الجزء الأول - كتاب الفريدة في الحروب ومدار أمرها - باب من أخبار الأزارقة

باب من أخبار الأزارقة

كان أول من خرج من الخوارج بعد قتل علي رضي الله عنه‏:‏ حوثرة الأقطع فإنه كان خرج إلى النخيلة واجتمع إليه جماعة من الخوارج ومعاوية بالكوفة وقد بايعه الحسن والحسين وقيس بن سعد بن عبادة‏.‏

ثم خرج الحسن يريد المدينة فوجه إليه معاوية وقد تجاوز في طريقه يسأله أن يكون المتولي لمحاربتهم‏.‏

فقال الحسن عليه السلام‏:‏ والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين وما أحسب ذلك يسعني فكيف أن أقاتل قوماً أنت أولى بالقتال منهم فلما رجع الجواب إليه وجه إليهم جيشاً أكثره من أهل الكوفة ثم قال لأبي حوثرة‏:‏ تقدم فاكفني أمر ابنك‏.‏

فسار إليه أبوه فدعاه إلى الرجوع فأبى فداوره فصمم‏.‏

فقال له‏:‏ أي بني أجيئك بابنك لعلك تراه فتحن إليه فقال له‏:‏ يا أبت أنا والله إلى طعنة نافذة أتقلب فيها على كعوب الرمح أشوق مني إلى ابني‏.‏

فرجع إلى معاوية فأخبره‏.‏

فقال‏:‏ يا أبا حوثرة عتا هذا جداً‏.‏

فلما نظر حوثرة إلى أهل الكوفة قال‏:‏ يا أعداء الله أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه واليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه‏.‏

ثم جعل يشد عليهم ويقول‏:‏ احمل على هذي الجموع حوثرة فعن قريب ستنال المغفره وكان مرداس أبو بلال قد شهد صفين مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأنكر التحكيم وشهد النهروان ونجا فيمن نجا فلما خرج من حبس ابن زياد ورأى شدة الطلب للشراة عزم على الخروج فقال لأصحابه‏:‏ إنه والله ما يسعنا المقام مع هؤلاء الظالمين تجرى علينا أحكامهم مجانيين للعدل مفارقين للفصل‏.‏

والله إن الصبر على هذا لعظيم وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لشديد ولكنا ننتبذ عنهم ولا نجرد سيفاً ولا نقاتل إلا من قاتلنا‏.‏

فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلاً منهم‏:‏ حريث بن حجل وكهمس ابن طلق الصريمي فأرادوا أن يولوا أمرهم حريثاً فأبى‏.‏

فولوا أمرهم مرداساً‏.‏

فلما مضى بأصحابه لقيهم عبد الله بن رباح الأنصاري وكان له صديقاً فقال له‏:‏ يا ابن أخي أين تريد فقال‏:‏ أريد أن أهرب بديني ودين أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة‏.‏

قال‏:‏ له‏:‏ أعلم أحد بكم قال‏:‏ لا قال‏:‏ فارجع‏.‏

قال‏:‏ أو تخاف علي مكروها قال‏:‏ نعم وأن يؤتى بك‏.‏

قال‏:‏ فلا تخف فإني لا أجرد سيفاً ولا أخيف أحداً ولا أقاتل إلا من قاتلني‏.‏

ثم مضى حتى نزل آسك‏.‏

فمر به مال يحمل إلى ابن زياد وقد بلغ أصحابه الأربعين‏:‏ فحط ذلك المال فأخذ منه عطاءه وأعطيات أصحابه وترك ما بقى وقال‏:‏ قولوا لصاحبكم‏:‏ إنما أخذنا أعطياتنا‏.‏

فقال له أصحابه‏:‏ لماذا تترك الباقي قال‏:‏ إنهم يقسمون هذا الفيء كما يقيمون الصلاة فلا تقاتلوهم ما داموا على الصلاة‏.‏

فوجه إليهم ابن زياد أسلم بن زرعة الكلابي في ألفين‏.‏

فلما وصل إليهم قال له مرداس‏:‏ اتق الله يا أسلم فإنا لا نريد قتالاً ولا نروع أحداً وإنما هربنا من الظلم ولا نأخذ من الفيء إلا أعطياتنا ولا نقاتل إلا من قاتلنا‏.‏

قال‏:‏ لا بد من ردكم إلى ابن زياد‏.‏

قال‏:‏ وإن أراد قتلنا‏.‏

قال‏:‏ وإن أراد قتلكم‏!‏ قال‏:‏ فتشرك في دمائنا‏.‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

فشدوا عليه شدة رجل واحد فهزموه وقتلوا أصحابه‏.‏

ثم وجه إليهم ابن زياد عباداً‏.‏

فقاتلهم يوم الجمعة حتى كان وقت الصلاة فناداهم أبو بلال‏:‏ يا قوم هذا وقت الصلاة فوادعونا حتى نصلي‏.‏

