الجزء الأول - كتاب الزمردة في المواعظ والزهد - مقامات العباد عند الخلفاء

مقامات العباد عند الخلفاء

مقام صالح بن عبد الجليل قام صالح بن عبد الجَليل بين يدي المهديّ فقال له‏:‏ إنه لما سَهُل علينا ما توعّر على غيرنا منِ الوصول إليك قُمْنا مَقام الأدَاء عنهم وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإظْهار ما في أعناقنا من فريضة الأمرِ والنهْي عند انقطاع عُذْر الكِتْمان ولا سيّما حين اتّسمتَ بميسم التَواضع ووعدت الله وحَملة كتابه إيثارَ الحق على ما سواه فَجَمعنا وإياك مشهدٌ من مشاهد التَّمحيص‏.‏

وقد جاء في الأثر‏:‏ مَن حَجَب الله عنه العِلْم عَذَبه على الجَهل وأشدُّ منه عذاباً من أقبل إِليه العلمُ فأدبر عنه فاْقبل يا أمير المُؤمنين ما أهْدي إليك من أَلْسنتنا قَبولَ تحقيق وعمل لا قَبول سُمعةٍ ورياء فإنما هو تَنْبيه من غَفْلة وتذْكير من سَهْو وقد وَطَّن الله ‏"‏ عزَ وجلَّ ‏"‏ نَبيّه ‏"‏ عليه السلام ‏"‏ على نُزولها فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وإمّا يَنْزغَنْك مِن الشَّيطان نزْغ فاْسَتعذ باللّه إنه هو السَّمِيع العَليم ‏"‏‏.‏

مقام رجل من العباد عند المنصور بينما المنصورُ في الطَراف بالبَيْت ليلاً إذ سَمِع قائلا يقول اللّهم إني أشكُو إليك ظُهور البغي والفَساد في الأرض وما يحولُ بين الحقّ وأهله من الطّمع‏.‏

فخرج المنصورُ فَجَلس ناحية من المَسجد وأرسل إلى الرجل يدعوه فصلّى رَكْعتين واستَلم الركن وأَقبل مع الرسول فسلّم عليه بالخلافة فقال المنصورُ‏:‏ ما الذي سمعتًك تذكُر من ظُهور الفَساد والبغي في الأرض وما الذي يحَول بين الحقّ وأهله من الطّمع فواللِّه لقد حَشَوْتَ مسامعي ما أرْمَضني‏.‏

فقال‏:‏ إنْ أمَنتني يا أميرَ المؤمنين أعلمتك بالأمور من أصولها وإلاّ احتجرتُ منك واقتصرتُ على نفسي فلي فيها شاغِل‏.‏

قال‏:‏ فأنتَ آمنٌ على نفسك فقُل‏.‏

فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين إنَّ الذي دخله الطمعُ وحال بينه وبين ما ظَهر في الأرض من الفساد والبغي لأنت فقال‏:‏ فكيف ذلك وَيْحك‏!‏ يَدْخلُني الطمع والصفراء والبَيضاء في قَبْضتي والحًلْو والحامض عندي قال‏:‏ وهل دَخل أحدٌ من الطمع ما دَخلك إنَّ الله استرْعاك أمرَ عِباده وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجَمْع أموالهم وجعلتَ بينك وبينهم حجاباً من الجَصّ والآجُرّ وأبواباً من الحديد وحًرّاساً معهم السّلاح ثم سجنتَ نفسك عنهم فيها وبَعثتَ عُمَّالك في جباياتِ الأموال وجَمْعها ‏"‏ وقوّيتهم بالرجال والسلاح والكُراع ‏"‏ وأَمرت أن لا يدخل عليك أحدٌ من الرجال إلا فلانٌ وفلانٌ نفراً سميتهم ولم تَأْمر بإيصال المَظلوم ولا الملْهوف ولا الجائع العارِي ‏"‏ ولا الضَّعيف الفقير ‏"‏ إليك ولا أحدٌ إلا وله في هذا المال حقّ فلما رآك هؤلاء النفرُ الذين استَخْلصتهم لنفسك وآثرتَهم على رعيّتك وأمرِتَ أن لا يُحجبوا دونك تَجْبي الأموالَ وتَجمعها قالوا‏:‏ هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه فإئتمروا أنْ لا يصلَ إليك من عِلْم أخبار الناس شْيءٌ إلا ما أرادوا ولا يَخْرُجَ لك عاملٌ ‏"‏ فيُخالفَ أمرهم ‏"‏ إلا خَوّنوه عندك ونفَوْه حتى تسقطَ منزلتُه فلما انتشر ذلك عنك وعَنهم أَعْظَمهم الناسُ وهابوهم وصانَعُوهم فكان أولَ من صانَعهم عُمّالُك بالهدايا والأموال لِيَقْووا بها على ظُلم رعيّتك ثم فعل ذلك ذوو المقْدرة والثروة من رعيّتك لينالوا ظُلْم مَن دونهم فامتلأت بلادُ الله بالطّمع ظُلْماً وبَغْياً وفساداً وصار هؤلاء القومُ شركاءك في سُلْطانك وأنت غافل فإن جاء مُتظلِّم حِيل بينك وبينه‏.‏

