الجزء الثالث: الربع الأول من القرن العشرين - القسم الثاني: نظر في الآداب العربية في هذه الحقبة - الأدباء المسلمون في هذه الحقبة الثانية 1908 - 1918

الأدباء المسلمون في هذه الحقبة الثانية 1908 - 1918

أدباء مصر المسلمون

(مصطفى كامل) كانت وفاته في سنة الدستور التركي قبل الإعلان به بأشهر في 8 شباط 1908 وهو في الرابعة والثلثين من عمره (ولد في القاهرة في 14 آب 1874 ودرس على أساتذتها في المدارس الابتدائية والتجهيزية والحقوقية ثم نال في فرنسة في جامعة طولوز شهادة الحقوق. ولما رجع إلى وطنه بعد الاحتلال الإنكليزي ساءته حالته وأجتمع بمن رآهم على فكرته ولم يلبث أن تصدر بينهم بما ظهر عليه من الذكاء والنجابة والإقدام فأصبح خطيب الوطنيين وزعيمهم لا يأخذه في تحرير وطنه والدفاع عن حقوقه ملل من السنة 1893 إلى حين وفاته وقد تشكل بهمته الحزب الوطني فأصبح رئيسها تناط بها الآمال وتهتز له الجوارح. هذا فضلاً عن شهرته في فن المحاماة. وقد وقفنا على المجموعة التي نشرت فيها سيرته وأعماله من خطب وأحاديث ورسائل سياسية وعمرانية وكلها تدل على عبقريته وحبه الصادق نحو الوطن. وكان أول مرة يحرر في الصحف المصرية ومن أول تصانيفه رواية فتح الأندلس على عهد طارق ألفتت إليه أنظار أهل وطنه. وهو في إنشائه نثراً ونظماً لم يقصد تنميق العبارة وتحليتها بالسجع والمحسنات النافلة بل كلن جل قصده أن يكون لكلامه وقع في القلوب ليحملها إلى ما يراه من صوالح الوطن بعبارة سلسلة سالمة من التعقيد وفاسد التركيب. وهذا نشيد كان من بواكير قلمه.

هلُمُّوا يا بني الأوطان طـرّاً

 

لِنُرْجِعَ مجدنا ونُعزّ مصـرا

هلمُّوا كي نوفي القطر حقـاً

 

نسيناهُ فضاع بـذاك قـدرا

هلمُّوا أدركوا العلياءَ حـتـى

 

تنال بلادُنا عـزاً وفـخـرا

هلموا واتركوا الشحناءَ منكـم

 

وكونوا أوفياءَ فذاك أحـرى

أليس يشيننا تركُ المعـالـي

 

تُباعُ بغير وأدينا وتُـشـرى

ونحنُ رجالُها وبمـا لـديهـا

 

من الإسعاد والخيراتِ أدرى

فعارٌ أن نعيش بغير مـجـدٍ

 

ونُبصر بسما شمساً وبـدرا

وعارٌ أن يكون لـنـا وجـودٌ

 

ويحظى غيرنا فوزاً ونصرا

فقوموا واطلبوا للنـيل عـزاً

 

ولا تَبقَوا بذلٍّ كـي يُسـرى

وسيروا نحو هذا القصد حتى

 

