الجزء الأول - كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك - البلاغة وصفتها

البلاغة وصفتها

قيل لعمرو بن عُبيد‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ ما بَلَّغك الجنَّة وعَدَل بِك عن النار قال السائل‏:‏ ليس هذا أُريد قال‏:‏ فما بَصَّرك مواضعَ رُشْدك وعواقبَ غَيِّك قال‏:‏ ليس هذا أريد قال‏:‏ مَن لم يحسن أن يسكت لم يُحسن أن يَسمع ومَن لم يُحسن أن يَسمع لم يحسن أن يسأل ومَن لم يُحسن أن يَسأل لم يُحسن أن يقول‏:‏ قال‏:‏ ليس هذا أُريد قال قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّا معشر ‏"‏ النبيين ‏"‏ بِكَاء - أي قليلو الكلام وهو جمع بكىء - وكانوا يكرهون أن يَزيد مَنْطق الرجل على عَقْله قال السائل‏:‏ ليس هذا أريد قال‏:‏ فكأنك تُريد تَخَيُّر الألفاظ في حُسْن إفهام قال‏:‏ نعم قال‏:‏ إنك إن أردتَ تَقْرير حُجَّة اللهّ في عُقول المُكَلَّفين وتخفيف المَؤونة على المُسْتمعين وتَزيين المعاني في قُلوب المستفهمين بالألفاظ الحَسنة رغبةً في سُرعة استجابتهمِ ونفْي الشواغل عن قلوبهم بالمَوْعظة الناطقة عن الكتَاب والسُّنَّة كُنت قد أُوتيت فَصْلَ الخِطاب‏.‏

وقيل لبعضهم‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ مَعْرفة الوَصْل من الفَصل‏.‏

وقيل لآخر‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ إيجاز الكلام وحَذْف الفُضُول وتَقْرِيب البعيد‏.‏

وقيل لبعضهم‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ أن لا يُؤتى القائل من سُوء فَهْم السامع ولا يُؤتى السّامع من وقال مُعاوية لصُحارٍ العَبْديّ‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ أن تُجيب فلا تُبطئ وتُصيب فلا تُخْطئ‏.‏

ثمّ قال‏:‏ أَقِلْني يا أمير المؤمنين قال‏:‏ قد أَقَلْتكَ‏.‏

قال‏:‏ لا تُبْطئ ولا تُخطئ‏.‏

قال أبو حاتم‏:‏ استطال الكلامَ الأوّل فاستقَال وتَكلّم بأوجزَ منه‏.‏

وسمع خالدُ بن صَفْوان رجلاً يتكلّم ويُكثْر فقال اعلم رحمك الله أن البلاغة ليست بحِفّة اللسان وكَثْرة الهَذَيان ولكنها بإصابَة المَعْنى والقَصْدِ إلى الحُجَّة‏.‏

فقال له‏:‏ أبا صَفْوان ما من ذَنْب أعظم من اتْفاق الصَّنعة‏.‏

وتكلّم رَبيعة الرَّأي يوماً فأكثر ‏"‏ وأُعجب بالذي كان منه ‏"‏ وإلى جَنْبه أعرابيٌّ فالتفتَ إليه فقال‏:‏ ما تَعُدّون البلاغةَ يا أعرابيّ قال‏:‏ قِلّة الكلام وإيجاز الصواب قال‏:‏ فما تَعُدّون العِيّ قال‏:‏ ما كًنت فيه منذُ اليوم‏.‏

فكأنما أَلْقمه حَجراً‏.‏

ومن أمثالهم في البلاغة قولُهم‏:‏ يُقِلّ الحزّ ويُطبِّق اْلمِفْصل‏.‏

وذلك أنّهم شَبّهوا البَلِيغ المُوجز الذي يُقل الكلام ويُصيب الفُصول والمَعاني بالجزَّار الرَّفيق يًقل حَزّ اللَّحم ويُصيب مَفاصله‏.‏

ومثله قولُهم‏:‏ يَضع الهِناء مواضع النُّقبِ أي لا يتكلّم إلا فيما يجب فيه الكلامُ مِثْل الَطالِي الرَّفيق الذي يضع الْهناء مواضع النُّقب‏.‏

وقولهم‏:‏ قَرْطَس فلان فأصاب الثغرة وأصاب عَيْن القِرْطاس‏.‏

كل هذا مَثل للمُصيب في كلامه الموجز في لَفْظه‏.‏

‏"‏ قيل للعَتّابي‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ إظهار ما غمَض من الحقّ وتَصْوير الباطل في صورة الحق‏.‏

