الجزء الأول - كتاب الزمردة في المواعظ والزهد - المبادرة بالعمل الصالح

المبادرة بالعمل الصالح

قال الله عزّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ وَسَارِعُوا إلى مَغفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُم وجَنة ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ والسَّابِقُونَ السَّابِقونَ أُولئك المُقرًبًون ‏"‏‏.‏

وقال الحسن‏:‏ بادروا بالعمل الصالح قبل حُلول الأجل فإنّ لكم ما أَمضيتم لا ما أَبْقَيتم‏.‏

وقالوا‏:‏ ثلاثة لا أناة فيهن‏:‏ المُبادرة بالعمل الصالح ودفْن الميّت وإنكاح الكُفء‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ابن آدم اْغتنم خمَساً قبل خَمْس‏:‏ شبابك قبل هَرَمك وصِحَّتك قبل سَقَمك وفَراغك قبل شُغلك وحياتَك قبل مَوْتِك وغِناك قبل فَقْرِك‏.‏

وقال الحسن‏:‏ ‏"‏ ابن آدم ‏"‏ صُمْ قبل أن لا تَقْدر على يومٍ تَصُومه كأنك إذا ظَمِئْت لمَ تَكُن رَوِيت وكأنك إذا رَوِيتْ لم تكن ظَمِئت‏.‏

وكان يزيد الرَّقاشيّ يقول‏:‏ يا يزيدُ مَن يَصُوم عنك أو يُصَلِّي لك أو يَتَرَضىَّ لك ربك إذا مِتّ وكان خالدُ بن مَعْدان يقول‏:‏ إذا أنتَ لم تَزْرَع وأَبصرْتَ حاصداً نَدِمْتَ عَلَى التَّفْريط في زَمن البَذْرِ وقال ابن المُبارك‏:‏ رَكِبْتُ مع محمد بن النَّضْر في سفينة فقلتُ‏:‏ بأي شيء أَسْتَخْرِج منه الكلامَ فقلتُ له‏:‏ ما تقول في الصَّوم في السفر فقال‏:‏ إنما هي المبادرة يا بن أخي‏.‏

فجاءني والله بفُتْيا غير فُتْيا إبراهيم والشعبي‏.‏

ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ بادرْ إلى التَّوْبِة الخَلْصَاء مُجْتهداً والموتُ وَيْحك لم يَمْدًد إليك يَدَا وأرقبْ من الله وَعْداً لَيْسَ يُخْلِفُه لا بُدَّ لله من إنجاز ما وَعَدَا وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأصحابه‏:‏ فيم أنتم قالوا‏:‏ نَرْجُو ونَخاف قال‏:‏ مَن رجا شيئاً طَلَبَه ومن خافَ شيئاً هَرَب منه‏.‏

تَرْجُو النَّجَاةَ وَلم تَسْلُك مَسَالكها إنّ السَّفِينَةَ لا تَجْرِي عَلَى اليَبس وقال آخر‏:‏ اعمل وأنتَ من الدُنيا على حَذَر وآعلم بأنكَ بعد المَوْت مَبْعُوثُ واعلم بأنك ما قَدَمْت من عَمَل يُحْصىَ عَليك وما خَلَّفْتَ مَوْرُوث وقَدَّمَت عائشةُ رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم صَحْفَة فيها خُبز شَعِير وقطعة من كَرش وقالت‏:‏ يا رسولَ الله ذَبَحْنا اليوم شاةً فما أَمسكنا منها غيرَ هذا فقال‏:‏ بل كلًّها أمسكتم غير هذا‏.‏

العجز عن العمل قال رجلٌ لمُؤرِّق العِجْلي‏:‏ أشكُو إليك نفسي إنها لا تُريد الصلاة ولا تَسْتَطيع الصبرَ على الصّيام قال‏:‏ بئس الثناء أثنيت به على نفسك فإذا ضعًفَت عن الخير فاضْعُف عن الشرّ فإنّ الشاعر قال‏:‏ احْزَنْ عَلى أَنكَ لا تَحْزَنُ ولا تُسئ إن كُنْتَ لا تُحْسِنُ واضعُفْ عن الشر كما تدَعى ضَعْفاً عن الخير وقد يُمْكِنُ وقال بكرُ بن عبد الله‏:‏ اجتهدوا في العملِ فإن قَصرًّ بكمِ ضْعْفٌ فأمسكوا عن المعاصي‏.‏

