الجزء الأول - كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك - باب الأدب في المؤاكلة

باب الأدب في المؤاكلة

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا أَكل أحدُكم فليأكل بيمينه ولْيَشْرَب بيمينه فإنّ الشيطان محمد بن سلاّم الجُمحي قال‏:‏ قال بلال بن أبي بُردة وهو أمير على البَصرة للجارود بن أبي سَترْة الهُذليّ‏:‏ أتحضُر طعامَ هذا الشيخ - يعني عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر - قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فصِفه لي قال‏:‏ نأتيه فنجده مُنْبطحاً - يعني نائماً - فنجلس حتى يستيقظ فيأْذن فنُساقطه الحديث فإن حدَّثناه أحسنَ الاستماع وإن حدَّثَنا أحسنَ الحديث ثم يدعو بمائدته وقد تقدّم إلى جواريه وأُمهات أولاده أن لا تُلطفه واحدةٌ منهن ‏"‏ إلا ‏"‏ إذا وُضعت مائدته ثم يُقبل خَبْازه فيمْثُل بين يديه قائماً فيقول له‏:‏ ما عِنْدك فيقول‏:‏ عِندي كذا وكذا فيعدِّد ما عنده - يريد بذلك أن يَحْبس كلُّ رجل نفسَه وشهوتَه على ما يًريد من الطعام وتُقْبِل الألوان من هاهنا ومن هاهنا فتوضع على المائدة ثم يُؤتى بثريدة شَهباءَ من الفُلفل رَقْطَاء من الْحِمَّص ذاتِ حِفافينْ من العُرَاق فيأكل مُعذِراً حتى إذا ظنّ أن القوم قد كادوا يمتلئون جثَا على رُكْبتيه ثم استأنف الأكل معهم‏.‏

قال ابن أبي بُردة‏:‏ للّه ذرُّ عبد الأعلى ما أربطَ جأشَه على وقع الأضراس‏.‏

حضر أعرابيُّ سُفرةَ هشام بن عبد الملك فبَينا هو يأكل معه إذ تعلّقتَ شَعرةٌ في لُقمة الأعرابيّ‏.‏

فقال له هشام‏:‏ عندك شعرة في لُقمتك يا أعرابيّ فقال‏:‏ وإنك لتُلاحظني مُلاحظة من يَرى الشَّعرة في لُقمتي واللّه لا أكلت عندك أبداً‏.‏

ثم خرج وهو يقول‏:‏ وللَموتُ خيرٌ من زيارة باخل يُلاحظ أطرافَ الأكِيل على عَمْدِ محمد بن يزيد قال‏:‏ أكل قائدٌ لأبي جعفر المنصور معه يوماً وكان على المائدة محمدٌ المهديّ وصالحٌ ابناه فبينا الرجلُ يأكل من ثَريدة بين أيديهم إذ سَقط بعضُ الطعام من فيه في الغَضَّارة وكأن المهديّ وأخاه عافَا الأكل معه فأخذ أبو جعفر الطّعام الذي سَقط من فم الرجل فأكله‏.‏

فالتفتَ إليه الرجلُ فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين أمّا الدُّنيا فهي أقلُّ وأيسر من أن أتركها لك لكن واللّه لأتركن في مرضاتك الدُّنيا والآخرة‏.‏

وحدّث إبراهيمُ بن السِّنديّ قال‏:‏ كان فتىً من بني هاشم يَدْخل على المنصور كثيراً ‏"‏ يُسلم من بعيد ويَنْصرف ‏"‏‏.‏

فأتاه يوماً فأدناه ثم دعاه إلى الغَداء فقال‏:‏ قد تغذيتُ‏.‏

فأمهله الربيعُ حاجبُ المنصور حتى ظَنّ أنه لم يفهم الخطيئة فلما انصرف وصار وراء السِّتر دَفع في قَفاه‏.‏