تُنادوا أجمعين بعزّ مصـراً

ودونك مثالاً منة نثره في تربية الإناث وفي التهذيب والتربية الدينية: (يجدر بي أن الفت أنظاركم عموماً إلى أمر بن خطيرين: أولهما تربية البنت لأزمة وضرورية لأنها ذات الشأن الأول في تربية الأطفال متى صارت أماً ورئيسة عائلتها وهي التي عليها الجزء الأعظم من أعمال هذا الوجود. وثانيهما أن تعليم البنين والبنات العلوم والفنون لا يفيد وحده بل يجب قبل كل شيء تربية الروح حتى يصير الطفل متى شبّ رجلاً شجاعاً ممتلئاً بالوطنية الحقة قائماً بالمبادئ الجنسية. وتصير الطفلة متى شبت امرأة رشيدة مدبرة تعلم أبناءها محبة البلاد وتغرس في قلوبهم وجوب التفاني في خدمة الأمة وفي أعلاه شأن الوطن العزيز. فتكون بذلك المدارس منبع حياة الأمة ومصدر وجود جديد... (ويجب قبل كل شيء أن تكون التربية الدينية أساس التعليم والتهذيب. فالدين عاصم من الدنايا رادع عن الخطايا معلّم للفضائل محبّب الكمالات. وإذا بحثاً مدققاً عن سبب تأخر المسلمين في سائر البلاد لوجدنا الأسباب كلها مجتمعة في سبب واحد وهو إننا ابتعدنا عن الدين وقصرنا في إتباع أوامره واجتناب نواهيه...) وفي تلك السنة ذاتها فقدت مصر أديباً آخر كان أيضاً من الدعاة إلى الإصلاح أعني به (قاسم بك أمين) المولود سنة 1865 والمتوفى في 21 نيسان 1908 وهو في عز كهولته. درس على نفقة حكومة مصر في فرنسة وعاش زمناً بين أهلها ورأى ما للمرأة الفرنسوية من المنزلة الرفيعة في وطنها وما لها من الفضل في تربية بنيها وترقية وطنها. فلما عاد إلى مصر بعد درسه الحقوق ترقى في كل دوائر الشرع. ثم خص نفسه بتحرير المرأة المسلمة إذ رأى بانحطاطها والتضييق عليها آفة على الوطن والتمدن. فسبق إلى المجاهرة بوجوب رفع الحجاب وبإعطاء المرأة الحرية المعقولة وبتحوير سنن الأضرار والطلاق إلى غير ذلك مما تسعى اليوم الجمهورية التركية إلى إصلاحه بين الأتراك. ولقاسم أمين عدة تآليف في هذا المعنى وأسباب ونتائج كتحرير المرأة وخواطر قاسم أمين والواجب على المرأة لنفسها ولعائلتها. ولم يكترث لما وجده في مواطنيه من المعاكسات وله محاضرات ومقالات عديدة في غير مواضيع. وهو في كل كتاباته يجري جرياً واحداً يتعمد إقناع القراء. أكثر منه خلب عقولهم بطنطنة الكلام وتزويق الإنشاء. ودونك ما قاله عن الخلاف المزعوم بين الدين والعلم: (ليس حقيقي بأنه يوجد بين الدين والعلم خلاف حقيقي لا في الحال ولا في الاستقبال ما دام موضوع العلم هو معرفة الحقائق المؤسسة على الاستقراء. فمهما كثرت معارف الإنسان لا تملأ كل فكرة بعد كل اكتشاف يتحققه العلم يبح عن اكتشاف آخر وفي نهاية كل مسألة يحلها تظهر مسألة جديدة تطالبه بحلها. الآن وغداً يشتغل عقل الإنسان بالعلم أي بالمعرفة الحوادث الثابتة ولا يمنعه ذلك من التفكر في المجهول الذي يحيط به من كل طرف...) وفي السنة 1911 توفي الله عالماً ثالثاً بالحقوق (عمر بك لطفي) مولود الإسكندرية سنة 1867 تلقى العلوم في مدرسة أخوة المدارس المسيحية ثم دخل مدرسة الحقوق في القاهرة ونال شهاداتها بل برع في فنونها حتى انتدبته الحكومة للتدريس فيها. ثم تفرغ للمحاماة وخص نظره بالاقتصاد فعرف كأحد مصلحيه وصرف نظره للزراعة وظهرت ثمار سعيه في مشروعات وطنه لمصلحة الأمة الاقتصادية والاجتماعية وأنشأ لذلك الأندية والنقابات ونشط دروسها في الشبيبة فأدى بهمته لمصر خدمات مشكورة ساعدت على رقي قطر النيل.