وقيل لأعرابيّ‏:‏ مَن أَبلغ الناس قال‏:‏ أَسْهَلهم لَفظاً وأحسنهم بَدِيهة‏.‏

وقيل لآخر‏:‏ ما البلاغة فقال‏:‏ نشر الكلام بمعانيه إذا قَصُر وحُسْن التأليف له إذا طال‏.‏

وقيل لآخر‏:‏ ما البلاغة فقال‏:‏ قَرْع الحجَّةِ ودُنُوّ الحاجة‏.‏

وقيل لآخر‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ الإيجاز في غَيْر عَجْز والإطناب في غَيْر خَطَل‏.‏

وقيل لغيره‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ إقلال في إيجاز وصَواب مع سُرعة جواب‏.‏

قيل لليُونانيّ‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ تَصْحيح الأقسام واختيار الكلام‏.‏

وقيل لبعضهم‏:‏ مَن أبلغ الناس قال‏:‏ مَن ترك الفُضُول واقتصر على الإيجاز‏.‏

وكان يقال‏:‏ رسولُ الرجل مكان رَأْيه وكِتَابه مكان عَقله‏.‏

وقال جَعفر بن محمد عليه السلام‏:‏ سُمِّي البليغ بليغاً لأنه يَبلغ حاجتَه بأَهْون سعيه‏.‏

وسُئل بعضُ الحكماء عن البلاغة فقال‏:‏ مَن أخذ مَعاني كثيرة فأدَاها بألفاظ قليلة وأخذ معاني قليلة فولّد منها لفظاً كثيراً فهوِ بَليغ‏.‏

وقالوا‏:‏ البلاغة ما كان من الكلام حَسناً عند استماعه مُوجزاً عند بَدِيهته‏.‏

وقيل‏:‏ البلاغة‏:‏ لَمْحة دالّة على ما في الضَّمير‏.‏

وقال بعضُهم‏:‏ إذا كفاك الإيجاز فالإكثار عِيّ وإنما يَحْسن الإيجاز إذا كان هو البَيان‏:‏ ولبعضهم‏:‏ خَيْر الكلامٍ قَليلُ على كَثير دَلِيلُ والعِيُّ مَعنى قَصِيرُ يَحويه لفظٌ طَويلُ وقال بعضُ الكتَّاب‏:‏ البلاغةُ مَعْرفة الفَصْل من الوَصْل‏.‏

وأَحْسن الكلام القَصْد وإصابة المعنى‏.‏

قال الشاعر‏:‏ وإذا نَطقتَ فلا تكًن أَشِراً وآقصِدْ فخيرُ الناس مَن قصَدَا وقال آخر‏:‏ وما أحدٌ يكون له مَقالٌ فيَسْلَم من مَلامٍ أو أثامِ وقال‏:‏ الدَّهرُ ينقص تارةً ويَطولُ والمَرْءُ يَصْمت مَرَّةً ويَقُول والقولُ مخْتلف إذا حصَّلته بَعْضٌ يرَدّ وبعضُه مَقبول إذا وَضَح الصواب فلا تَدَعْه فإنّك كلّمكا ذُقْت الصَّوابَا وجدتَ له على اللّهوات بَرْداً كبَرْد الماء حين صَفا وطابا وقال آخر‏:‏ ليس شَأْنُ البليغ إرسالَه القو لَ بطُول الإسهاب والإكثار إنما شأنُهُ التَّلطُّف لِلْمَع - نىَ بحُسْنِ الإيراد والإصدْارِ وجوه البلاغة البلاغة تكون على أَرْبعة أَوْجه‏:‏ تكون باللّفظ والخطّ والإشارة والدِّلالة وكلٌّ منها له حظّ من البلاغة والبَيَان ومَوْضع لا يجوز فيه غيرُه ومنه قولُهم‏:‏ لكل مَقام مَقال ولكل كلام جَواب ورُبّ إشارة أبلغً من لفظ‏.‏

فأمّا الخطّ والإشارة فمفْهومان عند الخاصة أو أكثر العامة‏.‏

وأمّا الدِّلالة‏:‏ فكل شيء دلَّك على شيء فقد أخبرك به كما قال الحكيم‏:‏ أشهد أنّ السمواتِ والأرضَ آيات دالاّت وشَواهد قائمات كلٌّ يُؤدّي عنك الحجَّة ويَشهد لك بالرُّبوبية‏.‏

