبته الدولة الروسية بإشارة قنصلها في بيروت إلى تدريس العربية في كلية بطرسبوج فشخص إليها مع أهله وأقام فيها إلى سنة وفاته في خريف سنة 1902 بعد أن حصل في عاصمة الروس على عدة امتيازات نالها بفضله وسعة معارفه ومصنفاته حتى نظم في جملة مستشاري الدولة وكان يعرف لغات متعددة يكتب فيها ويتكلم بفصاحة ولا سيما الفرنسوية. ومن مصنفاته بالفرنسوية سيرة محمد صاحب الشريعة الإسلامية وغير ذلك. وكان ينظم في العربية ومن شعره رثاؤه لوطنيه وصديقه سليم دي بسترس السابق ذكره فقال عند نقل رفاته إلى وطنه ليدفن في ضريح أسرته:

العيد وافى يا سـلـيمُ إلـى مـا

 

هذا التنائي عن الديار إلـى مـا

ما حظُّنا فيه التهـانـي وإنـمـا

 

أهدي إليكَ عن الدموع سلامـا

هاجت شجوني بعد موتك كلُّـهـا

 

وأسودَّ عمري حاضراً وأمامـا

أقفرتَ قلبي والديار كـلاهـمـا

 

أضحى ببعدك يا سليمُ ظـلامـا

أبكيك لا أسف الحـياة فـإنَّـهـا

 

حلمٌ تبطَّنَ جـوفـهُ أحـلامـا

أبكيكَ لا أسفاً لـفـقـد شـبـيبةٍ

 

مرَّت كما خرقَ الشعاعُ غمامـا

أجلُ الزهور موقَّتُ بصاحبـهـا

 

وذكا الملائك لا تطيلُ مقـامـا

لكنني أبكي السماحة والـنـهـى

 

أبكي العُفاةَ إذا أتوك زحـامـا

أبكي الفقير على ضريحكَ واقفـاً

 

يذري الدموع على الخدود سجاما

أبكي لليتيم وقـولـهُ ابـن الـذي

 

كنا نقـبّـل كـفـهُ إكـرامـا

وختمها بقوله:

أعجزت شعري يا سليمُ فلا تَلُمْ

 

هذه دموعي فلا تسلني كلاما

وقد عرف من أسرة نوفل غير المذكورين كمريم نحاس نوفل المتوفاة في 2 نيسان سنة 1888 ألفت كتاب معرض الحسناء في تراجم مشاهير النساء طبع قسمه الأول في مصر سنة 1879. وكالياس أفندي نوفل من شعراء العصر المجيدين وشعره متفرق لم يجمع بعد. فمن ظريف قوله ما رثى به سليماً دي بسترس:

تلدُ الليلةُ البـهـيمةُ خـطـبـاً

 

كل آنٍ ولم تزل منهُ حُبـلـى

جاء بالبرق صعقة الرعد تدوي

 

خبراً منهُ أمطر الجفنُ وبـلا

بعـزيز بـمـاجـدٍ بـأمـيرٍ

 

قد فُجعنا ونحن بالشوق نَصلى

قُل لوحش المنونِ يكفيك ظلمـاً

 

قد تمادى جفاكَ فتكاً وقـتـلاً

خير شهمٍ أضعت من خـير آلِ

 

لو بألفِ فديتهُ قـلـتُ قـلا

وختمها بهذا التاريخ:

ربهُ قال يا عـبـاديَ صـبـراً

 

مثل هذا الأمين قد خُرّتُ عدلا

جنتَّي بالصلاح أرختُ تُرجـى

 

مَن أتاني سليمَ قلب تـوَّلـى

(1883).

ميخائيل مشاقة

ومن المتوفين في السنة 1888 الدكتور ميخائيل مشاقة كان مولده في رشميا سنة 1800 من عائلة كاثوليكية ملكية وكان من المقربين إلى الأمير بشير الكبير فانتقل مع أهل بيته إلى دير القمر فلما أنس في ولده الذكاء خرجه في مبادئ اللغة والحساب ومسك الدفاتر. ثم درس الفتى على خاله بطرس عنحوري شيئاً من العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية رافقه بعد مدة إلى دمياط واشتغل بالتجارة وكان في أوقات الفراغ يتعاطى الآداب ويدرس الرياضيات والموسيقى والطب فنال من كلها حظاً. ورجع إلى وطنه وخص نفسه بالطبابة والجراحة مع كونه لم يدرس الفنين في مدرسة ولم يزل يمارسهما حتى أمكنه أن يحضر دروس مدرسة القصر العيني في مصر سنة 1845 فقدم فيها فحصاً أحظاه بالشهادة الرسمية سنة 1846. ثم استوطن دمشق مع أهله وتعين فيس قنصلاً للولايات المتحدة فيها. وكان ذلك خصوصاً بمساعي المرسلين الأمريكان الذين اجتذبوه إلى دينهم فهاجر البروتستانية سنة 1848 وصوب السهام إلى أهل دينه وملته فقام بينه وبين الكاثوليك جدال طويل لم يزده إلا عناداً فبقي على مذهبه الجديد إلى وفاته في 6 تموز من السنة 1888. وكان الدكتور مشاقة ذلق اللسان سهل الانشاء لكنه كان ركيك العبارة قليل البصيرة في التاريخ والفلسفة كثير الثقة بنفسه وكان يتعقب آثار الملحدين كفولتار وفولناي فحذا حذوهم. وله كتب مختلفة خلا الكتب الجدالية السابق ذكرها منها كتاب (الجواب على اقتراح الاحباب) ضمنه حوادث بلاده منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى زمانه وقد اتسع في حوادث سنة 1860 التي كاد يذهب هو ضحيتها ونجا منها بأريحية الأمير عبد القادر وكذلك أفاض في تاريخ أسرته. وهذا الكتاب قد طبع في مصر سنة 1908 بعد ضبطه وتنقيح إنشائه الضعيف على يد الأديبين ملحم عبده واندراوس شخاشيري فسمياه مشهد الأعيان بحوادث سوريا ولبنان. ومنها رسالته المعنونة الرسالة الشهابية في قواعد ألحان الموسيقى العربية التي نشرها في المشرق (2 (1899): 146.. الخ) الأب المرحوم لويس رنزفال وعلق عليها الحواشي ثم طبعه على حدة مع أشكالها ونقلها إلى اللغة الافرنسية في مجموعة مكتبنا الشرقي. والدكتور مشاقة كذلك التحفة المشاقية في علم الحساب وكتاب المعين في حساب الأيام والأشهر والسنين.

إبراهيم بك كرامة

هو ابن بطرس كرامة شاعر الأمير بشير الذي مر لنا ذكر ترجمته (ج1 ص58 - 65) ولد إبراهيم في دير القمر في 9 نيسان 1823 وجرى صغيراً على آثاره والده وبرع في العربية ودخل ديوان الكتابة في لبنان ثم سافر إلى الأستانة وتوظف في جملة عمال الدولة وامتاز هناك في العلوم الشرعية وتقلد منصب الترجمة بنظارة الخارجية مكان والده ثم جاء مع فؤاد باشا سنة 1861 إلى سورية ترجماناً ونائب رئاسة المجلس الذي فوق العادة. ولأسباب نفي إلى جزيرة مدِ لَي (متلين) على أثر ذلك. وتزوج بيونانية من سكانها فولد له بطرس قائم مقام زحلة سابقاً سنة 1866. ثم عاد إبراهيم إلى الأستانة فصار عضواً في مجلس المعارف فاقترح عليه تأليف معجم عربي وتركي. ومن ظريف ما مدح به إبراهيم بك قول الشيخ ناصيف اليازجي فيه لما رحل إلى القسطنطينية ليتسلم مأموريته:

خلت الديارُ فلا كـرامةَ عـنـدهـا

تُرجى ولا ابنُ كرامةٍ المعُـتـفْـي

هيهات أنَّ ابن الكـرامة حـلَّ فـي

دار الخلافة بالـمـقـام الأشـرفِ

سبحان ذي العرش المجيد فقد بـدت

في شخص إبراهيم صورةُ يوسـفِ

أصلى بنار فـراقـهِ قـلـبـي ولا

بردٌ هناك ولا سلاةَ فتـنـطـفـي

ذاك الكريمُ وابن الكـرام ومـن لـهُ

الذكر الشهير ومن له اللطف الخفي

ورث الكرامة عن أبيه وحـدهِ

أكنه بتلـديهـا لا يكـتـفـي

شهدت لهُ الأتراك بالفضل الذي

شهدت به الأعراب دون تكلُّفِ

قد نال ما هو أهلُ ما هو فوقهُ

فانظر لأيهما الهناءُ وانصـفِ

ثم عاد إبراهيم كرامة إلى وطنه سنة 1885 واعتزل الأشغال وكانت وفاته في بيروت سنة 1888. فقال يؤرخ ضريحه جناب الفيكنت فيليب دي طرّازي:

مثوى غدا في حماهُ الآن مضطجعاً

 

من كان في قومهِ من أكبر العمدِ

سليلُ بيتٍ رفيع الشأن مشتـهـرِ

 

في الشعر والنثر والتدبير والرشدِ

بعلمه عَلَـمٌ قـد زانـه عَـمـلٌ

 

برأيه غُرةً في جـبـهة الأسـدِ

بنو كرامةَ قد ناحوا علـيه كـمـا

 

عليه ناحت ديار العرب من كمدٍ

مضى وأحرف ُتاريخ لنـا رقـت

 

حُيّيت يا قبرَ إبراهـيم لـلأبـدِ

(1888).
وكان إبراهيم بك كرامة مغرماً بالآداب يتداول الرسائل مع مشاهير عصره كالشيخ ناصيف اليازجي وجبرائيل الدلال وكان ينظم النظم الحسن وله ديوان لم يطبع. فمن قوله بيتان في تاريخ ظهور جريدة السلام في الأستانة سنة (1302 - 1884):

نُشرت صحيفُتنا السلامُ ونشرُها

 

قد طاب يا أهل الوفاء لديكمُ

إن ظنَّ بالخبر الصحيح مؤرخُ

 

يتلو حوادثهُ السلامُ علـيكُـم

ويروى له في فتاة لبست ثوباً وردياً:

وردَّية الخد بالوردي قد خطـرت

 

تميسُ تيهاً وتثني القدَّ إعـجـابـا

لم يكفِ قامتها الهيفاء ما فعـلـت

 

حتى اكتست من دم الطلاَّب أثوابا

الكونت رشيد الدحداح

وفي هذه المدة انطفأ سراج حياة أحد وجهاء اللبنانيين في فرنسة. أعني الكونت رشيد الدحداح. وليس هو أول من امتاز بين المشايخ الدحادحة بذكاء عقله وآدابه في القرن التاسع عشر. فإن تاريخ لبنان ذكر منهم كثيرين نالوا شهرة في دواوين الكتاب كالشيخ سلوم الدحداح وأخيه الشيخ ناصيف كاتبي الأمير يوسف الشهابي في جهات طرابلس ثم عاملي الأمير بشير. وكالشيخ منصور الدحداح ابن سلوم مدير الأمور في لبنان مدة (توفي سنة 1861). وكالشيخ أمين الدحداح رئيس الكتبة عند الأمير حيدر وقد ألف تآليف أدبية منها رسائل وحكم ومراثٍ. وكالشيخ يوسف ابنه من شعراء زمانه توفي قبل والده سنة 1850 وغيرهم من فرسان القلم.

