الجزء الأول - كتاب اللؤلؤة في السلطان - حفظ الأسرار

باب من الوفاء والغدر

قال مروان بن محمد لعبد الحميد الكاتب حين أيقن بزوال ملكه‏:‏ قد احتجت إلى أن تصير مع عدوي وتظهر الغدر بي فإن إعجابهم بأدبك وحاجتهم إلى كتابك تدعوهم إلى حسن الظن بك فإن استطعت أن تنفعني في حياتي وإلا لم تعجز عن نفع حرمي بعد موتي‏.‏

فقال عبد الحميد‏:‏ إن الذي أمرت به أنفع الأشياء لك وأقبحها بي وما عندي غير الصبر معك حتى يفتح الله عليك أو أقتل معك‏.‏

وأنشأ يقول‏:‏ أسر وفاء ثم أظهر غدرة فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره أبو الحسن المدائني قال‏:‏ لما قتل عبد الملك بن مروان عمرو بن سعيد بعد ما صالحه وكتب إليه أماناً وأشهد شهوداً قال عبد الملك بن مروان لرجل كان يستشيره ويصدر عن رأيه إذا ضاق به الأمر‏:‏ ما رأيك في الذي كان مني قال‏:‏ أمر قد فات دركه‏.‏

قال‏:‏ لتقولن‏.‏

قال‏:‏ حزم لو قتلته وحييت‏.‏

قال‏:‏ أو لست بحي فقال‏:‏ ليس بحي من أوقف نفسه موقفاً لا يوثق له بعهد ولا بعقد‏.‏

قال عبد الملك‏:‏ كلام لو سبق سماعه فعلى لأمسكت‏.‏

المدائني قال‏:‏ لما كتب أبو جعفر أمان ابن هبيرة واختلف فيه الشهود أربعين يوماً ركب في رجال معه حتى دخل على المنصور فقال له‏:‏ يا أمير المؤمنين إن دولتكم هذه جديدة فأذيقوا الناس حلاوتها وجنبوهم مرارتها لتسرع محبتكم إلى قلوبهم ويعذب ذكركم على ألسنتهم وما زلت منتظراً لهذه الدعوة‏.‏

فأمر أبو جعفر برفع الستر بينه وبينه فنظر إلى وجهه وباسطه بالقول حتى اطمأن قلبه‏.‏

فلما خرج قال أبو جعفر لأصحابه‏.‏

عجبا لمن يأمرني بقتل مثل هذا‏!‏ ثم قتله بعد ذلك غدراً‏.‏

وقال أبو جعفر لسلم بن قتيبة‏:‏ ما ترى في قتل أبي مسلم قال سلم‏:‏ ‏"‏ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ‏"‏ قال حسبك الله أبا أمية‏.‏

قال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ كان بنو سعد بن تميم أغدر العرب وكانوا يسمون الغدر في الجاهلية‏:‏ كيسان فقال فيهم الشاعر‏:‏ إذا كنت في سعد وخالك منهم غريباً فلا يغررك خالك من سعد إذا ما دعوا كيسان كانت كهولهم إلى الغدر أدنى من شبابهم المرد الولاية والعزل قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ستحرصون على الإمارة ثم تكون حسرة وندامة فنعمت وقال المغيرة بن شعبة‏:‏ أحب الإمارة لثلاث وأكرهها لثلاث أحبها لرفع الأولياء ووضع الأعداء واسترخاص الأشياء‏.‏

وأكرهها لروعة البريد وموت العزل وشماتة الأعداء‏.‏

وقال ولد ابن شبرمة القاضي‏:‏ كنت جالساً مع أبي قبل أن يلي القضاء فمر به طارق بن أبي زياد في موكب نبيل وهو وإلى البصرة فلما رآه أبي تنفس الصعداء وقال‏:‏ أراها وإن كانت تحب كأنها سحابة صيف عن قريب تقشع ثم قال‏:‏ اللهم لي ديني ولهم دنياهم‏.‏

فلما ابتلى بالقضاء قلت له يا أبت أتذكر يوم طارق قال‏:‏ يا بني إنهم يجدون خلفاً من أبيك وإن أباك حط في أهوائهم وأكل من حلوائهم‏.‏

قيل لعبد الله بن الحسن‏:‏ إن فلاناً غيرته الولاية قال‏:‏ من ولي ولاية يراها أكبر منه تغير لها ومن ولى ولاية يرى نفسه أكبر منها لم يتغير لها‏.‏

ولما عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه المغيرة بن شعبة عن كتابة أبي موسى قال له‏:‏ أعن عجز أم خيانة يا أمير المؤمنين قال‏:‏ لا عن واحدة منهما ولكني أكره أن أحمل فضل عقلك على العامة‏.‏

