الجزء الثالث: الربع الأول من القرن العشرين - القسم الثاني: نظر في الآداب العربية في هذه الحقبة - أدباء المستشرقين من السنة 1908 إلى 1918

أدباء المستشرقين من السنة 1908 إلى 1918

(الفرنسويون) فقدوا في هذه العشر السنين عدداً معدوداً من أدبائهم المستشرقين. كان أولهم في الحقبة التي نحن بصددها المرحوم أنطونين غوغوياي (Ant. Goguyer) الذي خدم وطنه زمناً طويلاً في تونس ثم في مدينة مسقط في خليج العجم وفيها حلت وفاته في 16 ت1 سنة 1909. والمذكور تخصص بالعلوم الفقهية الإسلامية ونشر عدة تآليف في أبحاثها. واشتغل أيضاً بأصول اللغة العربية ولهجاتها المختلفة في أنحاء الشرق. ومكتبتنا الشرقية تشكر له لطفه لما أوصى لها قبل وفاته من نفائس مكتبته وفي العام التالي غرق في نهر ميكون في الصين الجنرال الفرنسوي أوجين دي بيليه (Eug. de Beylie) قلب به زورقٌ في 15 تموز سنة 1910. كان مولده في السنة 1849 وأولع منذ حداثته بدرس آثار الشرق لا سيما الهندسة. ومن تأليفه في ذلك كتابه المسمى (المنزل البوزنطي) وصف فيه وصفاً مدققاً كل ما يوقف الباحثين عن أبنية البوزنطيين. وكان زار مكتبتنا الشرقية ووجد في تصاوير مخطوطاتها ما أيَّد آراءه. وللمذكور فضل في تعريف أصول الأبنية الإسلامية في المغرب وفي الأندلس وفقدت الآداب الشرقية في 10 أيار سنة 1911 أحد أساتذة جامعة فرنسة البارعين الكاثوليكي العامل روبنس دوفال (Rubens Duval). ولد سنة 1839 وكان متضلعاً من الآداب الشرقية السامية كالعربية والسريانية والعبرانية. ومما نشره في ذلك المعجم السرياني العربي لبر بهلول وغراماطيق فرنساوي سرياني مطول. وله كتاب نفيس في الآداب السريانية تكرر طبعه أربع مرات لكثرة فوائده. وصنف تاريخ مدينة أدسا (الرها) وبيّن فضل السريان في درس الكيمياء قبل العرب وأبحاث أخرى عديدة.

