الجزء الأول - كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك - باب في طلب الرغائب واحتمال المغارم

باب في طلب الرغائب واحتمال المغارم

في كتاب للهِنْد‏:‏ مَن لمِ يَرْكَب الأهوالَ لَم يَنَل الرًغائبَ ومَن ترك الأمرَ الذي لعلّه أن يَنال منه حاجَتَه مخافة ما لعَلّه يُوِقَّاه فليسَ ببالغٍ جَسيماً وإنّ الرَّجل ذا المروءة ليكُون خاملَ الذِّكْر خافض المَنْزلة فَتَأْبى مُروءتهُ إلا أن يَسْتَعْلَى ويَرْتَفع كالشُعلة من النار التي يَصُونها صاحبُها وتأبيَ إلا اْرتفاعاً‏.‏

وذو الفَضْل لا يَخفي فَضله وإن أخفاه كالمِسْك الذي يُخْتم عليه ثم لا يمْنَع ذلك رِيحَه من التَذكّي والظُّهور‏.‏

ومن قَوْلنا في هذا المعنى‏:‏ ليسَ يَخفي فَضْلُ ذي الفض ل بزُورٍ وبإفْك والذي بَرز في الفَضل غني عن مُزَكِّي رُبما غُمِّ هِلالُ ال فِطْرفي لَيْلة شَكْ ثم جَلِّى وجهَه النُّو رُ فَجَلِّى كلَّ حَلْك إنَّ ظهر اليمِّ لاتَرْ كَبه من غير فُلْك ونظامَ الدُرّ لا تع قِده مِن غير سِلْك ليسَ يصفو الذهب الإبريزُ إلا بعد سَبْك هَذه جُمْلَة أَمْثا لٍ فمن شاء فَيَحْكى أبطلتْ كلِّ يَمانيًّ وشاميٍّ ومَكّي ليس ذا من صوْغ عَيْنيِّ ولا مِن نَسْج عَكِّي وقالوا‏:‏ لا يَنبغي للعاقل أن يكون إلا في إحدَى منزلتين‏:‏ إما في الغاية من طَلب الدنيا وإما في الغاية من تَرْكها‏.‏

ولا ينْبغي له أن يُرى إلا في مكانين‏:‏ إمَّا مع المًلوك مكَرماً وإمَّا مع العُبَّاد مُتبتَلا‏.‏

ولا يُعَد الغُرْم غُرْماً إذا ما ساق غنْماً ولا الغُنْمُ غُنْما إذا ما ساق غُرْما‏.‏

ونظر معاويةُ وقال حبيبٌ الطائيّ‏:‏ أَعاذِلَتي ما أخشنَ اللَّيْلَ مَرْكباً وأَخشن منه في المُلِمَّات راكِبُه ذَرِيني وأهوال الزَّمان أقاسِها فأهوالُه العُظْمى تَليها رغائبُه وقال كَعْبُ بنُ زًهير‏:‏ ولَيْسَ لمن لم يَرْكب الهوْلَ بُغْيةٌ وليس لِرَحْل حَطًه الله حامِلُ إذا أنتَ لم تُعْرِضْ عنِ الجهل والخَنَا أصبتَ حَليماً أو أصَابَكَ جاهل وقال الشًماخ‏:‏ فتٍى ليس بالراضي بأَدنىَ مَعِيشةٍ ولا في بُيوت الحَيِّ بالمُتَولِّج فَتى يملأ الشِّيزَى ويُرْوِي سِنَانَه ويَضْرِبُ في رأس الكَميِّ المدَجَّج وقال امروء القَيْس‏:‏ فَلو أن ما أَسْعَى لأدنىَ مَعيشةٍ كَفَاني ولم أطلبْ قليلٌ منَ المال ولكنَّما أسعَى لمَجْدٍ مُؤَثَّل وقد يُدْرِك المجدَ المُؤَثَّل أمثالي وقال آخر‏:‏ لولا شَماتةُ أعداء ذوي حَسَدٍ أو أن أنالَ بِنَفْعي مَن يُرَجِّينِي لكنْ مُنافسةُ الأكفاء تَحْمِلني على أمورٍ أَراها سوف تُرْديني وكيفَ لا كيفَ أنْ أرضىَ بمنزلة لا دِينَ عندي ولا دُنْيا تُواتيني وقال الحُطَيئة في هجائه الزِّبْرِ قان بن بَدْر‏:‏ دعَ المَكارِمَ لا تَرْحل لبُغْيتها واقعُدْ فإنَّكَ أنتَ الطَاعمُ الكاسي فاستعدَى عليه عمرَ بنَ الخطاب وأَسمعه الشعرَ فقال‏:‏ ما أَرى مما قال بأساً قال‏:‏ واللّه يا أميرَ المُؤمنين ما هُجِيت ببيت قطًّ أَشدً‏!‏ ‏"‏ عليَّ ‏"‏ منه‏.‏

