أدباء النصارى في الحقبة الأولى من هذا القرن
أدباء النصارى في الشام ومصر
جارى أدباء النصارى في مصر أدباءها المسلمين ولعلهم كان لهم التقدم في تلك النهضة الأدبية. على أن ذلك الفضل يعود خصوصاً إلى نصارى الشام الذين لم يجدوا في وطنهم ما رغبوا فيه من سعة الحال وبسطة العيش والحرية المعتدلة فهاجروا إلى مصر ليمتعوا فيها بحضارتها تحت نظارة بريطانية العظمى. وما لبثوا أن تخصص بعضهم ممن تخرجوا في مدارس الأجانب في الشام للكتابة فنبغوا فيها كما تشهد لهم تأليفهم والصحف التي تولّوا إدارتها فنهجوا الطريق في ذلك لأهل مصر. وهانحن نذكر الذين اشتهروا في تلك الحقبة الأولى.
(عبد الله مراش) توفي في غرة القرن العشرين في 17 كانون الثاني 1900 في مرسيلية وكان مولده في حلب في 14 أيار 1839 وهو أخو فرنسيس الذي مرت لنا ترجمته بين أدباء القرن التاسع عشر وكلاهما من أسرة فاضلة عرف أصحابها بفضلهم ورقي آدابهم. تخرج عبد الله في الشهباء في مدرسة الآباء الفرنسيسيين ثم تعاطى التجارة فيها مدة واتسع في أعمالها وسافر إلى إنكلترا عميلاً لشركة من التجار في منشستر فأصاب ثروة واسعة. ثم عدل عن التجارة واشتغل بالآداب في باريس وفي إنكلترا وحرر في جرائدها العربية كمرآة الأحوال لرزق الله حسون ومصر القاهرة لأديب إسحاق والحقوق لميخائيل عورا وكوكب الشرق لأحد الفرنسويين وقضى أواخر سني حياته في مرسيلية. وكان عبد الله مراش يشبه رزق الله حسون في درسه للغة العربية ومعرفة تاريخ العرب والبحث عن الآثار العربية في مكاتب لندن وباريس ونسخة عنها ما يراه من نوادرها جديراً بالذكر ينقل ذلك بخط بديع. وكان عبد الله ضليعاً بالإنشاء العربي يحسن الكتابة ويحرص على وضوح معانيها. وله فصول رائعة في الأخلاق والآداب وانتقادات حسنة على منشورات المستشرقين ورسائل شتى في العلوم العصرية والأحوال السياسية. وتعريبات لبعض كتابات الفرنسويين (اطلل الضياء 2: 344 و491).
وممن اشتهروا في مصر من أهل الشام المرحوم (بشارة تقلا) أخو سليم وقرينه بإنشاء الصحافة والتأليف. ولد في كفر شيما في 22 آب 1852 وتوفي في 15 حزيران 1902 عرف منذ حداثته بتوقد الذهن ودرس في المدرسة الوطنية ثم في المدرسة البطريركية وعلم مدة في مدرسة عين طورا. ثم لحق سنة 1875 بأخيه الذي كان سبقه إلى الديار المصرية فأنشأ هناك في أوائل آب من السنة 1876 جريدة الأهرام ثم صدى الأهرام وكابدا بسبب الجريدتين عدة مشقات لما نشراه من المقالات الحرة وانتقاد أعمال الحكام والدفاع عن حقوق المصريين واستعانا بحماية فرنسة لرد غارات من يتعرض لهما. وسافر بشارة غير مرة إلى أوربة وزار عواصمها ثم رحل إلى الأستانة ونال من امتيازات سلطانها فضلاً عما نال من انعامات فرنسة كوسام جوقة الشرف ووسامات غيرها من الدول. ثم عاد إلى مصر ووسع دائرة جريدة الأهرام فوصل بجده ونشاطه إلى أن أصبحت بفضله في مقدمة الجرائد المصرية وقد خدم بها صوالح المصريين بازاء الاحتلال البريطاني وانتصر لفرنسة وحقوقها. أصيب في أواخر عمره بداء القلب فرجع إلى سورية فتوفى في وطنه.