وفي 24 آذار من السنة 1912 توفي في باريس أحد مشاهير الأثريين الشرقيين المرحوم فيليب برجه (Ph. Berger). تولى زمناً نشر مجموعة الكتابات السامية. وكان طويل الباع في هذه العلوم الكتابية. ومن تآليفه النفيسة كتابه في أصول الكتابة بين الشعوب القديمة. ونشر عدة آثار كتابية آرامية وبابلية وله أبحاث ممتعة في شريعة حمورابي وفي أحوال العرب قبل محمد استناداً إلى الكتابات والآثار المكتشفة هناك وفي زمن الحرب توفي في كانون الثاني سنة 1915 املينو (E. Amelineau) الذي بعد دخوله في الكهنوت ضحى دينه لدنياه. فأرسلته الحكومة الفرنسوية إلى مصر وتفرد لدرس آثار الأقباط وتاريخ أمتهم وأديرتهم ورهبانهم القدماء. وجغرافية بلادهم. ومن هذه الآثار ما هو بالعربية فنشره بترجمته وقد تطرف في بعض آرائه وأشهر منه بالعلوم الأثرية الشرقية والتآليف الكتابية الكاهن الجليل فرنسوا فيغورو (F. Vigouroux ) من جماعة سان سولبيس كان من أساتذة المكتب الكاثوليكي في باريس فعلم العبرانية ثم انكبّ على درس الأسفار المقدسة وشرحها وبيان ما أظهرته حفريات مصر وبابل تأييداً لتلك الأسفار فصنف في ذلك عدة مجلدات راج سوقها أي رواج. ثم باشر بنشر معجم كتابي في خمسة مجلدات ضخمة أودعه بمساعدة بعض علماء الكاثوليك خلاصة العلوم الكتابية في كل الأبحاث المختصة بالكتب المقدسة. وقد زار غير مرة بلاد فلسطين وسورية ليعاين آثارهما توفي في 21 شباط 1915  وفي العام 1916 في 10 ت2 استأثر الله بنابغة من علماء الشرقيات المركيز ملكيور دي فوغويه (Melchior de Vogue) الذي تجول مراراً في بلادنا السورية والفلسطينية باحثاً عن آثارهما الدينية والمدنية تارة وحده وتارة وبصحبة بعض علماء وطنه وخاصة المسيو وادنغتون. ومن تأليفه التي يرجع إليها محبو الآثار الشرقية كتابه في سورية المركزية حيث نشر عدداً وافراً من كتابات حوران وجبل الدروز وشرحها شرحاً مدققاً. وله رحل وصف فيها بلادنا الشامية وآثارها. ومن مصنفاته كتاب ضخم عن هيكل سليمان وكتاب آخر عن آثار الأراضي المقدسة وكنائسها. وبقي على نشاطه ودوام على التصنيف والتأليف إلى آخر حياته وفي تموز من السنة عينها توفى الله سيدة فاضلة مادام جان ديولافوا (M J. Diculafoy). اقترنت بزواج المسيو دبولافوا فوجدت فيه رجلاً مقداماً محباً للسياحة والعلوم فأرادت أن تجاريه في كل أعماله. ولما استدعي زوجها لحرب فرنسة السنة 1870 لم تشأ أن تنفصل عنه وبقيت تخدم الجيش بقربه ثم تجشمت معه الأسفار إلى العراق والعجم متنكرة بلبس الرجال وتولت معه الحفريات الأثرية ووصفت كل ذلك بقلمها السيَّال في عدة مجلدات تهافت على مطالعتها أهل وطنها ومن مشاهير المستشرقين الذين أسفت الآداب الشرقية على وفاتهم في أيام الحرب في 21 ك1 1917 العالم الموسوي يوسف هالوي (J. Halevy) مولود أدرنه في السنة 1827 ثم دخل فرنسة وتخرج في العلوم الشرقية فأصبح أحد أساطينها المعدودين. وكان يتقن العبرانية والعربية والحبشية انتدبته الحكومة الفرنساوية لجمع الكتابات الحميرية في جنوبي العرب فساح إليها وجاء بمجموعة كبيرة منها عني بنشرها. ثم عاد فطاف بلاد اليمن ودخل نجران وقدم إلى الشام وسعى بتفسير كتابات الصفا فكان أول من كشف رموزها. وقد نشر في باريس مجلة الدروس اليهودية فأدارها نيفاً وثلثين سنة وقبل نهاية الحرب بزمن قليل ودع الحياة أحد كبار المستشرقين الفرنسويين المسيو غستون مسبيرو (G.. Maspero) الذي قضى نحو أربعين سنة في مصر صارفاً قواه في نشر آثارها ووصف تواريخها وآدابها وكشف أسرارها متولياً لكثير من حفرياتها الغامضة فصنف فيها المصنفات الممتعة التي تدل على سعة معارفه بكل أمور الشرق منها كتابه الجميل في تاريخ الشعوب الشرقية القديمة. توفى في 30 حزيران سنة 1918. وكان سبقه إلى القبر ابنه جان (J. Maspero) في 18 شباط سنة 1915 الذي كان يتأثر آثار والده فنشر كتاباً حسناً في فقه قدماء المصريين. وقع في ساحة الشرف دفاعاً عن وطنه وفي أثناء الحرب أيضاً منيت رسالتنا بوفاة ثلثة من عملتها الفرنسويين أحدهم الأب فردريك بوفيه (Fred. Bouvier) كان سكن عدة سنين في كليتنا وعلم فيها البيان ثم علم التاريخ وفي ديرنا في غزير وألف كتاباً مستطاباً مدققاً في تاريخ سوريَّة من أوائل تاريخ الميلاد إلى عهدنا طبعه على الحجر فلم يسمح له الوقت بطبعه على الحروف إذ قتل في ساحة الشرف في 18 أيلول 1916 