إلا أن الشيخ رشيد فاق الجميع. ولد سنة 1813 في قرية عرامون كسروان ثم درس في عين ورقة. وفي سنة 1838 اختار الأمير أمين الشهابي ابن الأمير بشير كابتاً لأسراره. ثم خدم لبنان في مناصب شتى لولا أنه وجد في وطنه من سوء المعاملات وأسباب العداء ما حمله إلى أن يغترب إلى البلاد فانتقل إلى مرسيلية سنة 1845 في صحبة الشيخ مرعي الدحداح الذي كان عاد إلى سورية بعد فتحه هناك محلاً تجارياً. فرافقه الشيخ رشيد واقترن بابنته وشاركه في الشغل إلى السنة 1852 حيث فتح محلاً تجارياً لحسابه مع أخيه سلوم. لكنه بعد حين انقطع إلى خدمة العلم والآداب معرضاً عن التجارة فأنشأ جريدة برجيس باريس وحظي لدى الحكومة الفرنسوية وأعيانها. ثم اتسعت شهرته بين الأدباء واتصل بباي تونس لما حضر إلى باريس سنة 1862 فمدحه بلاميته التي نشرناها في المشرق (5 (1902): 155) وعارض فيها لامية كعب بن زهير فأجازه عليها الباي واتخذه كترجمانه الخاص وقلده الأمور الخطيرة في دولته. ثم عاد الكونت رشيد إلى باريس وابتنى فيها قصراً بديعاً واقتنى قرية دينار في مقاطعة برطانية فأجال فيها يد العمارة وشيد فيها داراً فخيمة سكنها مع أهله ولم يزل في آخر حياته يعنى بالمطالعة والأليف إلى يوم وفاته في 5 أيار سنة 1889. وللكونت رشيد من الآثار الأدبية ما اكتسبه اسماً طيباً في الشرق والغرب معاً. فمن ذلك أنه سعى بنشر معهم السيد جرمانوس فرحات في مرسيلية سنة 1849 بعد أن رتبه وهذبه وألح ما فيه من الخطأ. ثم طبع فيها أيضاً سنة 1855 شرحين مستوفيين على ديوان ابن الفارض للشيخ حسن البيروني وللسيد عبد الغني النابلسي. وهما الشرحان اللذان أعاد طبعهما المسمى محمد السيوطي في المطبعة الخيرية في مصر سنة 1310 (1893) وساكتاً عن اسم الكونت وإنما أشار إليه إشارة خفيفة لئلا يعرف متولي العمل فدعاه (رشيد بن غالب المجتبي) وكان الكونت أول من نشر كتاب فقه اللغة الذي أعدنا بعد ذلك طبعه. وله مقامات شتى سياسية طبع بعضها على حدة منها كتاب التمثال السياسي مع بيان أحوال فرنسة في عهد نابوليون. وله مجموعان أحدهما يشتمل على أشعار حكمية جناها من كتب العرب يدعى (طرب المسامع في الكلام الجامع) والثاني يتضمن مقالات أدبية وفوائد لغوية يعرف بقمطرة طوامير طبع في فينة سنة 1880. وله غير ذلك مما لم يزل مخطوطاً ونتمنى نشره كمقالة واسعة في فن المناظرة دعاها (ترويح البال في القلم والمال) ولا سيما تاريخه الكبير الذي (السيار المُشرق في بوار المَشرق). وكان الكونت ينظم الشعر الجيد كما يستدل عليه من قمطرته ومن لاميته التي ذكرناها. ومما نشهده في مدح نابوليون الثالث سنة 1851 إذ كان في أوج عزته إذ لم تعرف غير سجاياه الطيبة قوله من قصيدة:

الله أكبرُ مُعط مـن يشـاءُ فـهـا

 

كلُّ المحاسنِ والإحسان في رَجُلِ

وليس ذا من غلوّ الشعر إذ ظهرت

 

المعين أنوارهُ كالشمس في الحَمل

فيهِ المجالُ وسيعٌ للـمـقـال لـذا

 

قد عاد بسطُ كلامي ضّيق الحبَلِ

ذو همَّة لم يُثِبّط عزمَهـا خـطـرٌ

 

ولم يكن لصعابٍ قطُّ بـالـوَكـلِ

ولم يضعضعهُ هولُ الخطـب آونةً

 

ولم يَضقْ صدرهُ في حادِثٍ جَلَلِ

وبالنواصي قد اقْتاد الـذكـاءُ لـهُ

 

شهبَ الرئاسة فانقادَت على عجلِ

وفي السياسة كم أبدت بـراعـتـهُ

 

حذقاً بهِ عادت الحُذاَّقُ في فشـلِ

وختمها بقوله:

أبقاكُم الله يا فخر الورى فلكـاً

 

للسِلْمِ والأمن والإقبال والجَذَلِ

وبعد سنتين لموت الكونت رشيد (1890) فجعت الطائفة المارونية بوفاة شقيقه السيد (نعمة الله الدحداح) مطران دمشق الذي اشتهر بفضائله الأسقفية أكثر منه بآثار قلمه. وبهمته نال من أفضال الكرسي الرسولي تجديد المدرسة المارونية في رومية

أسعد طراد

هو أسعد بن ميخائيل طراد من أسرة شائعة الفضل في هذه الأصقاع من نخبة شعراء سورية. ولد في بيروت سنة 1835 وتخرج في حداثته في مدرسة اعبيه الأمركانية. ثم تردد على الشيخ ناصيف اليازجي فأخذ عنه واجتمع بأفضل أساتذة العربية في عهده حتى أتقن العلوم اللغوية ونظم الشعر في شرخ الشباب فطُبع عليه وكان يقوله بديهاً. خدم عدة سنين الدولة العلية بنشاط ثم انتقل إلى مصر سنة 1872 وتعاطى في أنحائها التجارة إلى وفاته سنة 1891. وله شعر كثير متفرق جُمع معظمه في ديوان بعد وفاته بهمة بعض أنسبائه فطبع سنة 1899 في الإسكندرية. وله غير ذلك من الآثار منها مقالات أدبية نشرها في الجنان. ومن شعره الذي لم نجده في ديوانه قوله في موت بعض الكرام:

يا أرحمَ الناس قلبـاً عـنـد نـائبةٍ

 

هلاَّ رحمتَ عَويل الصارخ الوجِلِ

دارت عليك من الأقدار وا أسـفـاً

 

كأسٌ فملت بها كالشارب الثَّمِـلِ

هذا الشرابُ الذي لا بُدَّ منـهُ لـنـا

 

وليس تمنعُ منه كثـرةُ الـحـيلِ

وكيف يجزعُ أهلُ الأرض من حدثٍ

 

جرى على أنبياء الله والـرُّسـلِ

وله في نعمة الله طراد المتوفى سنة 1855 ولم يرو في ديوانه:

ركنٌ البيت طرادٍ مال مهـنـدمـاً

 

يوماً وأبكى جميع الأهل والغُربا

حاز التقي والرضا والبرَّ في دعةٍ

 

ورغبةَ الخير والإحسانَ والأدبـا

مضى إلى الله مبروراً يحـق لـه

 

شكر على صفحات القلب قد كُتبا

كرامةٌ كل تاريخ مجـوّدهـا

 

لنعمة الله حقُّ الشكر قد وجبا

وقال يرثيه:

لا تخشَ يا قلبُ إحراقاً مـن الألـمِ

 

أما ترى دمع عيني مغَرقـاً بـدمِ

كلُّ بكى نعمة الله التـي فُـقـدت

 

منَّا وكم في الورى باكٍ على النعم

وهي قصيدة طويلة وجدناها في أحد مجاميع مكتبتنا الشرقية. ويليها أبيات ثانية ختمها بهذا التاريخ.:

لمّا خلا من ديارٍ كان تؤنسهـا

 

فحزنهُ ما خلا من قلبِ عيلتهِ

وبت أنشد تاريخـاً بـه أبـدا

 

لا أعدم اللهُ قلباً فيضَ نعمتهِ

(1855) وقد اشتهر من أسرة طراد شاعر آخر هو (جبرائيل حبيب طراد) ويسمى أيضاً جبران أبا خير كان درس في المدرة الوطنية في بيروت وتمكن من نظم الشعر الجيد الذي لم يعن بجمعه. توفي في سنة 1892 وكان مولده سنة 1854. فمن شعره قوله يرثي اسبيريدون طراد ياور السلطان عبد العزيز المتوفى سنة 1870:

ركنٌ هوى بديارِ اسـلامـبـولَ إذ

 

رَّجت لسقطتهِ المدائنُ والـقُـرى

لم يَحْمهِ السيفُ الصقيلُ ولا الصبـا

 