وخدم مصر شاب آخر فمات في عز شبابه نعني به (خليل الجاويش) المولود في بيروت سنة 1872 والمتخرج في مدارسها وخصوصاً في المدرسة البطريركية حيث درس العربية على الشيخ إبراهيم اليازجي ثم انتقل إلى مصر وخدم في حكومتها بضع سنوات. ثم تولى في الإسكندرية رئاسة تحرير جريدة الأهرام عدة سنين إلى أن شعر بانتهاك القوى فعاد إلى لبنان رجاء أن ينعش بهوائه قواه فلم يجد ما أمله فعاد إلى مصر وتوفي في حلوان في 21 شباط 1902. ألف روايات أدبية ومنظومات شعرية نشر بعضها في مجلات مصر. وفي مصر كانت وفاة أحد مواطنينا السوريين (نقولا بك توما) ولد في مدينة صيداء سنة 1853 ودرس في مدرستها للآباء اليسوعيين ثم صار من أساتذتها وعلم في بعض مدارس لبنان حتى انتقل إلى مصر سنة 1874 فانتظم مدة في سلك عمال دولتها. ثم تسنى له السفر إلى باريس فاجتمع فيها بأصحاب النهضة كالسيد الأفغاني والشيخ محمد عبدة وكتب عدة مقالات نشرها في جريدة مرآة الحال ثم عدل إلى فن المحاماة ولم يزل منكباً على درس أصولها ومشكلاتها حتى برع فيها. وأنشأ مجلة الأحكام المصرية فزادت بها سمعته وأقبل عليها الجمهور فعدل عنها ولزم المحاماة حتى عد من نوابغها سالكاً فيها بكل جرأة إلى أن اضطرته الأمور مع انتهاك الصحة إلى السفر أوربة وفيها كانت وفاته في 25 آب 1905. كان نقولا بك في مرافعاته في القضاء بليغ الكلام يتدفق في بسط الدعوى وبيان غثها وسمينها لا يتلجلج لسانه في شرحها وتطبيقها على القوانين الشرعية وفيه قال بعض الشعراء:
أيها الطالبُ البيانِ وعـلـمِ م |
|
المنطقِ الحقِ نصَّهُ والنُّقولا |
لا تجدَّ السَّرى وحسبُك مصرٌ |
|
لبلوغ المنى وفيها نِـقـولا |
وفي السنة التالية في 25 تشرين الثاني 1906 ذهب الموت بحياة سوري آخر أدى في مصر خدماً مشكورة للآداب العربية وهو (الدكتور نقولا نمر) أحد مراسلي مجلة المقتطف. كان مولده في حاصبياً سنة 1858 وأتت به أنه مع أخوته إلى صيداء ثم إلى بيروت بعد أن قتل ولده في حوادث السنة 1860 فتربى نقولا في المدارس الإنكليزية ثم في الكلية الأميركية وفي السنة 1876 درّس في إحدى مدارس دمشق ثم عاد إلى الكلية فدرس فيها الطب ونال شهادتها وله في مجلة الطبيب فصول طبية تشهد له بحسن النظر والذكاء. ثم رحل إلى مصر وتعاطى فيها الطبابة منتظماً في سلك الجيش المصري منتقلاً معه إلى أصوان فوادي حلفا. ثم سافر إلى أميركة وواجه رئيس الولايات المتحدة ونشر تفاصيل رحلته إليها في مجلة المقتطف وكذلك رحل إلى أرثرية والحبشة فحرر أخبار سفره إليها مع ما وجده فيها مما يلذ القراء من الأمور الطبيعية وأخلاق البشر. وكأن هذه الأسفار أثرت في صحته بحيث لم تنجح في علاج دائه حيلة الأطباء وكان أتى بيروت مؤملاً الشفاء فزاد مزاجه انحرافاً فرجع إلى مصر وتوفي فيها بعد قليل.