وهو ساع بخدمة الصرعى والجرحى. وكان الفقيد مضطلعاً بالتاريخ والفلسفة واللاهوت وانتقاد الأديان. ومن آثاره عدة أبحاث أعرب فيها عن حسن نظر من جملتها تاريخ سورية في عهد بني طولون وعقبه إلى دار البقاء الأب دونا (عطاء الله) فرنيه (Donat Vernier) توفى في بيروت في مستشفى الراهبات الألمانيات في 17 أيار 1917. ولد سنة 1835 وقدم إلى الشام سنة 1860 فانكب على درس العربية وفوائدها فنشر كتاباً مطولاً في أصولها بالفرنسوية. ومن آثاره المطبوعة تأليفه في سيرة القديسة جان دارك وتعريبه لكتاب الإقتداء بالمسيح. وله عدة مخطوطات لغويَّة وأدبيَّة في مكتبتنا الشرقية وقد أسفنا جداً في 2 نيسان 1918 لوفاة أحد مرسلي كليتنا الأب لويس رنزفال (Louis Ronzevalle) مولود أدرنة سنة 1871 عاجلته المنون في رومية ففقدنا به رجلاً مشبعاً بالآداب وكاتباً ضليعاً متقناً لعدة لغات شرقية وغربية ذا ذكاء فريد متفننا بالمعارف المختلفة في الفلسفة والموسيقى وأصول اللغات له في كل ذلك كتابات مستجادة في المشرق وفي المجلات الأوربية الشرقية  (المستشرقون الألمانيون) خسرت ألمانية في هذه الحقبة عدة من أعلامها الممتازين بالشرقيات. نخص هنا بالذكر الذين اشتهروا بالأدبيات العربية. ففي 5 من كانون الثاني 1909 توفى الدكتور كرل فولرس (Karl Vollers) أحد أساتذة كلية يانا (Iena) في ألمانية ولد سنة 1857 وتولى زمناً طويلاً إدارة المكتبة الخديوية في مصر وعني بتنظيمها ووصف بعض مخطوطاتها في المجلة الآسيوية الألمانية (ZDMG) وفي مجلة مصر. ومن تآليفه الحسنة كتابه في اللغة العربية العامية بين قدماء العرب بالألمانية (سنة 1906) وكتابه عن اللهجة العربية في مصر. وقد وصف بمجلد ضخم المخطوطات الشرقية التي في مكتبة ليبسيك العمومية ونشر بالعربية والألمانية ديوان المتلمس وفي السنة المذكورة في 12 حزيران وقعت وفاة الأستاذ سجسمند فرنكل (Sig. Fraenkel) اشتغل خصوصاً باللغويات العربية منها كتابه في الألفاظ الآرامية الأعجمية الداخلة في العربية طبعه في ليدن سنة 1886. وكان سبق ونشر كتاباً هناك (1880) في الألفاظ الأجنبية التي دخلت في العربية في عهد الجاهلية وفي نفس القرآن وفي 7 آب من السنة توفى في مونيخ الأستاذ يوحنا ساب (J. - N. Sepp) الذي قدم إلى فلسطين ونشر آثاراً تاريخية عن صور وعن أنحاء الأراضي المقدسة وفي هذه السنة بارح الحياة أحد كبار المجتهدين في تعزيز الآداب العربية الأستاذ وليم بن الورد البروسي (W. Ahlwardt) ولد في غرمسولد في ألمانية سنة 1828 وفيها توفى في 2 ت2 1909 قضى حياته في درس الشرقيات ولا سيما العربية. وكان أول ما نشره ديوان خلف الأحمر (1859) ثم كتاب الفخري الآداب السلطانية والدول الإسلامية سنة 1860 وأعقبهما بنشر دواوين مختلفة مباشرة بستة شعراء العرب: النابغة وعنترة وطرفة وزهير وعلقمة وامرئ القيس ثم عني بمجموع أشعار العرب في ثلاثة أجزاء تحتوي الأصمعيات ودواوين العجاج وابنه رؤبة والزفيان. وترجم كثيراً منها إلى الألمانية وعلق عليها الحواشي المفيدة. ولو لم يكن له من الفضل إلا وصفه المخطوطات العربية في مكتبة برلين لكفى له فخراً. وهذا الوصف يتناول عشرة مجلدات ضخمة وصف فيها عشرة آلاف وثلاثمائة وسبعين كتاباً عربياً هناك مع فهارس ممتعة مستوفية وفي 8 آذار 1911 توفى أحد الأثريين الألمان الذين اشتغلوا في بعلبك ليكشفوا عن آثارها ويعيدوا لها بهائها القديم نريد به الدكتور اوتو بوخشتين (Otto Puchstein) وقد ألف مع بعض وصفائه تأليف جميلة وصفوا فيها تلك الأبنية التي تأخذ بمجامع الأبصار وصوَّروها تصويراً رائعاً. وللدكتور بوخشتين دليل مدقق في ذلك نقله إلى الافرنسية أحد أدباء الآباء اليسوعيين وفي غرَّة السنة 1913 توفى الدكتور جوليوس اوتنغ (J. Euting) من أساتذة جامعة ستراسبورغ. رحل مع السائح الفرنسي الشهير المسيو شرل هوبر (C. Huber) إلى داخلية العرب فبلغا إلى النفوذ وحائل سنة 1883 - 1884 وأنتسخا كتابات آرامية في تيماء وفي تبوك والحجر فقتل هوبر وعاد اوتنغ سالماً ونشرت تفاصيل سياحة كليهما بالفرنسوية والألمانية. وقد رأينا في بيروت الدكتور اوتنغ عند رجوعه وهو متنكر لابس ثياب أهل البادية. ومن منشوراته وصف المخطوطات العربية في مكتبة ستراسبورغ (1877) وكذلك نشر كتابات مختلفة نبطية وآرامية وجدت في سينا وفي عيون موسى وجهات فلسطين جمعها في سياحات متتالية