الجزء الثالث: الربع الأول من القرن العشرين - القسم الأول: الباب الأول: نظر إجمالي في الآداب العربية في بدء القرن العشرين

القسم الأول

الآداب العربية من السنة 1900 إلى 1908

الباب الأول

نظر إجمالي في الآداب العربية في بدء القرن العشرين

قد أتفق ذوو الفراسة وأرباب الحكمة والنظر على القول بأن كل قرن ميزة تفرزه عن سواه كما أن دولة وسلالة سيماء خاصة تتسمان بها وتفرقهما عن خلافهما.

كان القرن العشرون جيل انتباه ويقاظة لأهل الشرق فأنهم استفاقوا من سنتهم العميقة واستنشقوا رائحة الحرية باختلاطهم مع الشعوب لدى نفوذ الأجانب بينهم ومهاجرتهم إلى أنحاء المعمور فأثر ذلك في أفكارهم وأخذوا يسعون إلى إماطة التمائم التي كانت الدولة العثمانية عوذتهم بها ونزع اللفائف التي كانت قمطت بها حياتهم الروحية. وكان إذ ذاك السلطان عبد الحميد في عز مجده يسوس رعاياه بقضيب من حديد لا يأنف من سفك دماء كل من يحاول النجاة من نيره الثقيل.

ومن مميزات هذا العصر اتساع نطاق العقول بالوسائل الجديدة التي قربت إليها رقيها وأنارت بصائرها وشحذت أفكارها. وأخصها المدارس التي شاعت في نفس القرى فضلاً عن المدن. بينها الجامعات والمدارس العليا والوسطى والابتدائية كان يتقاطر إليها الأولاد من كل طبقات الأهالي حتى الفقراء والوضعاء ففتحت لكثيرين منهم سبلاً جديدة للارتزاق بصفة كتبة وأطباء ومحامين ومهندسين وأصوليين جاروا الغربيين في مضمار الحضارة والتمدن. وخرج بعضهم من الجامعات الأوربية فأتقنوا علومها كسائر الغربيين. وكذلك عرف الشرقيون ما في الاتحاد من القوة فأخذوا على مثال الغربيين يؤلفون الجماعات الأدبية لتعزيز اللغة العربية ونشر آثارها. لكنها لم تثبت لعدم اتفاق أعضاءها ولنفور الحكومة منها خوفاً على مسيس سياستها.

وقد ساعد على ترقي الآداب العربية في الشرق انتشار الصحافة وتوفر المطابع والمطبوعات فإن عدد العديد من المتخرجين في المدارس تحفزوا للكتابة فأنشئوا من الجرائد السيارة والمجلات عدداً كاد لا يفي به إحصاء سواء كان في الوطن أم في المهجر. وقد بين ذلك جناب الفيكونت دي طرازي في كتابه الممتع عن الصحافة فعدد منها العشرات مع كونه لم ينشر بعدما استجد منها في القرن العشرين وأبرزوا مع المجلات مئاتٍ من المطبوعات في كل علم فن أصبحت المكاتب تضيق عن جمعها. وبين هذه المطبوعات عدد وافر من مخطوطات القدماء كانت ضائعة في زوايا المكاتب استخرجوها من مطاميرها فأتت مساعدة للنهضة الأدبية.

ولعل المستشرقين أصابوا قصبة السباق في هذه الحلبة فإنهم أبرزوا من مكاتبهم تأليف نادرة تهافت على درسها طلبة الآثار القديمة. وقد تنافسوا في نشر هذه الكنوز الأدبية في كل الدول لم يثبطهم في العمل ما كانوا يجدونه من العناء والمشقات وكثرة النفقات. وكانت في الوقت عينه مجلاتهم الآسيوية لا تدع بحثاً مهماً في سائر فنون الشرق إلا خاضت فيه. وقد احتفل البعض من أصحابها بعرسهم الفضي والذهبي بل بلغ بعضها السنة المائة لإنشائها كالجمعيتين الآسيويتين الفرنسوية والإنكليزية.

