الجزء الأول - كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك - فضيلة العلم

فضيلة العلم

حَدَّثنا أيوب بن سُليمان قال حَدَّثنا عامر بن مُعاوية عن أحمد بن عِمْران الأخنس عن الوليد بن صالح الهاشميّ عن عبد الله بن عبد الرحمن الكُوفي عن أبي مِخْنف عن كُميل النِّخعيّ قال‏:‏ أخذ بيدي عليٌّ بن أبي طالب كَرَّم الله وجهه فخرج بي إلى ناحية الجبَّانة فلما أسحر تنفّس الصُّعداء ثم قال‏:‏ يا كُميل إنّ هذه القلوب أوْعِيَة فخيْرها أوعاها فاحفظ عنِّي ما أقول لك‏:‏ الناس ثلاثة‏:‏ عالم ربَّاني ومتعلَّم على سبيل نَجَاة وهَمَج رَعَاع أَتْباع كلّ ناعق مع كلِّ ريح يَميلون لم يَسْتضيئوا بنُور العِلْم وِلم يَلْجأوا إلى رًكْن وَثيق‏.‏

يا كميل‏:‏ العِلم يحْرُسك وأنت تحرُس المال والمال تَنْقصه النّفقة والعِلم يزكو على الإنفاق ومَنفعة المال تزول بزواله‏.‏

يا كميل‏:‏ محبَّة العلْم دين يُدان به يَكِسب الإنسان الطاعةَ في حياته وجَميل الأحدوثة بعد وَفاته‏.‏

والعِلم حاكم والمال محكوم عليه‏.‏

يا كميل‏:‏ مات خُزَّان المال وهم أحياء والعًلماء باقُون ما بَقي الدهر أعيانهمُ مَفْقودة وأمثالهم في القلوب مَوْجودة‏.‏

ها إنّ هاهُنا لعِلْماً جما - وأشار بيده إلى صَدْره - لو وَجدت له حَمَلة بلى أَجد لَقِناً غير مَأمون يستَعمل ‏"‏ آلة ‏"‏ الدَّين للدُّنيا ويَسْتظهر بِنعَم اللهّ على عِباده وبحُجَجه على أَوْليائه أو مُنقاداً لحملَة الحق ولا بَصِيرة له في أحنائه يَنْقدحٍ الشكّ في قَلْبه لأوَّل عارض من شبهة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ‏"‏ أو مَنهوماً باللذّة سَلِسَ القياد للشهوة أو مُغرماً بالجمع والادخار ‏"‏ ليسا من رُعاة الدين ‏"‏ في شيء ‏"‏ أقربُ شبهاً بهما الأنعامُ السائمة كذلك يموت العلم بموت حامِلِيه اللهم بلَى لا تخلو الأرضُ من قائم بحجة اللّه إما ظاهراً مشهوراً وإما خائفاً مَغموراَ لئلاّ تبطل حًجج الله وبيّناته وكم ذا وأين أولئك ‏"‏ واللّه ‏"‏ الأقلُّون عدداَ والأعْظمون ‏"‏ عند اللّه ‏"‏ قدراً بهم يحفظ الله حُجَجَه ‏"‏ وبيِّناته ‏"‏ حتى يُودعوها نُظراءَهم ويَزْرعوها في قلوب أشباههم هَجمَ بهم العِلم على حَقِيقة الإيمان حتى باشَرُوا رُوح اليقين فاستَلانوا ما آستَخْشن المترفون وأنِسوا بما آستَوْحش منه الجاهلون وصَحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحُها مًعَلَّقة بالرَّفيق الأعلى‏.‏

يا كُميل‏:‏ أولئك خُلفاء الله في أَرضه والدُعاة إلى دِينه آه آه شَوْقاً إليهم انصرف ‏"‏ يا كميل ‏"‏ إذا شئت‏.‏

قِيل للخَلِيل بن أحمد‏:‏ أيهما أفضل العِلم أو المال قال‏:‏ العِلم‏.‏

قيل له‏:‏ فما بالُ العُلماء يَزْدحمون على أبواب الملوك والملوك لا يَزْدحمون على أبواب العُلماء قال‏:‏ ذلك لِمَعْرفة العًلماء بحق المُلوك وجَهْلِ الملوك بحق العلماء‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ فَضْل العِلم خيْر من فَضْل العبادة‏.‏