وفي 24 ك2 1907 قبضت المنون روح أدباء بيروت المستوطنين للقاهرة وهو (جميل بك نخله المدّور) من أسرة معروفة في الشام بفضلها وأدب أصحابها. وكان المذكور مولعاً بالتنقيب عن آداب العرب وتاريخ الأمم الشرقية القديمة. فصنف في حداثته تاريخ بابل وآشور وسبكه سبكاً حسناً وأخرجه بعبارة بليغة وعرَب كتاب التاريخ القديم ورواية (أتالا) أشاتوبريان. وإنما أفضل تأليفه كتابهُ (حضارة الإسلام في دار السلام) روى فيه على صورة رحلة خيالية لبعض أهل الشيعة ما ورد في تأليف المؤرخين والأدباء عن أحوال المملكة في أيام هارون الرشيد وهو فكر حسن اقتبسه الكاتب من أحد أدباء الفرنسويين المدعو برتلمي الذي روى على هذه الصورة سفر أحد الأجانب المدعو أناكرسيس (Anacharsis) إلى جهات اليونان قبل وفاة الاسكندر واصفاً ما يستحسنه من عادات اليونان وأخلاقهم وعلومهم. ومثله سفر تليماك الفنيلون أسقف كمبراي. وهذه نبذة من تلك الحضارة تطلعك على أسلوب كاتبها البارع ضمنها وصف زبيدة أم جعفر زوجة هارون الرشيد بنت جعفر بن المنصور وأم الخليفة الأمين (ص152 - 153): (ولئن كنت رأيت له (أي هارون الرشيد) في تدبير المملكة ذلك التصرف الجميل فإني ما وجدته له في تدبير أهل بيته ومواليه وإنما يرجع الرأي في ذلك زوجه أم جعفر وهي أنفذ نساء العباسيين كلمة في الدولة. وقد ربيت في مهاد الدعة والدلال كما يشير إليها اسمها. فإنما سماها أبو جعفر جدها بزبيدة لغضاضة بدنها وقد كان يرقصها تهللاً بها وينظر إلى غضاضتها وملاحتها فسماها زبيدة لذلك(1) فلما بنى بها الرشيد وجدها طرفة حديث ومصدر رأي جمل لم ير بُدا من الانقياد إليها في قضاء جميع ما ترومه من الحوائج(2). ومن ذلك أنه مكنها من بيوت المال فأنفقت من سعة ما ينيف عن ثلاثين ألفَ ألف دينار. فبنت مسجداً مباركاً على ضفة دجلة بمقربة من دور الخلافة يسمى بمسجد زبيدة. ومسجداً سامي الحسن في قطيعتها المعروفة بقطيعة أم جعفر(3) بين باب خراسان وشارع دار الرقيق(4) وحفرت بالحجاز العين المعروفة بين المشاش(5) ومهدت الطريق لمائها في كل خفض ورفع وسهل ووعر حتى أخرجتها من مسافة اثني عشر ميلاً إلى مكة فبلغ ما أنفقته عليها ألفَ ألف دينار. وهذا من الأعمال التي لم تباشرها امرأة في الإسلام إلا الخيزران أم الرشيد... فإن لم يكن عند زبيدة من الملل ما بلغ هذا القدر الجسيم فإن لها في السياسة رأيا تسمو به إلى التداخل في أمور الدولة كأفطن ما يكون من الرجال).
وقد امتاز بين المهاجرين السوريين إلى مصر (الشيخ إبراهيم اليازجي) فإنه بشهرة اسم والده الشيخ ناصيف وشهرته الشخصية وتأليفه كان من أعظم الساعدين على نهضة الآداب العربية في القطر المصري وفيه كانت وفاته في 28 كانون الأول سنة 1906. ولا نعود هنا إلى ذكره بعد ما وفيناه حقه في كتابنا الآداب العربية في القرن تاسع عشر (39:2 - 40) مع سائر الأسرة اليازجية. وقد ذكرنا في المشرق (22 (1924): 637 - 638) حفلة نصب تمثاله.