وقال الحسنُ رحمه الله‏:‏ من كان قوياً فَلْيعتمد على قُوته في طاعة الله ومَن كان ضعيفاً فلْيَكُفّ عن معاصي الله‏.‏

وقال عليُ ‏"‏ بن أبي طالب عليه السلام ‏"‏‏:‏ لا تَكُنْ كمن يَعْجِزُ عن شُكر ما أُوِتي ويَبْتَغي الزيادة فيما بَقى وينْهَى الناسَ ولا ينتهي‏.‏

وكان الحسنُ إذا وَعظ يقول‏:‏ يا لها موعظةً لو صادفت من القلوب حياةً أَسْمَع حَسِيساً ولا أَرَى أنيساً ما لهم تَفاقدوا عقولَهم فَرَاش نار وذُباب طَمَع‏.‏

وكان ابن السمّاك إذا فَرَغ من مَوْعظته يقول‏:‏ أَلْسِنَة تَصِف وقلوب تَعْرف وأعمال تخالِف‏.‏

وقال‏:‏ الحسنة نورٌ في القَلْب وقُوَّة وقال بعض الحُكماءِ‏:‏ يا أيُّها المشيَخَة الذين لم يَتْرًكوا الذنوب حتى تَرَكتْهُم الذُّنوب ثمّ ظَنُّوا أنّ تَرْكها لهم توبة وليتهم إذ ذهبتْ عنهم لم يَتَمَنَوا عَوْدَها إليهم‏.‏

وكان مالكُ بن دينار يقول‏:‏ ما أشدَّ فِطَامَ الكبير ويُنشد‏:‏ وتَرُوض عِرْسَك بعدما هَرِمَت ومن العَناء رياضة الهَرِم ومن حديث محمد بن وَضّاح قال‏:‏ إذا بلغَ الرجلُ أربعين سنة ولم يَتُب مَسح إبليسُ بيده على وجهه وقال‏:‏ بِأَبي وَجْهٌ لا أفْلَح أبداً‏.‏

قال الشاعر‏:‏ فإذا رأى إبليسُ غُرَّةَ وَجْهِه حَيا وقال فَديتُ من لا يُفْلِحُ وقال رجل للحسن‏:‏ أبا سعيد أردتُ أن أُصَلِّي فلم أستطع قال‏:‏ قَيَّدَتْكَ ذنوبك‏.‏

قولهم في الموت قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطّاب رضوانُ الله عليه‏:‏ ما عندك من ذِكر الموت أبا حَفْص قال‏:‏ أُمْسي فما أرى أنّي أُصْبح وأُصبحِ فما أَرَى أني أُمْسي قال‏:‏ الأمر أَوْشك من ذلك أبا حَفْص أما إنّه يَخرُج عنّي نفسي فما أَرَى أنه يعود إليّ‏.‏

وقال عبد بن شَدَّاد‏:‏ أرى داعي الموت لا يُقْلِع و ‏"‏ أرى ‏"‏ مَن مَضى لا يَرْجع ومن بَقي فإليه يَنْزع‏.‏

وقال الحسن‏:‏ ابن آدم إنما أنت عَدَد فإذَا مضى يومُك فقد مَضى بعضُك‏.‏

وقال أبو العتاهية‏:‏ الناس في غَفَلاتهمِ ورَحى المَنية تَطْحَنُ وقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ مَن أكثر من ذِكر الموت اكتفي باليسير ومَنْ عَلِم أَنّ الكلام عمل قلِّ كلامُه إلاّ فيما يَنفع‏.‏

وكان أبو الدَّرداء إذا رأى جِنَازة قال‏:‏ اغدي فإنا رائحون أو روحي فإنا غادون‏.‏

وقال رجل للحسن‏:‏ مات فلانٌ فجأة فقال‏:‏ لو لم يَمُتْ فجأةً لَمَرِض فجأة ثم مات‏.‏

