الجزء الأول - كتاب الزبرجدة في الأجواد والأصفاد - مدح الكرم وذم البخل

مدح الكرم وذم البخل

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اصطناع المعروف يقي مصارع السوء‏.‏

وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ إن الله يحب الجود ومكارم الأخلاق ويبغض سفسافها‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لقوم من العرب‏:‏ من سيدكم قالوا‏:‏ الجد ابن قيس على بخل فيه‏.‏

فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ وأي داء أدوى من البخل يقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ‏"‏‏.‏

وقال أكثم بن صيفى حكيم العرب‏:‏ ذللوا أخلاقكم للمطالب وقودوها إلى المحامد وعلموها المكارم ولا تقيموا على خلق تذموه من غيركم وصلوا من رغب إليكم وتحلوا بالجود يكسبكم المحبة ولا تقتعدوا البخل فتتعجلوا الفقر‏.‏

أخذه الشاعر فقال‏:‏ أمن خوف فقر تعجلته وأخرت إنفاق ما تجمع فصرت الفقير وأنت الغني وما كنت تعدو الذي تصنع وكتب رجل من البخلاء إلى رجل من الأسخياء يأمره بالإبقاء على نفسه ويخوفه بالفقر‏.‏

فرد عليه‏:‏ ‏"‏ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً ‏"‏ وإني أكره أن أترك أمراً قد وقع لأمر لعله لا يقع‏.‏

وكان خالد بن عبد الله القسري يقول على المنبر‏:‏ أيها الناس عليكم بالمعروف فإن الله لا يعدم فاعله جوازيه‏.‏

وما ضعفت الناس عن أدائه قوي الله على جزائه‏.‏

وأخذه من قول الحطيئة‏:‏ من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس وأخذه الحطيئة من بعض الكتب القديمة‏.‏

يقول الله تعالى فيما أنزله على داود عليه السلام‏:‏ من يفعل الخير يجده عندي لا يذهب العرف بيني وبين عبدي‏.‏

وكان سعيد بن العاص يقول على المنبر‏:‏ من رزقه الله رزقاً حسناً فلينفق منه سراً وجهراً حتى يكون أسعد الناس به فإنما يترك ما يترك لأحد رجلين‏:‏ إما لمصلح فلا يقل عليه شيء وإما لمفسد فلا يبقى له شيء‏.‏

أخذه الشاعر فقال‏:‏ أسعد بمالك في الحياة فإنما يبقى خلافك مصلح أو مفسد وقال أبو ذر رضي الله عنه‏:‏ إن لك في مالك شريكين‏:‏ الحدثان والوارث فإن استطعت ألا تكون أبخس الشركاء حظاً فافعل‏.‏

وقال بزرجمهر الفارسي‏:‏ إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها فإنها لا تفنى وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنها لا تبقى‏:‏ أخذ الشاعر هذا المعنى فقال‏:‏ لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة فليس ينقصها التبذير والسرف وإن تولت فأحرى أن تجود بها فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف وكان كسرى يقول‏:‏ عليكم بأهل السخاء والشجاعة فإنهم أهل حسن الظن بالله تعالى ولو أن أهل البخل لم يدخل عليهم من ضرر بخلهم ومذمة الناس لهم وإطباق القلوب على بغضهم إلا سوء ظنهم بربهم في الخلف لكان عظيماً‏.‏

وأخذ هذا المعنى محمود الوراق فقال‏:‏ من ظن بالله خيراً جاد مبتدئاً والبخل من سوء ظن المرء بالله محمد بن يزيد بن عمر بن عبد العزيز قال‏:‏ خرجت مع موسى الهادي أمير المؤمنين من جرجان فقال لي‏:‏ إما أن تحملني وإما أن أحملك‏.‏

ففهمت ما أراد فأنشدته أبيات ابن صرمة الأنصاري‏:‏ وإن قومكم سادوا فلا تحسدوهم وإن كنتم أهل السيادة فاعدلوا وإن أنتم أعوزتم فتعففوا وإن كان فضل المال فيكم فأفضلوا فأمر لي بعشرين ألفاً‏.‏