قاسى فيها ضروب المشاق ونعي إلينا في أوائل الحرب في 24 ت1 1914 الأستاذ المرحوم يعقوب برت (Jacob Barth) من كبار المستشرقين في برلين نشر في المجلة الآسيوية الألمانية مقالات ضافية الذيل في كل الآداب لا سيما التاريخية واللغوية. هو أحد المستشرقين الذين سعوا بطبع تاريخ الطبري في ليدن. ومن منشوراته كتاب فصيح ثعلب طبع في ليبسيك سنة 1876 ونشر ديوان الشاعر النصراني القطامي وله أبحاث نفيسة في أصول اللغات السامية كالعبرانية والآرامية والعربية ومن المتوفين من المستشرقين الألمان سنة 1915 الدكتور بولس شرودر (P. Schroeder) الذي تولى في بيروت أعمال القنصلية الألمانية سنين طويلة وكان يعنى بالآثار الشرقية ويكتب في جرائد وطنه مقالات واسعة تاريخية وأدبية وأثرية. توفى في برلينوفي تلك السنة توفى أيضاً في برلين في 4 آب الدكتور ريشرد كيبرت (R. Kiepert) الذي نشر بعد أبيه خوارط حسنة لسوريَّة وتركية وبلاد العرب وفي آخر السنة في كانون الثاني 1918 فقدت ألمانية أحد أركان علومها الشرقية الدكتور فلهوسن (A. Wellhausen) الذي صنف التآليف المدققة في تواريخ العرب قبل الإسلام وآثارهم الدينية والشرعية والمدنية. ثم تتبع أخبارهم بعد الإسلام في عهد بني أمية وبني العباس إلى سقوط دولتهم وتآليفه هذه من أجود ما كتب في هذا الصدد. وللمذكور تآليف أخرى عن الأسفار المقدسة ذهب فيها مذهب الإباحيين (النمسوُّيون) رزئت الدروس الشرقية في النمسة بوفاة أربعة من مستشرقيها في هذه الحقبة الثانية. أولهم مدير المكتب الشرقي الملكي في فينا الدكتور داود هنريك مولر (D. H. Muller) توفى في 21 ك1 سنة 1912 بعد أن خدم الآداب العربية زمناً طويلاً وتولى رئاسة المجلة النمسوية الشرقية (WZKM) وهو الذي نشر جغرافية جزيرة العرب للهمداني 1884 - 1891 وكتاب الفرق للأصمعي. ورحل إلى جنوبي العرب ونشر عدة كتابات حميريَّة وآثاراً لغوية لقبائل شائعة هناك والثاني هو الدكتور ادولف فاهرمند (Ad. Wahrmund) دهمته المنون في أيار سنة 1913 وعمره 86 سنة علم في جامعة فينا العربية. ومن آثاره معجم عربي ألماني في مجلدين طبع سنة 1877 وله مجموعة أدبية مدرسية بالعربية. وكان متقناً للغة الفارسية ألف فيها عدة تآليف والثالث الدكتور مكسميليان بيتز (Max Bittner) فارق الحياة في 7 نيسان سنة 1918 لم يتجاوز عمره 49 سنة. كان أيضاً أستاذاً للغات الشرقية في فينا وله في مجلتها الآسيوية مقالات واسعة تشهد له بالمعرفة باللغات السامية ودرس أيضاً لهجات مهرة والحضرموت وكتب عن تاريخ اليزيديين ونشر أول أرجوزة من أراجيز العجَّاج والرابع الدكتور المأسوف عليه جوزف فون كراباتشيك (Josef von Karabacek) توفى في آخر الحرب الكونية في ت2 1918 خدم لغتنا العربية بدرسه لأقدم مخطوطاتها التي وجدت في مصر مكتوبة على البردي وعلى رقوق وقطع من الكتان وهي ترقى إلى أوائل الإسلام وبها يثبت أن أصل الخط العربي ليس من الخط الكوفي بل من الخط النبطي المستحدث الدارج المتعلق بالحروف وقد وجدت بعض آثار خطية عربية تقدم عهدها على الإسلام ونشرناها في كتابنا الآداب العربية وتاريخها في عهد الجاهلية تزيد هذا الرأي أما (الهولنديون) فقد أسفوا منذ شهر أيار السنة 1909 على فقدهم إمام الدروس العربية في أوربة الدكتور دي غويه (M. J. de Goeje) توفاه الله في ليدن التي شرفها آثار علمه الواسع فكان خير خلفٍ لسلفٍ سبقوا فاشتهروا في هولندة منذ القرن السابع عشر بمعرفة اللغة العربية ونشر آثارها. بل سبقهم جميعاً بوفرة تآليفه وضبطها وإتقانها. فهو الذي نشر في ثماني مجلدات مجموعة جغرافيي العرب: كالاصطخري وابن حوقل وابن خرداذبه والمقدسي وابن فقيه وابن رسته واليعقوبي والمسعودي فأحرز له فخراً قلما يبلغه غيره. وإليه يعود الفضل في نشر تاريخ الطبري برواياته وفهارسه ومعجم ألفاظه. فهيهات أن يبلغ شأوه أحد الشرقيين. وقد نشر أيضاً قسماً من جغرافية الإدريسي (نزهة المشتاق) في وصف المغرب. واشتغل مع بعض أساتذة ليدن في وصف مخطوطات مكتبتها الشرقية الغنية بالآثار العربية ولم يكتف الدكتور دي غويه بكل هذه الخدم وغيرها كثير بل وضع مبلغاً كبيراً من المال ليصرف ريعه في كل سنة لمجازاة بعض المنشورات الشرقية تحكم لجنة مخصوصة. وقد عرفنا شخصياً هذا الرجل العظيم وأخذنا العجب من لطفه وشهامته واستعداده لمساعدة كل من كان يطلب منه خدمة في سبيل الشرق.