والأهلُ والصحبُ الفطاحل والذُّرى

قد كان يجمع في حمـاهُ كـتـائبـاً

 

واليوم أضحى في المقابر أقفـرا

من كان لا يرضى القصور مساكنـاً

 

سكن التراب فبات فيهِ مسـفـرًّا

من كان غوثاً للفـقـير وعـاضـداً

 

أمسى أضرَّ من الفقير وأفـقـرا

إن غاب عن أبصارنا يبـقـى لـهُ

 

رسمٌ بطَيٍّ القلـب دام مـصـوَّراً

فعلـيهِ نـعـمةُ ربـهِ وسـلامُـهُ

 

وعلى ثراهُ الغيُثُ يُسكَب ممطـراً

ومن قوله في ذكر محامد الفقيد سليم دي بسترس:

على أنهُ قد كان أحرى بـنـا بـأن

 

نغبّط من مثل السليم نما سـعـدا

حصيف قضى دنياهُ في خوف ربـهِ

 

فحدّثْ ولا تطلب لأفضالـهِ حـدّاً

فكم غاث محتاجاً وأطعـم جـائعـاً

 

وعاد أخا سُقمٍ فأوسـعـهُ رفـدا

وكم من أيادٍ جـاءهـا ومـكـارمِ

 

فكانت بجيد الدهر من فضلهِ عقدا

علا طِبيبُ جدواهُ على الورد نفـحةً

 

وذكر اسمهِ بالفضل قد زَّين المجدا

جديرٌ بأنَّ الفخر يشـكـو فـراقـهُ

 

ومنهُ رواق الفخر قد كان ممتـدّاً

جرجس زوين

وفي السنة 1892 في 28 تموز كانت وفاة كاتب آخر بليغ من أسرة مارونية فاضلة وهو جرجس زوين. تلقى المذكور كل دروسه عندنا في مدرستنا الاكليريكية في غزير ثم عدل إلى الكتابة والتأليف فكان أول محرر لجريدتنا البشير فأقام على تحريرها نحو سبع سنوات ثم تولى تحرير جريدة لسان الحال في آخر حياته جريدة لبنان. وكان كاتباً مجيداً متوقد الذهن سريع الخاطر واسع الاطلاع. وقد عرب عدة كتب طبعت في مطبعتنا كروايتين وردة المغرب وفريدة المغرب وكتآليف دينية منها مصباح الهدى لمن اهتدى وكتاب رواشق الأفكار لأمبرتوس وكتاب كنيسة الروم الشرقية بإزاء المجمع المسكوني الفاتيكاني. وله تآليف رد فيه على الدكتور ميخائيل مشاقة لما أخذ هذا يطعن بالكنيسة الكاثوليكية دعاه الرد القويم على ميخائيل مشاقة اللئيم. وكان جرجس زوين أحد أعضاء الجمعية السورية به فيها خطب ومقالات منها خطبة في تاريخ سورية.

بنو الدلال

وفي هذه السنة عينها في 24 ك1 1892 ذهب ضحية آرائه الدستورية (جبرائيل الدلال) كان سليل أسرة حلبية عريقة في الأدب اشتهر منهم في القرن الثامن عشر إبراهيم الدلال. ومن ذريته (عبد الله) أبو جبرائيل ونصر الله كان ذا عز وجاه وتُقي فلما توفي سنة 1847 أرخ ضريحه بطرس كرامة بقوله:

لحدٌ نواهُ ابنُ دلاَّل التقـي فـغـدا

 

برحمة الَملِك القدُّوس مغمـورا

قضى الحياةُ على نهج الصلاح وقد

 

لاقى المنَّيةَ مبروراً وشـكـورا

ناداه ربٌ غـفـور إذ نـؤرخـهُ

 

نَلْ جنة الخلد عبد الله مسـرورا

ولابنه (نصر الله) آثار أدبية منها مقالاته في المال والأعمال ونشرها في الجنان وكان بيته أشبه بمنتدى العلماء وطنه يجتمع فيه الشعراء والأدباء فمدحه بعضهم بقصائد غراء ولنصر الله كتاب في الأدب دعاه منهاج العلم وكتاب في فلسفة يسمى أثمار التدقيق في أصول التحقيق طبع في المطبعة الأدبية سنة 1888 (ص 89) توفى نصر الله سنة 1882. أما (جبرائيل) فكان والده في 2 نيسان سنة 1836 ونشأ على آداب والده ودرس في مدارس الرسلين في عين طورة وحلب.وكان مغرما بالعلوم العصرية فأحرز منها حصة حسنة وانكب على الفنون العربية ودرس آثارها نثرا ونظما فصار من أوسع أهل وطنه معرفة بآداب العرب. وسافر غير مرة إلى الأستانة وتعلم فيها التركية وتجول في الأقطار حتى بلغ إسبانيا والبرتغال وبلاد الجزائر وحط عصا التسيار في باريس فحرر مدة صحيفة (الصدى) لسان حال السياسة الفرنسوية وصار ترجمانا لوزارة المعارف وتعرف في منصبه بكثيرين من أهل الوجاهة القادمين إلى باريس. ثم استدعاه الوزير خير الدين باشا لما قلد منصب الوزارة إلى دار السلطنة لينشأ فيها صحيفة السلام لكن تلك الجريدة لم تلبث أن تلغى بعد استقالة خير الدين باشا فطلبه المكتب العلمي في فيانا ليدرس العربية في كليتها ففعل مدة سنتين. وصنف هناك بعض المصنفات منها رسالة في ملخص التاريخ العام ورسالات لغوية. ثم عاد إلى وطنه سنة 1884 بعد تغيبه عنه نحو عشرين سنة. فبقي مدة يتعاطى الآداب. وهناك اجتمعنا به سنة 1887 ونقلنا بعض مخطوطات مكتبته. وما كنا لنظن أن هذه المكتبة ستباع يوما ويقع في يدنا كثير من آثارها. وكأن صاحب الترجمة لاختلاطه بأهل السياسة في أوربة عرف ما تقتضيه بلاده من الإصلاحات ففرط منه بعض أقوال نقلت إلى ذوي الأمر فألقي في الحبس وبقي هناك إلى يوم وفاته. وقيل أنه قتل مسموما في اليوم الذي جاء الأمر بإطلاقه والله أعلم. وكان بين جبرائيل الدلال وبعض مشاهير العصر وشعرائه مراسلات ومساجلات. وله قدود غناء وكان بارعا بأصول الموسيقى. وقد جمع الأديب البارع قسطاكي أفندي الحمصي ما وجده من آثاره الأدبية في كتاب دعاه السحر الحلال في شعر الدلال وصفناه في المشرق (6 (1903): 859) واقتطفنا بعض جناه. وله فيه قصائد غراء مدح فيها علية زمانه فمن ذلك قصيدة نظمها في ناصر الدين شاه ملك إيران منها قوله في مدح السلم والعدل:

فالـسـلـمُ أوفـى واقــياً

 

ولثروة البـلـدانِ أوفَـرْ

والعدلُ إن عـمَّ الـمـمـا

 

لكَ شاد علياهـا وَعَّـمْـر

والباقـياتُ الـصـالـحـا

 

تُ على مرور الدهر تُذكرْ

ومن طيب نثره ما روي له هناك من جواب إلى صديق: (كتبت أعزك الله وقد وصلني طرسك الذي فاق الدر النضيد ببهجته، وأزرى على رخيم التغريد بلهجته، وإني لأحق بابتدائك بما ابتدأتني به من الصلة تفضلا، ولكن قدر لك علي السبق وإن تكن في كل شيء أولا، فلساني عاطر بشكرك، وقلبي عامر بذكرك، غبت أو حضرت سرت أو أقمت. فو الله لم أذكر أيام اللقاء ولذتها إلا وطارت نفسي شعاعا، ولا تخيلت ساعات الوداع وكربتها إلا وزدني الشوق التياعا،.. فإن تأملت قصر مدة ألفتنا هاج بي الشوق آلاما، وإن تذكرت حميم صحبتنا زادني التذكار هياما، وإذا فكرت في فرقتنا قلت ما كان اللقاء إلا مناما).

سليم بك تقل

وكأن تلك السنة 1892 كانت مشئومة على الآداب العربية فتوفي في أواسط تموز رجل لبناني نبغ في تحرير الجرائد خصوصاً نريد به سليم بك تقلا. ولد المذكور سنة 1849 في كفر شيما من قرى سواحل بيروت وكان رومياً ملكياً كاثوليكياً فاستنشق منذ نعومة أظفاره ريح الآداب التي نم شذاها في مسقط رأسه من الحديقة اليازجية. فدرس في صغره في مكتب قريته ثم دخل مدرسة أعبية الأمريكانية لكن حوادث السنة 1860 المشئومة اضطرته إلى أن ينزل إلى بيروت فأكمل دروسه في المدرسة الوطنية على المعلم بطرس البستاني وابنه سليم. وكان في كل تقلباته مثالا لأقرانه يسبقهم بذكائه ورغبته في إحراز العلوم. ولما أنشئت سنة 1865 المدرسة البطريركية في بيروت انتدبه أصحابها إلى تدريس العربية فيها فكان رصيفا للشيخ ناصيف اليازجي فيلقى عليه مشاكله اللغوية حتى رسخت قدمه في العلوم اللسانية وأمكنه وضع كتاب مدرسي في الصرف والنحو دعاه مدخل الطلاب. فاتخذته المدرسة دستوراً للتعليم وزادت ثقة الرؤساء به فجعلوه رأس أساتذتهم ووكيل أعمالهم. ثم اجتذبته مصر لما رأى في ربوعها من الحرية وفي أمرائها من الأريحية والتنشيط فأمها ورفع إلى خديويها إسماعيل باشا قصيدة رنانة مهدت له سبيل النجاح فنال الامتياز بإنشاء جريدة الأهرام سنة 1875 وهي التي لا تزال إلى اليوم إحدى جرائد مصر اليومية الكبرى فتحيا بروح منشئها وقد لعبت في حياته تهمَّته دورا مهما مع ما صادفته في سيرها من العوائق لا سيما سنة 1882 وقت الحوادث العرابية إلا أن عزم محررها لم يغلب بالك العوارض بل زاد نشاطا وعانى أعمال الصحافة إلى وفاته فتوفي في قرية بيت مري سنة 1892 وكان قصد لبنان تغييرا للهواء وطلبا للشفاء من ألم أصابه في القلب فلم يمهله أجله زمنا طويلاً ونقلت جثته إلى موطنه بإكرام. وكان لسليم بك تقلا موقع عظيم في نفوس أرباب الأمر من دولته فنال منهم ومن الدول الأجنبية عدة رتب وامتيازات شرفية. وهو قد أبقى من آثار قلمه - ما خلا فصوله ومقالاته المتعددة في الأهرام - مجموعاً فيه مقاطيع من نظمه ونثره. فمن حسن شعره قوله يصف أساطيل حربية:

تلك الأساطيلُ فوق الـغَـمْـر سـابـحةٌ

 

والغمرُ منها كسهلٍ وهي كـالـقُـلـلِ

دانت لهـيبـتـهـا الأنـواءُ خـاضـعةً

 

فحيثما قصـدتْ حـلَّـت بـلا مَـهَـلِ

خاضت عبـابَ بـحـار الأرض آمـنةً

 

عَصْف الرياحِ وقصف الرَّمي بالكـالِ

إذا شكتْ سفُنُ الخصمِ الـعـنـيد ظـمـا

 

نُزَّالِها أورَدتْـهـا الـمـاءَ لـلـدَّقَـلَ

وإن تشامَـخَ حـصـنُ دُكَّ عـن أُسـسٍ

 

ولو تطاولَ مـرفـوعـاً إلـى زُحَـلِ

تهابها الجـنُّ ثـمَّ الأنـسُ مـن بـشـرٍ

 

والنَّسْر في الجوّ مثل الحوت في الوشائلِ

هذي قوى الماء فوق الـمـاء نـاشـرةً

 

بند الهلال قصِفْ ما تبـتـغـي وقُـلِ

ولسليم بك تقلا غير ذلك مما لم يطبع كرسائل ونبذ تاريخية وروايات معربة منها رواية متريدات ورواية أيوب البار. وهذه رسالة كتبها في تهنئة: السيد السند أطال الله بقاءه. لا أدري أي الثلثة أهنئ إياك أم الرتبة أم نفسي؟ أما أنت فبتساميك وإن كنت فوق ما نلت. وأما الرتبة فبشرفها لأنها دون من سمعت إليه. وأما أنا فلأني أول مخلص لك وُدّك فتهنئتي بما أفتخر به لك. ويا حبذا لو كان لي مداد برقي ويراع كهربائي أفيك به حقك من سروري ولعل ما بين فلبينا يقوم هذا المقام عني فأقول:

فإن أشكُكْ أراجعْ فالدليل معـي

 

وإن تشككْ فراجعْ فالدليلُ معكْ

ومن ظريف قوله في من عذله على التدخين:

عذَلَ التدخينَ قومٌ قد رأوا

 

بيدي سيكارةً أعشَقُـهـا

قال: دعها فهي سمُّ نافـعٌ

 

قلت: لا والله لا أعتقُهـا

إن تكن سماً فإني محرقٌ

 

شرَّها بالنار إذ أحرقُهـا

وعليه فاعذلوا أو فاعذروا

 

فعلى الحالين لا أطلقها

إن حلالاً أو حراماً أشربها

 

فأنا الصبُّ الذي يعشقُها

وقام من بعد سليم بك شقيقه (بشارة باشا تقلا) المتوفى سنة 1901 وسنذكره في جملة أدباء القرن العشرين. القانوني (نقولا نقاش) هو نقولا بن الياس نقاش أخو المرحوم مارون نقاش الذي سبق ذكره في (المشرق 11(1909): 382) وهناك أشرنا إلى أصل العائلة من صيدا وانتقالها إلى بيروت. وكان مولد المترجم في هذه المدينة سنة 1825 وجرى على آثار أخيه في طلب العلوم ودرس اللغات وساعده في إنشاء الروايات التمثيلية. ثم تعاطى التجارة من السنة 1859 إلى السنة 1868 فانتدبته الحكومة إلى خدمتها كعضو مجلس الإدارة في لواء بيروت وكمدير جمارك الدخان فانكب على مطالعة قوانين ونظامات الدولة العلية. وتخرج في العلوم الشرعية على مشائخ العلماء أخصهم الشيخ يوسف الأسير فأحرز شهادة وكلاء الدعاوي ونُصب عضواً دائماً امحكمة بيروت التجارية واشتغل وقتئذٍ بالتأليف وعرّب عن التركية عدة كتب قانونية وأضاف إليها الشروح والفوائد حتى صارت في دوائر الحكومة المحلية بمثابة الترجمة الرسمية يرجع إليها في حل المشاكل. ونمت شهرة المؤلف بذلك حتى وقع عليه الاختيار سنة 1878 كمعبوث بيروت إلى الأستانة في الندوة الدستورية لولا أن ثمرة الدستور لم تنضج بعد فعاد بعد مدة إلى وطنه وأنشأ سنة 1880 جريدة المصباح الكاثوليكية فنالت بتدبيره ومقالاته شهرة واسعة طول حياته. وقد ضعف نور ذلك المصباح بوفاة منشئه حتى انطفأ تماماً. وكان المرحوم نقولا نقاش شديد التمسك بالدين مجاهراً بإيمانه كما تشهد له بعض تآليفه كتكريم القديسين ومجموع صلوات تقوية. وله من الكتب الأدبية خطب في مواضيع شتى سياسية واجتماعية. وله ديوان شعر طبع في المطبعة الأدبية سنة 1879 ضمنه كثيراً من المعاني الحسنة والأوصاف العصرية فمن ذلك قوله من قصيدة طويلة أرّخ فيها وصول ماء نهر الكلب إلى بيروت سنة 1875:

يا أهل بيروت بشرى

 

قد صحَّ فينا الرجاءُ

هذا هو الماء جـارٍ

 

فَلْتَرْوَ منه الظمـاءُ

ماءٌ لـذيذٌ شـهــيٌ

 

رِدُوه فيهِ الهـنـاءُ

بيروت ضاهت دمشقاً

 

وزال عنها العَنـاءُ

فقلْ لمن عـيَّرونـا

 

وقلَّةُ الـمـاءِ داءُ

تعالَوْا الآن تـلـقـوا

 

ماء وفيه النـمـاءُ

سقياً لـبـيروت أرّخْ

 

في ثغرنا حلَّ مـاءُ

(1875) ومن أوصافه تعديده لعجائب مصر:

الله أكبـرُ هـذا عـصـرُ تـجـديدٍ

 

عصرُ المعارف لا بل عصرُ تَمْجيدِ

عصرٌ جديدٌ لـهُ الأكـوان بـاسـمةٌ

 

تثني على أهلهِ الغُرّ الـصـنـاديدِ

ذيّاك ينطق في تسـبـيح خـالـقـهِ

 

وذاك يلهجُ في حـمـدٍ وتـوحـيدِ

هذا يطير إلى العـلـيا بـخـفَّـتـهِ

 

وذاك يخرقُ الجبـال الـجـلامـيدِ

ترى السـفـائنَ أعـلامـاً مـدرَّعةً

 

إن تصدمِ الحصنَ ألقى بالمـقـالـيدِ

ما البيضُ ما السُّمرُ إن ألقت مدافعهـا

 

كُرَاتِها الحُمْرَ من أفواهها الـسُّـودِ

كنا نخافُ مـن الأفـلاك صـاعـقةً

 

أضحت من أليمّ تأتـينـا بـتـهـديدِ

تجوبُ أخبارُنا كالـبـرق مـسـرعةً

 

تكادُ تسبق فكـراً غـيرَ مـولـودِ

أضحت قوافلنا والنار تـحـمـلـهـا

 

تسيرُ كالطيرِ لا كالعيسِ في الـبـيدِ

واللهِ ما فعل قُوات البـخـار سـوى

 

ضربٍ من السحر لكن للخير محمودِ

هي الطبيعةُ جل اللـه مـبـدُعـهـا

 

إلى الوجودِ بدت من عمق مفـقـودِ

كلٌ يحاولُ منها كشـفَ مـعـجـزةٍ

 

فكلُّ مَن جدَ يلقى جل مـقـصـودٍ

ومن محاسن نظمه قوله في لبنان ومقاطعاته بعد حوادث السنة 1860:

لله درُّك يا حمـى لـبـنـان إذ

 

أصبحتَ مغتَنم الرضا الشاهاني

نُشرت معارفهُ الجلـيلة إذ غـدا

 

يروي حديثاً عن بني نبـهـانِ

وبقاعُهُ ذلك العـزيزُ مـقـامـهُ

 

أضحى عزيزاً أخصب الوديانِ

وبَمْتنهِ وبفرعِه حـلَّ الـمـنـى

 

والجُرد أضحى ساحلاً لأمـانِ

وبشُوفِه يشفى العلـيلُ تـيمـنـاً

 

غَرْباهُ قُلْ بالخـير يلـتـقـيانِ

قد عُدْتَ يا عرقوبَهُ عمَّا مضـى

 

وغدوتَ معروفاً بصدقٍ لسـانِ

وكذا المنَاصف أنصفت لما صفتْ

 

في خدمةٍ تهدى إلى الأوطـان

وبكسروانَ ترى الأمانَ موطَّـداً

 

من سيفٍ كسراهُ الجليلِ الشـانِ

وترى القُوَيْطع كالقطيع مطاوعاً

 

وكذاك قاطعـهُ بـوصـلٍ دانٍ

وجُبَيْلُهُ وجبـالـهُ وسـهـولـهُ

 

ووعوُرُه حاكت رياض البـانِ

وبزاويَتْهِ (كذا) قد بُنيِ نْعَم البـنـا

 

هل لا وذا وعدٌ من الرحـمـانِ

تحمى بَسْيفٍ بـاتـرٍ بَـتـرونُـهُ

 

وكذا غدت أمـيونُـهُ بـأمـانِ

نادى حسامُ العدلِ فـيه هـاتـفـاً

 

