الجزء الثالث: الربع الأول من القرن العشرين - القسم الثاني: نظر في الآداب العربية في هذه الحقبة

القسم الثاني

الآداب العربية من 1908 - 1918

البحث الأول

نظر في الآداب العربية في هذه الحقبة

هي الحقبة الثانية من الآداب العربية في هذا الربع الأول من القرن العشرين وهي تتناول عشر سنوات أولها إعلان الدولة التركية بالدستور وآخرها ختام الحرب الكونية.

وما يقال عنها إجمالاً أنها ابتدأت بالفرح ولم يلبث أن عقبها الحزن والشقاء فتأثرت بها الآداب العربية وجمعت بين المتناقضين. فكان صدى الأفراح والأحزان يسمع متناوباً في صرير الأقلام المعربة عن عواطف القلوب.

أعلن بالدستور العثماني بعد فوز الحزب العسكري في الآستانة في 24 تموز 1908 فكان لهذا النبأ فرح شمل عموم الرعايا في تركية واستبشر به الجميع خيراً وشَعَرَ الناس كأن حِملاً باهظاً سقط من كواهلهم أو حُلت عنهم ربقة الاستعباد وكٌسِرت أغلال أسرهم. فانطلقت الألسنة بالمديح وشحذت الأذهان بالقريض فضاقت صفحات الجرائد عن استيعاب ما تُنتج به القرائح من الفصول الشائقة والقصائد الرنانة الرائقة.

وما لبثت الجرائد المصرية والمغربية والأميركية من مسلمين ودروز ونصارى تضرب على الوتر عينه فتارة تطوى الحرية وتحبذ المساواة والإخاء. وتارة تسلق بسهام حادة تركية وسلطانها المستبد وحياناً ترفع إلى السحاب نيازي وأنور وطلعت وجمالاً وتُسّكر بمحامد تركية الفتاة لا سيما بعد أن اضطرت عبد الحميد إلى النزول عن عرشه مخلوعاً منفياً إلى سالونيك يبكي على سلطانه المفقود.

على أن هذه الأفراح لم تلبث أن ترنق صفاؤها بما ظهر للمفرحين من استبداد كان شراً من الاستبداد الحميدي بتطرف ضابطي أزمة الأمور من جمعية الاتحاد والترقي إذ تحاملوا على مَن لم ينحز على رأيهم فرفعوا البعض منهم على الأعواد وأذاقوا غيرهم ضروب العذابات التي اعتادها همج الشعوب. فكفت تلك الكتابات عن تزميرها وتطبيلها وغيرت لهجتها نوعاً إلا أنها خوفاً من عقاب الحزب المتولي في الدولة لم يجسروا أن يعلنوا بمآثمهِ.

ثم زادت الأحوال حراجة بمكايد جمعية الاتحاد والترقي وتقبلت الوزارات وتعددت الأحزاب وبلغت أمور الدولة التركية منتهاها من الاضطراب بحربيها مع إيطالية سنة 1911 - 1912 ومع الدول البلقانية 1912 - 1913 فقدت آخر ولاياتها في أفريقية طرابلس الغرب وكادت الدول البلقانية تأتي على ولاياتها الأوربية لولا ما وقع بينها من النزاع. فوجدت هذه الأحوال كتبة وشعراء طنطنوا بمعاظم تركية وبالتشنيع على أعدائها الإيطاليين والبلغار.

وكانت ثالثة الأثافي الحرب الكونية التي انحازت فيها تركية إلى الدول المركزية مدفوعة إلى تحزبها بمواعيد ألمانية العرقوبية وبمطامع بعض زعمائها الساعين وراء مصالحهم الخاصة فكان ما كان بكسرة ألمانية والمحاربين في جانبها فخرجت منها تركية مذللة خاسرة.

أما الآداب العربية في مدة تلك الفوضى فإنها كاد يقضى عليها بمصادرة الجمعيات العربية وشنق بعض أصحابها وإقفال المدارس ومناصرة اللغة التركية وتعطيل معظم الجرائد الوطنية والمطابع الأجنبية والحرة في أنحاء دولة الأتراك في بيروت ولبنان وفلسطين وأنحاء الشام والعراق. أما في الخارج في مصر وأميركا فإن النهضة العربية بقيت على حالتها إلا أنها لم تترق لانقطاع معاملاتها مع بلاد الشرق التي منها تستمد كثيراً من مواد حياتها وبانشغالها بأمور الحرب وأطوارها.