فإنْ أراد رَفْع قِصّته إليك عند ظُهورك وَجدك قد نَهَيْت عن ذلك ووقفت للناس رجلاً يَنْظر في مَظالمهم فإن جاء ذلك المتظلِّم فبَلغ بطانتَك خبرُه سألوِا صاحبَ المظالم أن لا يَرْفع مَظلَمتَه إليك ‏"‏ فإن المتظلَّم منه له بهم حُرْمة فأجابهم خوفاَ منهم ‏"‏ فلا يَزال المظلوِمُ يَختلف إليه ويَلُوذ به ويَشْكو ويَسْتغيث وهو يَدْفعه فإذا أجْهد وأحْرج ثم ظَهرْت صَرخ بين يديك فيُضرب ضرباً مُبرِّحاً يكون نَكالاً لغيره وأنت تَنظر فما تُنْكِر فما بَقاء الإسلام ‏"‏ على هذا ‏"‏ وقد كنتُ يا أمير المؤمنين أًسافر إلى الصِّين فقدِمتها مرَّةً وقد أُصيب ملكُها بسَمْعه فَبكى بًكاءَ شديداً فحّثه جُلساؤه على الصَبر فقال أما إني لستُ أَبكي للبليّة النازٍلة بي ولكني أبْكي لمظلوم يصرُخ بالباب فلا أَسمع صوتَه‏.‏

ثم قال‏:‏ أمَا إذ قد ذهب سَمْعي فإنّ بَصري لم يَذْهب نادُوا في النّاس أن لا يَلْبس ثوباً أحمرَ إلا مُتظلِّم‏.‏

ثم كان يركب الفيلَ طَرَفي النهار وينظُر هل يَرى مظلوماً‏.‏

فهذا يا أمير المؤمنين مُشرك باللّه بلغتْ رأفته بالمُشركين هذا المبلغ وأنت مُؤمن باللّه من أهل بيت نبيّه لا تَغْلبك رأفتك بالمُسلمين على شُحّ نفسك فإن كنتَ إنما تَجمع المال لولدك فقد أراك الله عِبَراً في الطِّفل يَسقط من بَطن أمه مالَه على الأرض مال وما من مال إلا ودونه يدٌ شَحيحة تَحْويه فما يَزال الله يلطف بذلك الطفل حتى تعْظُم رغبة الناس إليه ولستَ الذي تُعطي بل الله الذي يعطيِ من يشاء ما يشاء فإن قلتَ إنما تَجْمَع المال لتَشُدَّ به السلطان فقد أراك الله عِبراَ في بني أمَيّة ما أغنى عنهم جمعُهم من الذًهب وما أعدُّوا من الرِّجال والسلاح والكُرَاع حين أراد الله بهم ما أراد وإن قلت إنما تجمع المالَ لطلب غايةٍ هي أجسم من الغاية التي أنت فيها فواللّه ما فَوق ما أنت فيه إلا منزلةٌ لا تُدْرك إلا بخلاف ما أنتَ عليه‏.‏