ألقى (بشَرِي) كلَّ من عـادانـي

بجنوبهِ وشمالهِ تلـقـى الـهـنـا

 

وبشَرْقهِ وبـغـربـهِ هـنـآنِ

قمْ أيها الشيخُ الـقـديمُ زمـانـهُ

 

وانظرْ هضابَك بهجة الأكـوانِ

نسجَ الربيعُ بنحو هـامـك خـوذةٌ

 

كزبرجدٍ قد صيغ مع مـرجـانٍ

هامٌ تكـلـلـهُ الـثـلـوجُ أكـلةً

 

بيضاءَ تكفي عن جليل معـانـي

والخصبُ في أكفانهِ ووسـوطـهِ

 

قُل جـنَّةٌ تـزدانُ بـالافـنـانِ

حتى الصخور غُدت رياضاً أثمرت

 

من كل فاكهةٍ بـهـا زوجـانِ

ومناهل يحيي القلـوبَ ورودُهـا

 

وعيونهُ تروي ظمأ الـظـمـآنِ

هو جنّة في الأرض تحكي للسمـا

 

والخلق ترتع في رياض أمـانِ

وله قصيدة طويلة تنيف على 140 بيتاً دعاها التوبة وضمها المعاني الزهدية. وقد روينا له في المشرق (5 (1902): 631) نشيداً نظمه لجمعية مار منصور. كانت وفاة نقولا نقاش في 4 كانون الأول سنة 1894 فابنه مصقع الخطباء ورثاه جل الشعراء فجمعت أقوالهم في كراس مخصوص. وقد ورث أولاده من بعده أهابه فعرف منهم كبيرهم المرحوم يوسف وله بعض الآثار الأدبية. والقانوني جان صاحب كتاب مغني المتداعين عن المحامين. ومن الأسرة عينها اشتهر (سليم بن خليل) المتوفى قي 25 تشرين الثاني سنة 1884 وهو صاحب جريدة المحروسة ومحرر العصر الجديد وله تاريخ المسألة المصرية سمّاه (مصر المصريين) وكتب عدة فصول ومقالات وروايات طبعت في بيروت ومصر. ونضيف إلى هؤلاء (جرجس بن حبيب) المتوفى في 17 تشرين الأول سنة 1907 وكان من أدباء طائفته له بعض المصنفات في تاريخ العرب أوقفنا عليها وهي لم تطبع. وسليم وجرجس ابنا أخوي نقولا نقاش.

يوسف الشلفون

كان أحد أنصار النهضة الأدبية في الفصل الثاني من القرن التاسع عشر. وهو يوسف بن فارس بن يوسف الخوري الشلفون كان جده حاكماً على ساحل لبنان من قبل الأمير بشير الشهابي الكبير. أما حفيده يوسف فكان مولده نحو السنة 1840 درس في مكاتب بيروت مبادئ العربية واللغات الأجنبية واشتغل مدة في المطبعة السورية التي أنشأنها المرحوم خليل أفندي الخوري سنة 1857 بصفة مرتب حروف ومصحح مطبوعات. وفي أثر حوادث سنة 1860 استدعاه فؤاد باشا معتمد الدولة العلية لترتيب ونظارة المحررات الرسمية التي كانت تطبع في التركية والفرنسوية. وبعد أن تقرر نظام جبل لبنان أنشأ على حسابه مطبعته المعروفة بالمطبعة العمومية سنة 1861 ونشر فيها عدة مطبوعات عددناها في المشرق (1001:3 - 1003) وكان يوسف الشلفون ذا همة عظيمة فانتدبه أول متصرفي لبنان المرحوم داود لتنظيم مطبعة في مركز المتصرفية فقام المندوب بهذه المهمة القيام الحسن. ثم صرف عنايته إلى إنشاء الجرائد فنشر منها أربعاً وهي الزهرة ثم النحلة ثم النجاح وأخيرا التقدم وذلك بالاشتراك مع بعض الكتبة المجيدين كالقس لويس صابونجي والخوري يوسف الدبس وأديب إسحاق. ثم اشترك مع المرحوم رزق الله خضرا فجعل مطبعته في خدمة الطائفة المارونية إلى أن انفصل عنها وأنشأ المطبعة الكلية كما فصلنا كل ذلك في تاريخ الطباعة في المشرق (3 (1900): 501) وقد أضر بالمترجم تقلبه في الأشغال وميله إلى ذوي المبادئ الحرة. وكان أحد أعضاء الجمعية العلمية السورية وفي مطبعته نشرت أعمالها في السنتين 1868 - 1869. وكان حسن الكتابة وله نظم جمعه في ديوان ودعاه أنيس الجليس وطبع قسماً منه في مطبعته الكلية سنة 1874. فمن نظمه قصيدة في مدح داود باشا هذه بعض أبياتها:

ضاءت بشمس سـعـودك الأيامُ

 

وزهت بطلعة مجدك الأعـوامُ

وسمَا بذانك سفحُ لبـنـانَ الـذي

 

حسدَتْهُ مصرُ بعزهِ والـشـامُ

فكأنهُ فـلـكٌ وأنـت بـأفـقِـه

 

بدرٌ له دون الـبـدورِ تـمـامُ

أقطارهُ بالعدلِ منك استأمـنـت

 

ورعت بها الآسادُ والأغـنـامُ

يا أيها المولى الذي عن وصفـهِ

 

وثنـائه قـد كـلـتِ الأقـلامُ

قلدتَ قوماً تحت أمـرك مـنـهُ

 

لم تحْصِ واجبَ شكرها الأرقامُ

ونسختَ آيات المظلم بـعـدمـا

 

قامت على ساقٍ بهـا الأقـدامُ

ونصبتَ يا داودُ أحكاماً بهـا

 

ظهر اليقينُ وزالتِ الأوهامُ

فينا لك الذكرُ الجميل مخلَّـداً

 

هو في الحديث بداءةٌ وختامُ

وقال مهنئاً أحد الرهبان اليسوعيين في عيده فافتتح كلامه بهذه الأبيات:

المرءُ يُعْرفُ في جميل خصـالـهِ

 

ويعزُّ عند مقـالـهِ وفـعـالـهِ

والشهمُ من نال العُلى فـي جـدّهِ

 

حتى غدا الراقون دون منـالـهِ

ويشيد صرحَ الخير في طلب العُلى

 

كي يدرك الأفلاك في أعمـالـهِ

فيرى اتقاء الله خـيراً يرتـجـى

 

يوماً ويشفي قـلـبـهُ بـزُلالـهِ

ويميل من كل الأنـام تـعـفُّـفـاً

 

ويرى بحب اللـه راحة بـالـهِ

ولد قصائد في أماثل الرجال وكبار الأمراء الذين قدموا بيروت ومدح إمبراطور النسما ووليي عهد ألمانية وإنكلترة وسمو الخديوي إسماعيل باشا فاستحق بذلك بعض الامتيازات الشرفية لكنه توفي خاملاً السنة 1895.

سليم جدي

وفي السنة 1895 عينها انتقل في ربيع عمره شاب أديب قصفته المنون غصناً يافعاً نريد به سليم بن نصر الله جدي من أسرة جدي المعروفة بفضلها في بيروت. كان مولده نحو السنة 1870 وتخرج في الآداب والعلوم في كليتنا. وقد عرفناه حق المعرفة إذ كنا ندرسه العربية وكان في مدرستنا مع المرحوم نجيب حبيقه صاحب الفارس الأسود فعهدناهما طالبين يتلهبان شوقا إلى خدمة الأوطان فيجريان مذ ذاك في ميدان الآداب كخيل الرهان ولكليهما مآثر نثرية وشعرية لدينا منها أشياء متفرقة والبعض منها قد نشر بالطبع كعدة قصائد وروايات. وكأن دار الآخرة حسدت الوطن على فضلهما فأشربتهما كأس المنون المرّة عاجلاً. إلا أن نجيباً عاش بعد قرينه عشر سنوات وسيأتي ذكره مع أدباء القرن العشرين. ولسليم جدي رثاء في الشيخ خليل اليازجي صح فيه فكأنه سبق ورثى نفسه بقوله:

لك بين الأنـام ديوانُ شـعـرٍ

 

بمعانيهِ حرَّك الجـلـمـودا

تلك بانت العصر مبتـكـراتٍ

 

ومن المجد ألبستـك بـرودا

لو درى المـوت أن ذلـك درٌ

 

المعاني نظمتَ منه عقـودا

ما أصابت سهامه لك قـلـبـاً

 

كان قبل اللسان ينشي القصيدا

شاكر شقير

وفي خريف السنة التالية خسرت أسرة كريمة من الروم الأورثذكس كاتباً آخر من أبناء الوطن وهو شاكر مغامس شقير عرف في بلاد الشام مدة بتفننه بالكتابة ونظم الشعر تولى التدريس في عدة مدارس وطنية وساعد المرحوم بطرس البستاني في بعض فصول دائرة المعارف وكتب في مجلة الجنان وأدار مجلة ديوان الفكاهة (1886 - 1889). ثم انتقل إلى مصر وأنشأ فيها مجلة الكنانة في نيسان سنة 1895 فمات بموت محررها بعد سنتها الأولى (1896). توفي في وطنه الشويفات وللمذكور عدة مقالات وروايات وقصائد تجدها متفرقة في كثير من المجلات. وقد روينا عنه قصة ظريفة في المشرق (9 (1906):571 - 575) عنوانها الطواف بالقربان المقدس. وله كتاب مصباح الأفكار في نظم الأشعار طبع في بيروت سنة 1873 ومنتخبات الأشعار طبع سنة 1876 وعني بتكرار ديوان أبي العلاء المعري دون أن يزيد عليها شيئاً يذكر من المحسنات. ولشاكر أخ اسمه فارس ترك أيضاً بعض المؤلفات وسنذكره في تاريخ آداب القرن العشرين. ومن حسن شعر شاكر قوله من رثاه في سليم دي بسترس دعاه (حقيقة الأسف) وقد تفنن فيه كثيراً:  

فتلهُّب وتلهُّـفٌ وتـأسُّـفٌ

 