وقال يعقوب صلواتُ الله عليه للبَشِير الذي أتاه بقمِيص يوسف‏:‏ ما أَدْرِي ما أُثيبك به ولكن هوَن الله عليك سكراتِ الموت‏.‏

وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ لقد جَلستُ إلى جَرِير وهو يُملي على كاتبه‏:‏ وَدِّعْ أُمَامَةَ حَان منك رَحِيلُ ثم طلعت جِنَازَةٌ فَأمْسك وقال‏:‏ شَيَّبَتْني هذه الجنائز قلت‏:‏ فَلِم تَسُبّ الناسَ قال‏:‏ يَبْدَءوني ثم لا أعفو وأَعْتدي ولا أَبْتَدي‏.‏

ثم أنشد يقول‏:‏ تُرَوِّعنا الجنائزُ مُقْبِلات فَنَلْهُو حين تذْهبُ مُدْبراتِ كَرَوْعَة هَجْمَةٍ لمُغار سَبْعِ فلما غابَ عادتْ راتعات وقالوا‏:‏ مَن جعل الموتَ بين عَيْنيه لَهَا عما في يَدَيه‏.‏

وقالوا‏:‏ اتخذ نوحٌ بيتاً من خُصّ فقيل له‏:‏ لو بَنيتَ ما هو أحسن من هذا قال‏:‏ هذا كثيرٌ لمَن يموت‏.‏