يا أميرَ المؤمنين هل تُعاقب مَن عَصَاك بأشدّ من القتل فقال المنصور‏:‏ لا فقال‏:‏ فكيف تَصنع بالمَلِك الذي خَوَّلك مُلْك الدنيا وهو لا يُعاقب مَن عَصاه بالقتل ولكن بالخُلود في العذاب الأليم قد رأى ما عُقد عليه قلبك وعَملته جوارحك ونَظَر إليه بَصرك واجترَحَتْه يداك ومَشَت إليه رِجْلاك هل يُغْني عنك ما شَحِحْتَ عليه من مُلْك الدُّنيا إذا انتزَعَه من يدك ودعاكَ إلى الحِساب قال‏:‏ فَبكى المنصورُ ثم قال‏:‏ ليتَنِي لم أخْلق‏.‏

ويحك‏!‏ فكيف أحتال لِنَفْسي فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنَّ للناس أعلاماَ يَفْزَعون إليهم في دينهم ويَرْضَوْن بهم في دُنياهم فاجعلهم بِطانَتك يُرْشدوك وشاوِرْهم في أمْرِكَ يُسَدِّدوك قال‏:‏ قد بعثتُ إليهم فهربوا منِّي قال‏:‏ خافُوك أن تَحملهم على طريقَتِك ولكن افْتَح بابَكَ وسهِّل حِجَابك وانصُر المظلوم واقمع الظالم وخُذِ الفَيْءَ والصدقات من حِلَها واقسمها بالحقّ والعدْلِ على أهلها وأنا ضامن عنهم أن يأتوك ويساعدوك على صلاح الأمة‏.‏

وجاءَ المؤذِّنون فسلَّموا عليه فصلّى وعاد إلى مَجْلسه وطُلِب الرجُل فلم يوجد‏.‏

مقام الأوزاعي بين يدي المنصور قال الأوزاعيّ‏:‏ دخلتُ عليه فقال لي‏:‏ ما الذي بَطّأَ بك عني قلتُ‏:‏ وما تُريد منّي يا أمير المؤمنين قال‏:‏ الاقتباس منك قلتُ‏:‏ يا أمير المؤمنين انْظُر ما تقول فإنّ مَكحولا حدَّثَني عن عطيَّة بن بُسْر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ مَنْ بَلغتْه عن اللّه نصيحةٌ في دِينه فهي رحمةٌ من الله سِيقت إليه فإنِّ قَبِلها من الله بشكرو إلا فهي حُجَّة من الله عليه ليَزداد إثماً ويزدادَ الله عليه غَضباً ‏"‏ وإِن بلغه شيء من الحق فرضي فله الرضا وإن سَخِطَ فله السّخْط ومَن كرهه فقد كره الله عزَّ وجلَّ لأنَّ الله هو الحق المبين ‏"‏‏.‏

ثم قلتُ‏:‏ يا أميرَ المُؤْمنين إنك تحمّلت أمانة هذه الأمة وقد عُرضت على السَّمواتِ والأرض فأَبَين أَنْ يَحْمِلْنَها وَأشْفَقْنَ مِنْهَا‏.‏

وقد جاء عن جدِّكَ عبد الله بن عبّاس في تفسير قول الله عزّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ لا يُغَادرُ صَغِيرَةً وَلا كَبيرَةً إلا أَحْصَاهَا ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ الصِّغيرة‏:‏ التبسّم‏.‏

والكبيرة‏:‏ الضحك‏.‏

فما ظنك بالقول والعمل فأًعيذك باللّه يا أَميرَ المُؤْمنين أن تَرى أنّ قَرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تَنْفعك مع المُخالفة لأمره فقد قال للّه‏:‏ يا صفِيّة عمة محمّد ويا فاطمة بنت محمّد استَوْهِبا أنفسكما من الله فإنّي لا أُغْنِي عنكما من الله شيئاً‏.‏