وفي هذه الحقبة من شهر نيسان 1914 كانت وفاة أستاذ اللغات السامية في لوزان (سويسرة) جان هنري سبيرو (J. H. Spiro) المعروف بتآليفه لمعجم إنكليزي عربي طبع في مصر. (الإنكليز والأميركيون) نعي إلينا في شهر آذار 1917 أحد أصحابنا الإنكليز العلامة أميدروس (H. F. Amedroz) المولود سنة 1854. تخرج على آداب وطنه وتقلده فيه عدة أعمال ثم تفرغ لدرس العربية ومخطوطاتها فكان أحد كتبة المجلة الملكية الآسيوية الإنكليزية. وغيرها من المجلات. ومما خدم به الشرق العربي كتابان من أجل كتب التاريخ نشرهما في مطبعتنا الكاثوليكية: الأول تاريخ الوزراء لأبي الحسن الهلالي الصابئ مع الجزء الثامن من تاريخ آخر له (سنة 1904) والثاني ذيل تاريخ دمشق لأبي يعلي حمزة ابن القلانسي (1908) مضيفاً إليهما خلاصتهما بالإنكليزية وحواشي واسعة وفهارس جليلة.

وفي 14 نيسان سنة 1917 فجعت جامعة برنستون في الولايات المتحدة برجل من متقدمي علمائها الدكتور برونوف (R. F. Brunnow) الذي أفادنا كثيراً بمطبوعاته العربية. نخص منها بالذكر كتاب الموّشى لابن إسحاق الوشّاء طبعه في ليدن سنة 1886 وكتاب الاتباع والمزاوجة لابن زكريا ومنتخبات مدرسية ولا سيما الكتاب الحادي والعشرين من الأغاني الذي يفضل كثيراً على الطبعة المصرية. وقد اشتغل في وصف الآثار العربية وكان أحد المتولين لحفريات حوران مع أساتذة جامعة برنستون فوصفوا ما اكتشفوه بمجلدين ضخمين غاية في الحسن مع خارطة مدققة من رسمه الخاص.