وأحكم بيتٍ قالْته العربُ في وَصْف الموت بيتُ أُمية بن أبي الصَّلت حيث يقول‏:‏ يُوشِك مَنْ فَر مِنْ مِنيَّته في بَعْض غِراته يُوَافِقُهَا مَنْ لم يمُتْ غَبْطَةً يَمُت هَرَماً للموت كأسٌ والمرء ذائقها وقال إصْبَغ بن الفَرَج‏:‏ كان بنَجْران عابد يَصِيح في كلِّ يوم صَيحتين بهذه الأبيات‏:‏ قَطَعَ البقاء مَطالعُ الشمسِ وغُدوًّها من حيث لا تُمْسي وطلوعُها حمراءَ قانيةَ وغُرِوبُها صفراءَ كالوَرْس اليومُ يُخبر ما يجيء به ومَضى بفَضْل قَضَائه أمس قال آخر‏:‏ زينت بيتك جاهلاً وعَمَرْتَه ولعلّ غيرَك صاحبُ البيتِ مَنْ كانت الأيامُ سائرةً به فكأنه قد حلّ بالموت والمرءُ مُرْتهنٍ بسوْفَ ولَيْتني وهلاكُه في السَّوف واللَّيْت للهّ دَرُّ فتى تَدَبّرَ أمرَه فَغَدَا وراح مُبَادِرَ الفَوْتِ كم رأينا من أناس هَلَكوا قد بَكَوْا أحْبَابَهُم ثم بُكًوا تَرَكُوا الدًّنيا لمَن بعدهُم وُدًّهم لو قَدّمُوا ما تَركوا كم رأينا من مُلوكٍ سُوقة ورأينا سُوقةً قد مَلَكوا وقال الصَّلَتان العَبْدِيّ‏:‏ أَشابَ الصغِيرَ وأَفْنى الكبي رَ كرُّ الغَداة ومَرُّ العَشي إِذا ليلة أَهْرَمت يومَها أتى بعدَ ذلك يومِ فَتِي نرُوح ونَغدو لحاجاتِنا وحاجةً مَن عاشِ لا تنقضي تَموت مع المرء حاجاتُه وتَبْقَى له حاجةَ ما بقي وكان سُفيان بن عُيينة يَسْتحسن قولَ عَدِيّ بن زَيْد‏:‏ أينَ أهلُ الدِّيارِ مِنْ قَوْم نُوح ثم عادٌ من بعدها وثَمود بينما هُمْ على الأسرة والآن ماطِ أَفضت إلى التُّراب الخُدود وصحيحٌ أَمْسى يعُودُ مريضاً وهو أَدنى للموت ممَّن يَعود ثم لم ينقض الحديثُ ولكنْ بعد ذا كلِّه وذاك الوَعِيد كأن قد صِرْتُ مُنْفَرِداً وحيداً ومُرْتَهناً هناك بما لَديّا كأنّ الباكياتِ عليّ يوماً ولا يُغنى البًكاء عليّ شَيَّا ذكرت مَنِيَّتِي فنعمتُ نفسي ألا أَسْعِدْ أُخَيك يا أُخَيّا وقال‏:‏ سَتَخلق جِدًةٌ وَتَجُود حالُ وعِنْد الحق تختبر الرجالُ وللدُنيا ودائعُ في قُلوب بها جَرَت القَطِيعة والوِصَال تَخَوَّفُ ما لَعَلَّكَ لا تَراًه وترْجُو ما لعلك لا تنال وقد طلع الهِلالُ لهَدْم عُمْري وأَفْرَحُ كًلَّما طَلع الهِلال وله أيضاً‏:‏ مَنْ يَعِيشْ يَكْبُرْ ومَنْ يَكْبُر يَمُتْ والمَنَايا لا تُبالي من أتَتْ نحن في دار بَلاءٍ وأذىً وشَقَاءٍ وعَناءٍ وعَنَت مَنزلٌ ما يَثْبُتُ المرءُ به سالماً إلا قليلاً إن ثَبَت أيها المَغْرور ما هذا الصِّبا لو نَهَيْتَ النفسَ عنه لانْتهت مَنْ لي إذا جُدْت بين الأهل والوَلَد وكان منِّيَ نحو المَوت قَيْد يَدِ والدَّمْعُ يَهْمُلُ والأنفاسُ صاعِدةٌ فالدًمْعُ في صَبَب والنفس في صُعُد ذاكَ القضاءُ الذي لا شيءَ يَصرِفه حتى يُفرِّقَ بينً الرُّوح والجَسَد ومن قولنا فيه‏:‏ أتْلهو بين باطِيَةٍ وزيرِ وأَنت من الهلاك على شَفِير فيا مَن غَرّهُ أملٌ طَوِيلٌ يُؤَدِّيه إلى أجل قَصِير أتَفْرَحُ والمَنِيِّة كلَ يوم تريك مكان قبرك في القبور هي الدّنيا فإنْ سَرتكَ يوماً فإنَّ الحُزْنَ عاقبةً السُرُور سَتسْلَبُ كلَّ ما جَمعْت منها كَعَارِيةٍ ترَدُّ إلى المُعِير وتَعْتَاضُ اليَقيِن من التَّظَنِّي وَدَارَ الحق من دار الغًرور ولأبي العتاهية‏:‏ وَليس مِن مَنزلٍ يَأْوِيه ذو نَفَس إلا وَللمَوْتِ سَيْفٌ فيه مَسْلُولُ وله أيضاً‏:‏ وله أيضاً‏:‏ أُؤمِّل أَنْ أخَلَّدَ والمَنايَا يَثِبْنَ عَليّ من كلِّ النًوَاحِي وما أدْرِي إِذا أمسيت حَيّاً