فلما رأى من الحاجب دَفعه في قَفاه شَكا الفتى حالتَه وما ناله إلى عُمومته فأقبلوا من غد إلى أبي جعفر وقالوا‏:‏ إنَ الربيع نال من هذا الفتى كذا وكذا فقال لهم أبو جعفر‏:‏ إنَ الرّبيع لا يقدم على مثل هذا إلا وفي يده حُجَّة فإن شئتم أمْسكنا عن ذلك وأغضينا وإن شِئتم سألتُه وأسمعتكم قالوا‏:‏ بل يسأله أميرُ المؤمنين ونسمع‏.‏

فدعاه فسأله فقال‏:‏ إنّ هذا الفتى كان يأتي فيُسلِّم ويَنصرف من بعيد فلما كان أمس أَدناه أميرُ المؤمنين حتى سلَم من قُرْب وتبذل بين يديه ودعاه إلى غدائه فبلغ من جهله بحق المَرْتبة التي أحلّه فيها أن قال‏:‏ قد تغدّيتُ وإذا هو ليس عنده لمن أكل مع أمير المؤمنين وشاركه في يده إلا سدًّ خَلّة الجوع ومثل هذا لا يُقوِّمه القولُ دون الفعل‏.‏

فسكت القومُ وانصرفوا‏.‏

وقال بكرُ بن عبيد الله‏:‏ أحق الناس بلَطْمة مَن أني طعاماً لم يُدْعَ إليه وأحقُّ الناس بلَطْمتين من يقول له صاحب البيت اجلس ها هنا فيقول‏:‏ لا ها هنا وأحقًّ الناس بثلاث لطمات من دُعي إلى طعام فقال لصاحب المنزل‏:‏ ادعُ رَبّةَ البيت تأكل معنا‏.‏

وقال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ‏:‏ لا ينبغي للفتى أن يكون مُكْحلاً ولا مُقبِّباً ولا مُكوكباً ولا شُكامداً ولا حرامداً ولا نُقامداً ثم فسّره فقال‏:‏ أما اُلمكحل فالذي يتعرّق العظم حتى يَدَعه كأنه مُكْحُلة عاج والمًقَبِّب فالذيِ يُركِّب اللحم بين يديه حتى يجعله كأنه قُبّة‏.‏

والمُكَوكب‏:‏ الذي يَبْصق في الطِّست ويتَنخّم فيها حتى يصير بُصَاقه كأنه الكواكب في الطَّست‏.‏

والحرَامد‏:‏ الذي يأتي في وقت الغَداء والعَشاء فيقول‏:‏ ما تأكلون فيقولون من بُغْضه‏:‏ سُمًّا فيُدخل يده ويقول في حِرامّ العيش بعدكم‏.‏

والشُّكامد‏:‏ الذي يُتْبع اللقمة بأُخرى قبل أن يُسيغها فيَخْتنق كأنه ديك قد ابتلع فأرة‏.‏

والنُّقامد‏:‏ الذي يضع الطعامَ بين يديه ويأكل من بين يدي غيره‏.‏

ومن الأدب‏:‏ أن يبدأ صاحبُ الطعام بغَسْل يده قبل الطعامِ ثم يقول لجلسائه‏:‏ من شاء منكم فليغسل فإذا غُسلَ بعد الطعام فَلْيُقَدَمْهم ويتأخر‏.‏

وقال العلماء‏:‏ لا يُؤم ذو سُلطان في لسُطانه ولا يُجلس على تَكْرِمته إلا بإذنه‏.‏

وقال زِياد‏:‏ لا يُسَلَّمُ على قادمٍ بين يَدي أمير المؤمنين‏:‏ ودخل عبد الله بن عبّاس على مُعاوية وعنده زَياد فرحَّب به مُعاوية ووسَّع له إلى جَنْبه وأقبل عليه يُسائله ويُحادثه وزِياد ساكِت فقال له ابن عبّاس‏:‏ كيف حالُك أبا المُغيرة كأنك أردت أن تُحْدث بيننا وبينك هِجْرة فقال‏:‏ لا ولكنه لا يُسلَّم على قادم بين يدي أمير المؤمنين‏.‏