(الدكتور بشارة زلزل) كان زميل الشيخ المرحوم إبراهيم اليازجي وقد توفي قبله في 11 تشرين الثاني 1905 في الإسكندرية. كان مولده في بكفيا ودرس الطب في الكلية الأميركية في بيروت ونال شهادتها وزاول فن الطبابة في بيروت وهاجر إلى مصر فراراً من استبداد الترك. كتب في وطنه وفي مصر مقالات علمية وأدبية كثيرة في مجلة النحلة سنة 1870 ثم في المقتطف وساعد الشيخ إبراهيم في تحرير مجلة الطبيب والبيان والضياء ونشر في الإسكندرية سنة 1901 كتاب دعوة الأطباء لابن بطلان على نسق كليلة ودمنة وألحقهُ (بتكملة الحديث في الطب القديم والحديث). ومن مصنفاته كتاب تنوير الأذهان في حياة الإنسان والحيوان. ظهر منه قسمان. وله في مجلة النحلة منظومات شتى منها قوله في صاحب الدولة داود باشا أول متصرفي في جبل لبنان النصارى:
هو رأسُنـا داود بـاشـا الـذي لـهُ |
|
من المجد والمعروف ما ليس يُحصَرُ |
وزيرُ مُـشـيرُ عـادلٌ ذو مـهـابةٍ |
|
يُقاد لهُ الليثُ الجسورُ الغضـنْـفـرُ |
أقام لفتحِ العـلـم هـمَـتـهُ الـتـي |
|
تُنادي لهذا الفـتـح الـلـه أكـبـرُ |
كريمُ بهِ عودُ الهُـدى بـعـد يُبْـسِـه |
|
أُعيد نضيراً فهو ينـمـو ويثـمـرُ |
لهُ دولةُ تـزهـو بـحـسـن عـدالة |
|
وبطشٌ كما قد كان كسرى وقيصـرُ |
ومن دولةِ علياء قـام بـفـخـرهـا |
|
فتفخرُ فيه وهي بالعـدل تـفـخـرُ |
وفي هذه الحقبة انقصف غصن من الدوحة البستانية (سعيد البستاني) توفي في أيار 1901 في الحدث (لبنان). تقلب بين مصر وبلاد الشام وعكف على الآداب العربية وأصدر بعض الروايات التمثيلية كذات الخدر وسمير الأمير مثل فيهما أخلاق القطر المصري وأمراء لبنان وحرر عدة سنين جريدة لبنان إلى سنة وفاته. برح الحياة وهو في منتصف العمر وقضى نحبه بعده ببضعة أسابيع وطنية (سبع شميل) من أسرة الشميل الكفرشيمية وهو في الرابعة والثلثين من عمره تخصص كآله بفن الكتابة فألف وحرر في الجرائد في بيروت ومصر وأوربة حتى أصيب بداء الصدر فمات في أوائل حزيران 1901. ومن مشاهير السوريين الذي أسفت على فقدهم الآداب (خليل غانم) السياسي الحر. ولد في بيروت في 8 ت2 سنة 1846 وتوفي في باريس في غرة حزيران 1903. تخرج في شبابه في مدرسة عينطورة وأتقن اللغتين الفرنسوية والعربية وخدم الدولة التركية كترجمان لمتصرفية بيروت ولولاية سورية وللوزارة الخارجية في الأستانة. وانتخبه سكان سورية كنائب عنهم لمجلس المبعوثان سنة 1875 وساعد مدحت باشا في وضع قانون الدولة السياسي فكان أحد أركان النهضة الدستورية. ولما حل عبد الحميد مجلس المبعوثان وتشدد على أنصاره فزع خليل غانم إلى السفارة الفرنسوية وأبحر سراً إلى فرنسة حيث ناضل إلى آخر حياته عن استقلال وطنه. فأشنأ في باريس عدة جرائد عربية كالبصير وعربية فرنسوية كتركيا الفتاة وفرنسوية محضة كالهلال وأصبح من مكاتبي جرائد فرنسة الكبرى. وألف جمعية تركيا الفتاة فسعى السلطان إلى أن يؤلف قلبه بالهبات والمناصب فرده خائباً ومنحته فرنسا وسام جوقة الشرف. وبقي طول حياته متشبثاً بدينه. ومن مآثره الطيبة كتاب من إنشائه في حياة السيد المسيح ويثبت فيه بالبراهين العلمية والدينية الوهيته. وله في الافرنسية تاريخ سلاطين بني عثمان. وقد عرفنا في بيروت قرينته الفاضلة فأوقفتنا على بعض آثاره ونشرنا. منها فضلاً في الاقتصاد. ولقد قال المرحوم يوسف خطار غانم في رثائه:
اليومُ أطفـئَ نـورُ بـدرٍ لامـعٍ |
|
بسما المواطن فالمصابُ بهِ وقَعْ |
وخبا شهابُ فـؤَاد حـرٍ صـادقٍ |
|
ومجاهد أضناهُ بالوطنِ الـوَلَـعْ |
قد فاجأتنا الحادثـاتُ وأَسـرعـتْ |
|
بسقوط صاعقةِ لها القلبُ انصدعْ |
ومنها:
رجلُ الحقيقة أن يموت لدُنِ الأولى |
|
سمعوهُ واعتبروهُ بالـحـقْ أدّرعْ |
ما مات غانُـمـا فـإنـه خـالـدٌ |
|
في نهجنا في فكرنا في ما وضَع |
وفؤادهُ كُـنـهُ الـطـهـارة إنـهُ |
|
لقلوبنا يوحي ثبات المَجَـتـمـعْ |
ومحرّكُ فيها صلاحَ ومـواطـنٍ |
|
عظَمتْ وبالنصر القريب المرتفعْ |
وفي السنة 1906 في 24 أيلول فقدت كليتنا أحد نخبة الأدباء من ذوي التعليم والكتابة والتأليف المرحوم (رشيد الشرتوني) كان درس مدة في مدرسة مار عبدا هرهريا وعلم في مدرستي عين تراز وعين طورا ثم انتدبته مدرستنا إلى تعليم العربية فخدمها خدمة نصوحاً عدة سنين. وكذلك وجدت فيه مطبعتنا الكاثوليكية خر مساعد لنشر كتبها المدرسية ولتحرر جريدة البشير فأعرب في كل أعماله عن مدة حسنة وله في المشرق فصول تاريخية ولغوية أعترف له القراء بجودة إنشائها ودقة مضامينها. ومن آثاره المستجادة مبادئه العربية في الصرف والنحو مع تمارينه للطلاب في التصريف والأعراب وكتابه نهج المراسلة ومفتاح القراءة. وقد نشر لخدمة طائفته بعض مخطوطات العلامة الدويهي كتاريخ الطائفة الرومانية ومنارة الأقداس وأعمال بعض المجامع المارونية كما أنه عرب قسماً من تاريخ لبنان للأب بطرس مرتين اليسوعي وتراجم بعض القديسين للأب فكتور دي كوبيه. ومن تعريبه أيضاً كتاب الموافقة بين المعلم وسفر التكون له ورواية سفر العجب إلى بلاد الذهب للأب أميل ريغو اليسوعي وحبيس بحيرة قدس للأب هنري لامنس. ومما بقي من مخطوطاته ترجمة فلسفة الأب تونجرجي اليسوعي. وفي السنة 1906 في يوم عيد ميلاد ودع الحياة أحد تلامذة كليتنا النوابغ (نجيب حبيقة) أنكب على درس اللغات المدرسية وإحراز العلوم العصرية بكل رغبة فببز فيها بين أقرانه وما كاد ينال الشهادات المؤذنة بكفاءته حتى دعي إلى التدريس في كلية القديس يوسف فعلم عدة سنين الصفوف العربية العالية. وعرفت أيضاً فضله في تعليم مدرسة الحكمة الجليلة والمدرسة العثمانية للشيخ أحمد عباس الأزهري. ثم تفرغ إلى للكتابة والتأليف وتولى تحرير جريدة المصباح سنة 1903 له فيها وفي الشرق وغيرها فصول أدبية وفنية مستطابة. وكان ساعياً إلى تعزيز الآداب العربية وتأليف قلوب الناشئة في خدمة الوطن كما أنه خدم الجمعيات ووقف نفسه لتعليم أولاد طائفته الفقراء. وله آثار عديدة منها مدرسية كدرجات الإنشاء في ستة أجزاء ومنها أدبية كمقالاته عن فن التمثيل والانتقاد ومنها روايات معربة كالفارس الأسود وشهيد الوفاء وخريدة لبنان والشقيقتين. وله قصائد رائقة سلسة وكانت باكورة قصائده ما نظمه في يوبيل الحبر الأعظم الكهنوتي سنة 1887 وهو إذ ذاك تلميذ فوصف السفينة البطرسية المرموز بها إلى الكنيسة.