وكان عمر بك لطفي من أرباب الكتابة ألف عدة تآليف في شرح المواد القضائية وفي الامتيازات الأجنبية. وله في الأفرنسية أيضاً تآليف مختلفة في الشرع الإسلامي كالدعوى الجنائية في الشريعة الإسلامية وحقوق المرأة فيها. وقد رثاه أمير شعراء مصر شوقي بك بقصيدة فريدة أولها:

اليومَ أَصعدُ دون قبرك مِنْبَراً

 

وأقلد الدنيا رثاءَكَ جوهرا

وأسفت الصحافة المصرية في السنة 1913 على فقد أحد أربابها الممتازين الأستاذ الشيخ علي أبي يوسف الأزهري. ولد سنة 1863 ودرس اللغة والفقه في الجامع الأزهر ثم أحس يميل للآداب فتمرن عليها ونظم الشعر فنشر ديوانه نسمة السحر. وفي السنة 1885 أنشأ مجلة علمية أدبية سماها الآداب ثم عدل بعد مدة منها إلى جريدة المؤيد السياسية حررها سنين طويلة وأكسبها بقلمه شهرة واسعة ونفوذاً عظيماً حتى عد كمؤسس الصحافة الإسلامية في القطر المصري لدى كبار الدولة مقاماً معتبراً بعد تذليله كل العقبات التي صادفها في سبيله. ومن ظريف شعره وصفه للربيع:

أنجُ نحو الرياضٍ عنـد مـياهٍ

 

طاب فيها الورودُ للظمـآنِ

وأقَتطفْ زهر وَرْدِ خد بطلحِ

 

رقّ فيها ملاعبُ الغـزلان

وانظر الماءَ إذ يسيل بلطـفٍ

 

وفي وهادِ الرياضِ كالوَسْنان

يلثمُ السوقَ من غصونِ قـدودٍ

 

هائماً بالقدود والأغـصـانِ

وله في الفخر:

يُشير لذُرْوة العليا بـنـانـي

 

ويمنعني الوصولَ لها زماني

ولي هِمَمُ تهمُّ إلـى الـثـريّا

 

وحظُّ بالثرى مرخى العنان

ولي نفسٌ تعافٌ الضـيمَ ورداً

 

وتأنَفٌ شيمةُ تُزري بشأنـي

ولي عند الحوادث سيفُ صبرٍ

 

يذيب فِرِندُهُ الحدَّ اليمـانـي

ولي عهد الشبيبة عفُّ نفـسٍ

 

تعفُ عن الحنا في كـل آنِ

أقارن بالعلا أملـي ولـكـن

 

يغارُ بي الزمانُ على قراني

وكم أشكو زماني لـلـيالـي

 

وكم أشكو اللياليَ للزمـانِ

فيسمعُ قصتـي هـذه وهـذا

 

وما هـذان إلا سـاحـرانِ

وممن أصابته المنية في السنة 1914 (فتحي باشا زغلول) من أئمة الأدباء المعدودين وأحد الكتبة الاجتماعيين في مصر. كان مولده سنة 1863 وبعد دروسه الابتدائية والثانوية في وطنه تمم دروسه العليا في فرنسة ثم خدم وطنه بالقضاء ونظارة الحقانية وبعدة تآليف خلفها من آثار قلمه بعضها في الشرع كشرحه للقانون المدني وكتاب المحاماة وكتعريب أصول الشرائع وبعضها اجتماعية نقلها من الفرنساوية كسر تقدم الإنكليز السكسونيين وكسر تطور الأمم وروح الاجتماع وخواطر وسوانح في الإسلام.

وتوفي قبله في السنة ذاتها 1914 في أواسط كانون الثاني عالم آخر بالعلوم القضائية في مصر (محمد بك النجاري) أضاف إليه انصبابه على الدروس اللغوية. ومن آثاره الجليلة قاموس فرنساوي عربي في خمسة مجلدات ضمنه كثيراً من المصطلحات العلمية والسياسية والطبية وله معجم آخر عربي يحتوي خلاصة المعاجم العربية الكبرى لم ينشر بالطبع.