وقال عليه الصلاةُ والسلام‏:‏ إن قَليلَ العَمل مع العِلْم كثير كما أنّ كَثيرَه مع الجهل قليل‏.‏

وقال عليه الصلاةُ والسلام‏:‏ يَحمل هذا العِلم من كل خَلَف عُدُولُه يَنْفون عنهُ تحريف القائلين وآنتحالَ اْلْمُبْطلين وتَأْويل الجاهلين‏.‏

وقال الأحْنَف بن قيس‏:‏ كاد العُلماء أنت يكونوا أرْباباً وكلُّ عزّ لم يُوكَد بعِلْم فإلى ذُلّ ما يَصِير‏.‏

وقال أبو الأسْوَد الدُّؤليّ‏:‏ الملوك حُكّام على الدُنيا والعُلماء حُكام على الملوك وقال أبو قِلابة‏:‏ مَثَل العُلماء في الأرض مَثَل النجوم في السماء مَن تَركها ضَلّ ومَن غابت عنه تَحَيَّر‏.‏

وقال سُفيان بن عُيينة‏:‏ إنما العالم مثلُ السِّراج مَنِ جاءَه اقتبس من عِلْمه ولا يَنْقًصه شيئاً كما لا يَنْقًص القابِس من نُور السّرَاج شيئاَ‏.‏

وفي بعض الأحاديث‏:‏ إنّ الله لا يَقتل نَفْس التّقيِّ العالم جُوعاً‏.‏

وقيل للحَسَن بن أبي الْحَسن البَصْريّ‏:‏ ِ لمَ صارت الْحِرْفة مَقْرونة مِع العِلْم والثروة مَقْرونة مع الجهْل فقال‏:‏ ليس كما قُلتم ولكِنْ طَلَبتم قليلاَ في قَلِيل فأعجزكم‏:‏ طَلبتم المالَ وهو قليل ‏"‏ في الناس ‏"‏ في أهل العِلمْ‏!‏ وهُم قَلِيل ‏"‏ في الناس ‏"‏ ولو نَظرتم إلى من احترق مِن أهل الجَهْل لوَجدتموهم أَكثر‏.‏

وقال الله تبارك وتعالى‏:‏ إنما يخشى الله من عباده العلماء ‏"‏ و ‏"‏ وَمَا يَعْقِلُها إلا العاِلمُون ‏"‏‏.‏

مَنْ مَنعَ الحِكْمَة أَرْبابَها أَصْبح في الحُكْم لهم ظاِلمَا وواضعُ الحِكْمة في غَيْرهم يكون في الحُكْم لها غاشِما سَمِعت يوماً مثلاً سائراً وكنتُ في الشعر له ناظِما‏:‏ لا خير في آْلمَرْءِ إذَا ما غَدَا لا طالباً عِلماً ولا عَاِلمَا وقيل لبَعض العُلماء‏:‏ كيف رأيتَ العِلم قال‏:‏ إَذا اغتممتُ سَلوتي وإذا سَلَوت لذاًتي‏.‏

وأنشد لسابق البرْبريّ‏:‏ العِلم زَيْن وتَشْريفٌ لصاحبه والجَهْل والنَّوك مَقْرُونان في قَرَنِ ولغيره‏:‏ وإذَا طَلَبت العِلِم فاعْلَم أنَّه حِمْل فأَبْصر أيَّ شيء تَحْمِلُ وإذَا علمتَ بأنّه مُتَفاضِلٌ فاشْغل فؤادَك بالذي هو أَفضل الأصمعيّ قال‏:‏ أوّل العِلَم الصَّمْت والثاني الاستماع والثالث اْلْحِفْظ والرابع العَمَل والخامس نَشْرُه‏.‏

