الجزء الأول - كتاب الجمانة في الوفود - وفود كثير والأحوص على عمر بن العزيز رضي الله عنه

وفود كثير والأحوص على عمر بن العزيز رضي الله عنه

حماد الراوية قال‏:‏ قال لي كثير عزة‏:‏ ألا أخبرك عما دعاني إلى ترك الشعر قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ شخصت أنا والأحوص ونصيب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وكل واحد منا يدل عليه بسابقة وإخاء قديم ونحن لا نشك أنه سيشر كنا في خلافته فلما رفعت لنا أعلام خناصرة لقينا مسلمة بن عبد الملك وهو يومئذ فتى العرب فسلمنا فرد ثم قال‏:‏ أما بلغكم أن إمامكم لا يقبل الشعر قلنا ما توضح إلينا خبر حتى انتهينا إليك ووجمنا وجمة عرف ذلك فينا فقال‏:‏ إن يك ذو دين بنى مروان قد ولي وخشيتم حرمانه فإن ذا دنياها قد بقي ولكم عندي ما تحبون وما ألبث حتى أرجع إليكم وأمنحكم ما أنتم أهله‏.‏

فلما قدم كانت رحالنا عنده بأكرم منزل وأكرم منزول عليه فأقمنا عنده أربعة أشهر يطلب لنا الإذن هو وغيره فلا يؤذن لنا إلى أن قلت في جمعة من تلك الجمع‏:‏ لو أني دنوت من عمر فسمعت كلامه فحفظته كان ذلك رأيا ففعلت‏.‏

فكان مما حفظت من كلامه‏:‏ لكل سفر زاد لا محالة فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة بالتقوى وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من ثوابه أو عقابه فترغبوا وترهبوا ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم وتنقادوا لعدوكم في كلام كثير لا أحفظه‏.‏

ثم قال‏:‏ أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي وتظهر عيلتي وتبدو مسكنتي في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق‏.‏

ثم بكى حتى ظننت أنه قاض نحبه وارتج المسجد وما حوله بالبكاء فانصرفت إلى صاحبي فقلت لهما‏:‏ خذا في شرج من الشعر غير ما كنا نقول لعمر وآبائه فإن الرجل آخري وليس بدنيوي‏.‏

إلى أن استأذن لنا مسلمة في يوم جمعة ما أذن للعامة فلما دخلت سلمت ثم قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين طال الثواء وقلت الفائدة وتحدثت بجفائك إيانا وفود العرب قال يا كثير ‏"‏ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ‏"‏ أفي واحد من هؤلاء أنت قلت‏:‏ بلى ابن سبيل منقطع به وأنا ضاحك قال‏:‏ ألست ضيف أبي سعيد قلت‏:‏ بلى قال‏:‏ ما أرى ضيف أبي سعيد منقطعاً به قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين أتأذن لي في الإنشاء قال‏:‏ نعم ولا تقل إلا حقاً فقلت‏:‏ وليت فلم تشتم عليا ولم تخف بريا ولم تقبل إشارة مجرم وصدقت بالفعل المقال مع الذي أتيت فأمسى راضياً كل مسلم ألا إنما الفتى بعد زيغة من الأود البادي ثقاف المقوم وقد لبست لبس الهلوك ثيابها تراءى لك الدنيا بكف ومعصم وتومض أحياناً بعين مريضة وتبسم عن مثل الجمان المنظم فأعرضت عنها مشمئزاً كأنما سقتك مدوفاً من سمام وعلقم وقد كنت من أجبالها في ممنع ومن بحرها في مزبد الموج مفعم وما زلت تواقاً إلى كل غاية بلغت بها أعلى البناء المقوم تركت الذي يفنى وإن كان مونقا وآثرت ما يبقى برأي مصمم وأضررت بالفاني وشمرت للذي أمامك في يوم من الهول مظلم ومالك إذ كنت الخليفة مانع سوى الله من مال رغيب ولا دم سما لك هم في الفؤاد مؤرق بلغت به أعلى المعالي بسلم فما بين شرق الأرض والغرب كلها مناد ينادي من فصيح وأعجم يقول‏:‏ أمير المؤمنين ظلمتني بأخذ للدينار ولا أخذ درهم ولا بسط كف لامرئ غير مجرم ولا السفك منه ظالماً ملء محجم ولو يستطيع المسلمون لقسموا لك الشطر من أعمارهم غير ندم فأربح بها من صفقة لمبايع وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم قال‏:‏ فأقبل علي وقال‏:‏ إنك مسؤول عما قلت‏.‏