عصفت على بحـر الأنـام رياحُ |
|
حجب النهارَ من الظلام وِشـاحُ |
وهوت صواعقُ مُصعِقاتٌ أزعجت |
|
بشراً فكادت تـزهـقُ الأرواحُ |
والبحر عاد عرمرمياً مُصـخـبـاً |
|
والموجُ ثار فساءَ منهُ جَـمـاحُ |
والناس في غمر الخِضمّ جميعهـمْ |
|
خاضوا فليس من الغمار بَـراحُ |
ورأوا المياه تلاطمت أمواجـهـا |
|
وعلت عليهم كالجبال وصاحـوا |
طمت الُمصيبة فالمنَّية قـد دنـت |
|
آها أليس من الـهـلاكِ مُـراحُ |
لكن على سطح الخضـمَ سـفـينةُ |
|
وعلى مُقدَّمها يُرى مـصـبـاحُ |
قد أَقبلَتْ وتطايرت لخـلاصـهـم |
|
شكراً لجـدك أيهـا الـمـلاَّحُ |
فيك النجاة وليس غيرك يرتـجـي |
|
وإليك كلٌ قـلـبـهُ مُـلـتّـاحُ |
هاقد تقدّمت السفـينةُ نـحـوهـم |
|
فنجا بها قـوم وفـيهـا راحـوا |
لم يَنْأ عنـهـا غـيرُ مـن أثـروا |
|
شرب الْحتوف فذي الفعالُ قباحُ |
شاموا البروق فأمّلوا من الـهـدى |
|
خابت ظنونهم فـلـيس نـجـاح |
لا نور في غير السفينة فأعلـمـوا |
|
من ينأ عنها ضاء منـهُ صـلاحُ |
جُدُّوا أيا غرقـى وأمُـوهـا يقـو |
|
دكُم إليها نـورُهـا الـوضّـاحُ |
جدُّوا فليس لكـمْ خـص دونـهـا |
|
ولجمعيكم فيها الدخول مـبـاحُ |
أعداؤها سخروا بها قبحـاً لـهـم |
|
قالوا بأن ستُـحَّـطـمُ الألـواحُ |
فالموجُ يصدمها فيدفعـهـا فـلا |
|
أملٌ لنفس بالـنـجـاة مُـتـاحُ |
وإذا بصوتٍ صارخٍ: كـن آمـنـاً |
|
بين السفينة والخضـمِ كـفـاحُ |
فسفينة الصَّياد تقهر خصـمَـهـا |
|
أبداً لأن لها الـصـفـا مَـلاح |
للحين عاد النوء صـفـوا رائقـاً |
|
وعن البـلايا زالـت الأتـراحُ |
وقد أحب تلامذته وأصدقاؤه أن يقيموا له ضريحاً لائقاً في مقبرة طائفته في رأس النبع تكلفوا عليه مبلغاً وافراً فنصبوه له في حفلة خاصة عينوها في أواسط أيار سنة 1910 ونقشوا على صدره الأبيات التالية:
حياك يا قبرُ منَّا غيثُ أدمُعـنـا |
|
وجادك الله من أسنا عـطـاياهُ |
ضممت كنزاً ثميناً دونهُ نَـهـجٌ |
|
تسيل حزناً وتدمي القلبَ ذكراهُ |
قد قدر الله أن نبك عليه فـتـى |
|
غضاً فصبراً على ما قدَّر اللهُ |
يا ساهرَ العين في التاريخ دَامعُها |
|
حيَّي النجيب فهذا القبرُ مثـواهُ |
وفي شهر تموز من تلك السنة 1906 أدركت المنية أديباً آخر من أسرة فاضلة في بيروت (ميخائيل بن جرجس عورا) مولد عكا في السنة 1855 وخريج المدرسة البطريركية في أول منشأها. درس فيها العربية على الشيخ ناصيف اليازجي ثم سافر إلى باريس متاجراً ونشر فها جريدة الحقوق ثم أعقبها في مصر بمجلة الحضارة فلم تطل حياتها بسبب الثورة العرابية. ثم عاد إلى الصحافة كمنشئ ومحرر ومكاتب إلى أن أصيب بمرض ألجأه إلى السفر إلى أوربة انتجاعاً للعافية فمات في مدينة نابولي. ومن آثاره روايات مختلفة أدبية وقصائد قليلة. فمن قوله في وصف الدنيا الغرور:
تاَلله ما الدنيا بـدارٍ يُبـتـغَـى |
|
فيها الثوا ويطيبُ فيها المسكنُ |
كلا ولا الدهر عهدُ يُرتـجـي |
|
منهُ الوثوقُ وليس منهُ مأمـنُ |
والأرضُ يورثُها الإلـهُ عـبـادهُ |
|
هذا يسيءُ وذاك عكساً يُحسـنُ |
والمرء مَرْمى الموت فهو إذا نجا |
|
منهُ النهار ففي غدٍ لا يُمـكـنُ |
وفي العام التالي في 26 ت1 1907 خسرت الدولة التركية والوطن السوري أحد المخلصين في خدمتها المرحوم (خليل الخوري) المولود في الشريفات سنة 1836 درس في مدارس طائفته وتحت إدارة بعض المعلمين الخصوصيين. وهو أول من فكر في نشر جريدة عربية في بلاد الشام فأبرزها إلى النور سنة 1858 تحت اسم حديقة الأخبار فصار لها بعض الرواج ونشرها على مدة باللغتين العربية والافرنسية وساعد بذلك على نهضة البلاد العربية وانتدبته الدولة التركية لخدمتها فشغل عدة مأموريات كمفتش للمكاتب ومدبر للمطبوعات ومدير الأمور الخارجية وهو يراعي سياسة دولته التي أعربت له عن رضاها ومنحه أوسمتها كما نال أيضاً امتيازات بعض الدول الأجنبية لحسن تصرفه. وكان خليل الخوري أحد الشعراء القليلين الذين نبغوا في أواسط القرن التاسع عشر في سورية تشهد له منظوماته العديدة كزهر الربى في شعر الصبا والعصر الجديد والنشائد الفؤادية والسمير والأمين والشاديات والنفحات. وفي شعره طلاوة ورقة لم يعهدهما شعراء زمانه إلا الشيخ ناصيف اليازجي معاصره. وهذه بعض أمثلةٍ من نظمه. قال في وصف لبنان:
أنا في رُبى لبنان فوق رؤوسهِ |
|
نحو الكواكب للعُلى مجذوبُ |
برياضهِ حيثُ المقامُ مـنـزَّهٌ |
|
وغياضهِ حيثُ المزاج يطيبُ |
أنسابُ في جوّ الهواجسِ حيثما |
|
كَفي إلى هام النجوم طَلوبُ |
أهوى بلبنان التـوحَّـدَ إنـمـا |
|
هوسي إلى حيثُ الإلهُ قريبُ |
جبلٌ يظّل رأسَهُ جوُّ السـمـا |
|
فيلوحُ بالتعظيمِ وهو مهـيبُ |
يبدو برأس بلادنا كعـصـابة |
|
منها لزينةِ قطرنا تـرتـيبُ |
عرشٌ إلى ملكِ النُّسور أَمامَهُ |
|
بزهو بساطٌ بالمروج خصيبُ |
قد مدًَّ يغسل في المياه أكـفَّـهُ |
|
ولها برمل سهولهِ تخضـيبُ |
في كلِّ زهر قد تصوَّر شكلهُ |
|
وبكل أفقٍ اِسمهُ مكـتـوبُ |
لو لا مطامحهُ العليَّةُ لم يكـن |
|
شرفٌ ولا بأسٌ ولا تهـذيبٌ |
