الجزء الأول - كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك - باب في الغلو في الدين

باب في الغلو في الدِّين

توّفِّي رجل في عَهد عمرَ بن ذَرّ ممن أسرَف على نفسه في الذنوب وجاوَزَ في الطُّغيان فتَحَامَى الناسُ عن جِنازته فحضرَها عمرُ بن ذرّ وصلّى عليه فلما أدْلٍيَ في قبره قال‏:‏ يَرْحمك الله أبا فُلان صَحِبْت عُمْرك بالتوحيد وعَفَّرت وجهك لله بالسُّجود فإن قالوا مُذْنِب وذو خَطايا فمَن منَا غيرُ مُذنِب وذِي خطايا‏.‏

ومن حديث أبي هُريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال‏:‏ ‏"‏ يأ يُّها الرُسل كُلُوا مِنَ الطًيبَاتِ واعْمَلوا صالِحاً إنّي بما تَعملون عَلِيم ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ يأيها الذِينَ آمَنُوا كلوا مِنْ طَيِّبَاتِ ما رَزَقْنَاكُمْ ‏"‏ ثم ذكر الرجلَ يرى أشعثَ أغبرَ يمُدُّ يديه إلى السماء يقول‏:‏ يا رَبّ يا رَب ومَطعَمه حَرَام ومشرَبه حَرام ومَلْبسه حَرام فأنى يُستجاب له قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن اللهّ بَعثني بالْحَنِيفيَّة السَّمْحة ولم يبعثني بالرهبْانية المُبْتدعة سُنَّتي الصلاة والنوم والإفطار والصَّوم فمن رَغِب عن سُنتي فليس مني‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّ هذا الدِّين مَتِين فأَوْغل فيه برِفق فإنّ اْلمنبَتَ لا أرْضاً قَطع ولا ظَهْراً أَبقى‏.‏

وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ خَير هذه الأمَّة هذا النَّمط الأوْسط يَرْجع إليهم الغالي ويَلحق بهم التّالي‏.‏

وقال مطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير لابنه وكان قد تَعبَّد‏:‏ يا بُنيّ إن الحسنَة بين السيئتين - يعني أن الدين بين الإفْراط والتّقْصير - وخَير الأمور أَوْسطها وشَرّ السّير الحَقْحقة‏.‏

وقال سلمان الفارِسيّ‏:‏ القَصْدَ والدًوامَ فأنت الجَواد السابق‏.‏

وقالوا‏:‏ ‏"‏ طالب العِلم و ‏"‏ عاملُ البِرِّ كآكِل الطَّعام إن أكل منه قوتاً عصمه وإن أسْرَف منه أَبْشَمه‏.‏

وفي بعض الحديث‏:‏ إن عيسى بنَ مريم عليه السلام لَقِيَ رجلاً فقال له‏:‏ ما تَصْنع قال‏:‏ أَتعبَّد ونظير هذا أن رفقة من الأشعريين كانوا في سَفر فلما قَدِموا قالوا‏:‏ ما رأينا يا رسول الله بعدَكَ أفضلَ من فلان كان يَصُوم النهار فإذا نزَلنا قام من الليل حتى نرْتحل قال‏:‏ فَمن كان يَمْهن له ويَكفُله قالوا‏:‏ كلّنا قال‏:‏ كلّكم أفضلُ منه‏.‏

وقيل للزهري‏:‏ ما الزّهد في الدنيا قال ‏"‏ أمّا ‏"‏ إنه ما هو بتشعيث اللِّمة ولا قَشَف الهيئة ولكنَّه ظَلَف النَّفس عن الشَّهوة‏.‏

عليِّ بن عاصم عن أبي إسحاق الشَّيباني قال‏:‏ رأيتُ محمد بن الحنفيَّة واقفاً بعَرَفات على بِرذَوْن وعليه مُطْرَف خز أصْفَر‏.‏

السدِّي عن ابن جُريج عن ‏"‏ عثمان بن أبي سليمان‏:‏ أن ‏"‏ ابن عباس كان يَرْتدي رِدَاء بأَلْف‏.‏