ومنيت الكلية الأميركانية في بيروت في 28 أيلول 1909 بأحد معلميها الأفاضل الدكتور جورج بوست (G. Post) الذي أنشأ مع الدكتور كورنيليوس فانديك ويوحنا ورتبات سنة 1867 مدرستها الطبية فخدمها نيفاً وأربعين وسنة بكل همة وتعاطى الطب والجراحة في بيروت ولبنان. وكان تعمق في درس العربية وبها أنشأ كتبه الطبية في الجراحة وغيرها. وكان مولعاً بعلم النبات له فيه تأليف كبير بالإنكليزية والعربية فوصف نبات سورية وفلسطين وشبه جزيرة سينا متجشماً لجمع حشائشها أسفاراً شاقة.

وفي أبان معمعان الحرب في 28 تموز سنة 1916 رحل إلى الأبدية ركن آخر للكلية الأميركية الدكتور دانيال بلس (D. Bliss) الذي قدم بيروت سنة 1856 فكان له اليد الطولى في إنشاء مدرستهم الكلية سنة 1866 وبقي رئيسها نحو أربعين سنة برها بكل حكمة وجهزها بالأبنية العلمية والأدوات والمتاحف التي جعلتها من أكبر معاهد العلم في سورية بل في كافة الشرق لم نأخذ عليها سوى تربية طلبتها على المبادئ البروتستانية التي دفعت كثيرين منهم إلى التحرر من تعاليم الدين.

(الاسبانيون. الإيطاليون. الروسيون) أسفت إسبانية في 6 ت2 1917 على فقد شيخ علمائها المستشرقين الدكتور دون فرنسكو كوديرا إي زيدين (Fr. Codera y Zaidin) الذي ولد في 23 حزيران 1836 ودرس الآداب العربية على المستشرقين كاتلينا (S. Catalina) ودي غاينغوس (P. de Gayangos) فبرع فيها وتعين مدرساً للغة العربية في جامعة مدريد سنة 1879. رحل إلى تونس ومراكش والجزائر فبحث عن المخطوطات الشرقية وسعى بجمع المصكوكات العربية الإسبانية القديمة فوصفها بكتاب كبير. ومن منشوراته الجزيلة الفائدة مجموعة (المكتبة العربية الإسبانية) فنشر عشرة أجزاء منها تتناول تاريخ إسبانية العربية وعلمائها لابن بشكوال وابن الفرضي وابن أبّار وأحمد الضبي فكان له الفضل في النهضة الأدبية للدروس الشرقية في وطنه. فتخرج عليه عدة تلامذة قدموا له يوم يوبيله الذهبي سنة 1902 مجموعة لطيفة ضمنوها عدداً عديداً من الآثار العربية. وقد جمع هو في مجلد كبير مقالات له متفرقة عن تاريخ العرب وآثارهم فنشرها على حدة.

أما (الإيطاليون) فرُزئوا بأحد أساتذة الكلية اليسوعية الرومانية الأب هنري جسموندي (H. Gismondi) معلم اللاهوت في مدرستنا بيروت مدة عشر سنوات عني بدرس اللغتين السريانية والعربية فنشر فيهما تآليف مختلفة منها كتابه في أصول اللغة السريانية مع منتخبات ومعجم. ومنها نشره لمقامات عبد يشوع الصوباوي مع ترجمتها إلى اللاتينية والقسم الثاني من قصائد القديس غريغوريوس بالاسطرنجلي وطبع في رومية تاريخيين عربيين من تواريخ الكلدان: أخبار فطاركة كرسي المشرق لعمرو بن متى من كتاب المجدل (1896) وتاريخهم لماري بن سليمان (1899) وكذلك الروسيون فقدوا في هذه الحقبة الأستاذ داود كفولسون (D. Chwolson) توفى في بطرسبورج في 6 نيسان 1911 وكان مولده في 10 ك1 1820. كتب في مجلة أكاديمية بطرسبورج مقالات عديدة عن الشرق. ومن تآليفه ما نقله العرب من آثار البابليين الأقدمين (1859) ونشر ما ورد في الأعلاق النفيسة لأبن دوسته عن الروسيين والصقالبة وشعوب البلقان وترجمها إلى الروسية.