وقال عبد الله بن عباس‏:‏ سادات الناس في الدنيا الأسخياء وفي الآخرة الأتقياء‏.‏

وقال أبو مسلم الخولاني‏:‏ ما شيء أحسن من المعروف إلا ثوابه‏.‏

وما كل من قدر على المعروف كانت له نية‏.‏

فإذا اجتمعت القدرة والنية تمت السعادة وأنشد‏:‏ إن المكارم كلها حسن والبذل أحسن ذلك الحسن كم عارف بي لست أعرفه ومخبر عني ولم يرني يأتيهم خبري وإن بعدت داري وبوعد عنهم وطني إني لحر المال ممتهن ولحر عرضي غير ممتهن وقال خالد بن عبد الله القسري‏:‏ من أصابه غبار مركبي فقد وجب علي شكره‏.‏

وقال عمرو بن العاص‏:‏ والله لرجل ذكرني ينام على شقة مرة وعلى شقة أخرى يراني موضعاً لحاجته لأوجب علي حقاً إذا سألنيها مني إذا قضيتها له‏.‏

وقال عبد العزيز بن مروان‏:‏ إذا أمكنني الرجل من نفسه حتى أضع معروفي عنده يده عندي إذا طارقات الهم ضاجعت الفتى وأعمل فكر الليل والليل عاكر وباكرني في حاجة لم يكن لها سواي ولا من نكبة الدهر ناصر فرجت بمالي همه عن خناقه وزايله الهم الطروق المساور وكان له فضل علي بظنه بي الخير إني للذي ظن شاكر وقيل لأبي عقيل البليغ العراقي‏:‏ كيف رأيت مروان بن الحكم عند طلب الحاجة إليه قال‏:‏ رأيت رغبته في الشكر وحاجته إلى القضاء أشد من حاجة صاحب الحاجة‏.‏

أخذه بشار فنظمه فقال‏:‏ مالكي ينشق عن وجهه الجد ب كما انشقت الدجى عن ضياء ليس يعطيك للرجاء ولا الخو ف ولكن يلذ طعم العطاء وقال زياد‏:‏ كفى بالبخل عاراً اسمه لم يقع في حمد قط وكفى بالجود فخراً أن اسمه لم يقع في ذم قط‏.‏

وقال آخر‏:‏ لقد علمت وقد قطعتني عذلاً ماذا من الفضل بين البخل والجود إلا يكن ورق يوماً أروح به للخابطين فإني لين العود قوله‏:‏ إلا يكن ورق يريد المال وضربه مثلاً‏.‏

ويقال‏:‏ أتى فلان فلاناً يختبط ما عنده‏.‏

والاختباط‏:‏ ضرب الشجر ليسقط الورق لتأكله السائمة فجعل طالب الرزق مثل الخابط‏.‏

وقال أسماء بن خارجة‏:‏ ما أحب أن أرد أحداً عن حاجة طلبها‏.‏

لأنه لا يخلو أن يكون كريماً فأصون له عرضه أو لئيماً فأصون عرضي منه‏.‏

وقال أرسطو طاليس‏:‏ من انتجعك من بلاده فقد ابتدأك بحسن الظن بك والثقة بما عندك‏.‏

الترغيب في حسن الثناء واصطناع المعروف قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند ربه فانظروا ما يتبعه من حسن الثناء‏.‏

وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري‏:‏ اعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس واعلم أن مالك عند الله مثل ما للناس عندك‏.‏

وقيل لبعض الحكماء‏:‏ ما أفادك الدهر قال العلم به‏.‏

قيل‏:‏ فما أحمد الأشياء قال‏:‏ أن تبقى للإنسان أحدوثة حسنة‏.‏

وقال بعض أهل التفسير في قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ واجعل لي لسان صدق في الآخرين ‏"‏‏.‏