ثم تقدم الأحوص فاستأذنه في الإنشاد فقال‏:‏ قل ولا تقل إلا حقاً فقال‏:‏ وما الشعر إلا حكمة من مؤلف بمنطق حق أو بمنطق باطل فلا تقبلن إلا الذي وافق الرضا ولا ترجعنا كالنساء الأرامل فقلنا ولم نكذب بما قد بدا لنا ومن ذا يرد الحق من قول قائل ومن ذا يرد السهم بعد مضائه على فوقه إذ عار من نزع نابل ولولا قد عودتنا خلائف غطاريف كانوا كالليوث البواسل لما وخدت شهراً برحلى شملة تقدمتون البيد بين الرواحل ولكن رجونا منك مثل الذي به حبينا زماناً من ذويك الأوائل فإن لم يكن للشعر عندك موضع وإن كان مثل الدر من نظم قائل وكان مصيباً صادقاً لا يعيبه سوى أنه يبنى بناء المنازل فإن لنا قربى ومحض مودة وميراث آباء مشوا بالمناصل فذادوا عدو السلم عن عقر دارهم وأرسوا عمود الدين بعد التمايل وقبلك ما أعطى الهنيدة جلة على الشعر كعباً من سديس وبازل رسول الإله المستضاء بنوره عليه سلام الضحى والأصائل فقال‏:‏ إنك مسؤول عما قلت‏.‏

قم تقدم نصيب فاستأذنه في الإنشاد فلم يأذن له وأمره بالغزو على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ابن الكبى‏:‏ لما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وفدت إليه الشعراء كما كانت تفد إلى الخلفاء قبله فأقاموا ببابه أياماً لا يأذن لهم بالدخول حتى قدم عون بن عبد الله بن عنبة بن مسعود على عمر بن عبد العزيز وعليه عمامة قد أرخى طرفيها وكانت له منه مكانة فصاح به جرير‏:‏ يا أيها الرجل المرخي عمامته هذا زمانك إني قد مضى زمني أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه أني لدى الباب كالمصفود في قرن وحش المكانة من أهلي ومن لدى نائي المحلة عن داري وعن وطني قال‏:‏ نعم أبا حزرة ونعمى عين‏.‏