وتأفُّفٌ وتحشُّرٌ وتحـرُّقُ

كبدٌ تذوب وأنفسٌ تشكو العنا

 

أذنٌ تطنُّ وأعينٌ تندفَّـقُ

ثم انتقل إلى بحر آخر وقافية أخرى فقال:

سليمُ الـفـؤادِ لـهُ طـلـعةٌ

 

تحيي الشموسَ وتزري القمرْ

وذو هيبةٍ كأسـودٍ الـشَّـرى

 

وأنسٍ كأنسِ الغزال الأغـرْ

تخرُّ الـذقـونُ لـهُ سـجَّـداً

 

تسرُّ العيونُ بهِ إذ حـضَـرْ

عليُّ المكان جـلـيُّ الـبـيانِ

 

طليُّ اللسانِ مسليُّ البَصَـرء

نقيُّ البنانِ تقـيُّ الـجـنـان

 

رقيُّ الزمانِ بـقـيُّ الأثـرْ

ومما قاله سنة 1869 في مدح الجمعية السورية:

وزهرة روضٍ كلمَّا طال وقتهـا

تزيد نمذواً بالجمـالِ مـقـلَّـداً

بها افتخرت بيروت حتى لقد سمت

على كل مصرٍ وهي تُشبهُ فرقدا

مؤلفة من كل صـاحـبٍ غـيرةٍ

ذواتٍ بنو للخير بيتـاً مـشـيداًّ

كواكب سعد يسطـعُ الـيوم نـورهـم

ويهدي الذي في الجهل ضلَّ إلى الهدى

وقد ألـبـسـوا بـيروت حـلَّة سـؤددٍ

تتيه بها إذا أصبحَتْ منـبـع الـنـدى

فكـلُّ لـسـانٍ فـي ثـنـاهـمُ لاهـجٌ

يصيغُ بهِ لفـظـاً لـدرٍّ مـنـضَّـدا

وكلُّ جنـانٍ حـمـدُهـم فـيه راسـخٌ

وكل مديحٍ فـي سـواهـم تـفـنَّـدا

فلا زال مسعاهـم بـذلـك نـاجـحـاً

ونالوا المنى ما الطير في الغصن غرَّدا

ومن نظم شاكر قوله من قصيدة في رثاء نقولا نقاش:

من كان بالأمس نقَّاش الصحاف هدًى

 

يُنْسيك حسَّانَ أو يزري بسبـحـانِ

من كل نثر أنيق الوصف منـدمـجٍ

 

وكل شعرٍ رشيق النظـم طـنَّـان

كم حرَّر اللفظ والمعنى تـصُّـورهُ

 

بما استرقَّ لـه أحـرارَ تـبـيانِ

إذا انبرى لا يباري في مـنـاظَـرَةِ

 

وإن جرى لا يجاري بـين أقـرانِ

وختمها بقوله:

مضى إلى الله حيث الدارُ خالدة

 

مستوفياً أجر أعمالٍ وإيمـانِ

لا يبرحِ العفوُ فيه فوق مضجعةٍ

 

تحت الأكلةِ من آسٍ وريحـانِ

أمين شميل

أسرة شميل هي فرع آخر من دوحة الآداب التي نمت في كفرشيما. يقال أن أصلهم من حوران فاستوطنوا كفرشيما في مبادئ القرن التاسع عشر. وكان مولد أمين بن إبراهيم شميل في 14 شباط سنة 1828 وتلقى مبادئ العلوم واللغة الإنكليزية في مدرسة الأميركان في بيروت فامتاز بين أقرانه. ثم سار إلى رومية في بعض شؤون طائفته فأصاب فيها نجاحاً. ثم رحل إلى إنكلترة وتعاطى فيها التجارة فاتسعت أشغاله وفتح محلاً في الإسكندرية فلم يزل في تقدم ونجاح إلى أن دار دولاب الدهر فأباد ثروته. إلا إن تلك الأحوال المشؤومة لم تقل شباة عزمه. فصفى أشغاله وقصد مصر سنة 1875 ليتعاطى فن المحاماة فيبرز فيه واشتغل بالآداب وأشنأ مجلة الحقوق فكانت باكورة المجلات الشرعية. ونشر في تلك الأثناء بعض التآليف القانونية كالمباحث القضائية ونظام الحكومة الإنكليزية والتآليف السياسية الدقيقة النظر أخصها كتابه الوافي في المسألة الشرقية طبعه في مطبعة الأهرام سنة 1879 وهو كتاب ضخم في جزأين ضمنه ملخص تواريخ العرب من أول الإسلام إلى زماننا (ص546) وكان وضع قبلاً رواية سياسية دعاها الزفاف السياسي. وكان ضليعاً بالآداب حسن الكتابة نثراً ونظماً ويضمن تآليفه المعاني الفلسفية والاعتبارات النظرية والرموز كما تشهد له بعض مصنفاته كبستان النزهات في فن المخلوقات الذي لم يطبع وكالمبتكر في وصف الحياة البشرية ومقاماتها المختلفة منذ الولادة إلى الموت أنجز تأليفه في ليفربول سنة 1867 فطبعه في المطبعة السورية في بيروت. وكان لأمين شميل أولاد نجباء تهذبوا كلهم في كليتنا البيروتية إلى أن يد المنون اغتالت سنة 1885 اثنان منهم في وقت واحد فتوفي أرثور في بيروت وفردريك الكبير في مصر وكان كلاهما من أذكى تلامذة مدرستنا وأكملهم ديناً وأدباً وأرقاهم في سلم النجاح في الدروس فكان موتهما مصاباً أليماً على والدهما أضعف قواه وهد ركن حياته. لكنه لم يزل جهات المستميت حتى لبى دعوة ربه في أواخر سنة 1897 في 6 كانون الأول منها بعد وفاة أخيه أسعد ببضعة أشهر في لبنان.

ولأمين الشميل أخوان آخران ضارعاه عقلاً وذكاء الواحد منهم ملحم كان أيضاً عالماً وشارك أخاه في أعماله التجارية وآدابه توفي في 17 شباط سنة 1885 أي سنة وفاة نجلي أمين فقال الشيخ خليل اليازجي مؤرخاً وفاته:

يا مُلحماً جرحتْ سهامُ مصـابـهِ

 

منا القلوبَ جراحةً لا تُـلْـحـمُ

أسكرثَ عند البَـينِ آل شـمـيلٍ

 

بشَمولِ حزنٍ ليس يرشفها الفـمُ

للمجد والعليا عـلـيك مـنـاحةٌ

 

ولكل فنٍ في المعارفِ مـأتـمُ

غادرتَ مجدك واستويتَ من العُلى

 

أرَخ لدى المجد الذي هو أعظمُ

(1885).

ولد ملحم في 5 نيسان سنة 1826 وتقلب في مناصب التعليم فالتجارة فالسياسة حتى أدركته الوفاة. ومارس الطب مدة على الطريقة الاختبارية القديمة. ومن آثاره الأدبية أرجوزة وضعها في علم الجبر والمقابلة وله مقدمة طويلة على علم الحساب وكان شاعراً مجيداً له عدة قصائد منها واحدة مدح فيها الخديوي إسماعيل باشا ورثى كريمته زينب هانم بمرثاة افتتحها بقوله:

يوسِعُ القلبَ صاحب الحزم صبرا

 

يومَ بينِ يجرّعُ الصبُّ صبـرا

وحكيمٌ مـن يزدري بـحـياةٍ

 

كلّ يومَ تزداد بالطول قِصرا

وفي آخر عمره دخل ملحم حكومة لبنان وخدم وطنه إلى سنة وفاته.

أما الأخ الآخر فهو الدكتور شبلي شميل الشهير بكتاباته المتوفى بعد الحرب وسنذكره في تاريخ الآداب العربية في القرن العشرين وكان أمين رجلاً ديناً على خلاف أخيه الدكتور ومن حسن قوله في الخالق سبحانه وتعالى:

هو المهيمنُ والأكوانُ صـاغـرةٌ

 

تجثو لقدرتهِ العلـيا وتـرتـعـدُ

هو العزيزُ هو الباقـي بـقـوتـهِ

 

هو الرحيمُ هو المحيي هو الصمَدُ

يا مُبدع الكل هـل فـي ذاك أمـدٍ

 

يُبْغي لديك وماذا يا تـرى الأمـدُ

أنتَ الكريمُ وتعطي ما تشاءُ كـمـا

 

تشاء من بَحْر جودٍ نبعهُ الـزَّبـدُ

نفختَ في منخرَي هذا المركَّب من

 

طينٍ فأصبحَ ذا نفسٍ بها الـبَـدَدُ

هل نالت العُجْمُ نفساً لا تموت كمـا

 

نلنا وإلا فما البرهانُ والـسَّـنَـدُ

النفسُ من عالمِ الأرواح لا عرَضٌ

 

يفنى ولا كائنٌ ينحـلُّ أو جـسـدُ

فارحب بها مَلَكاً من فضل واهبهـا

 

تَنَل بها مُلُكـاً كـرسـيُّه الأبـدُ

وهبتها لك تمييزاً وقـد ظـهـرتْ

 

نوراً فكن مؤمناً ويلٌ لمن جحدوا

ولأمين شميل قصائد متفرقة لم تجمع نشرت في مجلات شتى كقصيدة كنز المنى في المقتطف (1885 ص98) وكقصيدته الشرعية في الجنان (1885 ص228) وغير ذلك مما اتخذته يد الضياع.