إسماعيل بن عبد الله بن جعْفر عن أبيه قال‏:‏ رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ثوبان مصبوغان بالزَّعفران‏:‏ رداء وعمامة‏.‏

وقال مَعمر‏:‏ رأيتُ قميص أيوب السِّخْتِياني يكاد يَمس الأرض فسألتُه عن ذلك فقال‏:‏ إن الشُّهرة كانت فيما مضى في تذْييل القَمِيص وإنهّا اليومَ في تَشميره‏.‏

أبو حاتم عن الأصمعي‏:‏ أن ابن عَوْن اشترى بًرْنساً فمرَّ على معاذَة العَدَويَّة فقالت‏:‏ مِثلُك يَلْبس هذا فذكرتُ ذلك لابن سيربن قال‏:‏ أفلا أخبرتها أن تَميما الدارمي اشترى حُلَّة بألف فصلّىِ قدم حمَّاد بن سَلمة البَصرة فجاءه فرْقد السَّبَخي وعليه ثيابُ صُوف فقال له حمَاد‏:‏ ضَع عنك نَصرانيّتك هذه فلقد رأيتنا ننتظر إبراهيم ‏"‏ فيخرج إلينا ‏"‏ وعليه معَصفْرة ونحن نرى أن المَيْتة قد حلَّتْ له أبو الحسن المدائنيّ قال‏:‏ دخل محمد بن واسع على قُتيبة بن مُسلم وَالي خُراسان في مِدْرَعة صوف فقال له‏:‏ ما يدعوكَ إلى لِباس هذه فسكت فقال له قتيبة‏:‏ أكلّمك ولا تُجيبني قال‏:‏ أَكرَه أن أقولَ زُهداً فأُزَكّي نفسي أو أقولَ فَقْراً فأَشكو ربي فما جوابُك إلا السُّكوت‏.‏

قال ابن السًماك لأصحاب الصُّوف‏:‏ واللّه لئن كان لباسُكم وَفْقاً لسرائركم فقد أحببتم أن يطلع الناس عليها وإن كان مخالفاً لها فقد هَلكتم‏.‏

وكان القاسمُ بن محمد يَلْبس الخزّ وسالِم بن عبد الله يَلْبس الصُّوف ويقعُدان في مجلس المدينة فلا يُنكر هذا على هذا ‏"‏ شيئاَ ‏"‏ ولا ذا على هذا‏.‏

ودَخل رجلٌ على محمد بن المُنْكَدر فوجده قاعداً على حَشايا مُضاعَفة وجاريةٌ تُغَلِّفه بالغالية فقال‏:‏ رَحمك اللّه جئتُ أسألك عن شيء وجدتك فيه - يريد التزيّن - قال‏:‏ على هذا أدركتُ الناس‏.‏

وصلّى الأعمشُ في مسجد قوم فأطال بهم الإمام فلما فَرغ قال له‏:‏ يا هذا لا تُطِلْ صلاتك فإنه يكون خَلْفك ذو الحاجة والكبَير والضَّعيف قال الإمام‏:‏ وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين فقال له الأعمش‏:‏ أنا رسولُ الخاشعين إليك إنهم لا يَحتاجون إلى هذا منك‏.‏

العُتْبيّ قال‏:‏ أصابت الربيعَ بن زِياد نُشَّابةٌ في جبينه فكانت تنتقض عليه كل عام فأتاه عليُّ بن أبي طالب عائداً فقال له‏:‏ كيف تَجدك يا أبا عبد الرحمن قال‏:‏ أجدُني لو كان لا يذهب ما بي إلا بذَهاب بَصري لتمنيّت ذهابَه قال له‏:‏ وما قيمة بَصرك عندك قال‏:‏ لو كانت لي الدُّنيا فديتُه بها قال‏:‏ لا جَرم ليُعطينّك اللهّ على قَدْر الدُنيا لو كانت لك لأنفقتها في سبيله إِنّ الله يُعطي على قَدْر الألم والمُصيبة وعنده بعدُ تَضْعيفٌ كثير‏.‏