وفي السنة والشهر السابقين كانت وفاة أديبة مسلمة شيعية (زينب فوّاز) صاحبة (الدر المنثور في طبقات ربّات الخدور) نقلنا عنه في المشرق (19(1921): 108 - 114) ترجمة جان درك. ولها أيضاً رسائل منسوبة إليها تعرف بالرسائل الزيتية.

وممن توفاهم الله في السنة عينها 1914 أديبان مصريان لهما بعض الآثار الكتابية أولهما (الشيخ أحمد مفتاح) مؤلف رسائل تلوح فيها لوائح البلاغة كقوله يستدعي بعض الأدباء إلى مواجهته من رسالة: (... إني وإن لم أكن أسعدت من قبل باجتلاء طلعتك الزاهرة واجتناه مفاكهتك الغضة فقد دلني على الليث زئيره، وعلى النهر خريره، وعلى السيف جوهره، وعلى العقل أثره. ولئن لم يجمعنا لحمة النسب، فقد جمعتنا حرفة الأدب، أو لم يضمنا قبل مرتبع، فالطيور على أشكالها تقع، وشبه الشيء منجذب إليه، وأخو الفضائل هو المعول عليه، وهذه الرقعة وإن وصفت لك بعض ما أنا مطوي عليه من التهافت على رؤيتك والميل إلى صداقتك فقلما تنوب عن المشافهة أو تقضي حاجات في النفس طالما تردد صداها، وفي ظني أنّ سيدي يود ما أوده، وعما قليل يسفر صبح اللقاء، ونتجاذب أهداب المعرفة فأرى من سيدي فوق ما توسمته وسمعته) ويرى مني ما يرضيه والسلام.

والثاني (أحمد أفندي سمير) اشتهر أيضاً بمكاتباته للأصحاب. فمن قوله بمعنى ما سبق للشيخ أحمد مفتاح في التعارف والتواد: (يعلم سيدي أن المودة لا تباع ولا تشري وإنما هي نتيجة الاجتماع والتعارف، وقد خلق الإنسان مضطراً إليهما لأن انتظام العمران عليهما موقوف. ولهذا شهد العيان بأن المنفرد بأعماله المستبد بآرائه عرضة للخطأ مظنة لعدم الثقة... إذ لا جرم أن المرء كما قيل (قليل بنفسه كثيرٌ بإخوانه) وقد سمعت عن السيد وقرأت من آثاره المأثورة ما حببه إلي وشاقني التعرف به لنشترك في منفعة تبادل الأفكار...).

وقد اغتالت المنية في وقت الحرب الكونية سنة 1917 أحج الأدباء اللغويين الأستاذ الجليل (حمزة فتح الله) كان في مصر مفتش اللغة العربية بنظارة المعارف العمومية. توفي ضريراً وله تآليف شتى بالنثر والنظم ونشر في جرائد الإسكندرية المقالات المتعددة وكان يحب أن يوصف كلامه بالألفاظ الغريبة دلالة على سعة معارفه بمفردات اللغة. ودونك مثالاً من بعض رسائله في الشرق: (مولاي أما الشوق إلى رؤيتك فشديد وسل فؤادك عن صديق حميم، وود صميم، وخلّة لا يزيدها تعاقب الملوين وتألق النيرين إلا وثوقاً في العرى، وإحكاماً في البناء، ونماء في الغراس، وتشييداً في الدعائم. ولا يظنن سيدي إن عدم ازدياري ساحته الشريفة، واجتلائي طلعته المنيفة، لتقاعس أو تفسير، فإن لي في ذلك معذرة اقتضت التأخير، والسيد أطال الله بقاءه أجدر من قبل معذرة صديقه... وبعد فرجائي من مقامكم السامي أن لا تكون معذرتي عائقاً لكم عن زيارتي فلكم مِنناً طوقتموها ولكم فيها فضل البداءة وعليَّ دوام الشكران والسلام).

هذا مجمل ما وقفنا عليه من أخبار أدباء مصر في هذه الحقبة الثانية إلى أواخر الحرب الكونية ولعله فاتنا بعض أخبارهم لانقطاعنا في تلك المدة عن عالم الأدب.