حنا بك أسعد الصعب

من أسرة المشايخ الموارنة أبي الصعب الشهيرين بنواحي البترون. كان أبوه سر عسكر الأمير بشير الشهابي الكبير فنشأ صغيراً على التقى وحب الآداب فاتخذه الأمير في خدمته فتعلم العلوم اللسانية وبرع في الخط العربي حتى ضرب المثل في خطه البديع. ولما سار الأمير بشير إلى مالطة اختار المترجم بصفة كاتب لأسراره فرافقه إلى تلك الجزيرة ثم إلى الآستانة العلية وانتهز ثم الفرصة ليتعلم عدة لغات كالإيطالية والفرنسوية والتركية ودرس الفنون العصرية حتى أصاب له شهرة واسعة. ولما عاد إلى وطنه انتدبته الحكومة إلى خدمتها فخدمها في عدة مناصب جليلة مدة أربعين سنة وكان أول من حاز لقب البك نصارى لبنان وبر الشام. توفي في أواسط سنة 1896. ولحنا بك الصعبي رسالات وشروح لم تطبع وله شعر كثير تفنن فيه وأجاد وقد جمعه في ديوان طبع في مطبعتنا سنة 1893 وفي صدره صورة ناظمه. وقد ختمه بقصائد تركية تشهد على براعته في اللغة العثمانية. وفي شعره منظومات متعددة تفيد تاريخ لبنان من السنة 1850 إلى السنة 1890 فمن ذلك قوله مهنئاً دولة رستم باشا عند قدومه إلى لبنان سنة 1873 بقصيدة هذا مطلعها:

ما بالُ لبنانُ يبدي الـنَّـوُرَ أنـوارا

 

هل وجهُ رُستمَ أهدى النُّور أنوارا

أو تلك ألطافهُ الحسناء مذ لمعـتْ

 

أزاحتِ الشمسَ التنوير أسـتـارا

إلى أن قال:

حيُيّتَ لبنانُ كنْ بالله مُعتـصـمـاً

 

وكُن شكوراً بحمد الله مكـثـارا

ها قد أتى السرُّ والإقبال يُسـعـدهُ

 

والضرُّ غاب مع العنقاءِ قد طارا

ضاءت مشارقنا لاحت بيارقـنـا

 

طابت حدائقنا عَرْفـاً وأَثـمـارا

جادت محابرنا زادت مخـابـرنـا

 

ناغت منابرنا سجعاً وأشـعـارا

حسَّفْتَنا سَنَناً كمّلـتـنـا سُـنَـنـاً

 

فوَّلتنا منَنـاً شـيَّدت أمـصـارا

مكنَّت مِحْرسَنا ملَّـيت أرؤسـنـا

 

خوَّلت أنفسنا بالخـلـدِ أخـدارا

لا زلتَ يا علَمٌ تجـثـو لـك أمَـمٌ

 

سيفٌ كذا قلمٌ ملّـكـت أحـرار

وكان قال سابقاً لما تعين داود باشا أول متصرف نصراني على لبنان:

لنا البُشرى لقد نلنا انتصـارا

 

وفزنا في سرور لن يبارى

مليكُنا قد حبا لبنـان قـدراً

 

وخولَّهُ مقاماً واقـتـدارا

بوالِ من بني عيسـى وزيرٍ

 

وهذا الفخرُ وافانا ابتكـارا

شدا باليمن تاريخ بـفـخـرٍ

 

وزيرٌ جاء نصراً للنصارى

(1862) وله من قصيدة يوبخ فيها الخاطئ ويستدعيه إلى التوبة.

ألا أُرفقْ بنفسٍ أنَّ كـل نـفـائسٍ

 

لديها بذي الدنيا أخسُّ الخسـيسةِ

أأنت عدوّ النفس أم أنت خدنـهـا

 

فمن شيمة الأخوانِ صونُ الخدينةِ

أراك بلا الإشفاق تبغي عذابـهـا

 

وترمقها شذراً بعينٍ غـضـوبةِ

فلو شامتِ الأعداءُ ما أنت فـاعـلٌ

 

لرقَّت لـهـا رُحـمـاً وأيةَ رقَّة

أتجهلُ ما للنفس من هول مَـوقـفٍ

 

أمام العلي الديانِ في كـل رهـبةٍ

وفيهِ لإعلان الخفـايا مـظـاهـرُ

 

على مشهد الأبصار من كل حَدْقةِ

مصاحفُها مفتوحةُ إذ تُـرى بـهـا

 

ذنوبٌ ولم يُترَك بـهـا قـدرُ ذرَّةِ

فذرَهْا ولا تَعبـأُ بـظـلٍ عـبـورُهُ

 

يكونُ كطَرْف العين في كل سرعةِ

         

ولحنَّا بك عدة أناشيد تقوية في السيد المسيح والبتول الطاهرة نقلنا منها سابقاً بعض شذرات. ومما لم نجده في ديوانه زجليةٌ في سبت عازر:

لمَّـا تـوفـي عــازرُ

 

فوراً بلـحـدٍ بـادورا

جثمـانـهُ مـذ غـادروا

 

في جوف رمس قد غدا

الــــــــلازمة

 

 

يا عازرُ ربُّ الفدا

 

وافاك لا تخشَ الـردى

والموتُ ولَّـى مـذ بـدا

 

موّلى قـديرٌ مُـزْبـدا

وختمها بقوله:

فقام من جوف الضـريحْ

 

في صوتهِ العالي يصيحْ

أنت العلي أنتَ المسـيحْ

 

مستوجبٌ أن تُـعَـبـدا

الشيخ نجيب حداد

ولد في بيروت في 25 شباط سنة 1867 ورحل صغيراً إلى الإسكندرية فتلقى في مدارسها العلوم. ولما حدثت الثورة العرابية عاد إلى بيروت فأتم بها دروسه في المدرسة البطريركية وكان رضع صغيراً أفاويق الأدب في قرابة الشيوخ اليازجي وأمهُ كريمة الشيخ ناصيف فعاش مدة في معية أخواله الكرام. ولما سكنت الأمور في القطر المصري كرَّ راجعاً إليه وعكف على الكتابة في عدَّة جرائد أنشأها وكان رئيس تحريرها أو أحد كتبتها الأولين كلسان العرب وأنيس الجليس والسلام. إلا أن الأسقام لم تزل تنتابه حتى هصرت غصن حياته رطباً قبل بلوغه الكهولة فمات في مصر في 9 شباط سنة 1899. وكان نجيب الحداد متضلعاً بالكتابة يجمع في إنشائه بين متانة العبارة وسهولتها. وله المقالات السياسية الحسنة. واشتهر بإنشاء الروايات أو تعريبها. وقد لقي بعضها إقبالاً ونجاحاً كرواية السيد للشاعر كرنيل الفرنسوي من تعريبه ورواية البخيل ورواية المهدي ورواية الرجاء بعد اليأس ورواية أثارت العرب. وكان شعره أجود من نثره حذا فيه حذو الشعراء العصريين. من ذلك قصيدته في ذم القمار التي رويناها سابقاً في المشرق(7 (1904): 673). ومن شعره الطيب في وصف السكك الحديدية وقطراتها:

تخَلَّ عن التشبيب بالبيضِ والسُّـمـر

 

ودَع عنك تشبيه المحاسن بالبـدرش

وعُجْ بي إلى طُرق الحديدِ ووصفها ال

 

جديد ودَع ما مرَّ من قِدَم الـدهـرِ

ففيها يروقُ الوصف وهـو حـقـائق

 

وفيها يحقُّ النعت لا مذهبُ الشعـرِ

وعنها يصحُّ القـول أن قـيل بـارقٌ

 

يشقُ الفلا لا عن جواد ولا مُـهِـر

فطيرٌ بلا جُنـح وطٌـود بـلا بـقـا

 

وبرقٌ بلا جوٍّ وهـادٍ بـلا فـكـرِ

بلى هي طيرٌ والبـخـار جـنـاحـهُ

 

وطوٌد إذا شبهتَ بالطود ما يسـري

وبرقٌ ولكـنَّ الـدخـانَ سـحـاُبـهُ

 

وهادِ لهُ لبُّ تـوقَّـدَ عـن جـمـرِ

يسير فمـا يدري لـسـرعةِ سـيرهِ

 

أتجري لديه الأرض أم فوقها يجري

وللريح حـولّـيْهِ حـفـيفٌ كـأنـه

 

حفيفُ جناح الصَّقر حنَّ إلى الوكر

إذا سار ثارت فوقهُ راية مـن الـد م

 

خان لتنبي انـهُ مـلـك الـقـفـرِ

تمّزقها الأرياح حـنـقـاً كـأنـهـا

 

تحاول في تمزيقها الأخذ بـالـثـأرِ

لعمرُك ما هذا بهـادي الـبـلاد بـل

 

هو القائد الهادي إلى العزّ والنصـرِ

وأحسن من ذلك قصيدته الغراء التي قالها في احتراق سوق الشفقة في باريس سنة 1897 حيث رزى الكاثوليك بموت قوم من كرامهم لا سيما النساء الشريفات فماتوا في تلك السوق التي انشأوها لمساعدة الفقراء والبائسين بعد أن اتقدت أسلاك آلتها الكهربائية وامتد إليهم لهيب النار:

سوقُ برٍّ تُباعُ فيها اللهُّـى بـي

 

عاً ويُشرى الثواب فيها شراءَ

زَّينتهـا بـيض الأيادي وأيدي م

 

البيض من محسنٍ ومن حسناءَ

أنفسٌ تبتغي السماء فما أمْسـي

 

نَ إلا وقد بلغـنَ الـسـمـاءَ

أدركت ما تـروم مـن جـنَّة م

 

الخلد وكن كان الطريق صِلاءَ

من رأى قبلها جحـيمـاً يؤدي

 

لنعيمٍ أبـنـاءهُ الـشـهـداءَ

أو رأى محسناً يجـودُ عـلـى

 

الناسِ فيلفي نار الحريقِ جزاءَ

أترى كان ذاك مطهرَ من مـا

 

توا فيمحو عن النفوس الخطاءَ

أم هو الدهر لا يزالُ مـسـيئاً

 

لكريمٍ ومُكرمـاً مـن أسـاءَ

يا ربوعاً كانت معاهد إحـسـا

 

نٍ وحسن فأصبحت قـفـراءَ

ودياراً كانـت مـنـازل إينـا

 

سٍ فأضحت بلاقعـاً وخـلاءَ

وكراماً كانوا منـاهـل جـودٍ

 

لفقيرٍ فأصبـحـوا فـقـراءَ

أُمراءُ نادى النَّدى فـأطـاعـو

 

هُ أميراً لهـم ولـبَّـوا نِـداءَ

وحسانٌ قد جُـدْن بـرّاً كـأن م

 