وكذلك جدًك العبَّاس سأل إمارةً من النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أيْ عمّ نفسٌ تُحييها خيرٌ لك من إمارة لا تُحْصِيها‏.‏

نظراً لعمه وشفقةً عليه من أن يَليَ فيحيد عن سُنّتِه جَنَاح بعوضة فلا يستطيع له نَفْعاً ولا عنه دَفْعاً‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما منَ راع يَبِيتُ غاشاً لرعيّتِه إلا حَرّمَ الله عليه رائحةَ الجنَّة‏.‏

وحقِيق على الوالي أن يكونَ لرعيًّته ناظرِاً ولما استطاع من عَوْرَاتِهم ساتراً وبالحق فيهم قائماً فلا يتخوّف مُحْسنهم منه رَهَقاَ ولا مُسِيئهم عًدْوَاناً فقد كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم جَريدةٌ يَستاك بها ويَرْدَعُ المنافقين عنه فأتاه جبريلُ فقال‏:‏ يا محمد ما هذه الجريدة التي معك اتْرُكها لا تَمْلأْ قلوبهم رُعْباً‏.‏

فما ظنُّك بمن سَفك دِمَاءَهم وقطّع أستارَهم ونهب أموالهمِ يا أمير المؤمنين إن المغفور له ما تقدّمَ من ذنبه وما تأخّر دعا إلى القِصاص من نفْسه بِخَدْش خَدَشه أَعرابيّاً لم يتعمَّده فقال جبريلُ‏:‏ يا محمد إنّ الله لِم يَبْعثك جبّاراً تَكْسِر قًرون أُمّتك‏.‏

واعلم يا أمير المؤمنين أن كلَّ ما في يدك لا يعَدِلُ شرْبةً من شَرَاب الجنَّة ولا ثمرَةً من ثِمارها ولو أن ثوباً من ثِياب أهل النار عُلِّق بين السماء والأرض لأهْلك الناسَ رائحتُه فكيف بمن تَقَمّصه‏!‏ ولو أن ذَنوباً من ‏"‏ صَديد أهل ‏"‏ النار صُبّ على ماء الدُّنيا لأَحَمَّه فكيف بمن تجرّعه‏!‏ ولو أنَ حَلْقة من سَلاسل جهنَّم وُضعت على جبَل لأذابتْه فكف بمن يُسْلَك فيها وَيُرَدّ فَضْلُها على عاتقه‏!‏ كلام أبي حازم لسليمان بن عبد الملك حجّ سُليمان بن عبد الملك فلما قَدِمَ المدينةَ للزيارة بَعث إلى أبي حازم الأعرج وعنده ابن شِهاب فلما دخل قال‏:‏ تكلّم يا أبا حازم‏.‏

قال‏:‏ فيم أتكلّم يا أمير المُؤمنين قال‏:‏ في المَخْرج من هذا الأمر قال‏:‏ يَسِيرٌ إن أنت فعلتَه قال‏:‏ وما ذاك قال‏:‏ لا تأخذ الأشياء إلاّ من حِلِّها ولا تَضَعْها إلا في أهلها قال‏:‏ ومن يَقوى على ذلك قال‏:‏ مَن قلَّدَه الله من أَمر الرعيّة ما قلَّدك‏.‏

قال‏:‏ عِظْني يا أبا حازم قال‏:‏ اعلم أنَّ هذا الأمر لم يَصِرْ إليك إلا بمَوْت من كان قَبْلَك وهو خارجٌ من يديك بمثل ما صار إليك‏.‏

قال‏:‏ يا أبا حازم أَشِر عليَّ قال‏:‏ إنما أنت سُوق فما نفق عندك حُمِل إليك من خير أو شرّ فاشتر أيَّهما شِئتَ‏.‏

قال‏:‏ مالك لا تأتينا قال‏:‏ وما أَصنع بإتيانِك يا أمير المؤمنين إنً أَدْنَيْتَني فتنْتَني وإن أقصَيتني أَخْزَيْتني وليس عندك ما أرجوك له ولا عِنْدي ما أَخافُك عليه‏.‏