أدباء الشام المسلمون

(الشيخ حسين الجسر) توفي هذا العالم الأديب في 13 رجب 1327 (29 تموز 1909) كان أحد مشاهير أعلام طرابلس الشام ولد فيها سنة 1261 (1845م) وتخرج على أدباء وطنه ثم على أساتذة الأزهر. ولما عاد إلى طرابلس درس العلوم العصرية ثم قضى عمره في التأليف والتصنيف والنثر والنظم ودرس عدة سنين في المدرسة الوطنية فأخذ عنه كثيرون من أدبائها ثم أصدر جريدة طرابلس فحررها زمناً طويلاً. له ما خلا بعض التآليف الدينية كتاب في مناقب والده الشيخ محمد الجسر ومجموعة أدبية في عدة مجلدات سمّاها رياض طرابلس الشام ثم رسائل أدبية وسياسية ومنظومات في التربية. ومما لم يطبع كتاب الكواكب الدرية في الفنون الأدبية. رثاه صاحب الرغائب حكمت شريف بقصيدة:

خَطْبَ الحُسَين أَرى أم جسْرُنا انتقضا

 

أم طَوْدُ علمٍ لجنَّات النعيم مضـى

أوَّاهُ من زمنٍ قد دكَّ جِسْرَ تُـقـىً

 

وهدَّ ركناً من الآداب حين قضـى

وفي العام الثاني في تشرين الأول سنة 1910 أصابت المنون (صادق باشا العظم) من وجوه دمشق الشام. تلفى العلوم في وطنه ثم درس مدة في كليتنا البيروتية. وقف نفسه في إثرها لخدمة الدولة العثمانية فترقى في مناصبها العسكرية بصفة ضابط إلى أمارة لواء وقول أغاسي. ثم انتدبته الحكومة لمهمات عند الشيخ السنوسي وأرسل معتمداً عثمانياً إلى عاصمة البلغار. ولما قصدت الدولة أن تنشئ بينها وبين ملك الحبشة منليك علائق ودية أرسلته كرئيس وفدٍ فكتب تفاصيل رحلته ونشرها بالطبع وألف أيضاً تاريخ دفاع بافنا وله رحلة إلى الصحراء وأدبيات شتى تركية وعربية. وحرر مع ابن عمه رفيق بك العظم بالعربية والتركية جريدة الشورى العثمانية أوجبت فراره مع الآستانة إلى القطر المصري فعلم زمناً في المدرسة التوفيقية ثم عاد إلى الوطن بعد إعلان الدستور فما لبث أن ودّع الحياة.

وفي سنة وفاة صادق بك العظم توفي الكاتب النحرير (الشيخ أبو حسن الكستي) وقد سبقت ترجمته في القسم الثاني من كتابنا الآداب العربية في القرن التاسع عشر (ص79 - 81) ذكرناه مع رصيفيه الشيخين يوسف الأسير وإبراهيم الأحدب وقد جعلنا هناك وفاته سنة 1909 والصواب 1910.

وممن عظم علم الأدباء نعيه سنة 1911 (السيد حسين وصفي رضا) شقيق السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار المولود في أوائل سنة 1882 مات في تمام شبابه وكان درس على علماء وطنه مشاهير الأزهر العلوم الدينية والأدبية وبرع في الكتابة فشارك أخاه في تحرير المنار وفي إصلاح أمور الإسلام. وفي 25 تموز سنة 1913 فجعت فلسطين بأحد رجالها المعدودين (روحي بك الخالدي) سليل أسرة قديمة في القدس الشريف كان مولده سنة 1864 وتلقى مبادئ العلوم في وطنه ثم في نابلس وطرابلس وفي المدرسة السلطانية في بيروت ثم انكب على الدروس الفلسفية والحقوقية والسياسية في الآستانة وفي باريس حيث اجتمع بعلماء الفرنج فعرفوا قدره. وانتدبه الفرنسيون إلى التعليم في مدرسة اللغات الأجنبية في باريس وكان أحد أعضاء مؤتمر المستشرقين فيها سنة 1897. ثم اختارته الدولة التركية كقنصلها في مدينة بوردو عدة سنين فأطلع على أحوال الفرنسويين وآدابهم. وألف وقتئذ كتابه علم الأدب عند الفرنج والعرب. ولما حد الانقلاب العثماني سنة 1908 انتخبه مواطنوه كمبعوث القدس الشريف وقلد بين رصفائه وظيفة الرئيس الثاني لمجلس النواب وبعد انحلال المجلس عاد إلى القدس ثم كر راجعاً إلى الآستانة وفيها توفي بالحمى التيفوئيدية وهو في الخمسين من عمره. وكان روحي الخالدي كاتباً بارعاً له عدة مقالات ولمحاضرات ورسائل متفرقة نشرها في صحف مختلفة. ومن آثاره تاريخ الانقلاب العثماني وكتاب العالم الإسلامي. وله أيضاً رحلة إلى الأندلس ذكر فيها بقايا آثار العرب لم تطبع.