أما أوربة فإن غيرة علمائها في درس العلوم الشرقية عموماً والعربية خصوصاً لم تخمد فإنها من السنة 1908 إلى السنة 1914 ثبتت على خطتها من النمو والنجاح كما تشهد عليها مؤتمرات المستشرقين الدولية سنوياً والعدد العديد من المطبوعات الجديدة التي نشروها ومن الآثار القديمة التي وقفوا عليها. وإنما تأثرت أيضاً بالحرب العمومية لفقدانها عدة من المستشرقين الذين هجروا الدروس ليدافعوا مع مواطنيهم في ساحات الحرب عن حرمة بلادهم. ومع ما رأيت من نكبة الآداب العربية في هذه الحقبة لا بد من الاعتراف بهمة الحكومة المصرية في تحسين مدارسها الوطنية وسعيها إلى زيادة مصاريف برنامجها لتعميم المدارس ولإنشاء مدارس عليا وجامعة وطنية تلقى فيها الدروس العلمية الخاصة ينتدب إليها أساتذة بارعون من الوطنيين والأجانب وهذه الجامعة المصرية تقوم بثلاثة أقسام كبيرة وهي: كلية الآداب تشمل الآداب العربية وعلم مقارنة اللغات السامية وتاريخ الشرق القديم وتاريخ الأمم الإسلامية والفلسفية العربية. ثم قسم العلوم الاجتماعية والاقتصادية. ثم كلية السيدات. وكان شروع الجامعة بهذه العلوم السنة 1910.

وكانت الجامعتان البيروتيتان الأميركية والفرنسوية زادتا ترقياً واتساعاً في هذه الحقبة الثانية ففي السنة 1909 أضافت الكلية الأميركية إلى مدرستها الطبية ثلاثة مستشفيات للنساء وللأطفال ولأمراض العيون. وأنشأت في السنة 1910 مجلتها (الكلية) في العربية الإنكليزية. أما الكلية اليسوعية فأقيمت لمدرستها الطبية معاهد جديدة فسيحة قريباً من رأس النبع على طريق الشام صار تدشينها برونق عظيم في 19 تشرين الثاني سنة 1912 ثم فتحت برتبة فخم في 21 من الشهر في العام المقبل. أما معاهدها القديمة فخصصت بفرع جديد من الدروس العليا أعني مدرسة الحقوق التي أنشئت سنة 1913 وغايتها أن تجدد مفاخر مدرسة الحقوق الرومانية التي أكسبت بيروت مدة ثلاثمائة سنة مجداً مؤثلاً أوقفته نكبات الزلازل التي هدمت المدينة في القرن السادس للمسيح. وفي تلك الأثناء أنشئت للمسلمين في دمشق مدرسة طبية وفي بيروت مدرسة حقوقية كان التعليم فيها باللغة العربية.

ومما أنشئ من المجلات النفيسة قبل الحرب مجلة المقتبس سنة 1324 لصاحبها السيد محمد كرد علي في دمشق. ومجلة الآثار في زحلة سنة 1911 لمنشئها عيى أفندي أسكندر المعلوف. والنبراس لصاحبها مصطفى أفندي الغلاييني سنة 1327 والكوثر للأديب بشير رمضان وكلتاهما في بيروت. وأنشأ أيضاً في بيروت الأبوان يوسف علوان اللعازري ويعقوب الكبوشي مجلتي الجسمانية وصديق العائلة. والقس يوسف الشدياق الأنطونياني نشر في بعبدا سنة 1911 كوكب البرية. ونشر العرفان أحمد أفندي عارف زين الدين في صيداء سنة 1328 - 1910. أما مصر فتعددت المجلات المستحدثة نخص منها بالذكر مجلة الزهر للشيخ أنطوان أفندي الجميل (1910) والمرآة الخليل أفندي زينية.

تصرف الشعراء بأوزان الشعر

ومن ميزات هذه الحقبة الثانية من القرن العشرين تصرف الشعراء بأوزان الشعر وذلك أنهم لما رأوا انبساط الغربيين في معاني الشعر وأتساعهم في أغراضه وتصرفهم بأوزانه شاءوا أن يجاورهم في ذلك لئلا تنحصر قرائح الشعراء في دائرة القصائد الشائعة في الدواوين السابقة.