قال‏:‏ فارفع إلينا حاجتَك قال‏:‏ قد رفعتُها إلى ما مَن هو أقدرُ منك عليها فما أَعطاني منها قَبِلْتُ وما مَنَعَني منها رَضِيتُ‏.‏

مقام ابن السمَّاك عند الرشيد دَخل عليه فلما وَقف بين يديه قال له‏:‏ عِظْني يابن السمَّاك وأوجز‏.‏

قال‏:‏ كفي بالقُرآن واعظاً يا أميرَ المؤمنين قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ بِسْم الله الرحْمن الرحيم‏.‏

وَيلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الّذين إذا اكتالوا على النَّاس يَسْتَوْفُون‏:‏ ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ لِرَبِّ العَالمين ‏"‏‏.‏

هذا يا أمير المؤمنين وَعيدٌ لمن طَفّفَ في الكَيْل فما ظَنُّك بمن أخذه كُلّه وقال له مرة‏:‏ عِظْني وأتي بماء ليشرَبه فقال‏:‏ يا أَمير المؤمنين لو حُبِسَتْ عنك هذه الشرْبةُ أكنتَ تَفدِيهاَ بمُلْكك قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فلو حُبِس عنك خُروجُها أكنت تَفديها بمُلْكك قال‏:‏ نعم ‏"‏ قال ‏"‏‏:‏ فما خيرٌ في مُلْك لا يُسَاوي شرْبة ولا بَولَة‏.‏

قال‏:‏ يابن السماك ما أَحْسن ما بَلَغنِي عنك‏!‏ قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنَ لي عيوباَ لو اطّلع الناسُ منها على عيب واحد ما ثبتتْ لي في قَلب أحد موِدّة وإني لخائفٌ في الكلام الفِتْنة وفي السرّ الغِرّةً وإني لخائفٌ على نَفْسي من قِلّة خوْفي عليها‏.‏

كلام عمرو بن عبيد عند المنصور دخل عمرو بن عُبيد على المَنصور وعنده ابنه المهديّ فقال له أبو جعفر‏:‏ هذا ابن أمير المؤمنين ووليُّ عهد المسلمين ورَجائي أن تًدْعو له فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أراك قد رَضيتَ له أموراً يصير إليها وأنت عنه مَشْغول‏.‏

فاستَعْبر أبو جعفر وقال له‏:‏ عِظْني أبا عثمان قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنَّ الله أعطاك الدّنيا بأسرها فاشتر نفسَك منه بِبعْضها هذا الذي أصبح في يديك لو بقي في يدِ مَن كان قبلك لم يَصِل إليك‏.‏

قال‏:‏ أبا عثمان أعِنِّي بأصحابك قال‏:‏ ارفع عَلَم الحق يَتبْعك أهلُه ثم خرج فأتْبعَه أبو جعفر بصرُّة فلم يَقبلها وجعل يقول‏:‏ كُلّكم يَمْشي رُوَيد كُلّكم خاتِلُ صَيد غير َعمرو بنِ عُبيد خبر سفيان الثوري مع أبي جعفر لَقي أبو جعفر سُفْيان الثَّوريَّ في الطواف وسُفيان لا يَعْرفه فَضرب بيده على عاتِقه وقال‏:‏ أتَعْرفني قال‏:‏ لا ولكنّك قَبضت عليّ قَبْضة جبّار‏.‏

قال‏:‏ عِظْني أبا عبد الله قال‏:‏ وما عملتَ فيما عَلِمتَ فأَعِظَك فيما جَهِلْت قال‏:‏ فما يَمْنعك أن تَأتَينا قال إنَّ الله نهى عَنْكم فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وَلا تَرْكَنُوا إلى الّذِين ظَلَمُوا فَتَمًسّكم النَّار ‏"‏‏.‏