وكتب زياد إلى معاوية‏:‏ قد أخذت العراق بيميني وبقيت شمالي فارغة يعرض له بالحجاز - فبلغ ذلك عبد الله بن عمر فرفع يده إلى السماء وقال‏:‏ اللهم اكفنا شمال زياد‏.‏

فخرجت في ولقي عمر بن الخطاب أبا هريرة فقال له‏:‏ ألا تعمل قال‏:‏ لا أريد العمل‏.‏

قال‏:‏ قد طلب العمل من هو خير منك يوسف عليه الصلاة والسلام‏.‏

قال‏:‏ اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم‏.‏

المدائني قال‏:‏ كان بلال بن أبي بردة ملازماً لباب خالد بن عبد الله القسري فكان لا يركب خالد إلا رآه في موكبه فبرم به فقال لرجل من الشرط‏:‏ إئت ذلك الرجل صاحب العمامة السوداء فقل له‏:‏ يقول لك الأمير‏:‏ ما لزومك بابي وموكبي‏!‏ إني لا أوليك ولاية أبداً‏.‏

فأتاه الرسول فأبلغه‏.‏

فقال له بلال‏:‏ هل أنت مبلغ عني الأمير كما بلغتني عنه قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ قل له‏:‏ والله لئن وليتني لا عزلتني‏.‏

فأبلغه ذلك‏.‏

فقال خالد‏:‏ قاتله الله‏!‏ إنه ليعد من نفسه بكفاية‏.‏

فدعاه فولاه‏.‏

وأراد عمر ابن الخطاب أن يستعمل رجلاً فبادر الرجل فطلب منه العمل‏.‏

فقال له عمر‏:‏ والله لقد كنت أردتك لذلك ولكن من طلب هذا الأمر لم يعن عليه‏.‏

وطلب العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم من النبي ولاية فقال له‏:‏ يا عم نفس تحييها خير من ولاية لا تحصيها‏.‏

وطلب رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ إنا لا نستعين على عملنا بمن يريده‏.‏

وقال زياد لأصحابه‏:‏ من أغبط الناس عيشا قالوا‏:‏ الأمير وأصحابه‏.‏

قال‏:‏ كلا إن لأعواد المنبر لهيبة ولقرع لجام البريد لفزعة‏.‏

ولكن أغبط الناس عيشا رجل له دار يجري عليه كراؤها وزوجة قد وافقته في كفاف من عيشه لا يعرفنا ولا نعرفه فإن عرفنا وعرفناه أفسدنا عليه آخرته ودنياه‏.‏

وكتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية حين كبر وخاف أن يستبدل به‏:‏ أما بعد فقد كبرت سني ورق عظمي واقترب أجلي وسفهني سفهاء قريش فرأى أمير المؤمنين في عمله موفق‏.‏

فكتب إليه معاوية‏:‏ أما ما ذكرت من كبر سنك فأنت أكلت شبابك وأما ما ذكرت من اقتراب أجلك فإني لو أستطيع دفع المنية لدفعتها عن آل أبي سفيان وأما ما ذكرت من سفهاء قريش فحلماؤها أحلوك ذاك المحل وأما ما ذكرت من أمر العمل فضح رويداً يدرك الهيجا حمل وهذا مثل للعرب وقد وقع تفسيره في كتاب الأمثال‏.‏

فلما انتهى الكتاب إلى المغيرة كتب إليه يستأذنه في القدوم عليه فأذن له فخرج وخرجنا معه‏.‏

فلما دخل عليه قال له‏:‏ يا مغيرة كبرت سنك ورق عظمك ولم يبق منك شيء ولا أراني إلا مستبدلاً بك‏.‏

قال المحدث عنه‏:‏ فانصرف إلينا ونحن نرى الكآبة في وجهه فأخبرنا بما كان من أمره قلنا له‏:‏ فما تريد أن تصنع قال‏:‏ ستعلمون ذلك‏.‏

فأتى معاوية فقال له‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الأنفس ليغدى عليها ويراح ولست في زمن أبي بكر ولا عمر فلو نصبت لنا علما من بعدك نصير إليه فإني قد كنت دعوت أهل العراق إلى بيعة يزيد‏.‏

فقال‏:‏ يا أبا محمد انصرف إلى عملك ورم هذا الأمر لابن أخيك‏.‏

فأقبلنا تركض على النجب فالتفت فقال‏:‏ والله لقد وضعت رجله في ركاب طويل ألقى عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