الجزء الأول - كتاب الجمانة في الوفود - وفود جرير على عبد الملك بن مروان

وفود جرير على عبد الملك بن مروان

لما مدح جرير بن الخطفي الحجاج بن يوسف بشعره الذي يقول فيه‏:‏ أم من يغار على النساء حفيظة إذ لا يثقن بغيرة الأزواج وقوله‏:‏ دعا الحجاج مثل دعاء نوح فأسمع ذا المعارج فاستجابا قال له الحجاج‏:‏ إن الطاقة تعجز عن المكافأة ولكني موفدك على أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فسر إليه بكتابي هذا‏.‏

فسار إليه ثم استأذنه في الإنشاد فأذن له فقال‏:‏ أتصحو بل فؤادك غير صاحي قال له عبد الملك‏:‏ بل فؤادك‏.‏

فلما انتهى إلى قوله‏:‏ تعزت أم حزرة ثم قالت رأيت الواردين ذوي امتياح ثقي بالله ليس له شريك ومن عند الخليفة بالنجاح سأشكر إن رددت إلي ريشي وأثبت القوادم في جناحي ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح ارتاح عبد الملك وكان متكئاً فاستوى جالساً ثم قال‏:‏ من مدحنا منكم فليمدحنا بمثل هذا أو ليسكت ثم قال له‏:‏ يا جرير أترى أم حزرة ترويها مائة ناقة من نعم كلب قال‏:‏ إذا لم تروها يا أمير المؤمنين فلا أرواها الله‏.‏

فأمر له بمائة ناقة من نعم كلب كلها سود الحدقة فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنها أباق ونحن مشايخ وليس بأحدنا فضل عن راحلته فلو أمرت بالرعاء فأمر له بثمانية من الرعاء‏.‏

وكانت بين يدي عبد الملك صحاف من فضة يقرعها بقضيب في يده فقال له جرير‏:‏ والمحلب يا أمير المؤمنين وأشار إلى صحفة منها فنبذها إليه بالقضيب وقال‏:‏ خذها لا نفعتك‏.‏

ففي ذلك يقول جرير‏:‏ أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ما في عطائهم من ولا شرف الوفود على عمر بن عبد العزيز وفود جرير عن أهل الحجاز على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قدم جرير بن الخطفي على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن أهل الحجاز فاستأذنه في الشعر فقال‏:‏ ما لي وللشعر يا جرير إني لفي شغل عنه قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنها رسالة عن أهل الحجاز قال‏:‏ فهاتها إذاً فقال‏:‏ كم من ضرير أمير المؤمنين لدى أهل الحجاز دهاه البؤس والضرر أصابت السنة الشهباء ما ملكت يمينه فحناه الجهد والكبر ومن قطيع الحشا عاشت مخبأة ما كانت الشمس تلقاها ولا القمر لما اجتلتها صروف الدهر كارهة قامت تنادي بأعلى الصوت يا عمر وفود دكين الراجز على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال دكين بن رجاء الفقيمي الراجز‏:‏ مدحت عمر بن عبد العزيز وهو والي المدينة فأمر لي بخمس عشرة ناقة كرائم صعاباً فكرهت أن أرمي بها الفجاج فتنشر علي ولم تطب نفسي ببيعها فقدمت علينا رفقة من مضر فسألتهم الصحبة فقالوا‏:‏ إن خرجت الليلة فقلت‏:‏ إني لم أودع الأمير ولا بد من وداعه قالوا‏:‏ فإن الأمير لا يحجب عن طارق ليل فاستأذنت عليه فأذن لي وعنده شيخان لا أعرفهما فقال لي‏:‏ يا دكين إن لي نفساً تواقة فإن أنا صرت إلى أكثر مما أنا في فبعين ما أرينك قلت‏:‏ أشهد لي بذلك أيها الأمير قال‏:‏ إني أشهد الله قلت‏:‏ ومن خلقه قال‏:‏ هذين الشيخين قلت لأحدهما‏:‏ من أنت يرحمك الله أعرفك قال‏:‏ سالم بن عبد الله فقلت‏:‏ لقد استسمنت الشاهد وقلت للآخر‏:‏ من أنت يرحمك الله قال‏:‏ أبو يحيى مولى الأمير وكان مزاحم يكنى أبا يحيى‏.‏

قال دكين‏:‏ فخرجت بهن إلى بلدي فرمى الله في أذنابهن بالبركة حتى اتخذت منهن الضياع والربع والغلمان فإني لبصحراء فلج إذا بريد يركض إلى الشام فقلت له‏:‏ هل من مغربة خبر قال‏:‏ مات سليمان بن عبد الملك قلت‏:‏ فمن القائم بعده قال‏:‏ عمر بن عبد العزيز‏.‏

قال‏:‏ فأنخت قلوصي فألقيت عليها أداتي وتوجهت عنده فلقيت جريراً في الطريق جائياً من عنده فقلت‏:‏ من أيا أبا حزرة قال‏:‏ من عند أمير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء قلت‏:‏ فما ترى فإني خرجت إليه قال‏:‏ عول عليه في مال ابن السبيل كما فعلت‏.‏

فانطلقت فوجدته قاعداً على كرسي في عرصة داره قد أحاط الناس به لم أجد إليه يا عمر الخيرات والمكارم وعمر الدسائع العظائم إني امرؤ من قطن بن دارم أطلب حاجي من أخي مكارم إذ ننتجي والله غير نائم في ظلمة الليل وليلي عاتم عند أبي يحيى وعند سالم فقام أبو يحيى ففرج لي وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن لهذا البدوي عندي شهادة عليك قال‏:‏ أعرفها ادن مني يا دكين أنا كما ذكرت لك أن لي نفساً تواقة وأن نفسي تاقت إلى أشرف منازل الدنيا فلما أدركتها وجدتها تتوق إلى الآخرة والله ما رزأت من أمور الناس شيئاً فأعطيك منه وما عندي إلا ألفا درهم أعطيك أحدهما فأمر لي بألف درهم‏.‏

فوالله ما رأيت ألفاً كانت أعظم بركة منها‏.‏