فمسح أبو جعفر يدَه به ثم التفت إلى كلام شبيب بن شيبة للمهدي قال العُتْبي‏:‏ سألتُ بعضَ آل شَبيب بن شَيْبة أتَحْفظون شيئاً من كلامه قالوا‏:‏ نعم قال للمهديّ‏:‏ يا أميرَ المؤمنين إنَّ الله إذ قَسَّم الأقسام في الدًنيا جعل لك أسناها وأَعلاها فلا تَرْض لنفسك في الآخرة إلا مثلَ ما رَضي لك به من الدنيا فأًوصيك بتَقْوى اللّه فَعَليكم نَزَلت ومِنكم أخذت وإِليكم تُرَدّ‏.‏

من كره الموعظة لبعض ما يكون فيها من الغلظ أو الخرق قال رجل للرَّشيد‏:‏ يا أمير المؤمنين إنّي أريد أن أعِظك بِعظةٍ فيها بعض الغِلْظة فاحتَمِلها قال‏:‏ كلاّ إنَّ الله أمر مَن هو خيرٌ منك بإلانة القول لمن هو شرٌّ منِي قال لنبيّه موسى ‏"‏ عليه السلام ‏"‏ إذ أرسله إلى فرعون‏:‏ ‏"‏ فقُولا له قَوْلاً ليِّناً لَعلّه يَتَذكر أو يَخْشى ‏"‏‏.‏

دخل أعرابيٌّ على سُليمان بن عبد الملك فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إني مُكلِّمك بكلام فاحتَمِلْه إن كرهتَه فإن وراءه ما تُحب إن قبلتَه قال‏:‏ هات يا أعرابيّ قال‏:‏ إني سأطلق لساني بما خَرستْ عنه الألْسُن من عِظتك تأديةً لحق الله تعالى وحقِّ إمامتك إنه قد اكتَنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم فابتاعوا دُنياك بدينهم ورِضاك بسُخْط ربهم خافُوك في الله ولم يَخافوا الله فيك فهم حَرْب للآخرة سِلْمِ للدنيا فلا تَأمنهم علِى ما ائتمنك الله عليه فإنهم لا يألونك خبالاً والأمانة تَضييعاً والأُمةَ عَسْفاَ وخَسْفاً وأنت مَسْؤول عما آجترحوا وليسوا مَسْؤولين عما اجترحتَ فلا تُصْلح دُنياهم بفَساد آخرتك فإنَّ أَخْسَر الناس صَفْقةً يوم القيامة وأَعظمَهم غبْناً مَن باع آخرتَه بدُنيا غيره‏.‏

قال سليمان‏:‏ أما أنت يا أَعرابيّ فقد سَلَلْتَ لسانك وهو أحدّ سيفَيْك‏.‏

قال‏:‏ أجلْ يا أمير المؤمنين لك لا عليك‏.‏

ووعظ رجل المأمون فأَصغَى إليه مُنْصَتاً فلما فَرغ قال‏:‏ قد سمعتُ موعظتك فاسأل الله أن ينفعنا بها وبما عَلِمنا غيرَ أنّا أحوجُ إلى المُعاونة بالفِعال مِنّا إلى المُعاونة بالمَقال فقد كَثُر القائلون وقَلّ الفاعلون‏.‏

العُتْبِيُّ قال‏:‏ دَخل رجلٌ من عَبد القَيْس على أبي فَوَعِظه فلما فَرغ قال أبي له‏:‏ لو اتّعظنا بما عَلِمنا لا نْتَفعْنا بما عَمِلْنا ولكنّا عَلِمنا عِلماَ لزمتنا فيه الحُجَّة وغَفَلنا غَفْلةَ مَن وَجبت عليه النِّقمة فَوُعظنا في أنفسنا بالتَّنقل من حال إلى حال ومن صِغَرِ إلى كِبر ومن صِحَّة إلى سَقم فأبينا إلا المُقام على الغَفْلة وإيثاراً لعاجل لا بقاءَ لأهله وإعراضاً عن آجل إليه المصير‏.‏

سعد القَصِير قال‏:‏ دَخل أناسٌ من القُرّاء على عُتْبة بنِ أبي سًفيان فقالوا‏:‏ إنّك سَلَّطت السيفَ على الحقّ ولم تسلِّط الحقَّ على السَّيف وجئت بها عَشوة خَفِيّة‏.‏