قال له الرَّبيع‏:‏ يا أميرَ المؤمنين ألا أشكو إليك عاصمَ بن زِياد قال‏:‏ وماله قال‏:‏ لَبِسَ العَباء وتَرَك المُلاَء وغم أهْلَه وأحْزن وَلَده قال‏:‏ عليِّ عاصماً‏.‏

فلما أتاه عَبس في وَجْهه وقال‏:‏ وَيْلكَ يا عاصم‏!‏ أترى الله أباح لك اللذّاتِ وهو يكره ‏"‏ منك ‏"‏ أخْذَك منها أنت أهونُ على الله من ذلك أو ما سَمعْته يقول‏:‏ ‏"‏ مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان بَيْنهما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَان ‏"‏ حتى قال‏:‏ ‏"‏ يَخْرُجُ مِنْهَما اللُؤْلُؤُ والمَرْجَان ‏"‏‏.‏

وتاللّه لابتذال نِعَم الله بالفِعال أحب إِلي من ابتذالها بالمَقَال وقد سمعته يقول‏:‏ ‏"‏ وأمَّا بِنِعْمَةِ ربكَ فَحَدًث ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ قُلْ مَنْ حَرَمَ زِينَةَ الله الَتي أخْرَجَ لِعِبَادهِ والطيبَاتِ مِنَ الرزْقِ ‏"‏‏.‏

قال عاصم‏:‏ فعلامَ اقتصرتَ أنت يا أميرَ المَؤمنين على لِبْس الخَشِن وأكْل الحَشف قال‏:‏ إن الله افترض على أئمة محمد بن حاطب الْجُمَحيّ قال‏:‏ حدّثني من سَمع عمرو بن شُعيب وكنتُ سمعتُه أنا وأبي جميعاً قال‏:‏ حدّثني عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جدّه عن ‏"‏ عبد الله بن مَسعود قال‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم أمّ ‏"‏ عبد الله بن عمرو ‏"‏ بن العاص ‏"‏ وكانت امرأة تَلْطُف برسول الله صلى الله عليه وسلم وسلّم فقال‏:‏ كيف أنتِ يا أمَ عبد الله كيف أكونُ وعبد الله بن عمرو رجلٌ قد تخلّى من الدنيا قال لها‏:‏ كيف ذلك قالت‏:‏ حرّم النوم فلا ينام ولا يُفطر ولا يَطْعم اللحم ولا يؤدِّي إلى أهله حقَّهم قال‏:‏ فأين هو قالت‏:‏ خرج ويُوشك أن يَرْجع الساعة قال‏:‏ فإذا رجع فاحبسيه عليَّ‏.‏

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء عبد الله وأوْشك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرَّجعة فقال‏:‏ يا عبد الله بن عَمرو ما هذا الذي بلغني عنك ‏"‏ قال‏:‏ وما ذاك يا رسولَ الله قال بَلَغني أنك لا تنام ‏"‏ ولا تُفْطر ‏"‏ قال‏:‏ أردتُ بذلك الأمْنَ من الفزع الأكبر قال‏:‏ وبلَغني أنك لا تَطْعم اللَّحم قال‏:‏ أردتُ بذلك ما هو خيرٌ منه في الجنَّة قال‏:‏ وبلغني أنك لا تؤدي إلى أهلك حقَهم قال‏:‏ أردتُ بذلك نساءً هنَّ خير منهنّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلَّم يا عبد الله بن عمرو إن لك في رسول الله أسوة حَسنة فرسول الله يَصوم ويُفطر ويأكل اللَّحم ويُؤدِّي إلى أهله حقوقَهم‏.‏

يا عبد الله بن عمرو إنَ لله عليك حقّا وإنَ لبدنك عليك حقّا وإن لأهلك عليك حقّا‏.‏

