الجزء الأول - كتاب الزمردة في المواعظ والزهد

كتاب الزمردة في المواعظ والزهد

قال أحمدُ بن محمّد بن عبد ربه‏:‏ قد مضى قولُنا في الأمثال وما تَفَنَنَّوا فيه على كلِّ لسان ومع كلِّ زمان ونحن نبدأ بعوْن اللهّ وتوفيقه بالقَوْل في الزُهد ورجاله المشهورين به ونذكر المُنْتَحَلَ من كلامهم والمواعظَ التي وَعظت بها الأنبياء واْسْتَخْلصها الآباءُ للأبناء وجَرَت بين الحكماءِ والأدباء ومَقاماتِ العُبَّاد بين أيدي الخلفاء‏.‏

فأبلغ المواعظ كلِّها كلام الله تعالى الأعزّ الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يدَيْه ولا من خَلْفه تنزيلٌ من حكيم حَميد‏.‏

قال اللهّ تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ ادْعُ إلى سَبِيل رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَة الْحَسَنَة ‏"‏ إلى آخر السورة‏.‏

وقال جلّ ثناؤه‏:‏ ‏"‏ كيْفَ تَكْفُرًونَ بالله وَكُنْتُم أَمْواتَاَ فَأَحْيَاكُمْ ثَم يُميتُكُمْ ثَمَّ يُحْيِيكُمْ ثَمّ إلَيْه تُرْجَعُون ‏"‏ وقال ‏"‏ أَوَلَمْ يَرَ الِإنْسَان أَنّا خَلقْنَاهُ مِنْ نُطْفةٍ فَإذَا هُوَ خصِيمٌ مبِين ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏ عَلِيم ‏"‏‏.‏

فهذه أبلغُ الحُجَج وَأَحْكم المواعظ‏.‏

ثم مواعظُ الأنبياء صلواتُ الله عليهم ثم مواعظُ الآباء للأبناء ثمّ مواعظُ الحُكماء والأدباء ثم مَقامات العُبّاد بي أيدي الخُلفاء‏.‏

ثم قولهم في الزُّهد ورجاله المعروفين ثم المَشْهورين من المنتَسِبين إليه‏.‏

والموعظةُ ثقيلةٌ على السمع مُحَرِّجة على النفس بعيدة من القَبول لاعتراضها الشًهوة ومُضَادَّتها الهوى الذي هو ربيع القَلْب ومَرَاد الرُّوح ومَرْبَع اللًهو ومَسْرَح الأماني إلا لَنْ تَرْجِعَ الأنْفًسُ عن غَيها حتى يُرى منها لها واعظ وقالت الحكماء‏:‏ السًعِيد مَن وعِظ بغيره لاَ يَعْنُون مَن وَعظه غيرُه ولكنْ مَن رأى العِبر في غيره فاتِّعظ بها في نفسه‏.‏

ولذلك كان يقول الحَسَن‏:‏ آقْدَعُوا هذه النفوس فإنها طُلَعة وحادثوها بالذِّكر فإنها سريعة الدُثور واعْصُوها فإنها إن أُطِيعت نَزَعَتْ إلى شَرَّ غاية‏.‏

وكان يقول عند انقضاء مجلسه وختْم مَوْعظته‏:‏ يا لها من موْعظة لو صادفت من القلوب حياةً‏.‏

وكان ابن السماك يقول إذا فَرَغ من كلامه‏:‏ أَلْسُنٌ تَصف وقلوب تعرف وأعمال تُخالَف‏.‏

وقال يونُس بن عُبَيد‏:‏ لو أُمِرْنا بالجزَع لَصَبرنا‏.‏

يريد ثِقَل الموعظة على السْمع وجُنوحَ النفس إلى مُخالفتها‏.‏

ومنه قولهم‏:‏ أَحَبُّ شيء إلى الإنسان ما مُنِعَا وقولهم‏:‏ والشيءُ يُرْغَبُ فيه حين يَمْتِنعُ والموعظةُ مانعةٌ لك مما تَشْتهي حاملٌة لك على ما تَكْرَه إلا أن تلْقَاها بِسَمْع قد فَتقَتْه العِبْرة وقلبٍ قدَحَتْ فيهِ الفِكْرَة ونفس لها من عِلْمها زاجر ومن عقلها رادع فيُفْتَح لك بابُ التوبة ويُوَضَحُ لك سبيلُ الإنابة‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ حُفَّت الجنّة بالمكاره وخُفَت النار بالشَهوات‏.‏

يريد أنَ الطريقَ إلى الجنة احتمالُ المكاره في الدنيا والطريقَ إلى النار ركوب وخيرُ الموعظة ما كانت من قائل مخلص إلى سامعِ مُنْصِف‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الكلِمة إذا خَرَجَتْ من القلب وقعَتْ في القلب وإذا خرَجَتْ من اللِّسَان لم تُجَاوز الآذان‏.‏

وقالوا‏:‏ ما أَحْسَن التاجَ‏!‏ وهو على رأس المَلِك أَحْسَنُ وما أَحسن الدُّرَّ‏!‏ وهو على نَحر الفتاة أحسن وما أحسنَ الموعظةَ‏!‏ وهي من الفاضل التَّقِيّ أحسنُ وقال زياد‏:‏ أيها الناسُ لا يَمْنَعكم سوء ما تعلمون منّا أن تَنتَفعوا بأحْسَن ما تسمعون منّا قال الشاعر‏:‏ اعْمَل بقوْلي وَإنْ قَصَّرْتُ في عَمَلي يَنْفَعْكَ قَوْلِي ولا يضْرًرْكَ تَقْصِيري وقال عبدُ الله بن عبّاس‏.‏

ما انتفعَتُ بكلام أحدٍ بعدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتفعتُ بكلامٍ كتبَه إليّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏

كَتب إليّ‏:‏ أمّا بعد فإن المرءَ يَسره إدراكًُ ما لم يَكُن ليَفوتَه ويسوءُه فَوْتُ ما لم يكن لِيُدْرِكه فَلْيَكن سرورُك بما نِلْتَ من أمر آخرِتك ولْيَكن أسفُك على ما فاتَك منها‏.‏

وما نِلْتَ من أمرِ دُنياك فلا تكن به فَرِحاً وما فاتك منها فلا تَأْسَ عليه جَزَعا وليكن هَمُّك ما بعد الموت‏.‏

ووقَفَ حكيم بباب بعض المُلوك فَحُجب فتلطّف برُقْعة أَوْصَلَها إليه‏.‏

وكتب فيها هذا البيت‏:‏ أَلم تَرَ أَنَّ الفَقْرَ يُرجى له الغِنَى وأَنَ الغِني يُخشى عليه من الفقرِ فلمّا قرأ البيتَ لم يلبث أن انتعل وجَعل لاطئةً على رأسه وخرج في ثوْب فِضَال‏:‏ فقال له‏:‏ واللهّ ما اتّعظتُ بشيء بعد القرآن اتعاظي ببَيْتك هذا ثمّ قضى حوائجه‏.‏