وفي السنة التالية 1914 فقد المسلمون رجلين من نخبة علمائهم (السيد جمال الدين القاسمي) ثم (محي الدين الخياط) عرف الأول بتآليفه الدينية التي جعلته في مقدمة علماء دمشق المعدودين. وقد امتاز عن كثيرين منهم باستقلاله عن النوافل والفضوليات وخلوه من تضليل المحرفين والمهرفين. ولم يكتف بالوقوف على أسرار الشريعة بل درس أيضاً العلوم العصرية وبها ظهر فضل طريقته العلمية. ومما قاله جرجي أفندي الحداد في رثائه:

نَمْ يا جمالَ الدين غـير مُـرَوَّعٍ

 

إنَّ الزمان بما ابتغَيتْ كفـيلُ

فستعرفُ الأجيالُ فضَلك في غدٍ

 

إن كان لم يعرفهُ هذا الجـيلُ

أما الشيخ محيي الدين الخياط فكان مولده في صيداء سمة 1875 وقدم إلى بيروت فتعلم في مدارسها وأخذ عن الشيخين الكبيرين يوسف الأسير وإبراهيم الأحدب ونبغ في الآداب حتى أصبح من خيرة أدباء المسلمين في بيروت. وكان ذا روح حرة وله كتابات عديدة نثرية ونظمية في الصحائف البيروتية الإسلامية لا سيما ثمرات الفنون والإقبال. ومن فضله على الناشئة عدة تآليف وضعها للمدارس في البلاد العربية كدروس القراءة ودروس الصرف والنحو ودرس التاريخ الإسلامي ودروس الفقه. وقد فسّر تفسيراً خفيفاً الغريب من ديواني أبي تمام وابن المعتز وله تعليق على شرح نهج البلاغة وعرب رواية الوطن للكاتب التركي نامق كمال بك. توفي في نيسان 1914.

وكانت السنة 1916 سنة مشئومة على الآداب العربية قُتل فيها ظلماً بأمر جمال باشا وحزبه (الاتحاد والترقي) جملة من نخبة الكتبة وأهل الأدب نصارى ومسلمين. ونذكرها المسلمين منهم الذين تركوا آثاراً من أقلامهم. وأخصهم (السيد عبد الحميد الزهراوي) مولود حمص سنة 1288 (1871) تنقل في البلاد لطلب العلوم ونشر حر الأفكار دون تطرف ولا تذلل وأصدر في وطنه جريدة المعلومات فلم يرق أسلوبه في عين عبد الحميد فأبعد إلى دمشق ثم إلى حمص تحت المراقبة إلى أمكنه الفرار إلى مصر 1902 فحرر في المؤيد وفي الجريدة. ولما وقع الانقلاب العثماني اختاره الحمصيون كمبعوث مدينتهم إلى الآستانة وعاين ما حدث هناك من القلاقل وعاد إلى مصر فأنشأ جريدة الحضارة. ورئس أخيراً في باريس الوفد الطالب اللامركزية فكان في المؤتمر المنعقد هناك بمثابة الدماغ من الجسد. وبفعله أوغر عليه صدور أهل دولته فاحتالوا عليه حتى أرجعوه إلى بلاده وحكم عليه جمال باشا بالإعدام في دمشق في 6 أيار 1916. وكان الزهراوي لسناً وخطيباً محنكاً. وله شعر حسن منه قوله:

ما أنتَ يا إنـسـان هـل

 

تدري دماغُك لِمْ شَعَـرْ

دَعْ عنك دعوى واستمـع

 

قولاً مفيداً مختـصَـرْ

الناس هاموا في الغـرو

 

رِ وراجعون إلى الغُرَرْ

ويرى بنو الإنسـانِ أنَّـه

 

مُ خلاصةُ ما فُـطـرْ

دعوى بها يَسْـلـون مـا

 

يلقَوْن من تعبِ وضَـرْ

فتسلّ فيما اسطَعْـتَ أن

 

فكرتَ فيما قد حضـر

واعبر على المقياس من

 

ماضٍ إلى ما يُنتـظَـرْ

واعلم بأنَّ المفلـحـين

 

بذي الحياةِ أولو البصر

والكون ظَرْفُ جواهـرِ

 

والسرُّ فيهِ ما ظهـر

وقتل مثله شنقاً في ذلك اليوم في بيروت أديب آخر (عبد الغني العريسي) المولود سنة 1891 درس في مدارس بيروت وخصوصاً في المدرسة العثمانية لمؤسسها الشيخ عباس الأزهري ثم علم فيها سنتين. ثم انقطع إلى الكتابة فأصدر جريدة المفيد أيد فيها النهضة العربية وأثار عليه غضب الأتراك حتى تسنى لجمال باشا أن يلقي عليه القبض فذهب ضحية الاستبداد. ومن آثاره الأدبية طبعه لديوان الطويراني ثمرة الحياة وتعريبه لكتاب البنين لبول دومر.

وكان شريكه في تلك النكبة (الشيخ أحمد طبارة) أحد أدباء بيروت ووجهائها. أصاب له في الصحافة ذكراً طيباً فحرر في أول عهد الدستور جريدة الإصلاح فكان لها وقع كبير في قلوب العرب السوريين. ثم أنشأ جريدة الاتحاد العثماني فامتازت بحسن إنشائها. وحضر في باريس المؤتمر العربي السوري وكان أحد أعضائه العاملين فنقم عليه جمال باشا وذووه فحكم عليه بالإعدام.

وفي السنة 1917 اخترمت المنون أحد أدباء الدروز (محمد أبا عز الدين) كان كاتب ضبط دائرة الحقوق الاستئنافية في جبل لبنان ثم تعين رئيساً لمحكمة الشوف. كان يجيد الكتابة ويراسل الصحف السيارة وله عدة مقالات وقصائد أعرب فيها عن حسن ذوق ومعرفة بفنون الإنشاء. نشرنا له مقالة مستجادة في المشرق (2(1899): 536). تحت عنوان (شهيد العلم).

وفي تلك السنة أيضاً فقدت الأسرة الرافعية ومدينة طرابلس رجلاً من أعيانها (الشيخ محمد كامل الرافعي). أخذ العلوم الدينية والأدبية عن علماء طرابلس ثم قصد مصر ودرس في الأزهر. ولما عاد إلى وطنه تولى فيه تدريس مواطنيه وتخصص بعلوم الدين الإسلامي. ومن مآثره الأدبية شرحه لديوان أخيه الشاعر الكبير مصطفى صادق الرافعي في ثلاثة أجزاء طبع في مصر. وكان الشيخ محمد يعيش عيشة الزهد لا يحفل بمعاشرة الكبار والذوات ويفضل العزلة حتى أنه أوصد باب داره على زائره متصرف طرابلس التركي فلم يقبله في بيته.

