الجزء الأول - كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك - مدح الملوك والتزلف إليهم

مدح الملوك والتزلف إليهم

في سير العجم أن أردشير بن يزدجرد لما استوثق له أمره جمع الناس فخطبهم خطبة حضهم فيها على الألفة والطاعة وحذرهم المعصية ومفارقة الجماعة وصنف لهم الناس أربعة أصناف فخروا له سجداً‏.‏

وتكلم متكلمهم فقال‏:‏ لا زلت أيها الملك محبواً من الله بعز النصر ودرك الأمل ودوام العافية وتمام النعمة وحسن المزيد ولا زلت تتابع لديك المكرمات وتشفع إليك الذمامات حتى تبلغ الغاية التي يؤمن زوالها ولا تنقطع زهرتها في دار القرار التي أعدها الله لنظرائك من أهل الزلفى عنده والحظوة لديه ولا زال ملكك وسلطانك باقيين بقاء الشمس والقمر زائدين زيادة البحور والأنهار حتى تستوي أقطار الأرض كلها في علوك عليها ونفاذ أمرك فيها فقد أشرق علينا من ضياء نورك ما عمنا عموم ضياء الصبح ووصل إلينا من عظيم رأفتك ما اتصل بأنفسنا اتصال النسيم فأصبحت قد جمع الله بك الأيادي بعد افتراقها وألف بين القلوب بعد تباغضها وأذهب عنا الإحن والحسائف بعد توقد نيرانها بفضلك الذي لا يدرك بوصف ولا يحد بنعت‏.‏

فقال أردشير‏:‏ طوبى للممدوح مستحقاً وللداعي إذا كان للإجابة أهلاً‏.‏

ودخل حسان بن ثابت على الحارث الجفني فقال‏:‏ أنعم صباحاً أيها الملك السماء غطاؤك والأرض وطاؤك ووالدي فداؤك أنى يناوئك المنذر فوالله لقذالك أحسن من وجهه ولأمك أحسن من أبيه ولظلك خير من شخصه ولصمتك أبلغ من كلامه ولشمالك خير من يمينه‏.‏

ثم أنشأ يقول‏:‏ ونبئت أن أبا منذر يساميك للحدث الأكبر قذالك أحسن من وجهه وأمك خير من المنذر ويسرى يديك إذا أعسرت كيمنى يديه فلا تمتر ودخل خالد بن عبد الله القسري على عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين من تكون الخلافة قد زانته فأنت قد زنتها ومن تكون شرفته فأنت قد شرفتها وأنت كما قال الشاعر‏:‏ وإذا الدر زان حسن وجوه كان للدر حسن وجهك زينا‏.‏

فقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله‏:‏ أعطي صاحبكم مقولاً ولم يعط معقولاً‏.‏

ذكر بن أبي طاهر قال‏:‏ دخل المأمون بغداد فتلقاه وجوه أهلها فقال له رجل منهم‏:‏ يا أمير المؤمنين بارك الله لك في مقدمك وزادك في نعمتك وشكرك على رعيتك تقدمت من قبلك وأتعبت من بعدك وآيست أن يعاين مثلك أما فيما مضى فلا نعرفه وأما فيما بقي فلا نرجوه فنحن جميعاً ندعو لك ونثني عليك خصب لنا جنابك وعذب شرابك وحسنت نظرتك وكرمت مقدرتك جبرت الفقير وفككت الأسير فأنت يا أمير المؤمنين كما قال الأول‏:‏ ما زلت في البذل للنوال وإط لاق لعان بجرمه علق حتى تمنى البراء أنهم عندك أسرى في القيد والحلق ودخل رجل على خالد بن عبد الله القسري فقال‏:‏ أيها الأمير إنك لتبذل ما جل وتجبر ما اعتل وتكثر ما قل ففضلك بديع ورأيك جميع‏.‏

وقال رجل للحسن بن سهل‏:‏ لقد صرت لا أستكثر كثيرك ولا أستقل قليلك قال‏:‏ وكيف ذلك قال‏:‏ لأنك أكثر من كثيرك ولأن قليلك أكثر من كثير غيرك‏.‏