قال ابن عبّاس‏:‏ ما أَْدركْت الناس إِلا وهم يُسلمون على إخوانهم بين يدي أمرائهم‏.‏

فقال له مُعاوية‏:‏ كُفَّ عنه يابن عبّاس فإنك لا تَشاء أن تَغْلِبَ إلا غُلبت‏.‏

الشّيبانيّ قال‏:‏ بَصق ابن مَرْوان فقَصر في بَصْقته فوقعت في طَرف البِساط فقام رجلٌ من المجلس فمسَحه بكُمّه‏.‏

فقال عبدُ الملك بن مَرْوان‏:‏ أَرْبعة لا يُسْتحي من خِدْمتهم‏:‏ الإمام والعاِلم والوالد والضيف‏.‏

وقال يحيى بن خالد‏:‏ مُساءَلة المُلوكِ عن حالها من تَحيَّة النَّوْكَى فإذا أردتَ أن تقول‏:‏ كيف أصبح الأمير فقُل‏:‏ صَبَّح الله الأميرَ بالنِّعمة والكرامة وإن كان عليلاً فأردتَ أن تَسأله عن حاله فقُل‏:‏ أنزل الله علِى الأمير الشِّفاء والرِّحمة‏.‏

وقالوا‏:‏ إذا زادك المَلِك إكراماً فزِدْه إعظاماَ ماذا جَعلك عَبْداَ فاجعله ربًّا ولا تُدِيمن النظر إليه ولا تُكثر من الدُّعاء له في كلِّ كلمةٍ‏.‏

ولا تتغير له إذا سَخِط ولا تَغتر به إذا رَضيَ ولا تُلْحِف في مسألته‏.‏

وقالوا‏:‏ الملوك لا تُسْال ولا تُشمَّت ولا تُكَيف‏.‏

وقال الشاعر‏:‏ إِنَّ المُلوكَ لا يُخَاطَبُونَا ولا إذَا مَلُوا يُعَاتَبُونَا وفي المَقَال لا يُنَازَعُونَا وفي العطاس لا يُشَمًتونَا وفي الخطاب لا يُكَيَّفُونَا يُثنى عليهم ويُبَجًلونَا فافْهَم وَصاتي لا تكُن مَجْنُونا وقالوا‏:‏ من تمام خِدْمة الملوك أن يُقَرِّب الخادمَ إليه نَعْلَيْه ولا يَدَعه يَمشي إليهما ويَجعل النعلَ اليُمنى قُبالة الرِّجل اليمنى واليُسرى قُبالة الرجل اليُسرى وإذا رأى مُتَّكأ يَحتاج إلى إصلاح أصْلَحَه ولا يَنْتظر فيه أمرَه ويَتفقد الدَواة قبلَ أن يَأمره ويَنْفُضِ عنها الغبار إِذا قَربها إليه وإن رأى بين يديه قِرْطاساً قد تباعد عنه قَرّبه إليه وَوَضعه بي يديه على كِسْره‏.‏

وقال أصحابُ معاوية لمُعاوية‏:‏ إنّا ربما جَلَسنا عندك فوقَ مِقْدار شَهْوتك فأنتْ تَكْره أن تَسْتَخِفَّنا فتأمر بالقيام ونحن نكرْه أن نُثْقِل عليك في الجُلوس فلو جعلتَ لنا علامةً نَعْرِف بها ذلك فقال‏:‏ علامةُ ذلك أن أقولَ‏:‏ إذا شِئتم‏.‏

وقيل مثلُ ذلك لعبد الملك بن مروان فقال‏.‏

إذا وضعتُ الخَيْزُرانة‏.‏

وما سمعتُ بألطف مَعنى ولا أكملَ أَدَباً ولا أحسنَ مَذْهباً في مُساءلة الملوك من شَبِيب بن شَيْبة وقوله لأبي جَعْفَر‏:‏ أَصْلَحَكَ الله إني أُحِبُ المعرفة وأُجِلّك عن السُّؤال‏.‏

فقال له‏:‏ فلان بن فُلان‏.‏