وزادت أيضاً في بدء القرن العشرين المكاتب التي تمكن الباحثون من مراجعة مخطوطاتها كمكاتب الآستانة والشهباء وبغداد. واتسعت مكتبتنا الشرقية فخص بها معهد واسع لضيق مكانها السابق فبلغ عدد مطبوعاتها الشرقية ثلثين ألفا فضلاً عن ثلاثة آلاف مخطوط من منتخب المصنفات العربية والإسلامية والنصرانية.

ولحقت المكاتب المتاحف التي أخذت في أوائل القرن العشرين تلقت أنظار الشرقيين فودوا لو تستحضر لهم متاحف تجمع فيها الآثار العربية خصوصاً والشرقية عموماً على مثال المتاحف الأوربية فعرضت في بيروت في باحة السراية القديمة بعض الآثار المكتشفة في المدينة وكان لمتحفي كليتي اليسوعية والأميركانية شأن أعظم. وقد ابتنى الأميركان بناية خاصة بتلك الآثار أحسنوا هندامها وتنظيمها.

وكان الأجانب في مصر قد سبقوا الشام إلى ذلك بمتحفي الإسكندرية والقاهرة استفاد منهما الآثوريين بما نشروه في مقالاتهم الرائقة. ومثلهما متحف الآستانة الذي نقل إليه كثير من عاديات سورية وفلسطين منها الناؤوس المعروف بناؤوس الاسكندر قبر فيه أحد ملوك صيدون.

وقد أدى امتزاج الشرق بالغرب في أوائل القرن العشرين إلى التطور في أساليب الإنشاء نثراً ونظماً فأخذ البعض ينشئون على منوال الخياليين (les romantiques) بما يدعونه النثر الشعري أو الشعر النثري فيرصفونه كمقطعات شعرية وينسقونه دون ارتباط كبير في المعاني سواء أرادوا أن يتمثلوا بالسور القرآنية أم يقتدوا ببعض المحدثين من كتبة الفرنج.

وقد أكتسب الشعر من طريقتهم أن خرج من دائرته السابقة الضيقة وأخذ أصحابه يتفننون في نظمه صورة ومعنى. فترى الدواوين الجديدة مشحونة بالقصائد في كل الوقائع المستحدثة والحوادث التاريخية والاختراعات الجديدة وتصور كل عواطف الإنسان وكل مظاهرات الكون. وربما تحرروا أيضاً فيها عن البحور الشعرية فوضعوا طرائق مختلفة لنظمهم وإبراز شواعرهم.

وقد أكثروا من وضع الروايات الخيالية ونقلوا ما شاع منها في البلاد إلى العربية فغلبت أذهان الكتبة والقراء قوة الاحساسات والشواعر التخيلية على قوة العقل ورزانة الفكر. على أن ذوي الذوق السالم وأصالة الرأي لم ينخدعوا بهذه القشور وثبتوا على الكتابة السلسة المنسجمة التي شاعت في عصور اللغة الذهبية ففضلوا اللب على القشر والجوهر على السطحيات.

ومن مميزات أوائل القرن العشرين اتساع نطاق الآداب العربية فأن تلك النهضة التي شملت أولاً مصر والشام وبعض العراق أخذت تنتشر بفضل المواصلات والمهاجرة إلى أنحاء السودان ومراكش وتونس وطرابلس الغرب وبلغت أنحاء أمريكة الشمالية والجنوبية وبالأخص نيويورك والبرازيل. فكثرت المطبوعات وتوفرت الصحف السيارة. وكان من سمة تلك المنشورات أنها تحررت من كل مراقبة فكان أصحابها يعرضون أفكارهم بكل حرية لا يخافون تقييداً في بسطها. فنالها بذلك بعض المحاسن وبعض المساوئ فأما المحاسن فبكونها خاضت كل المواضيع السياسية والأدبية والتاريخية والفنية مطلقة العنان لكل العواطف والتخيلات لا تخشى انتقاد الأعمال المذمومة ضاربة على أيدي كل ظالم حتى السلاطين. وأما المساوئ فلأن بعضاً من الكتبة لم يقفوا على حدود الاعتدال والأنصاف فلاموا غير ملوم وحمدوا غير حميد وانتقدوا ليس لإصلاح فاسد أو تقويم معوج بل لغايات شخصية سافلة. وصوبوا سهامهم المدين وأربابه الكرام واستعاروا من الماسونية ومن بعض الذاهب البروتستانية مغالاتهم في مناهضة التعاليم المسيحية الكاثوليكية وابتخسوا حقوق الآداب فهاموا في بيداء أوهامهم وتاهوا في مهامه جهلهم.