فقال‏:‏ يا رسول الله ما تأمرني أن أصوم خمسة أيام وأفطر يوماً قال‏:‏ لا قال‏:‏ فأصوم أربعة وأفطر يوماً قال‏:‏ لا قال‏:‏ فأصوم ثلاثة وأفطر يوماً قال‏:‏ لا قال‏:‏ فيومين وأفطر يوماً قال‏:‏ لا قال‏:‏ فيوماً ‏"‏ وأفْطِر يوماً ‏"‏ قال‏:‏ ذلك صيام أخي داود يا عبد الله بن عمرو كيف بك إذا بَقِيت في حُثالة من الناس قد مَرِجَتْ عهودُهم ومواثيقُهم فكانوا هكذا - وخالف بين أصابعه قال‏:‏ فما تأمرني ‏"‏ به ‏"‏ يا رسول اللهّ قال‏:‏ تأخذ ما تَعرف وتَدَع ما تُنكر وتَعمل بخاصَّة نَفْسك وتَدع الناس وعوامَّ أمرهم‏.‏

قال‏:‏ ثم أخذه بيده وجعل يمشي به حتى وضعَ يده في يد أبيه وقال له‏.‏

أطِع أباك‏.‏

فلما كان يومُ صِفّين قال له أبوه عمرو‏:‏ يا عبد الله اخرج فقاتل فقال‏:‏ يا أبتاه أتأمُرني أن أخرج فأقاتل وقد سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت وعَهِد إليَ ‏"‏ ما عهد ‏"‏ قال‏:‏ أنشدك الله ألم يكن آخر ما قال لك أن أخذ بيدك فوضعها في يدي وقال لك‏:‏ أطِع أباك ٍ قال‏:‏ اللهم بلى قال‏:‏ فإني أعزم عليك أن تَخْرج فتقاتل‏.‏

قال‏:‏ فخرج فقاتل متقلَداً بسيفين‏.‏

القول في القدر أتى قومٌ من أهل القَدر محمد بن المُنْكدر‏.‏

فقالوا له‏:‏ أنت الذي تقول‏:‏ إن الله يُعذِّب الخلق على ما قدَّر عليهم فصرف وجهه عنهم ولم يُجبهم‏.‏

فقالوا له‏:‏ أصلحك الله إن كنت لا تُجيبنا فلا تُخْلِنا من بركة دعائك فقال‏:‏ اللهم لا تُرْدِنا بعُقوبتك ولا تَمكر بنا حِيلتك ولا تُؤاخذنا بتَقْصيرنا عن رِضاك قليلَ أعمالنا تقَبّل وعظيمَ خطايانا اغفر أنت الله الذي لم يكن شيء قبلك ولا يكونُ شيء بعدك وليّ الأشياء ترفع بالهُدى من تشاء لا مَن أحسن استغنى عن عَونك ولا مَن أساء غَلَبك ولا استبدّ شيء عن حُكومتك وقُدرتك ‏"‏ لا ملجأ إلا إليك ‏"‏ فكيف لنا بالمغفرة وليست إلا في يديك وكيف لنا بالرحمة وليست إلا عندك حفيظ لا ينسى قديم لا يَبلى حيّ لا يموت بك عرفناك وبك اهتدينا إليك ولولا أنت لم نَدْرِ ما أنت سُبحانك وتعاليت‏.‏

فقال القوم‏:‏ قد واللّه أخبر وما قَصرّ‏.‏

وقال‏:‏ ذُكر القَدر في مجلس الحسن البصريّ فقال‏:‏ إن الله خلق الخلق للابتلاء لم يُطيعوه بإكراه ولم يَعْصوه بغَلبة لم يُهْملهم من الملْك وهو القادر على ما أقدرهم عليه والمالك لما ملّكهم إياه فإن يأتمر العِباد بطاعة الله لم يكن اللهّ مُثَبِّطاً ‏"‏ لهم ‏"‏ بل يَزيدهم هُدىً إلى هُداهم وتَقوَى إلى تَقْواهم وإن يأتمروا بمعْصية اللّه كان الله قادراً على صرفهم إن شاء وإن خَلّى بينهم وبين المَعْصية فمن بعد إعذار وإنذار‏.‏

