الجزء الأول - كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك - انتحال العلم

انتحال العلم

قال بعض ‏"‏ الحكماء ‏"‏‏:‏ لا يَنبَغي لأحد أن يَنتحَل العِلم فإنّ الله عزِّ وجَلَّ يقول‏:‏ ‏"‏ ومَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْم إلا قَلِيلاً ‏"‏‏.‏

وقال عز وجلّ‏:‏ ‏"‏ وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيم ‏"‏‏.‏

وقد ذُكر عن موسى بن عِمْران عليه السلام أنّه لما كلّمه الله تعالى تَكليَماَ ودَرَس التَّوارةَ وحَفِظها حَدَّثته نفسُه‏:‏ أنّ الله لم يَخلق خَلقاً أعلم منه‏.‏

فهَوّن اللّه عليه نفسَه بالْخِضْر عليه السلام‏.‏

وقال مُقاتل بن سُليمان وقد دَخَلْته أبهة العِلم‏:‏ سَلُوني عمّا تحت العَرْش إلى أَسفل الُثرى‏.‏

فقام إليه رجلٌ من القوم فقال‏:‏ ما نسأَلك عما تحت العرش ولا أسفل الثرّى ولكن نسأَلك عَمَّا كان في الأرض وذَكَرَه الله في كتابه أَخْبرني عن كَلْب أَهل الكَهْف ما كان لونُه فأَفحمه‏.‏

وقال قَتَادة‏:‏ ما سمعت شيئاً قطُّ إلا حَفِظْتُه ولا حَفِظت شيئاً قَط فَنَسيته ثم قال‏:‏ يا غلام هَاتِ نعلي فقال‏:‏ هُما في رِجْليك فَفَضحه اللهّ‏.‏

وأَنشد أبو عَمْرو بنُ العلاء في هذا المعنِى‏:‏ مَنْ تَحَلَّى بغير ما هو فيهِ فضَحَتْهُ شواهدُ الامتحانِ مَنْ تَحَلَّى بغَير ما هو فيهِ شانَ ما في يَدَيْه ما يَدَّعيهِ وإذَا قلَّلَ الدعاوَى لما في ه أَضافُوا إليه ما ليسَ فيه ومَمَكّ الفَتَى سيظهر للنا س وإن كان دائباً يُخْفِيه يَحْسب الذي ادَعَى ماعَدَاه أنه عالمٌ بما يَفْتَرِيهِ وقالَ شَبِيب بن شَيْبة لفتى من دَوْس‏:‏ لا تُنازع مَن فوقك ولا تَقُل إلا بعِلْم ولا تَتَعاطَ ما لم تَبْلُ ولا يخالف لسانُكَ ما في قلبك ولا قولُكَ فِعْلَك ولا تَدَع الأمرَ إذا أَقبل ولا تَطلبهُ إذا أَدْبر ‏"‏‏.‏

وقال قَتَادة‏:‏ حَفِظْتُ ما لم يَحفَظْ أَحَد وأنسيتُ ما لم يَنْسَ أَحَدٌ حَفِظت القرآن في سَبعة أشهر وقَبَضت على لِحْيَتي وأنا أُريد قَطع ما تحت يدي فقطعتُ ما فوقها‏.‏

ومَرَّ الشَّعبيّ بالسُّدِّيّ وهو يفسر القرآن فقال‏:‏ لو كان هذا الساعةَ نشوانَ يُضرب على استه بالطَّبل أما كان خَيْراً له وقال بعض المنتحلين‏:‏ يُجَهِّلني قَوْمي وفي عَقْد مئزَري تَمَنَّون أمثالاً لهم مُحكم العِلْمٍ وما عَنَّ لي من غامِض العِلم غامض مَدَى الدَّهر إلا كنتُ منه على فهْم وعَلِمْتُ حَتَّى ما أُسائِل عالماً عَنْ عِلْم واحدةٍ لكيْ أَزْدَادَها شرائط العلم وما يصلح له وقالوا‏:‏ لا يكون العالم عالماً حتى تكونَ فيه ثلاثُ خِصال‏:‏ لا يَحْتَقر مَن دونه ولا يَحْسد مَن فوقه ولا يأخذ على العِلم ثَمَناً‏.‏

وقالوا‏:‏ رأسُ العِلم الخوْف ‏"‏ من ‏"‏ الله تعالى‏.‏

وقيل للشَّعبي‏:‏ أَفْتني أيُّها العالم فقال‏:‏ إنّما العاِلم مَن اتَّقى اللّه‏.‏

وقال الحسن‏:‏ يكون الرجلُ عالماً ولا يكون عابداً ويكون عابداً ولا يكون عاقلاَ‏.‏

وكان مُسلم بن يسار عالماً عابداً عاقلاً‏.‏

وقالوا‏:‏ ما قُرِن شيء إلى شيء أفضل من حِلْم إلى عِلم ومن عَفْو إلى قُدْرَة‏.‏

وقالوا‏:‏ من تمام آلة العاِلم أن يكون شديدَ اْلْهَيْبة رَزِين المَجْلس وَقُوراً صَمُوتاً بطيء الالتفات قليلَ الإشارات ساكنَ الحَرَكات لا يَصخَب ولا يَغْضب ولا يُبْهَر في كلامه ولا يَمسح عُثْنونه عند كلامه في كلّ حين فإنّ هذه كلّها من آفات العِيّ‏.‏