وأول ما تصرفوا فيه بحر الرجز لقربه من النثر بكثرة جوازاته وبسهولة تغيير قوافيه. كما فعل نابغة العصر المرحوم سليمان البستاني في شعر الإلياذة القصصي تفنن في أراجيزه أي تفنن فراراً من سلم القارئ وماله عند مطالعة هذا الكتاب لو جرى على طريقة واحدة وقد فعل ذلك دون تعسف وبحن ذوق.

ووجد أيضاً الشعراء في الموشحات متسعاً في نظمهم فاتخذوها مثالاً وتصرفوا في البحور الستة عشر وأوزانها وقسموها تقاسيم جديدة في الأبيات وفي الأدوار وجروا على قوافي متناسقة إلى غير ذلك مما أرشدته إليهم قريحتهم فربما أجادوا وربما أساءوا وإنما بينوا ما يستطاع استخراجه من كنوز الفنون في الشعر العربي في معالجة الأغراض المعنوية العصرية كما ترى في روايات التمثيلية والقدود الغنائية.
وقد جرى على ذلك أصحاب الشعر العام ولعلهم سبقوا الشعراء النظامين فمهدوا لهم الطريق. ولدينا من دواوينهم مجاميع سبقت عصرنا تدل على استنباطهم لأوزان شعرية جديدة لا تخلوا من محاسن المنظومات ولا ينقصها إلا ضبطها على القواعد اللغوية والعروض وتجريدها من بعض ألفاظ العامة.

الشعر المنثور

ومما سبق إليه أدباء عصرنا فابتكروه دون مثال في لغتنا ما دعوه بالنثر الشعري أو الشعر المنثور كأنه جامع بين خواص النثر والنظم. أما النثر فلأنه على غير وزن من أوزان البحور. وأما النظم فلأنهم يقسمون مقاطعه ثلاث ورباع وخماس وأزيد دون مراعاة أعدادها ويسبكونها سبكاً مموهاً بالمعاني الشعرية. وهذه الطريقة استعارها على ظنناً الكتبة المحدثين كأمين الرياحيني وجبران خليل جبران ومن جرى مجراهما عن الكتبة الغربيين ولا سيما الإنكليز في ما يدعونه بالشعر الأبيض غير المقفى وفي بعض كتاباتهم الشعرية المعاني غير المقيدة بالأوزان. ولسنا لننفي هذه الطرقة الكتابية التي لا تخلو من مسبحة من الجمال في بعض الظروف اللهم إذا روعي فيها الذوق الصحيح ولم يشنها الاستهتار وتلاحمت معانيها وتنمقت بأشكال البديع السهلة المنسجمة ولم يفرط الأتساع فيها فتصبح لغطا وثرثرة.