ومن مساوئ ذلك الانتشار البعيد ما أصاب اللغة من آفة الفساد وذلك بتوفر الألفاظ الأجنبية والأساليب الغربية. وربما وضع الصحافيون والمعربون في نقلهم عن نقلهم عن اللغات الأوربية مفردات مختلفة لمسمى واحد لا سيما للمخترعات الجديدة. فاضطربت بخلافهم أفكار القراء. وأسوأ من ذلك أغلاط وسقطات لغوية شاعت في الجرائد والتأليف المستحدثة فقام بعض الأدباء كالمرحوم الشيخ إبراهيم اليازجي ينتصرون لآداب اللغة ويزيفون ما رأوه مخالفاً لأوضاعها ولعلهم لم يلزموا في انتقادهم الطريقة الوسطى والخطة المثلى فقام غيرهم يردون عليهم ويثبتون صواب تلك التعابير. فبقيت هذه المناقشات عقيمة إذ لم يوجد مجمع علمي يقضي بين المتناقشين فيفرز بين الغث والسمين وينقي الباطل ويقرر الحق المبين.

وقد أخذت النهضة الأدبية في بدء القرن العشرين تتصل أيضاً بالجنس اللطيف فإن فئة من السيدات حاولن كتبة فصول أدبية شعرية ونثرية في الجرائد السيارة في أواخر القرن التاسع عشر كمريانا مراش ووردة اليازجي ووردة الترك بيد أننا لم نطلع على جريدة أو مجلة نلن لها الامتياز باسمهن قبل القرن العشرين غير مجلة الفتاة التي ظهرت في مصر في 20 نوفمبر من السنة 1892 لصاحبة امتيازها هند نوفل ثم مجلة مرآة الحسناء للسيدة مريم مزهر كان أول صدورها في مصر سنة 1896 ثم مجلة أنيس الجليس لألكسندرا أفيرينوه ظهر أول عددها في الإسكندرية في غاية كانون الثاني من السنة 1898. وتبتعها قي الحقبة التي نحن بصددها مجلة السيدات والبنات للسيدة ماري فرح نشرتها أيضاً في الإسكندرية في أول أبريل من السنة 1903 ثم فتاة الشرق للسيدة لبيبة هاشم سنة 1906 في مصر وهي لا تزال ثابتة إلى الآن.

ومما ساعد القرن العشرين في ترقية في الآداب ظهور بعض النوابغ الذين تكاتفوا وتناصروا لرفع منار العلوم سبقوا عهده ببضعة أعوام أو وافقوا طلوع هلاله فكان لهم في نهضته فضل مشكور. وسنأتي على ذكرهم في أثناء المقالة.

أما الآداب العربية في أوربة فكانت في أوائل القرن العشرين ثابتة على سيرها الحثيث بهمة جمعياتها ومدارسها الشرقية. فإن عدد المستشرقين كان يزيد يوماً بعد آخر وكان الباحثون منهم يطلعون كل يوم على كنوز أدبية جديدة في البلاد التي يتصل إليها النفوذ الأوربي كتونس ومراكش وبعض جهات الهند والسودان. فنشروا منها قسماً كبيراً في حواضرهم. وجاراهم علماء الشرق فأبرزوا إلى عالم الوجود مخطوطات عديدة كانت مطمورة في زوايا النسيان. وكفى دليلاً على ذلك لوائح عديدة كانت تطلع القراء مراراً في السنة على ما ينشر منها بالطبع. كتعريف المطبوعات الشرقية في برلين ولائحة مطبوعات الشرق في لندن وهناك الأعداد الضافية الدالة على تلك الحركة العلمية وهانحن نتبع في تاريخ هذه الحقبة الأولى سياق كتابنا (تاريخ الآداب العربية في القرن التاسع عشر) فنذكر أولاً أدباء النصارى والمستشرقين.