وقال الشاعر‏:‏ ومَدَح خالدُ بن صَفْوان رجلاً فقال‏:‏ كان بديع المَنْطق جَزْل الألفاظ عربيّ اللسان قليلَ الحَرَكات حَسنَ الإشارات حُلْوَ الشمائل‏.‏

كثير الطَّلاوَة صَمُوتاً وَقُوراً يهنأ الجرب ويُدَاوي الدَبر ويُقِلَّ ‏"‏ ‏"‏ الحزّ ويُطبِّق المَفْصِل لم يكن بالزَمِر المُروءة ولا الهَذِر المنطبق مَتبوعاً غيرَ تابع‏.‏

كأنّهُ عَلَم في رأسه نارُ وقال عبد اللهّ بن المُبارك في مالك بن أنس رضي الله عنه‏:‏ يَأتَي الجوابَ فما يُراجَع هَيْبَةً فالسَّائلون نَوَاكِسُ الأذْقان هَدْي الوَقار وعِزُّ سُلطان التُّقى فهو المَهيب وليسَ ذَا سُلْطان وقال عبد الله بن المبارك فيه أيضاَ‏:‏ صَمُوت إذا ما الصَّمْتُ زَيَنَ أَهلَه وفَتَاقُ أبكار الكلام المُخَتَّم وَعَى ما وَعَى القرانُ من كلِّ حِكمة وسِيطَت له الآدابُ باللَّحْم والدَّم ودخل رجلٌ علىِ عبد الملك بن مَرْوان وكان لا يَسأَله عن شيء إلاّ وَجد عنده منه عِلماً فقال لهُ‏:‏ أَنىَ لك هذا فقال‏:‏ لم أَمْنع قَطّ يا أَميرَ المؤمنين علماً أفيده ولم أَحتقر علماً أَستفيده وكنتُ إذَا لَقيت الرَّجُلَ أَخذتُ منه وأَعطيتُهُ‏.‏

وقالوا‏:‏ لو أَنّ أَهلَ العلم صانُوا علِمَهم لَسَادُوا أهلَ الدًّنيا لكن وَضَعُوه غيرَ مَوْضعه فقَصَّر في حفظ العلم واستعماله قال عبد الله بن مَسْعود‏:‏ تعَلَّموا فإذا عَلِمْتم فاعمَلوا‏.‏

وقال مالكُ بن دِينار‏:‏ العاِلم إذا لم يَعْمل بعِلمه زَلَّت مَوْعظته عن القَلْب كما يَزل الماء عن الصفا‏.‏

وقالوا‏:‏ لولا العَمَل لم يُطلب العِلم ولولا العِلم لم يُطلب العَمَل‏.‏

وقال الطائيًّ‏:‏ ولم يَحْمدوا مِن عاِلمٍ غيرِ عامل ولم يَحْمدوا مِن عاملٍ غير عالم وقال عمر بن الخطّاب رضوان الله عليه‏:‏ أيها الناس تعلَّمُوا كتابَ الله تُعْرَفوا به واْعْمَلوا به تكونوا من أهله‏.‏

وقالوا‏:‏ الكلمة إذا خرجتْ من القلب وقعتْ في القلب وإذا خرجتْ من اللّسان لم تُجَاوز الآذان‏.‏

وَرَوَى زِيَاد عن مالك قال‏:‏ كًنْ عالماً أو مًتَعلّماً ‏"‏ أو مُسْتمعا ‏"‏ وإيَّاك والرابعة فإنها مَهلكة ولا تكونُ عالماً حتى تكون عاملاً ولا تكون مؤمناً حتى تكون تقيَّاً‏.‏

وكان الشَّعبي والزُّهري يقولان‏:‏ ما سَمِعْنا حديثاً قَطُّ وسأَلْنا إعادَته‏.‏

رفع العلم وقولهم فيه قال عبد الله بن مسعود‏:‏ تَعلَّمُوا العِلم قبل أن يُرفِع‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنَّ الله لا يَقْبض العِلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يَقْبضه بقَبْض العُلماء‏.‏

وقال عبد الله بن عبَّاس رضوان الله عليهما لما وُورِيَ زيدُ بن ثابت في قبره‏:‏ مَن سرَّه أن يرى كيف يُقبض العلم فهكذا يُقبض‏.‏