فوادعوهم فلما دخلوا في الصلاة شدوا عليهم فقتلوهم وهم بين راكع وساجد وقائم في الصلاة وقاعد‏.‏

فقال عمران بن حطان يرثي أبا بلال‏:‏ يا عين بكي لمرداس ومصرعه يا رب مرداس اجعلني كمرداس أبقيتني هائماً أبكي لمرزئتي في منزل موحش من بعد إيناس أنكرت بعدك ما قد كنت أعرفه ما الناس بعدك يا مرداس بالناس إما شربت بكأس دار أولها على القرون فذاقوا جرعة الكاس فكل من لم يذقها شارب عجلاً منها بأنفاس ورد بعد أنفاس وليس في الفرق كلها وأهل البدع أشد بصائر من الخوارج ولا أكثر اجتهاداً ولا أوطن أنفساً على الموت فمنهم الذي طعن فأنفذه الرمح فجعل يسعى إلى قاتله ويقول‏:‏ عجلت إليك رب لترضى‏.‏

ولما مالت الخوارج إلى أصبهان حاصرت بها عتاب بن ورقاء سبعة أشهر يقاتلهم في كل يوم وكان من عتاب بن ورقاء رجل يقال له شريح ويكنى أبا هريرة فكان يخرج إليهم في كل يوم فيناديهم‏:‏ يا بن أبي الماحوز والأشرار كيف ترون يا كلاب النار شد أبي هريرة الهرار يعروكم بالليل والنهار وهو من الرحمن في جوار فتعاظمهم ذلك‏.‏

فكمن له عبيدة بن هلال فضربه واحتمله أصحابه فظنت الخوارج أنه قد قتل فكانوا إذا تواقفوا ينادونهم‏:‏ ما فعل الهرار فيقولون‏:‏ ما به من بأس‏.‏

حتى أبل من علته فخرج إليهم فقال‏:‏ يا أعداء الله‏.‏

أترون بي بأساً فصاحوا به‏:‏ قد كنا نرى أنك لحقت بأمك الهاوية في النار الحامية‏.‏

فلما طال الحصار على عتاب قال لأصحابه‏:‏ ما تنتظرون‏:‏ إنكم والله ما تؤتون من قلة وإنكم فرسان عشائركم ولقد حاربتموها مراراً فانتصفتم منهم وما بقي من هذا الحصار إلا أن تفنى ذخائركم فيموت أحدكم فيدفنه صاحبه ثم يموت هو فلا يجد من يدفنه فقاتلوا القوم وبكم قوة من قبل أن يضعف أحدكم عن أن يمشي إلى قرنه‏.‏

فلما أصبح بهم الصبح ثم خرج إلى الخوارج وهم غارون وقد نصب لواء لجارية يقال لها ياسمين فقال‏:‏ من أراد البقاء فليلحق بلواء ياسمين ومن أراد الجهاد فليلحق بلوائي‏.‏

قال‏:‏ فخرج في ألفين وسبعمائة فارس فلم تشعر بهم الخوارج حتى غشوهم فقاتلوهم بجد لم تر الخوارج مثله فقتلوا أميرهم الزبير بن علي وانهزمت الخوارج فلم يتبعهم عتاب بن ورقاء‏.‏

وخرج قريب بن مرة الأزدي وزحاف الطائي‏.‏

كانا مجتهدين بالصرة في أيام زياد فاعترضا الناس فلقيا شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار فقتلاه وتنادى الناس فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد بالسيف‏.‏

فناداه الناس من بعض البيوت‏:‏ الحرورية انج بنفسك‏.‏

فنادوه‏:‏ لسنا حرورية نحن الشرط فوقف فقتلوه‏.‏

وبلغ أبا بلال خبرهما وكان على دين الخوارج إلا أنه كان لا يرى اعتراض الناس فقال قريب لا قربه الله من الخير وزحاف لا عفا الله عنه فلقد ركباها عشواء مظلمة‏.‏

ثم جعلا لا يمران بقبيلة إلا قتلا من وجدا فيها حتى مرا ببني علي ابن سود من الأزد‏.‏

وكانوا رماة وكان فيهم مائة يجيدون الرمي‏.‏

فرموهم رمياً شديداً فصاحوا‏:‏ يا بني علي البقيا لا لا شيء للقوم سوى السهام مشحوذة في غلس الظلام فهربت عنهم الخوارج‏.‏

فاشتقوا مقبرة بني يشكر حتى خرجوا إلى مزينة‏.‏

واستقبلهم الناس فقتلوا عن آخرهم‏.‏

ثم عاد الناس إلى زياد فقال‏:‏ ألا ينهى كل قوم سفهاءهم‏.‏

فكانت القبائل إذا أحست بخارجي فيهم أوثقوه وأتوا به زياداً فمنهم من يجبسه ومنهم من يقتله‏.‏