وفي أوائل السنة 1918 قبل نهاية الحرب الكونية بأشهر علمنا بالأسف وفاة أحد شيوخ دمشق الأفاضل (الشيخ عبد الرزاق البيطار) المولود سنة 1837. وكنا اجتمعنا به غير مرة وعرفنا فضله الكبير وسعة معارفه وطول باعه في التاريخ والموسيقى وفنون الأدب. خلف آثاراً حسنة في الموضات الدينية والصوفية والتاريخية. له كتاب نفيس دعاه حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر. وقد أدت بالشيخ معارفه إلا أنه تحرر من قيود التقييد ونبذ كثيراً مما كشفت له العلوم الحديثة بطلانه.

وتبعه بعد قليل إلى القبر في ذات السنة أديب من أهل بيروت المسلمين (بشير رمضان) صاحب مجلة الكوثر أنشأها بعد الإعلان بالدستور سنة 1909 وأودعها عدة فصول ومقالات حسنة. قد حرر مدة في مطبعة الولاية ومن آثاره منتخبات شعرية وقصائد من نظمه.

أدباء المسلمين في العراق والهند

أجاب إلى دعوة ربه في هذه الحقبة الثانية رجل من أدباء العراق نعته ناشر ديوانه (بأشعر شعراء الشرق أمس وأكبر علماء اليوم) نعني به السيد (محمد سعيد حبوبي الحسني) أحد علماء الشيعة. كان مولده في النجف ونشأ بين أسرته في بلاد نجد ثم عاد إلى وطنه وتعاطى الكتابة ونظم الشعر فعُّد من زعماء النهضة الأدبية في العراق ومات في الناصرية قرب النجف بعد أن دعا مواطنيه إلى الدفاع عن الوطن بالجهاد في 2 شعبان 1333 (أيار 1916م). وشعره فطري رقيق يجمع بين السهولة والمتانة. وله موشحات بديعة جارى فيها موشحات الأندلسيين. وقد طبع ديوانه في بيروت في المطبعة الأهلية سنة 1331. ودونك مثالاً من شعره يرثي بعض الأعاظم:

ألا أيها الغادي ولـيتَـكَ سـامـعٌ

إذا ما ادعى الداعي ألا أيها الغادي

بودّيَ لو تدنو فتسمَـعَ لـوعـتـي

عليك ولو تُصْغي فتسمعَ إنشـادي

قضيتَ وما عهدُ الدموع بمُنـقـضٍ

وثار الجوى يشوي الضلوعَ بإيقادِ

كأن نـدى كـفِّـيكَ عـاد لأعـينٍ

ونارَ قراك اليوم عادت لأكـبـادِ

فيا عبرَتْي عينَيَّ جودا ففـيكـمـا

إذا لم تساعدني الأحبَّة إسـعـادي

ويا أيهـا الـلاحـي رويدكَ لاحـياً

فإنـك فـي وادٍ وإنَـي فـي وادِ

ولو قد عرفتَ الحبَّ معرفتي بِه

لاتهمتَ اتهامي وأنجدتَ انجادي

وصرعت المنون في الهند في هذه الحقبة أحد المعالم المسلمين (الشيخ شبلي النعماني) توفاه الله بعد إعلان الحرب الكونية بقليل (18 ت2 1914) تعلم العلوم وساح في البلاد الإسلامية فدرس الطباع وأطلع على أحوال العصر. ولما عاد إلى وطنه عهد إليه التعليم في كلية عليكده فعد من كبار علماء بلاده وكان يعرف الهندية والفارسية والعربية يحسنها كلها. وقد تخصص في وطنه لإصلاح المسلمين في الهند. وله مصنفات مشكورة في الفلسفة والتاريخ وآداب اللغتين الفارسية والهندية. ومن تأليفه في العربية تاريخ الخليفة عمر بن الخطاب كتبها على صورة عصرية. وله رد على كتاب المرحوم جرجي زيدان تاريخ التمدن الإسلامي. ورسالة في الجزية وكان يشتغل قبل موته بسيرة رسول الإسلام. توفي عن 65 سنة.

وفي السنة 1917 توفي في تونس أحد أدبائها المسلمين (علي أبو شوشة) صاحب جريدتها الرسمية المعروفة بالرائد التونسي وهي أول جريدة ظهرت هناك سنة 1861.