ويُقال‏:‏ العالم والمُتَعَلِّم شريكان والباقي هَمَج‏.‏

وأُنشِد‏:‏ وقال مُعاذ بن جَبَل‏:‏ تعلّموا العِلم فإنّ تَعَلَّمه حسنة وطَلَبه عِبَادة وبَذْلَه لأهله قُرْبة والعِلم مَنار سَبيل أهل الجنّة والأنيسُ في الوَحْشة والصاحب في الغُربة والمُحَدِّث في الخَلْوة والدًليلُ على السًرّاء والضّرّاء والزَّبن عند الإخلاء والسِّلاح على الأعداء‏.‏

يَرْفع اللهّ به قوماً فيجعلُهم قادةً أَئمة تُقتَفى آثارهم ويقتدى بفعالهم‏.‏

والعِلم حياة القَلْب من الجهل ومِصْباح الأبصار من الظَّلمةِ وقوَّة الأبدان من الضّعف يبلغ بالعَبد مَنازلَ الأخيار والدَّرجات العُلا في الدُّنيا والآخرة الفِكْر فيه يَعدِل الصِّيامَ ومُذاكرتُه القِيامَ وبه تُوصَل الأرْحام ويُعرَف الحلال من الحرام‏.‏

ولابن طَبَاطَبا العَلويّ‏:‏ ‏"‏ حَسُود مريض القَلْب يُخْفِي أَنِينَه ويُضْحِي كئيب البال عِنْدي حزينَهُ يَلومُ على أنْ رُحتُ في العِلم طالبَا أُجَمِّع من عِنْدِ الرِّجال فُنُونهُ فأمْلك أبكارَ الكلام وعُونَه وأَحْفظ مِمَّا أَسْتَفِيد عُيُونه وَيزْعُم أنّ العِلم لا يَجْلب الغِنَى ويُحْسن بالجهل الذميم ظُنُونه فَيَا لائمي دَعْنِي أُغَالِ بِقِيمَتِي فَقِيمة كلِّ الناس ما يحْسِنُونه ‏"‏ قِيل لمحتد بن عبد الله بن عُمَر رضي الله عنه‏:‏ ما هذا العِلم الذي بنتَ به عن العالَم قال‏:‏ كنتُ إذا أخذتُ كتاباً جَعَلْته مِدْرَعة‏.‏

وقيل لرقبَةَ بن مَصْقَلة‏:‏ ما أكثر شَكك قال‏:‏ مُحَاماةً عن اليقين‏.‏

وسأَل شُعبةُ أيوبَ السِّختيانيِّ عن حديث فقال‏:‏ أَشُكّ فيه‏.‏

فقال‏:‏ شَكّك أَحبُّ إليَّ من يقيني‏.‏

وقال أيُّوب‏:‏ إنّ مِن أصحابي مَن أرتجي بركة دُعائه ولا أقبَل حديثَه‏.‏

وقالت الحكماء‏:‏ عَلِّم عِلْمك مَن يَجهل وتعلّم مِمَّن يعلم فإذا فَعَلت ذلك حَفِظتَ ما عَلِمتَ وعَلمْتَ ما جَهلت‏.‏

وسأَل إبراهيم النَّخعيُّ عامراً الشَّعبيَّ عن مَسألة فقال‏:‏ لا أَدرِي فقال‏:‏ هذا واللّه العاِلم سُئِل عمّا لا يَدْرِي فقال‏:‏ لا أَدرِي‏.‏

وقال مالك بن أَنس‏:‏ إذا تَرك العالم لا أدري أُصِيبت مَقاتلة‏.‏

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص‏:‏ مَن سُئلَ عما لا يَدري فقال‏:‏ لا أدري فقد أَحرَزَ نِصْفَ العِلم‏.‏

وقالوا‏:‏ العِلْم ثلاثة‏:‏ حَدِيث مُسْند وآية مُحْكمة ولا أَدْرِي‏.‏

فجَعلوا لا أَدري مِن العِلم إذْ كان وقال الخَلِيل بن أحمد‏:‏ إنك لا تَعْرف خَطأ مُعَلّمك حتى تَجْلِس عند غيره‏.‏

وكان الخليلُ قد غَلبت عليه الإباضية حتى جالسَ أيُّوب وقالوا‏:‏ عَوَاقبُ المَكَاره محمودة‏.‏

وقالوا‏:‏ الخَير كلُّه فيما أُكْرِهَت النفوسُ عليه‏.‏