فلما دخل على عمر قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الشعراء ببابك وأقوالهم باقية وسنانهم مسنونة قال‏:‏ يا عون‏:‏ مالي وللشعراء قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ قد مدح وأعطى وفيه أسوة لكل مسلم قال‏:‏ ومن مدحه قلت‏:‏ عباس بن مرداس فكساه حلة قطع بها لسانه قال‏:‏ وتروي قول قلت‏:‏ نعم‏:‏ ونورت بالبرهان أمراً مدمساً وأطفأت بالبرهان ناراً مضرما فمن مبلغ عني النبي محمداً وكل امرئ يجزى بما قد تكلما تعالى علواً فوق عرش إلهنا وكان مكان الله أعلى وأعظما قال‏:‏ صدقت فم بالباب منهم قلت‏:‏ ابن عمك عمر بن أبي ربيعة قال‏:‏ لا قرب الله قرابته ولا حيا وجهه أليس هو القائل‏:‏ ألا ليت أني يوم حانت منيتي شممت الذي ما بين عينيك والفم وليت طهوري كان ريقك كله وليت حنوطي من مشاشك والدم ويا ليت سلمى في القبو ضجيعتي هنالك أو في جنة أو جهنم فليته والله تمنى لقاءها في الدنيا ويعمل عملاً صالحاً والله لا دخل علي أبداً فمن بالباب غير من ذكرت قلت‏:‏ جميل بن معمر العذري قال‏:‏ هو الذي يقول‏:‏ ألا ليتنا نحيا جميعاً وإن نمت يوافي لدى الموتى ضريحي ضريحها فما أنا في طول الحياة براغب إذا قيل قد سوي عليها صفيحها أظل نهاري لا أراها ويلتقي مع الليل روحي في المنام وروحها لو يسمعون كما سمعت حديثها خروا لعزة راكعين سجودا اعزب به فمن بالباب غير من ذكرت قلت‏:‏ الأحوص الأنصاري قال‏:‏ أبعد الله ومحقه أليس هو القائل وقد أفسد على أهل المدينة جارية عرب بها منه‏:‏ الله بيني وبين سيدها يفر عني بها وأتبع اعزب به فمن بالباب غير من ذكرت قلت‏:‏ همام بن غالب الفرزدق قال‏:‏ أليس هو القائل يفخر بالزنى‏:‏ هما دلتاني من ثمانين قامة كما انقض باز أقتم الريش كاسره فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا أحي يرجى أم قتيل نحاذره وأصبحت في القوم الجلوس وأصبحت مغلقة دوني عليها دساكره فقلت ارفعا الأسباب لا يشعروا بنا ووليت في أعقاب ليل أبادره اعزب به فوالله لا دخل علي أبداً فمن بالباب غير من ذكرت قلت‏:‏ الأخطل التغلبي قال‏:‏ أليس هو القائل‏:‏ فلست بصائم رمضان عمري ولست بآكل لهم الأضاحي ولست بزاجر عنسا بكوراً إلى بطحاء مكة للنجاح ولكني سأشربها شمولاً وأسجد عند منبلج الصباح اعزب به فوالله لا وطئ لي بساطاً أدباً وهو كافر فمن الباب غير من ذكرت قلت‏:‏ جرير بن الخطفي قال‏:‏ أليس هو القائل‏:‏ لولا مراقبة العيون أريتنا مقل المها وسوالف الآرام هل ينهينك أن قتلن مرقشا أو ما فعلن بعروة بن حزام ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأقوام طرقتك صائدة القول وليس ذا حين الزيارة فارجعي بسلام فإن كان ولا بد فهذا فأذن له فخرجت إليه فقلت‏:‏ ادخل أبا حزرة فدخل وهو يقول‏:‏ إن الذي بعث النبي محمداً جعل الخلافة في إمام عادل وسع الخلائق عدله ووفاؤه حتى أرعوى وأقام ميل المائل والله أنزل في القرآن فريضة لابن السبيل وللفقير العائل إني لأرجو منك خيراً عاجلاً والنفس مولعة بحب العاجل فلما مثل بين يديه قال‏:‏ اتق الله يا جرير ولا تقل إلا حقاً فأنشأ يقول‏:‏ يدعوك دعوة ملهوف كأن به خبلا من الجن أو مسا من البشر خليفة الله ماذا تأمرن بنا لنا إليكم ولا في دار منتظر ما زلت بعدك في هم يؤرقني قد طال في الحي إصعادي ومنحدري لا ينفع الحاضر المجهود بادينا ولا يعود لنا باد على حضر إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا من الخليفة ما نرجو من المطر نال الخلافة إذ كانت له قدراً كما أتى ربه موسى على قدر هذي الأرامل قد قضيت حاجتها فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر فقال‏:‏ يا جرير والله لقد وليت هذا الأمر وأملك إلا ثلثمائة فمائة أخذها عبد الله ومائة أخذتها أم عبد الله يا غلام أعطه المائة الباقية فقال‏:‏ والله يا أمير المؤمنين إنها لأحب مال إلي كسبته ثم خرج فقالوا له‏:‏ ما وراءك قال‏:‏ ما يسوؤكم خرجت من عند أمير المؤمنين يعطى الفقراء ويمنع الشعراء وإني عنه لراض ثم أنشأ يقول‏:‏ رأيت رقى الشيطان لا تستفزه وقد كان شيطاني من الجن راقياً‏.‏