ولزياد أخرى في الخوارج أنه أتي بامرأة منهم فقتلها ثم عراها فلم تخرج النساء إلا بعد زياد وكن إذا أرغمن على الخروج قلن‏:‏ لولا التعرية لسارعنا‏.‏

ومن مشاهير فرسان الخوارج‏:‏ عمرو القنا من بني سعد بن زيد مناة وعبيدة بن هلال من بني يشكر بن بكر بن وائل وهو الذي طعن صاحب المهلب في فخذه فشكها مع السرج وهما اللذان يقول فيهما ابن المنجب السدوسي من فرسان المهلب وكان قال له مولاه خلاج‏:‏ وددت أنا فضضنا عسكرهم فأستلب منه جاريتين إحداهما لك وأخرى لي -‏:‏ أخلاج إنك لن تعانق طفلة شرقا بها الجادي كالتمثال حتى تعانق في الكتيبة معلماً عمرو القنا وعبيدة بن هلال وترى المقعطر في الكتيبة مقدماً في عصبة قسطوا مع الضلال والمقعطر‏:‏ من مشاهير فرسانهم‏.‏

وقطري‏:‏ أنجدهم قاطبة‏.‏

وصالح بن مخراق‏:‏ من بهمهم وكذلك سعد الطلائع‏.‏

ولما اختلف أمر الخوارج وانحاز قطري فيمن معه وبقي عبد ربه قال المهلب لأصحابه‏.‏

إن الله قد أراحكم من أقران أربعة‏:‏ قطري بن الفجاءة واصلح بن مخراق‏.‏

وعبيدة بن هلال وسعد الطلائع وإنما بين أيديكم عبد ربه في خشار من خشار الشيطان‏.‏

وكانت الخوارج تقاتل على القدح يؤخذ منها والسوط والعلق الخسيس أشد قتال وسقط في بعض أيامهم رمح لرجل من مراد من الخوارج فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح والقتل وذلك مع المغرب والمرادي يرتجز‏:‏ الليل ليل فيه ويل ويل وسال بالقوم الشراة السيل إن جاز للأعداء فينا قول وتعرقت مقالة الخوارج على أربعة أضرب فقال نافع بن الزرق باستعراض الناس والبراءة من عثمان وعلي وطلحة والزبير واستحلال الأمانة وقتل الأطفال‏.‏

وقال أبو بيهس هيصم بن جابر الضبعي‏:‏ إن أعداءنا كأعداء الرسول صلى الله عليه وسلم يحل لنا المقام فيهم كما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام المسلمون بين المشركين وأقول‏:‏ إن مناكحتهم ومواريثهم تجوز لأنهم منافقون يظهرون الإسلام وأن حكمهم عند الله حكم المشركين‏.‏

وقال عبد الله بن إباض‏:‏ لا نقول فيمن خالفنا إنه مشرك لأن معهم التوحيد والإقرار بالكتاب المقدس والرسول وإنما هم كفار للنعم ومواريثهم ومناكيحهم والإقامة معهم حل ودعوة الإسلام تجمعهم‏.‏

وقالت الصفرية بقول عبد الله بن إباض ورأت القعود حتى صارت عامتهم قعداً‏.‏

وإنما سموا صفرية لإصفرار وجوههم وقيل لأنهم أصحاب ابن الصفار‏.‏


كتاب الزبرجدة في الأجواد والأصفاد

قال الفقيه أبو عمرو أحمد بن محمد بن عبد ربه تغمده الله برحمته‏:‏ قد مضى قولنا في الحروب وما يدخلها من النقص والكمال وتقدم الرجال على منازلهم من الصبر والجلد والعدة والعدد‏.‏

ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الأجواد والأصفاد إذ كان أشرف ملابس الدنيا وأزين حللها وأجلها لحمد وأدفعها لذم وأسترها لعيب كرم طبيعة يتحلى بها السمح السري والجواد السخي‏.‏

ولو لم يكن في الكرم إلا أنه صفة من صفات الله تعالى تسمى بها فهو الكريم عز وجل‏.‏

ومن كان كريماً من خلقه فقد تسمى باسمه واحتذى على صفته‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه‏.‏

وفي الحديث المأثور‏:‏ الخلق عيال الله فأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله‏.‏

وفي الحسن والحسين عليهما السلام لعبد الله بن جعفر‏:‏ إنك قد أسرفت في بذل المال‏.‏

قال‏:‏ بأبي وأمي أنتما إن الله قد عودني أن يتفضل علي وعودته أن أتفضل على عباده فأخاف أن أقطع العادة فيقطع عني‏.‏

وقال المأمون لمحمد بن عباد المهلبي‏:‏ أنت متلاف‏.‏

قال‏:‏ منع الجود سوء ظن بالمعبود‏.‏

يقول الله وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً‏.‏