الجزء الأول - كتاب اللؤلؤة في السلطان - باب من الوفاء والغدر

 باب من أحكام القضاء

قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله‏:‏ إذا كان في القضاء خمس خصال فقد كمل‏:‏ علم بما كان قبله ونزاهة عن الطمع وحلم على الخصم واقتداء بالأئمة ومشاورة أهل العلم والرأي‏.‏

وقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ إذا أتاك الخصم وقد فقئت عينه فلا تحكم له حتى يأتي خصمه فلعله قد فقئت عيناه جميعاً‏.‏

وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى معاوية كتاباً في القضاء يقول فيه‏:‏ إذ تقدم إليك الخصمان فعليك بالبينة العادلة أو اليمين القاطعة وإدناء الضعيف حتى يشتد قلبه وينبسط لسانه‏.‏

وتعاهد الغريب فإنك إن لم تتعاهده ترك حقه ورجع إلى أهله وإنما ضيع حقه من لم يرفق به‏.‏

وآس بين الناس في لحظك وطرفك وعليك بالصلح بين الناس ما لم يتبين لك فصل القضاء‏.‏

العتبي قال‏:‏ تنازع إبراهيم بن المهدي هو وبختيشوع الطبيب بين يدي أحمد بن أبي داود القاضي في مجلس الحكم في عقار بناحية السواد فزرى عليه ابن المهدي وأغلظ له بين يدي أحمد بن أبي داود‏.‏

فأحفظه ذلك فقال‏:‏ بإبراهيم إذا نازعت أحداً في مجلس الحكم فلا أعلمن أنك رفعت عليه صوتاً ولا أشرت إليه بيد وليكن قصدك أمماً وطريقك نهجاً وريحك ساكنة‏.‏

ووف مجالس الحكومة حقوقها من التوقير والتعظيم والتوجه إلى الواجب فإن ذلك أشبه بك وأشكل لمذهبك في محتدك وعظم خاطرك‏.‏

ولا تعجل فرب عجلة تهب ريثاً والله يعصمك من الزلل وخطل القول والعمل ويتم نعمته عليك ما أتمها على أبوك من قبل إن ربك حكيم عليم‏.‏

قال إبراهيم‏:‏ أصلحك الله أمرت بسداد وحضضت على رشاد ولست بعائد إلى ما يلثم مروءتي عندك ويسقطني من عينك ويخرجني عن مقدار الواجب إلى الاعتذار فها أنذا معتذر إليك من هذه البادرة اعتذار مقر بذنبه باخع بجرمه فإن الغضب لا يزال يستفز بمودة فيردني مثلك بحلمه وقد رهبت حقي من هذا العقار لبختيشوع فليت ذلك يقوم بأرش الجناية ولن يتلف مال أفاد موعظة‏.‏

وبالله التوفيق‏.‏

وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري - رواها ابن عيينة -‏:‏ أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلى إليك الخصم فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له‏.‏

آس بين الناس في مجلسك ووجهك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا يخاف ضعيف من جورك البينة على من ادعى واليمين على من أنكر والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراماً أو حرم حلالاً‏.‏

ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن ترجع عنه فإن الحق قديم والرجوع إليه خير من التمادي على الباطل‏.‏

الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك مما لم يبلغك به كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم واعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور عند ذلك ثم اعمد إلى أحبها عند الله ورسوله وأشبهها بالحق واجعل للمدعي أمداً ينتهي إليه فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلا وجهت عليه القضاء فإن ذلك أجلى للعمى وأبلغ في العذر‏.‏

والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه شهادة زور أو ظنيناً في ولاء أو قرابة أو نسب فإن الله عز وجل ولى منكم السرائر ودرأ عنكم بالبينات والأيمان‏.‏

ثم إياك والتأذي بالناس والتنكر للخصوم في مواطن الحقوق التي يوجب الله عز وجل بها الأجر ويحسن بها الذخر فإنه من تخلص نيته فيما بينه وبين الله ولو على نفسه يكفيه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين للناس بما يعلم الله خلافه منه هتك الله ستره‏.‏

وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري‏:‏ أما بعد فإن للناس نفرة عن سلطانهم فاحذر أن تدركني وإياك عمياء مجهولة وضغائن محمولة وأهواء متبعة ودنيا مؤثرة‏.‏

أقم الحدود واجلس للمظالم ولو ساعة من النهار وأخف الفساق واجعلهم يداً يداً ورجلاً رجلاً وإذا كانت بين القبائل ثائرة فنادوا‏:‏ يا لفلان فإنما تلك نجوى من الشيطان فاضربهم بالسيف حتى يفيئوا إلى أمر الله عز وجل وتكون دعواتهم إلى الله والإسلام‏.‏

واستدم النعمة بالشكر والطاعة بالتألف والمقدرة بالعفو والنصرة بالتواضع والمحبة للناس وبلغني أن ضبة تنادي‏:‏ يا لضبة‏.‏

وإني والله ما أعلم أن ضبة ساق الله بها خيراً قط ولا صرف بها شراً‏.‏

فإذا جاءك كتابي هذا فأنهكهم عقوبة حتى يفرقوا إن لم يفقهوا وألصق بغيلان بن خرشة من بينهم‏.‏

وعد مرضى المسلمين واشهد جنائزهم وباشر أمورهم بنفسك وافتح لهم بابك فإنما أنت رجل منهم غير أن الله قد جعلك أثقلهم حملاً‏.‏

وقد بلغ أمير المؤمنين أنه فشت لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها فإياك يا عبد الله أن تكون كالبهيمة همها في السمن والسمن حتفها‏.‏

واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته وأشقى الناس من يشقى به الناس والسلام‏.‏

أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يغزو قوماً في البحر فكتب إليه عمرو بن العاص وهو عامله على مصر‏:‏ يا أمير المؤمنين إن البحر خلق عظيم يركبه خلق صغير دود على عود‏.‏

فقال الشعبي قال‏:‏ كنت جالساً عند شريح إذ دخلت عليه امرأة تشتكي زوجها وهو غائب وتبكي بكاء شديداً‏.‏

فقلت‏:‏ أصلحك الله ما أراها إلا مظلومة‏.‏

قال‏:‏ وما علمك قلت‏:‏ لبكائها‏.‏

قال‏:‏ لا تفعل فإن أخوة يوسف جاءوا آباءهم عشاء يبكون وهم له ظالمون‏.‏

وكان الحسن بن أبي الحسن لا يرى أن يرد شهادة رجل مسلم إلا أن يحرجه المشهود عليه‏.‏

فأقبل إليه رجل فقال‏:‏ يا أبا سعيد إن إياساً رد شهادتي‏.‏

فقام معه الحسن إليه فقال‏:‏ يا أبا وائلة لم رددت شهادة هذا المسلم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فهو مسلم له ما لنا وعليه ما علينا فقال‏:‏ يا أبا سعيد إن الله عز وجل يقول‏:‏ ‏"‏ ممن ترضون من الشهداء ‏"‏ وهذا ممن لا يرضى‏.‏

ودخل الأشعث بن قيس على شريح القاضي في مجلس الحكومة فقال‏:‏ مرحباً وأهلاً بشيخنا وسيدنا وأجلسه معه‏.‏

فبينما هو جالس عنده إذ دخل رجل يتظلم من الأشعث فقال له شريح‏:‏ قم فاجلس مجلس الخصم وكلم صاحبك‏.‏

قال‏:‏ بل أكلمه من مجلسي‏.‏

فقال له‏:‏ لتقومن أو لآمرن من يقيمك‏.‏

فقال له الأشعث‏:‏ لشد ما ارتفعت‏!‏ قال‏:‏ فهل رأيت ذلك ضرك قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فأراك تعرف نعمة الله على غيرك وتجهلها على نفسك‏.‏

وأقبل وكيع بن أبي سعود صاحب خراسان ليشهد عند إياس بشهادة فقال‏:‏ مرحباً وأهلاً بأبي مطرف وأجلسه معه ثم قال له‏:‏ ما جاء بك قال‏:‏ لأشهد لفلان‏.‏

فقال‏:‏ مالك وللشهادة إنما يشهد الموالي والتجار والسوقة‏.‏

قال‏:‏ صدقت وانصرف من عنده‏.‏

فقيل له‏:‏ خدعك إنه لا يقبل شهادتك‏.‏

قال‏:‏ لو علمت ذلك لعلوته بالقضيب‏.‏

دخل عدي بن أرطأة على شريح فقال‏:‏ أين أنت أصلحك الله قال‏:‏ بينك وبين الحائط‏.‏

قال‏:‏ إني رجل من أهل الشام‏.‏

قال‏:‏ نائي الدار سحيق المزار‏.‏

قال‏:‏ قد تزوجت عندكم‏.‏

قال‏:‏ بالرفاء والبنين قال‏:‏ وولد لي غلام‏.‏

قال‏:‏ ليهنئك الفارس‏.‏

قال‏:‏ وأردت أن أرحلها‏.‏

قال‏:‏ الرجل أحق بأهله قال‏:‏ وشرطت لها دارها قال‏:‏ الشرط أملك‏.‏

قال فاحكم الآن بيننا‏.‏

قال‏:‏ قد فعلت قال‏:‏ على من قضيت قال‏:‏ على ابن أمك‏.‏

قال‏:‏ بشهادة من قال‏:‏ بشهادة ابن أخت خالتك‏.‏

يريد إقراره على نفسه‏.‏

سفيان الثوري قال‏:‏ جاء رجل يخاصم إلى شريح في سنور قال‏:‏ بينتك‏.‏

قال‏:‏ ما أجد بينة في سنور ولدت عندنا‏.‏

قال شريح‏:‏ فاذهبوا بها إلى أمها فأرسلوها فإن استقرت واستمرت ودرت فهي سنورك وإن هي اقشعرت وازبأرت وهرت فليست بسنورك‏.‏

سفيان الثوري قال‏:‏ جاء رجل إلى شريح فقال‏:‏ ما تقول في شاة تأكل الدبى قال‏:‏ لبن طيب وعلف مجان‏.‏

ودخل رجل على الشعبي في مجلس القضاء ومعه امرأته وهي من أجمل النساء فاختصما إليه فأدلت المرأة بحجتها وقربت بينتها‏.‏

فقال الشعبي للزوج‏:‏ هل عندك من مدفع فأنشأ يقول‏:‏ فتن الشعبي لما رفع الطرف إليها فتنته بدلال وبخطي حاجبيها قال للجلواز قرب - ها وأحضر شاهديها فقضى جوراً على الخص - م ولم يقض عليها قال الشعبي‏:‏ فدخلت على عبد الملك بن مروان فلما نظر إلي تبسم وقال‏:‏ فتن الشعبي لم رفع الطرف إليها ثم قال‏:‏ ما فعلت بقائل هذه الأبيات قلت‏:‏ أوجعته ضرباً يا أمير المؤمنين بما انتهك من حرمتي في مجلس الحكومة وبما افترى به علي‏.‏

قال‏:‏ أحسنت‏.‏