إنه أراد حسن الثناء من بعده‏.‏

وقال أكثم بن صيفي‏:‏ إنما أنتم أخبار فطيبوا أخباركم‏.‏

أخذ هذا المعنى حبيب الطائي فقال‏:‏ وما ابن آدم إلا ذكر صالحة أو ذكر سيئة يسري بها الكلم أما سمعت بدهر باد أمته جاءت بأخبارها من بعدها أمم وقال أبو بكر محمد بن دريد‏:‏ وإنما المرء حديث بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى وقالوا‏:‏ الأيام مزارع فما زرعت فيها حصدته‏.‏

ومن قولنا في هذا المعنى وغيره من مكارم الأخلاق‏:‏ يا من تجلد للزما ن أما زمانك منك أجلد سلط نهاك على هوا ك وعد يومك ليس من غد إن الحياة مزارع فازرع بها ما شئت تحصد والناس لا يبقى سوى آثارهم والعين تفقد والمال إن أصلحته يصلح وإن أفسدت يفسد والعلم ما وعت الصدو ر وليس ما في الكتب يخلد وقال الأحنف بن قيس‏:‏ ما أدخرت الآباء للأبناء ولا أبقت الموتى للأحياء شيئاً أفضل من اصطناع المعروف عند ذوي الأحساب والآداب‏.‏

وقالوا‏:‏ تربيب المعروف أولى من اصطناعه لأن اصطناعه نافلة وتربيبه فريضة‏.‏

وقالوا‏:‏ أحي معروفك بإماتة ذكره وعظمه بالتصغير له‏.‏

وقالت الحكماء‏:‏ من تمام كرم النعم التغافل عن حجته والإقرار بالفضيلة لشاكر نعمته‏.‏

وقالوا‏:‏ للمعروف خصال ثلاث‏:‏ تعجيله وستره وتيسيره فمن أخل بواحدة منها فقد بخس المعروف حقه وسقط عنه الشكر‏.‏

وقيل لمعاوية‏:‏ أي الناس أحب إليك فقال‏:‏ من كانت له عندي يد صالحة‏.‏

قيل‏:‏ فإن لم تكن له فقال‏:‏ فمن كانت لي عنده يد صالحة‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من عظمت نعمة الله عنده عظمت مؤونة الناس عليه فإن لم يقم بتلك المؤونة عرض النعمة للزاول‏.‏

أبو اليقظان قال‏:‏ أخذ عبيد الله بن زياد عروة بن أدية أخا أبي بلال وقطع يده ورجله وصلبه على باب داره‏.‏

فقال لأهله وهو مصلوب‏:‏ انظروا إلى هؤلاء الموكلين بي فأحسنوا إليهم فإنهم أضيافكم‏.‏

ابن المبارك عن حميد عن الحسن قال‏:‏ لأن أقضي حاجة لأخ لي أحب إلي من عبادة سنة‏.‏

وقال إبراهيم بن السندي‏:‏ قلت لرجل من أهل الكوفة من وجوه أهلها كان لا يجف لبده ولا يستريح قلبه ولا تسكن حركته في طلب حوائج الرجال وإدخال المرافق على الضعفاء وكان رجلاً مفوهاً فقلت له‏:‏ أخبرني عن الحالة التي خففت عنك النصب وهونت عليك التعب في القيام بحوائج الناس ما هي قال‏:‏ قد والله سمعت تغريد الطير بالأسحار في فروع الأشجار وسمعت خفق أوتار العيدان وترجيع أصوات القيان فما طربت من صوت قط طربي من ثناء حسن بلسان حسن على رجل قد أحسن ومن شكر حر لمنعم حر ومن شفاعة محتسب لطالب شاكر‏.‏

قال إبراهيم‏:‏ فقلت له‏:‏ لله أبوك‏!‏ لقد حشيت كرماً‏.‏

إسماعيل بن مسرور عن جعفر بن محمد عليه السلام قال‏:‏ إن الله خلق خلقاً من رحمته برحمته لرحمته وهم الذين يقضون الحوائج للناس فمن استطاع منكم أن يكون منهم فليكن‏.‏