على أننا كثيراً ما لقينا في هذا الشعر المنثور قشرة مزوقة ليس تحتها لباب وربما قفز صاحبها من معنى لطيف إلى قول بذي سخيف أو كرر الألفاظ دون جدوى بل بتعسف ظاهر. ومن هذا الشكل كثير في المروجين للشعر المنثور من مصنفات الريحاني وجبران وتبعتهما فلا تكاد تجد في كتاباتهم شيئاً مما تصبو إليه النفس في الشعر الموزون الحر من رقة وشعور وتأثير. خذ مثلاً وصف الريحاني للثورة: ويومها القليب العصيب. وليلها المنير العجيب وصوت فوضاها الرهيب. من هتاف ولجب ونحيب. وزئير وعندلة ونعيب وطغاة الزمان تصير رماداً. وأخيارهُ يحملون الصليب ويل يومئذٍ للظالمين. المستكبرين والمفسدين هو يوم من السنين. بل ساعة من يوم الدين ويل يومئذٍ للظالمين هي الثورة ويومها العبوس الرهيب ألوية كالشقيق تموج. تثير القريب. تثير البعيد وطبول تردّد صدى نشيد عجيب وأبواق تنادي كلَّ سميع مجيب وشرر عيون القوم يرمي باللهيب ونار تسأل هل من مزيد. وسيف يجيب. وهول يشيب ويل يومئذٍ للظالمين. ويل لهم من كلّ مريد مهين طَّلاب للحقّ عنيد مدين. ويل للمستعزَين والمستأمنين هي ساعة الظالمين وهي طويلة على هذه الشاكلة. ولو أردنا انتقادها وبيان نقائصها النثرية والشعرية والمعنوية لطال بنا الكلام. وقس عليها فصولاً عديدة من جنسها أعني طنطنة ألفاظ وشقشقة لسان وإذا حاول الأديب استخلاص معانيها بقي متضعضعاً مرتاباً وكم مثلها في كتابات جبران. ودونك فصله المعنون بالأرض: تنبثق الأرض من الأرض كرهاً وقسراً ثمَّ تسير الأرض فوق الأرض تيهاً وكبراً وتقيم الأرض من الأرض القصور والبروج والهياكل وتنشئ الأرض في الأرض الأساطير والتعاليم والشرائع ثم تمل الأرض أعمال الأرض فتحوك من هالات الأرض الأشباح والأوهام والأحلام ثم يراود نعاسُ الأرض أجفان الأرض فتنام نوماً هادئاً عميقاً أبدياً ثم تنادي الأرض قائلة للأرض أنا الرحم وأنا القبر وسأبقى رحماً وقبراً حتى تضمحل الكواكب وتتحول الشمس إلى رماد فلعمري هذه الغاز لا شيء فيها من منظوم رائق ولا منثور شائق هي أقرب إلى الهذيان والسخف منها إلى الكلام المعقول. ولو شئنا لجمعنا من هذا الصنف صفحات تضيق عنها أعداد المشرق. وشتان بينها وبين فصول أخرى بديعة لبعض الكتبة البلغاء كمثل فصل رويناه في المشرق عنوانه (الموسيقى) لصديقنا وفخر كليتنا الأديب يوسف أفندي غصوب (راجع كتابه أخلاق ومشاهد ص117) وكفصله (أيها الصليب) (المشرق 22 (1924): 463) فإذا استثنينا هذه الفصول الرائعة التي عرف صاحبها من أين يؤكل الكتف لصدقنا على قول الكاتب الأديب مصطفى أفندي صادق الرافعي في عدد المقتطف الأخير الصادر في يناير 1926 (ص31) نشأ في أيامنا ما يسمونه (الشعر المنثور) وهي تسمية تدل على جهل واضعيها ومن يرضاها لنفسه؟ فليس يضيق النثر بالمعاني الشعرية ولا هو قد خلا منها في تاريخ الأدب. ولكن سر هذه التسمية إن الشعر العربي صناعة موسيقية دقيقة يظهر فيها الاختلال لأوهى علة ولأيسر سبب ولا يوفق إلى سبك المعاني فيها إلا من أمده الله بأصلح طبع وأسلم ذوق وأفصح بيان، فمن أجل ذلك لا يتحمل شيئاً من سخف اللفظ أو فساد العبارة أو ضعف التأليف... غير أن النثر يحتمل كل أسلوب وما من صورة فيه إلا ودونها صورة أن تنتهي إلى العمامي الساقط والسوقي البارد ومن شأنه أن ينبسط وينقبض على ما شئت منه، وما يتفق فيه من حسن الشعري فإنما هو كالذي يتفق في صوت المطرب حين يتكلم لا حين يتغنى فمن قال (الشعر المنثور) فأعلم أن معناه عجز الكتاب عن الشعر من ناحيةٍ وادعاؤه من ناحيةٍ أخرى. وقد آثر البعض أن يدعوا هذه الطريقة الكتابية (بالأدب الجديد) فنقول أن هذه الجدة لا تزيده حسناً إلا إذا جمعت تلك الصفات التي يمتاز بها إنشاء الكتبة البلغاء الحنة السبك المتناسقة الألفاظ المنسجمة المعاني التي لا تتراكم فيها التشابيه على غير جدوى وتتكرر الألفاظ بلا معنى وعليه لم نستحب ما أختاره صاحب الأدب الجديد للآنسة مي في العيون.

(العيون): تلك الأحداق القائمة في الوجوه كتعاويذ من حلك ولجين.

تلك المياه الجائلة بين الأشفار والأحداب كبحيرات تنطقن بالشواطئ وأشجار الحور.

العيون الرماديَّة بأحلامها. والعيون الزرقاء بتنوعها العيون العسليَّة بحلاوتها. والعيون البّنيَة بجاذبَّيتها والعيون القاتمة بما يتناوبها من قوَّة وعذوبة جميع العيون: تلك التي تذكرت بصفاء السماء وتلك التي يركد فيها عمق اليوم (كذا) وتلك التي تريك مفاوز الصحراء وسرابها وتلك التي تعرّج بخيالك من ملكوت أتيري كله بهاء وتلك التي تمرُّ فيها سحائب مبرقة مهضبة.... الخ فإن كان هذا الأدب الجديد فنحن في غنىً عنه. على أن للآنسة في كتابات كثيرة أفضل من هذا الشعر المنثور.