مروان بن موسى قال‏:‏ حدّثنا أبو ضَمْرة أنّ غَيْلان قَدِم بكلمة قد صاغها حتى وقف على ربيعة فقال له‏:‏ أنت الذي تزعم أنّ الله أحبَّ أن يُعْصىَ فقال له رَبيعة‏:‏ أنت الذي تزعم أن الله يُعصى كَرها فكأَنما أَلقمه حجراً‏.‏

قيل لطاوس‏:‏ هذا قَتادة يُحب أن يأتيك فقال‏:‏ إن جاء لأقُومنّ قيل له‏:‏ إنه فقيه قال‏:‏ إِبليس أفقه منه قال‏:‏ ‏"‏ رَبِّ بما أَغْوَيْتَني ‏"‏‏.‏

وقيل للشعبّى‏:‏ رأيتَ قتادة قال‏:‏ نعم رأيت كُناسة بين حَشَّين القَدَر هو العِلْم والكِتاب والكَلِمة والإذْن والمشيئة‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ سألتُ أعرابياً فقلت له‏:‏ ما فَضلُ بَني فُلان على بَني فلان قال‏:‏ الكِتاب يعني القَدَر‏.‏

وقال الله عزّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ إنَّا كُلّ شيءِ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر ‏"‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏"‏ كُلُّ في كِتَاب مُبِين ‏"‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏"‏ ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لعِبَادِنَا اْلمًرْسَلِين ‏"‏ يعني القَدَر‏.‏

وقال‏:‏ ‏"‏ وَلَوْلاً كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزَاما ‏"‏‏.‏

قال الخُشني أبو عبد الله محمد بن السَّلام‏:‏ شاعران من فُحُول الجاهلية لهما ‏"‏ بَيْتان ‏"‏ ذَهب ‏"‏ أحدهما في بيته ‏"‏ مَذْهب العَدْلية والآخر ذَهب مَذْهب الجَبْرية فالذي ذهب مَذْهب العَدْلية أعشى بَكْر حيثُ يقول‏:‏ آسْتأثر الله بالوَفَاء وبالعَدْل وَوَلًى اللامة الرَّجلاَ إنّ تَقْوَى ربِّنَا خَيْرُ نَفَل وبإذْن الله رَيثي وعَجَلْ مَن هَداه سُبلَ الخْير اهتدى ناعِمَ البال ومَن شاءَ أَضَل وقال إِياس بن مُعاوية‏:‏ كلَّمتُ الفِرَق كلها ببعض عَقْلي وكلًمتُ القَدَرِيّ بعَقْلي كلِّه فقلت له‏:‏ دُخولك فيما ليس لك ظُلْم منك قال‏:‏ نعم قلت‏:‏ فإنّ الأمر كله للّه‏.‏

ومن قوْل اللهّ عز وجل في القدر‏:‏ ‏"‏ قُلْ فَلّلهِ الْحُجًةُ البَالِغةُ فَلَوْ شَاء لهَدَاكمْ أجْمَعين ‏"‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏"‏ يَمُنُّون عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَّلَيَ إِسْلامَكُمْ بَل الله يَمُنَّ عَلَيْكُمْ أنْ هَدَاكُمْ لِإيمَان إِنْ كنْتمْ صَادِقينَ ‏"‏ ابن شِهاب قال‏:‏ أنزل الله على نبيه آية في القَدرِيَّة‏:‏ ‏"‏ الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين وقال‏:‏ ‏"‏ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ في بُيُوتِكُمْ لبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ ‏"‏‏.‏

وقال محمد بنُ سِيرين‏:‏ ما يُنْكر القَدَرية أن يكونَ الله ‏"‏ قد ‏"‏ عَلِم مِن خَلْقه عِلْماً فكَتبه عليهم‏.‏