وقال آخر‏:‏ سَل الأرضِ ‏"‏ فقُل ‏"‏‏:‏ مَن شَقَّ أنهارَكِ وغَرَس أشجارَكِ وجَنَى ثمارك فإن لم تُجِبك إخباراَ أجابتك اعتباراً‏.‏

لقد جِئْتُ أبغِي لِنَفْسي مُجيراً فَجِئْت الْجبَالَ وجِئْتُ البُحُورَا فقال ليَ البحرُ إذ جِئْتُه وكيف يُجير ضريرٌ ضَريرا وقال آَخر‏:‏ نَطقتْ عَيْنُه بما في الضَّمير وقال نُصِيب بن رَباح‏:‏ فَعاجُوا فأَثْنَوْا بالذي أنت أهلُه ولو سَكتُوا أثنت عليك الحَقَائِبُ يُرِيد‏:‏ لو سكتوا لأثنت عليك حقائبُ الإبل التي يَحْتقبها الرَّكب من هِباتك‏.‏

وهذا الثَّناء إنما هو بالدَّلالة لا باللفظ‏.‏

وقال حَبِيب‏.‏

الدار ناطَقةٌ وليست تَنْطقُ بدُثورها أنَّ الجديد سَيخْلُقُ وهذا في قديم الشعرِ وحَديثه وطارفِ الكلام وتَليده أكثر من أن يُحيط به وَصْف أو يأتَي من ورائه نعْت‏.‏

وقال رجل للعتّابي‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ كل من بلّغك حاجته وأَفهمك معناه بلا إعادة ولا حُبْسة ولا استعانة فهو بَليغ‏.‏

قالوا‏:‏ قد فَهمنا الإعادة والحُبسة فما معنى الاستعانة قال‏.‏

أن يقول عند مَقاطع كلامه‏:‏ اْسمع منِّي وافهم عنِّي أو يمسح عُثْنونه أو يَفْتِل أصابعه أو يُكْثر التفاته من غير مُوجب أو يتساءل من غير سُعلة أو يَنبهر في كلامه‏.‏

وقال الشاعر‏:‏ مَليْء ببُهر والتفاتٍ وسُعْلة ومَسْحِة عُثْنون وفَتْل الأصابع وهذَا كلُّه من العيّ‏.‏

وقال أبْرويز لكاتبه‏:‏ اعلم أنَّ دعائم المَقالات أربع إن التُمس لها خامسة لم تُوجد وإن نَقصت منها واحدة لم تتمّ وهي‏:‏ سُؤالك الشيء وسُؤالك عن الشيء وأمْركِ بالشيء وإخبارك عن الشيء‏.‏

فإذا طلبت فأسجح وإذا سألتَ فأَوْضح وإِذا أمرت فأحكم وإِذا أَخبرت فحقِّق‏.‏

وأجمع الكَثِير مما تريد في القَليل مما تقول‏.‏

يريد الكلام الذي تَقِل حروفه وتَكثر معانيه‏.‏

وقال ربيعة الرِّأي‏:‏ إني لأسمع الحديثَ عُطْلاً فأًشنِّفه وأُقرّطه فيَحْسُن وما زِدْت فيه شيئاً ولا غيرت له معنى‏.‏

وقالوا‏:‏ خيرُ الكلام ما لم يحْتج بعدَه إلى كلام‏.‏

‏"‏ وقال يحيى‏:‏ الكلامُ ذُو فنون وخيره ما وفق له القائل وانتفع به السامع وللحسن بن جَعفر‏:‏ وفي الصمْتِ سَترٌ للعَيِّ وإِنما صَحِيفة لُبِّ المرء أن يتكلما وصف أعرابي بليغاً فقال‏:‏ كأنّ الألْسن رِيضَتْ فما تَنْعَقِد إِلا على وُده ولا تَنطق إلا ببَيانه‏.‏

وَصف أبو الوَجيه بلاغةَ رجل فقال‏:‏ كان واللّه يَشُول بلسانه شولان البَرُوق ويتخلّل به تخلًل الحيّة ‏"‏‏.‏

وللعرب من مُوجز اللّفظ ولَطِيف المعنى فًصول عَجيبة وبدائع غريبة وسنأتي على صَدْر منها إن شاء الله تعالى‏.‏