استدراك

فاتنا أن نذكر بين المتوفين من نصارى الشام في هذه الحقبة الثانية بعض الأدباء المعدودين فها نحن نخص بهم الأسطر الآتية: توفى قبل الحرب الكونية في 27 شباط 1912 في دار مطرانية الروم الأرثوذكس في زحلة الأستاذ الدمشقي (جرجس مرقس) رحل إلى روسية فحل في عاصمتها موسكو ضيفاً كريماً. فعرفت الدولة فضله وانتدبته إلى تعليم اللغات الشرقية في جامعتها فلبَّى طلبتها وأصاب هناك سمعة طيبة وثبت في منصبه 25 سنة ونشر في مجلات روسيَّة مقالات عديدة في الأمور الكنائسية الشرقية وخدم الكنيسة الأورثذكسيَّة بمعاكسة أخوية القبر المقدس اليونانية وكان ساعياً في نشر رحلة البطريرك مكاريوس زعيم الحلبي إلى روسية. وقد أثابته الدولة الروسية بمنحه رتبة جنرال مع عدة أوسمة شرفيَّة وفي الشهر التابع لدخول تركيا في الحرب في 27 ك1 سنة 1914 فقد الوطن أحد رجاله المعدودين (تامر بك ملاط) ولد سنة 1856 في بعبدا وتلقى العلوم في مدرسة مار عيدا هرهريا الأكليريكية فأتقن علومها الدينية والأدبية حتى اللاهوت استعداداً لقبول الدرجة الكهنوتية وتعلم اللغة السريانية فبرع فيها. ثم عدل عن الكهنوت إلى التعليم في مدارس لبنان وبعد مدة انتظم في سلك أساتذة مدرسة الحكمة في بيروت وعكف على دراسة الفقه فانتدبته الحكومة اللبنانية إلى خدمتها فخدمها في عدة وظائف في محاكم كسروان وزحلة والشوف في عهد متصرفي لبنان واصا باشا ونعوم ومظفر إلى أن اعتزل الأشغال وأصيب بمرض طويل انتهى بوفاته. وكان تامر بك كاتباً مجيداً وشاعراً مطبوعاً نشر شقيقه شلبي بك ديوانه سنة 1925 فقدَّمه على ديوانه الخاص. وفيه عدة قصائد تشهد له بجودة القريحة. وقد استحسنا له قوله في الزهد:

واللبيبُ اللبيب من خاف يوماً

 

واتقى الله في جميل الفعالِ

وانتحى توبةُ إذا زل يرجـو

 

في زوال الحياة حسن المآلِ

وفي معظم جلبة الحرب العمومية ودع الحياة أحد وجوه نصارى بيروت الطيب الذكر (المركيز موسى دي فريج) توفاه الله في 17 أيار 1916. درس في مدرسة اليسوعيين في غزير اللغات ومبادئ العلوم ثم تعاطى التجارة وحصل على ثروة واسعة وكان من أنصار الآداب والعلم مع تأصله في روح الدين. عدته الجمعية العلمية السورية المنشأة في أواسط القرن التاسع كأحد أركانها. له في نشرتها المطبوعة خطب وقصائد ومقالات أدبية وفي العام التالي في 8 تشرين الأوَّل 1917 خسر العراق أحد كهنته الأفاضل المعروفين بنشاطهم في خدمة التاريخ والعلوم الدينية (القس بطرس نصري الكلداني) الذي سبقت ترجمته في المشرق (21 (1923): 657 - 660) كان مولده في الموصل سنة 1861 وتخرج تحت نظارة أرباب طائفته ثم في مدرسة انتشار الإيمان في رومية. ولما رجع إلى الموصل تخصص لخير مواطنيه بكل الخدم الكهنوتية ولا سيما بالتعليم والتأليف فدرس العلوم الدينية العليا في المدرسة البطريركية الاكليريكية وصنف كتباً عديدة في اللاهوت والفلسفة والتاريخ تجد جدولها في آخر ترجمته وممن كان حقهم أن يذكروا في هذه الحقبة الثانية من القرن العشرين فذكرناهم سابقاً في عداد ذوي القرن التاسع عشر (المعلم سعد العضيمي) نشر سنة 1872 ديواناً مدح فيه أعيان ذلك الزمان وذكر حوادثه فنقلنا قطعاً عنه في الطبعة الأولى من الآداب العربية في القرن التاسع عشر (ص 50 - 51) وقد عاش زمناً طويلاً حتى بلغ العشر الثاني من القرن العشرين .