وقال خالد بن صفوان لوال دخل عليه‏:‏ قدمت فأعطيت كلاً بقسطه من نظرك ومجلسك وصلاتك وعداتك حتى كأنك من كل أحد وكأنك لست من أحد‏.‏

وقال الرشيد لبعض الشعراء‏:‏ هل أحدثت فينا شيئاً قال‏:‏ يا أمير المؤمنين المديح كله دون قدرك والشعر فيك فوق قدري ولكني أستحسن قول العتابي‏:‏ فت الممادح إلا أن ألسننا مستنطقات بما تخفي الضمايير مدح خالد بن صفوان رجلاً فقال‏:‏ قريع المنطق جزيل الألفاظ عربي اللسان قليل الحركات حسن الإشارات حلو الشمائل كثيرة الطلاوة صموتاً قؤولاً يهنأ الجرب ويداوي الدبر ويقل الحز ويطبق المفصل لم يكن بالبرم في مروءته ولا بالهذر في منطقه متبوعاً غير تابع‏.‏

كأنه علم في رأسه نار دخل سهل بن هارون على الرشيد فوجده يضاحك ابنه المأمون فقال‏:‏ اللهم زده من الخيرات وابسط له في البركات حتى يكون كل يوم من أيام موفياً على أمسه مقصراً على غده فقال له الرشيد‏:‏ يا سهل من روى من الشعر أحسن وأجوده ومن الحديث أصحه وأبلغه ومن البيان أفصحه وأوضحه إذا رام أن يقول لم يعجزه قال سهل‏:‏ يا أمير المؤمنين ما ظننت أن أحداً تقدمني سبقني إلى هذا المعنى فقال‏:‏ بل أعشى همدان حيث يقول‏:‏ وجدتك أمس خير بني لؤي وأنت اليوم خير منك أمس وأنت غداً تزيد الخير ضعفاً كذاك تزيد سادة عبد شمس وكان المأمون قد استثقل سهل بن هارون فدخل عليه يوماً والناس عنده على منازلهم فتكلم المأمون بكلام ذهب فيه كل مذهب فلما فرغ أقبل سهل بن هارون على ذلك الجمع فقال لهم‏:‏ ما لك تسمعون ولا تعون وتفهمون ولا تعجبون وتعجبون ولا تصفون أما والله إنه ليقول ويفعل في اليوم القصير مثل ما قالت وفعلت بنو مروان في الدهر الطويل عربكم كعجمهم وعجمهم كعرب بني تميم ولكن كيف يشعر بالدواء من لا يعرف الداء قال‏:‏ فرجع له المأمون إلى رأيه الأول‏.‏

وكان الحجاج بن يوسف يستثقل زياد بن عمرو العتكي فلما أثنى الوفد على الحجاج عند عبد الملك بن مروان قال زياد‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الحجاج سيفك الذي لا ينبو وسهمك الذي لا يطيش وخادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم‏.‏

فلم يكن بعد ذلك أحد أخف على الحجاج ولا أحب إليه منه‏.‏

حدث الشيباني قال‏:‏ أقام المنصور صالحاً ابنه فتكلم في أمر فأحسن فقال شبيب بن شيبة‏:‏ تالله ما رأيت كاليوم أبين بياناً ولا أعرب لساناً ولا أربط جأشاً ولا أبل ريقاً ولا أحسن طريقاً وحق لمن كان المنصور أباه والمهدي أخاه أن يكون كما قال زهير‏:‏ هو الجواد فإن يلحق بشأوهما على تكاليفه فمثله لحقا أو يسبقاه على ما كان من مهل فمثل ما قدما من صالح سبقا وخرج شبيب بن شيبة من دار الخلافة يوماً فقيل له‏:‏ كيف رأيت الناس قال‏:‏ رأيت الداخل راجياً والخارج راضياً‏.‏