فأرسل إلى حَسَّان فسأله‏:‏ هل هجاه فقال‏:‏ ما هجاه ولكنه سَلَح عليه‏.‏

وقد أخذ هذا المعنى من الحُطيئة بعضُ المُحْدَثين فقال‏:‏ إنِّي وجدتُ مِن المكارم حَسْبُكمٍ أنْ تَلْبسوا خَر الثِّياب وتشْبَعوا فإذا تُذوكرت المكارمُ مَرَّة في مَجلِس أنتم به فَتَقنّعوا وقالوا‏:‏ مَن لم يَرْكب الأهوال لم يٍنل الرَّغائبَ ومَن طلب العظائمَ خاطرَ بعَظيمته‏.‏

وقال يزيدُ بن عبد الملك لما أتي برأس يزيدَ بنِ المُهلّب فنال منه بعضُ جلسائه فقال‏:‏ إنّ يزيدَ ركِبَ عَظيماً وطَلب جَسيماً ومات كريماً‏.‏

وقال بعض الشعراء‏:‏ لا تَقْنعن ومَطْلَب لك مُمْكن فإذا تضايقت المطالبُ فاقْنع ومما جُبِلِ عليه الحُر الكريم أن لا يَقنع من شرف الدنيا والآخر بشيءٍ مما انبسط له أملاً فيما هو أسنىِ منه درجةً وأرفعُ منزلةً ولذلك قال عمرُ بن عبد العزيز لدًكين الرِاجز‏:‏ إنّ لي نفساَ تَوَّاقة فإذا بلغك أنِّي صِرْتُ إلى أشرف مِن منزلتي ‏"‏ هذه ‏"‏ فبعَينٍ ما أَرَينَّك - قال له ذلك وهو عامل ‏"‏ المدينة ‏"‏ لسليمان بن عبد الملك - فلما صارت إليَه الخلافةُ قَدِم عليه دُكَين فقال له‏:‏ أنا كما أعلمتُك أنّ لي نَفْساً تَوَاقة وأنّ نَفْسي تاقت إلى أشرف منازل الدُّنيا فلما بلغتها وجدتُها تَتوق إلى أشرف منازل الآخرة‏.‏

ومن الشاهد لهذا المعنى أنَّ موسى صلوات الله عليه - لما كلمه الله ‏"‏ عزَّ وجل ‏"‏ تكليماً - سأله النظرَ إليه إذ كان ذلك لو وصل إليه أشرفَ من المنزلة التي نالها فانبسط أملُه إلى ما لا سبيلَ إليه ليُستدلّ بذلك على أنّ الحرّ الكريم لا يَقْنع بمنزلةٍ إذا رأى ما هو أشرفُ منها‏.‏

ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ والحرُّ لا يَكْتفي من نَيْل مكْرُمةٍ حتى يَرومَ التي من دُونها العَطَبُ يَسْعَى به أملٌ من دونه أجلٌ إنْ كفَّه رَهَب يَسْتَدْعِه رَغَب لذاك ما سالَ مُوسى ربّه أرِني أنظُرْ إليكَ وفي تسأله عَجَب يَبْغى التزيّدَ فيما نال من كرم وَهْو النَّجِيُّ لديه الوَحْيُ والكُتُبُ وقال تأبّط شرًّا في ابن عمّ له يَصفه برُكوب الأهوال وبَذْل الأموال‏:‏ وإني لمُهْدٍ‏.‏

مِن ثَنائي فقاصدٌ به لابن عم الصَدْقِ شُمْس بنِ مالكِ قَليلُ التَّشكِّي للْمًهِمِّ يُصيبُه كثيرُ النَوى شَتَى الهَوَى والمسالك يَظَلُّ بمَوْماة ويسمى بغيرها وَحيداً ويعْرورِي ظُهورَ المهالك ويسبق وَفْدَ الرِّيحِ من حيثُ يَنْتحى بمُنْخَرِق من شَده المُتَدَارك إذا خاط عينَيْه كرَى النَّوْم لم يزل لَه كاليءٌ من قلب شَيْحانَ فاتِك ‏"‏ ويَجعل عينَيْه رَبيئة قلبه إلى سَلَّةٍ من جَفْن أخلَقَ باتك ‏"‏ إذا هَزَّه في عَظْم قِرْنٍ تَهلَّلت نَواجذُ أفواه المَنايا الضّواحك وقال غيرُه من الشعراء ‏"‏ بل هي له ‏"‏‏:‏ إذا المرءُ لم يَحْتل وقد جَدَّ جِدُّه أضاعَ وقاسىَ أمرَه وهو مُدْبِرُ ولكنْ أخو الحَزْم الذي ليس نازِلاً به الخطبُ إلا وللقَصْد مبْصِر فذاك قَريعُ الدّهر ما عاش حُوّل إذا سُدّ منه مِنْخر جاش مِنْخر