وقال رجلٌ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ ما تَقول في القَدَر قال‏:‏ وَيْحك‏!‏ أخبرني عن رحمة الله أكانَتْ قبلَ طاعة العباد قال نعم قال علي‏:‏ أسْلَم صاحبًكم وقد كان كافراً فقال الرجلً له‏:‏ أليس بالمَشيئة الأولى التي أنشأني بها ‏"‏ وقَوَّم خَلقي ‏"‏ أقوم وأقعد وأقْبِضً وأبْسُط قال له ‏"‏ علي ‏"‏ إنك بعدُ في المشيئة أمَا إني أسألك عن ثلاث فإن قلتَ في واحدة منهن لا كفرت وإن قلت نعم فأنت أنت فمدَ القومُ أعناقهم ليسمعوا ما يقول فقال له عليّ‏:‏ أخبرني عنك أخلقك اللهّ كما شِئت أو كما شاء قال‏:‏ بل كما شاء قال‏:‏ فَخَلقَك الله لما شِئْت أو لما شاء قال‏:‏ بل لما شاء قال‏:‏ فيومَ القيامة تأتيه بما شئت أو بما شاء قال‏:‏ بل بما شاء قال‏:‏ قُمْ فلا مَشيئة لك‏.‏

قال هشام بن محمد بن السائب الكَلْبي‏:‏ كان هِشام بن عبد الملك قد أنكر على غَيلان التكلم في القَدَر وتقدَّم إليه في ذلك أشدَّ التقدّم وقال له في بعض ما توعده به من الكلام‏:‏ ما أحسبك تَنْتهي حتى تَنْزِل بك دعوةُ عمرَ بن عبد العزيز إِذا احتجَ عليك في المَشيئة بقول الله عزّ وجل‏:‏ ‏"‏ وَمَا تشاءُونَ إلا أنْ يَشَاء الله ‏"‏ فزعمتَ أنك لم تُلْقِ الا بالاً فقال عمر‏:‏ اللهم ان كان كاذباً فاقطع يده وِرجله ولسانه واضرب عُنُقه فانْتَهِ أولى لك ودعَ عنك ما ضَرُه إليك أقربُ من نفْعه فقال له غَيْلان لِحَيْنه وشَقْوته‏:‏ ابعث إليَّ يا أمير المؤمنين من يُكلّمني ويحتجّ عليّ فإن أخذتْه حُجَّتي أمسكتَ عنّي فلا سبيلَ لك إليَّ وإن أخذتنى حجتُه فسألتك بالذي أكرمَك بالخِلافة إلاّ نفَذت فيّ ما دعا به عمرُ عليّ‏.‏

فغاظ قوله هشاماً فعبث إلى الأوْزاعيّ فحكى له ما قال لغَيلان وما ردَّ غيلان‏:‏ فالتفت إليه الأوزاعيّ فقال له‏:‏ اسألك عن خمس أو عن ثلاث فقال غيلان‏:‏ بل عن ثلاث قال الأوزاعيّ‏:‏ هل علمتَ أنّ الله أعان على ما حَرَّم قال غيلان‏:‏ ما علِمت ‏"‏ وعَظُمت عنده ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ فهل علمتَ أن اللهّ قَضى على ما نهى قال غيلان‏:‏ هذه أعظمُ‏!‏ ما لي بهذا من عِلْم قال‏:‏ فهل علمتَ أنّ الله حال دون ما أمر قال غيلان -‏:‏ حال دون ما أمر ما علمتُ قال الأوزاعي‏:‏ هذا مرتاب من أهل الزَّيع‏.‏

فأمر هشامُ بقَطع يده ورِجْله ثم ألقي في الكُناسة‏.‏

فاحْتَوشه الناسُ يَعجبون من عظيم ما أنزل اللهّ به من نِقمته‏.‏

ثم أقبل رجلٌ كان كثيراً ما يُنْكر عليه التكلّم في القَدَر فتخلّل الناس حتى وَصل إليه فقال يا غيلانُ اذكُر دُعاء عمر رحمه اللهّ فقال غيلان‏:‏ أفلح إذاً هشام إن كان الذي نَزَل بي بدعاء عمر أو بقضاء سابق فإنه لا حَرج على هشام فيما أمر به فبلغت كلمته هشاما فأمر بقَطْع لسانه وضَرب عُنقه لتمام دَعْوة عمر‏.‏