البرَّ ثوبٌ يزيدهـن بـهـاءَ

ساحة تُنبت المـكـارمَ والـرأ

 

فة والمجد والنـدى والإخـاءَ

فنساءٌ بهـا تـبـاري رجـالاً

 

ورجال بها تبـار الـنـسـاءَ

أوجهْ يشرق السَّنا من مـحـيا

 

ها فتزداد بالجمـيل سـنـاءَ

رحن يزهون بالبياض فما أمس

 

يَن إلا كـوالـحـاً ســوداء

رمَمـاً لـم تـدع الـنـار إلا

 

رَسْمَ جسمٍ وأعظمـاً جـرداءَ

نقمة صبَها القضاءُ علـى الأم

 

برار حتماً ومن يردُّ القضـاءُ

رحم الله من قضى وشفى الجر

 

حى وعزَّى الباكين والتُعسـاءُ

سليمان الصولة

هو سليمان بن إبراهيم الصوله الرومي الملكي الكاثوليكي. كان مولده في دمشق سنة 1814 وفيها قضى أول سني حياته ولما ترعرع انتقل مع والديه إلى مصر ونشأ فيها وتلقن العلوم في مدارسها وكان يتردد على أساتذة الأزهر فأخذ عنهم العلوم العربية ونظم الشعر وقد أخبر عن نفسه أنه في أيام الشباب كان يعارض قصائد أبي فراس الحمداني ويخمس قصائد الحلي ويشطر منظومات المتنبي. وقد ألف كتاباً سماه حصن الوجود في عقائد اليهود وتآليف أخرى راحت حرقاً أو غرقاً في حوادث سنة 1860. وتقلد سليمان الصوله المناصب في الدواوين المصرية وصحب إبراهيم باشا لما جاء لفتح الشام ثم استقر بعد ذلك في دمشق وتقدم في خدمة الدولة العليَّة وتقرب من الأمير عبد القادر الجزائري وبفضله نجا من الموت في فتنة السنة 1860 المشؤومة. ولما كانت السنة 1884 عاد إلى مصر وفيها أقام إلى وفاته في 14 أيار سنة 1899 عن 85 سنة. وله ديوان واسع في 382 صفحة طبعه في مصر سنة 1894 واعتذر في مقدمته انه (برضٌ من عد ومجموع صغير، بقي من ديوان كبير، غادرته اللصوص، بين محروق ومقصوص)، فقال وهو به يتعزى: إذا ما كان لي ابل فمعزى. ثم أضاف إليه ما جد عليه من النظم فطبعه مفضلا القليل المقبول على الكثير المرذول. والحق يقال أن شعره رائق منسجم ومواضيعه مبتكرة أقرب إلى المنظومات العصريَّة. ومن شعره ما قاله ارتجالاً فمدح يوحنا بك البحري وكان الشاعر في الرابعة عشرة من سنه فأحب البحري أن يسمع نظمه:

أمرتَ لك الأمرُ المطاع بـأن تـرى

 

فرائد شعري وهي أغزرُ من شَعْري

فوا خجلي من فـقـد درٍ أصـوغـهُ

 

لديك وكلُّ الدرّ بعض حصى البحـرِ

ومن مدحه قصيدة طويلة قالها في فقيد القطر المصري الوزير بطرس باشا غالي منها:

رجلٌ وحسُبك إنهُ الرجل الـذي

 

نجت البلادُ به مـن الإقـلالِ

أحيا الندى وأمات بالكمد العـدى

 

ونفى الصَّدى بسماحهِ الهطـاّلِ

تبدو الغيوبُ لدى لواحظ حذقـهِ

 

غرراً مجرّدةً من الإشـكـالِ

وتناولت منهُ المجالس حـكـمةً

 

سادت على الماضي بها والتالي

نظر العزيزُ بهِ فطـافةَ يوسـفٍ

 

فأحلهُ منه المحلَّ الـعـالـي

وأمَّدهُ بالرتبة العظمـى الـتـي

 

ما نالهـا قَـيْلٌ مـن الأقـيالِ

فأفاد مجد القبط مـجـداً ثـانـياً

 

مترّفعاً لثبيرهِ المـتـعـالـي

والناسُ حول ندى يمينه أرَّخـت

 

نيلُ الهناء يمينُ بطرس غالـي

وله عدة مراثي حسنة قالها في إبراهيم المتوفى سنة 1883 وابنته السيدة ليلى. فما قاله في ليلى:

يا ليلةً غادرت لـيلـى بـلا نَـفـس

 

وغادرتني أُقاسي حرَّ أنـفـاسـي

لولاك لم يدجُ نور الشمس في بصري

 

ولا تبطّن حَوفَ اللحد نـبـراسـي

ولا جفا الراحُ راحي والكرى بصري

 

وصار دمعي سُلافَي والجوى كاسي

أين التي كنتُ إن غابت أقولُ لـهـا

 

ما قالهُ شاعرٌ مـن آل عـبـاس:

ما أقبح الناس في عيني وأسمّجـهـم

 

إذا نظرتُ ولم ألقاكِ في الـنـاسِ

قالوا: نسيتَ بها إبراهيم قلت لـهـم:

 

لا عشتُ أن كنت يا ناسُ لهُ نـاسِ

ولا رستْ بين أرباب العلى قـدمـي

 

أن كان غيرهما في خاطري رأسي

 

           

وقد روينا له في المشرق (7 (1904): 432) أبياتاً في مريم السيدة البتول. وله قصيدة أخرى في مدحها نجت من حريق الشام على منوال عجيب وفيها يقول مستغيثاً من داء أصابه:

أيا بابَ النجاة وسلـسـبـيلَ ال

 

حياة وسورَ رَّباتِ الـخـدورِ

خذي بيدي الشقية وأنهضـينـي

 

ونجّيني من الخطر الخطـيرِ

وداوي علَّتي أعِدي حـبـوري

 

لأنهض بالسرور عن السريرِ

فإني بـين أشـواك الـمـنـايا

 

أُعذَّب في الأصائلِ والبكـورِ

أيُكْسَـر خـاطـر يا أمَّ ربـي

 

لديكِ وأنت جابرةُ الكـسـيرِ

ويبلغني الجحيمث وأنتِ غوثـي

 

وأدخلُ في الظلامِ وأنت نوري

أجـيرينـي أجـرينــي وإلا

 

فدلّيني لمن أشكـو أمـوري

وهل يرضى حنوُّكِ بافتقـاري

 

لغير نداك يا بحر البـحـورِ

تبارك من بنورك جـلَّ قـدراً

 

عن التشبيه أخجل كـلَّ نـورِ

وأعطاكِ الشفـاعةَ يا سـمـاءَ

 

تخيَّرها لـخَّـلاقِ الـبـدورِ

سأبذلُ في امتداحك كل جهـدي

 

لعلَّ اللهُ يسمحُ عن قصـوري

ويغفر لي ويصفح عن ذنوبـي

 

ويصلح عند خاتمتي أمـوري

وبسليمان الصولة قد ختم القرن التاسع عشر الذي أخذنا على نفسنا تاريخ أدبائه. على أنه في هذه الحقبة الأخيرة قد اشتهر غير الذين ذكرناهم ممن لم يبلغوا شأوهم أو لم نحظ بمآثرهم.

ومنهم بطل لبنان (يوسف بك كرم) الذي ولد سنة 1824 في اهدن من أسرة كريمة وتخرج في مدرسة عينطورا وتولى في لبنان بعض المناصب إلى أن حدثت بينه وبين متصرف الجبل داود باشا تلك المنازعات المشئومة التي انتهت بسفر يوسف بك إلى أوربة ثم إلى الآستانة حتى قضى آخر عمره في نابولي وفيها توفي معتزلاً عن الأشغال السياسية منقطعاً إلى خدمة ربه في أوائل نيسان من السنة 1889. وقد ذكرناه هنا لما كان عليه من الاقتدار في الكتابة وقد نشر في العربية والفرنسوية عدة مقالات سياسية طبع بعضها مفرداً. وكان ينظم الشعر العربي. قيل انه في ريعان شبابه نظم كتاب سفر نشيد الأناشيد. وله قصائد روى بعضها صاحب الجوائب كقصيدته في راشد باشا التي يقول فيها:

ذا راشد البرَّ بـن وجـهُ مـدينة م

 

البحرَين ولاهُ العزيز على الورى

يكفي الـعـبـاد بـودهِ وبـجـدهِ

 

فبِنِدهِ وجهُ الزمـان تـعـطّـراً

أضحت لهيبتهِ القـلـوبُ كـبـيرةً

 

والخطب في الأمر الكبيرِ تصغَّرا

وقد أثبتنا له في المشرق (5 (1902): 497) قصيدة أرسلها إلى صديقه الأديب يوسف حبيب باخوس.

ومنهم الدكتور (سليم بك الجريديني) المتوفى سنة 1885 وأخوه (اسكندر الجريديني) وكان كلاهما من أنصار الآداب أنشأ مقالات علمية وأدبية نشراها في أعمال الجمعية السورية وفي بعض المجلات.

ومنهم (الحاج يوسف فرنسيس) الذي نشأ في حاصبيا وتوطن القليعة في مرجعيون وكان عالماً بأمور الخيل كما يدل عليه كتابه سراج الليل في سروج الخيل. كانت وفاته سنة 1892 وله شعر.

ومنهم أيضاً (سليم دياب) أحد محرري مجلة الجنان نشر فيها عدة فصول تاريخية وقصائد توفي سنة 1895.

ومنهم الأستاذ (فرنسيس شمعون) من تلامذة المدرسة الأمركانية في اعبيه كان راسخ القدم في العلوم العربية متضلعاً بالرياضيات وله مؤلف لطيف في الحساب ونشر ديوان الفارض في بيروت. توفي في 11 شباط 1899.

ومنهم(حنين بن نعمة الله الخوري) من أعضاء الجمعية السورية له في نشرتها عدة مقالات وعرب تأليف الوزير كيزو الفرنسوي في التمدن الأوربي. لا نعلم سنة وفاته.