وقد استحسنا له قوله في وصف اللغة العربية قدمها إلى فتاة إنكليزية قصدت الشرق لتدرس العربية:
قد رمت من لغة الأعارب مأربـاً |
|
فأتت تصادفُ منكِ فكراً صَيبـاً |
أَقبلتِ نحـو ديارهـا بـتـشـوَّقٍ |
|
فبدَتْ بك الآدابُ تهتف مرحبـاً |
لغةُ تُجملها البلاغةُ والمـعـلـى |
|
بذكائها نَفسُ اللغـات تـطَّـيبـاً |
مرَّت بهامتها الدهور ولـم تـزلْ |
|
تزهو وتزهرُ في جلابيب الصَبا |
لم تَخْشَ عاصفةً ولم تفتـك بـهـا |
|
أيدي المُصابِ إذا الزمانُ تقلَّبـاً |
فلذاك قد سَلمتْ وكنم لـغةٍ لـقـد |
|
شاخت فصارت مثل منشور الهبا |
سمعهُ يشابهُها الفـضـاءُ وقـدرةٌ |
|
تعلو على هام الكواكب مركبنـا |
مرآةُ شعر الكون قد رَسَمتْ بهـا |
|
صُوَرَ العقول وكم أصابت مذهبا |
فلك الهناءُ برشْف طِيب زُلالـهـا |
|
ولها الفخارُ بأن تَطيب وتعـذبـاً |
وفي 15 ت1 سنة 1907 فجعت أسرة شحادة بعميدها المرحوم (سليم شحادة) ترجمان دولة روسيا وسند طائفته الأورثذكسية توفاه الله في سوق الغرب عن 48 سنة قضاها بالجد والنشاط وخدمة الآداب وقد أشترك سنة 1875 مع سليم أفندي الخوري لنشر معجم تاريخي وجغرافي دعواه بآثار الأدهار فظهر منه بعض الأجزاء وعني بنشر ديوان الفكاهة سنة 1885 وكتب عدة مقالات في مجلة المشكاة وغيرها. ومن آثاره لمحة تاريخية في أخوية القبر المقدسة اليونانية والخلاصة الوافية في انتخاب بطريرك إنطاكية وكلاهما تحت اسم مستعار كشف فيها عن مخازي ومطامع الأكليروس واليوناني في سورية وفلسطين. وكان المرحوم جمع مكتبة واسعة بينها كتب نفيسة عربية وأجنبية. ونقلنا فصولاً عن أحد مخطوطات مكتبته العربية (نهاية الرتبة في طلب الحسبة) (المشرق 10 (1907): 961 و1079). ومن أدباء الروم المتوفين في السنة 1905 في 13 ت1 (نخلة قلفاط البيروتي) ولد سنة 1851 ودرس علي أسكندر آغا أبكايوس ثم اقبل على الدرس الفقهية والقوانين الدولية ثم زاول الكتابة فنشر عدة روايات في مجلته سلسة الفكاهات وعرب كثيراً منها كبهرام شاه وفيروز شاه وألف نهار ونهار ومائة حكاية وحكاية.
ونشر ديوان أبي فراس الحمداني وحقوق الدولة تاريخ روسيا وغير ذلك مما أثار عليه خاطر أرباب الدولة التركية فنفوه إلى قونية سنتين وزوجه في الحبس سنة أخرى إلى أن أخرج منها منهوك القوى بعد النفقات الطائلة ومات مفلوجاً لما ناله من سوء المعاملة. ومن خلفته ديوان من نظمه لم يطبع. وقد نقش على قبره هذا التاريخ:
لمَّا هوى الموت الزؤام بنخلةٍ |
|
أرختها بسما الأعالي تُغرُسُ |