قال كَذَبْتُم‏:‏ بل سلّطت الحقّ وبه سُلِّطتَ فاعرفوا الحقَّ تَعْرفوا السيفَ فإنكم الحاملون له حيثُ وَضعه أفضل والواضعون له حيثُ حَمْله أعدل ونحِن في أول زمان لم يأتِ آخرُه وآخرِ دَهْر قد فات أولُه فصار المَعْروف عندكم مُنْكراَ والمُنكر معروفاً وإني أقول لكم مَهْلاً قبلَ أن أقول لنفسي هلا قالوا‏:‏ فَنَخْرج آمِنين قال‏:‏ غيرَ راشدين ولا مَهْدِيِّين‏.‏

حاد قوم سَفْر عن الطريق فَدَفعوا إلى راهب مُنْفرد في صَوْمعته فنادَوْه فأشرف عليهم فسألوه عن الطريق فقال‏:‏ ها هنا وأومأ بيده إلى السماء فَعلِموا ما أراد فقالوا‏:‏ إنا سائلوك قال‏:‏ سَلُوا ولا تُكْثِرُوا فإن النهار لا يرجع والعُمْر لا يعود والطالبَ حثيث قالوا‏:‏ علام الناسُ يومَ القيامة قال‏:‏ على نيَّاتهم وأعمالهم قالوا‏:‏ إلى أين المَوْئل قال‏:‏ إلى ما قَدَّمتم قالوا‏:‏ أوصِنا قال‏:‏ تزَوَّدُوا على قَدْر سَفركم فَخَيْر الزاد ما بَلَّغ المحلّ ثم أرشدهم الجادَّة واْنقمع‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ أتيت الشامَ فمررتُ بدَيْر حَرْملة فإذا فيه راهبٌ كأنّ عينيه مَزادتان فقلت له‏:‏ ما يُبْكيك قال‏:‏ يا مُسلم أبْكي على ما فَرّطت فيه من عُمري وعلى يوم يَمْضي من أجلي لم يَحْسُن فيه عملي‏.‏

قال‏:‏ ثم مررتُ بعد ذلك فسألتُ عنه فقيل لي‏:‏ إنه قد أسلم وغزا الرومَ وَقُتل‏.‏

قال أبو زَيْد الحيريّ‏:‏ قلت لثوبانَ الراهب‏:‏ ما مَعنى لُبْس الرهبان هذا السواد قال‏:‏ هو أشبهُ بلباس أهل المصائب قلت‏:‏ وكلَّكم معشرَ الرُّهبان قد أصيب بمُصيبة قال‏:‏ يَرْحمك اللّه وهل مُصيبة أعظمُ من مَصائب الذنوب على أهلها قال أبو زيد‏:‏ فما أذكُر قوله إلا أبكاني‏.‏

حبيبٌ العَدَويّ عن موسى الأسْوَارِيّ قال‏:‏ قال‏:‏ لما وقعتْ الفِتْنه أردتُ أن أحْرِزَ ديني فخرجتُ إلى الأهْواز فبلغ آزادمَرْد قُدومي فبعثَ إليّ مَتاعاً فلما أردتُ الانصراف بلغني أنه ثَقِيل فدخلتُ عليه فإذا هو كالخًفاش لم يَبق منه إلا رأسه فقلت‏:‏ ما حالُك قال‏:‏ وما حالُ مَنْ يُريد سفراً بعيداً بغير زاد ويَدْخل قبراً موحِشاً بلا مُؤنس وَينْطلق إلى مَلك عَدْل بلا حُجَّة ثم خرجتْ نفسُه‏.‏

العُتبيُّ قال‏:‏ مررتُ براهب باكٍ فقلتُ‏:‏ ما يُبكيك قال‏:‏ أمْرٌ عَرفتُه وقَصرُت عن طلبه ويومٌ مَضى من عُمري نقص له أجلي ولم يَنْقُص له أملي‏.‏