ثم التفت هشام إلى الأوزاعيّ وقال له‏:‏ قد قلتَ يا أبا عمرو فَفَسِّر فقال‏:‏ نعم قَضى على ما نَهى عنه نَهى آدم عن أكل الشجرة وقضى عليه بأكلها وحال دُون ما أَمر أمر إبليس بالسُجود لآدم وحال بينه وبين ذلك وأعان على ما حرَّم المَيْتة وأعان المُضطر على أكلها‏.‏

الرَّياشي عن سعيد بن عامر بن جُوَيرية عن سَعيد بن أبي عَرُوبة قال‏:‏ لما سألتُ قتادةَ عن القَدَر فقال‏:‏ رأى العرب تريد فيه أم رأيَ العَجم فقلت‏:‏ بل رَأْيَ العرب‏:‏ قال‏:‏ فإنه لم يكن أحدٌ من العرب إلا وهو يُثبت ‏"‏ القدر ‏"‏ وأنشد‏:‏ وقال أعرابيّ‏:‏ الناظًر في قَدَر الله كالناظر في عَين الشمس يعرف ضَوْءها ولا يَختم على حدودها‏.‏

وقال كعب بن زُهَير‏:‏ لو كنتُ أعجبُ من شيء لأعجَبني سَعْيُ الفَتَى وهو مخْبُوءٌ له القَدَرُ يَسْعى الفتَى لأمور ليس يُدْرِكها فالنَّفْس واحدةٌ وآلهمّ منْتشِر والمَرْءُ ما عاش مَمْدُودٌ له أمل لا تَنْتَهي العينُ حتى يَنْتهي الأثر وقال آخر‏:‏ والجَدّ أنهض بالفتَى من عَقْله فانهضْ بجَدٍّ في الحَوادث أو ذَرِ ما أقربَ الأشْياء حين يَسُوقها قَدَرٌ وأبعدَها إذا لم تُقْدَرِ عبد الرحمن القَصِير قال‏:‏ حدّثنا يونس بن بلال عن يَزيد بن أبي حَبيب أنّ رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا رسول الله أيقدّر الله عليِّ الشرّ ثم يُعذَبني عليه قال‏:‏ نعم وأنت أظْلم‏.‏

وحدّث أبو عبد الرحمن المُقْرىء يَرْفعه إلى أبي هُريرة عن عمر بن الخطاب رضي اللهّ عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا تجَالسوا أهلَ القَدَر ولا تُفاتحوهم‏.‏

ومن حديث عبد الله بن مَسعود قال‏:‏ ما كان كُفْر بعد نُبوَّة قط إلا كان مِفْتاحه التَّكْذيب بالقَدَر‏.‏

ثُمَامة بن أَشْرَس قال‏:‏ دَخل أبو العَتاهية على المأمون لما قَدِم العراق فأَمر له بمال وجَعل يُحادثه فقال له يومًا‏:‏ ما في الناس أجهل من القَدرِيَّة فقال له المأمون‏:‏ أنت بصناعتك أَبصر فلا تَتَخَطَّها إلى غيرها قال له‏:‏ يا أميرَ المؤمنين اجمع بيني وبين من شئتَ منهم‏.‏

فأَرْسَلَ إليِّ فدخلتُ عليه فقال لي‏:‏ هذا يَزعم أنّك وأصحابَك لا حُجَّة عندكم‏.‏