وقيل لبعض الخلفاء‏:‏ إن شبيب بن شيبة يستعمل الكلام ويستعد له فلو أمرته أن يصعد المنبر فجأة لافتضح‏.‏

قال‏:‏ فأمر رسولاً فأخذ بيده فصعده المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ ألا إن لأمير المؤمنين أشباهاً أربعة‏:‏ فمنها الأسد الخادر والبحر الزاخر والقمر الباهر والربيع الناضر فأما الأسد الخادر فأشبه منه صولته ومضاءه وأما البحر الزاخر فأشبه منه جوده وعطاءه وأما القمر الباهر فأشبه منه نوره وضياءه وأما الربيع الناضر فأشبه منه حسنه وبهاءه ثم نزل‏.‏

وقال عبد الملك بن مروان لرجل دخل عليه‏:‏ تكلم بحاجتك قال‏:‏ يا أمير المؤمنين بهر الدرجة وهيبة الخلافة يمنعاني من ذلك قال‏:‏ فعلى رسلك فإنا لا نحب مدح المشاهدة ولا تزكية اللقاء قال‏:‏ يا أمير المؤمنين لست أمدحك ولكن أحمد الله على النعمة فيك قال‏:‏ حسبك فقد أبلغت‏.‏

ودخل رجل على المنصور فقال له‏:‏ تكلم بحاجتك فقال‏:‏ يبقيك الله يا أمير المؤمنين قال‏:‏ تكلم بحاجتك فإنك لا تقدر على هذا المقام كل حين قال‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما أستقصر أجلك ولا أخاف بخلك ولا أغتنم مالك وإن عطاءك لشرف وإن سؤال لزين وما لامرئ بذل وجهه إليك نقص ولا شين‏.‏

قال‏:‏ فاحسن جائزته وأكرمه‏.‏

حدث إبراهيم بن السندي قال‏:‏ دخل العماني على المأمون وعليه قلنسوة طويلة وخف ساذج فقال له‏:‏ إياك أن تنشدني إلا وعليك عمامة عظيمة الكور وخفان رائقان‏.‏

قال‏:‏ فغدا علي في زي الأعراب فأنشده ثم دنا فقبل يده وقال‏:‏ قد والله يا أمير المؤمنين أنشدت يزيد بن الوليد وإبراهيم بن الوليد ورأيت وجوههما وقبلت أيديهما وأخذت جوائزهما وأنشد مروان وقبلت يده وأخذت جائزته وأنشدت المنصور ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته وأنشدت المهدي ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته إلى كثير من أشباه الخلفاء وكبراء الأمراء والسادة الرؤساء فلا والله يا أمير المؤمنين ما رأيت فيهم أبهى منظراً ولا أحسن وجهاً ولا أنعم كفاً ولا أندى راحة منك يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ فأعظم له الجائزة على شعره وأضعف له على كلامه وأقبل عليه بوجهه وبشره فبسطه حتى تمنى جميع من حضره أنهم قاموا مقامه‏.‏

حدث العتبي عن سفيان بن عينية قال‏:‏ قدم على عمر بن عبد العزيز ناس من أهل العراق فنظر إلى شاب منهم يتحوش للكلام فقال‏:‏ أكبروا أكبروا فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه ليس بالسن ولو كان الأمر كله بالسن لكان في المسلمين من أهو أسن منك فقال عمر‏:‏ صدقت رحمك الله تكلم فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنا لم نأتك رغبة ولا رهبة أما الرغبة فقد دخلت علينا منازلنا وقدمت علينا بلادنا وأما الرهبة فقد أمننا الله بعدلك من جورك قال‏:‏ فما أنتم قال‏:‏ وفد الشكر قال‏:‏ فنظر محمد بن كعب القرظي إلى وجه عمر يتهلل فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين لا يغلبن جهل القوم بك معرفتك بنفسك فإن ناساً خدعهم الثناء وغرهم شكر الناس فهلكوا وأنا أعيذك بالله أن تكون منهم فألقى عمر رأسه على صدره‏.‏