قلت‏:‏ فلْيَسأَل عمّا بدا له‏.‏

فحرَّك أبو العتاهية يدَه وقال‏:‏ مَن حَرَّك هذه قلتُ مَن ناك أُمّه فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين شتَمني قلت له‏:‏ نَقضت أصلَك يا ماصّ بَظْر أمّه فَضَحك المأمونُ فقلت له‏:‏ يا جاهل تحرك يدَك ثم تقول‏:‏ مَن حَرَّكها ‏"‏ فإن كان اللهّ حَرَّكها ‏"‏ فلم أَشْتُمك وإِن كنتَ أنت المُحَرّك لها فهو قَوْلي قال له المأمون‏:‏ عندك زيادةٌ في المسألة‏.‏

قال الكندي في الفَنّ التاسع من التّوحيد‏:‏ اعلم أن العالَم كله مَسوس بالقضاء والقَدَر - أعنى بالقضاء - ما قُسم لكل مَعْلول مما هو أَصلح وأَحْكم وأَتقن في بِنْية الكُل لأنه - جل ثناؤه - خَلَق وأبدع مُضطرًّا ومُختارًا بتمام القُدْرة فلما كان المختار غيرَ تامّ الحكمة لأن تمام آلحِكمة لِمبدع الكل كان لوِ أطلق واختيارَه لاختار كثيراً مما فيه فَسادُ الكل فقَدّر - جلّ ثناؤه - بِنْيةً للكلّ تقديراَ محْكَمًا‏.‏

فصيّر بعضه سوانحَ لبعض يَختار بإرادته ومَشيئته غيرَ مقْهور مما هو أَصْلح وأحكم في بِنْية اكل فتقدير هذه السَّوانح هو القَدَر فبالقضاء والقَدَر ساسَ - جل ثناؤه - جميع ما أَبدع بهذه السِّياسة المُحكمة المُنظمة التي لا يَدْخلها زَلَل ولا نَقْص فاتْضَح أنّ كل مَعْلوِل فيما قسم له ربه من الأحْوال لا خارج عنها وأنّ بعضَ ذلك باضطرار وبعضه باختيار وأنّ المُختار عن سَوانح قَدَره ‏"‏ اختار ‏"‏ وبإرادته لا بالكَرْه ‏"‏ منه ‏"‏ فَعل‏.‏

سُئل أعرابيّ عن القَدَر فقال‏:‏ ذاك عِلْم اختَصَمت فيه الظُّنون وكثر فيه المُختلفون والواجب علينا أن نَرد ما أتشكل من حُكْمه إلى ما سبق في عِلْمه‏.‏

واصطحب مَجوسي وقَدَري في سَفَر فقال القدريّ للمجوسيّ‏:‏ مالَك لا تُسلم قال‏:‏ إن أَذِن الله في ذلك كان قال‏:‏ إن الله قد أذن إلا أنَّ الشيطان لا يدَعك قال‏:‏ فأنا مع أَقْواهما‏.‏

وقال رجلٌ لهشام بن الحَكَم‏:‏ أنت تَزعُم أن اللهّ في فضْله وكَرمه وعَدْله كَلَّفنا ما لا نُطِيقه ثم يًعذِّبنا عليه قال هشام‏:‏ قد واللّه فَعل ولكن لا نَسْتطيع أن نتكلَّم‏.‏

اجتمع عمرو بن عُبيد مع الحارث بن مِسْكين بمنىَ فقال له‏:‏ إنّ مِثلى ومثلك لا يَجْتمعان في مثل هذا المَوْضع فيَفترقان من غير فائدةَ فإن شِئتَ فقُلْ وإن شئتَ فأنا أقول قال له‏:‏ قل قال‏:‏ هل تَعلم أحداً أقبلَ للعُذر من الله عز وجل قال‏:‏ لا قال‏:‏ فهل تَعْلم عذراً أبينَ من عذر مَنْ قال لا أقدر فيما تَعلم أنت أنه لا يَقدر عليه قال‏:‏ لا قال‏:‏ فلمَ لا يَقْبَلُ - مَن لا أَقبلِ للعُذر منه - عُذْرَ مَن لا أبينَ من عُذْره فانقطع الحارث بن مِسْكين فلم يرُدّ شيئاَ‏.‏