لعَلِّي لا أعِيشُ إلى الصَّبَاح وقال الغَزّال‏:‏ أصبَحْتُ واللّه مَجْهُوداً على أمَلٍ مِنَ الحيَاة قَصِير غير مُمْتَدِّ وما أفارقً يوماً مَنْ أُفَارِقُه إِلا حَسِبْتُ فِرَاقي آخرَ اَلعَهْد انظرُ إليّ إذا أدرِجْتُ في كَفَنِي وانْظُرِ إليّ إذَا أدْرِجْت في اللِّحْد وأقعدْ قليلاً وعاينْ مَنْ يُقِيم معي ممن يُشيَعُ نَعْشي من ذَوِي وُدِّي هَيهات كلُّهُمُ في شَأْنِهِ لَعِبٌ يَرْمي الترابَ ويَحْثُوهُ على خَدِّي وقال أبو العتاهية‏:‏ نَعى لك ظلَّ الشًبَاب المَشِيبُ ونادتْكَ باسمٍ سِوَاكَ الخُطُوبُ فكُن مستَعِدّاَ لرَيْب المَنُون فإنَّ الذي هو آتٍ قريب وقَبْلَك داوى الطبيب المَرِيض فعاش المَرِيضُ ومات الطَّبِيب أخَيَّ ادخرْ مهما أستطع تَ ليَوم بَؤْسِكَ وافتقارِكْ فَلْتَنزلنّ بمَنْزِلٍ تَحْتاجُ فيه إلى ادّخارِك وقال أبو الأسود الدُّؤليّ‏:‏ أيُّها الأملُ ما ليسَ لَه ربما غَر ّسفيهاً أَمَلهْ رُبَّ من بات يُمَنَي نفسَه حالَ مِن دون مُنَاه أَجَلُه والفَتَى المُحتَال فيما نابَه ربما ضَاقَتْ عليه حِيَلُه قُلْ لمن مَثَّلَ في أشعَاره يَهْلِكُ المرء ويَبْقَى مَثَلُه نافِس المُحْسنَ في إحْسانهِ فَسَيَكْفيِك سَناء عَمَله وقال عدِيّ بن زيد العِبَاديّ‏:‏ أين كِسْرَى كِسرَى المُلوك أنوشر وَانَ أَمْ أيْن قبْلَه سابُورُ وبَنُو الأصفَر الكِرَام مُلُوك الرُّ وم لٍم يَبْق منهمُ مَذْكوُر وأخُو الحَصْرَ إذ بَناه وإذ دِجْ لةُ تجْبَي إليه والخَابُور شادَهُ مَرْمَراً وجَلَّلَه كلس ساً فللطيْر في ذَرَآه وُكُورُ سَرًهُ مالُهُ وكثْرةُ ما يم لكُ والبحرُ مُعْرضاً والسَّدِير فارْعوَي قلبُه وقال فما غِب طة حَيٍّ إلى المَمَات يَصِير ثم بعد الفَلاح والمُلك والنِّع مة وارتهُمُ هُنَاكَ القًبُور ثم صارُوا كأنهُم وَرَقٌ جَفَّ فأَلوَت به الصَّبَا والدَّبور وقال حُرَيث بن جَبلة العُذْري‏:‏ يا قلبُ إنّكَ في الأحْيَاء مَغرُورُ فاذكُر وهَل يَنْفَعَنَكَ اليومَ تَذْكِير حتى متَىِ أنتَ فيها مُدْنَفٌ وَلهٌ لا يَسْتفِزًنْكَ منها البُدَن الحُور قد بُحت بالجَهْل لا تُخْفيهِ عن أحَدٍ حتى جرَتْ بك أَطلاقاً محاضير ترِيد أمراً فما تَدْري أعاجِلُه خيرٌ لِنَفْسِك أم ما فيه تأخِير فاستَقْدِرْ الله خَيْراً وارضين به فبينما العُسْرُ إذ دارتْ مَيَاسير وبينما المرءُ في الأحْيَاء مُغْتَبطٌ إذ صار في الرمس تَعْفُوهُ الأعاصِير حتى كأنْ لم يَكُنْ إلاّ توهّمه والدَّهر في كل حالَيْه دَهَارِير قولهم في الطاعون قال أبو عُبيدة بن الجرّاح لعمر بن الخطّاب رضوانُ الله عليه لمّا بلغه أنَّ الطاعونَ وَقَع في الشام فانصرف بالناس‏:‏ أفرَاراً من قَدَرِ الله يا أميرَ المؤمنين قال عمر‏:‏ لو غيرك قالها يا أبا عُبيدة نعم نَفِرُّ من قدرِ الله إلى قدَر اللّه أرأَيت لو أنَّ لك إبلاً هَبَطْتَ بها وادياً له جِهتان إحداهما خَصِيبة والأخرى جَدِيبة أليسَ لو رعيتَ الخصيبة رعيتَها بقَدَر اللّه ولو رعيتَ الجديبة رعيتَها بقدَر اللّه وكان عبدُ الرحمن بن عَوْف غائباً فأَقبل فقال‏:‏ عِنْدي في هذا عِلْمٌ سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إذا سمعتم به في أرض فلا تَقْدَموا عليها وإذا وَقع في أرض وأَنتم بها فلا تَخْرُجوا فِرَاراً منه‏.‏

فَحَمِد الله عُمر ثم انصرَف بالناس‏.‏

وقيل للوليد بن عبد الملك حين فرَّ من الطاعون‏:‏ يا أميرَ المؤمنين إنَّ الله تعالى يقول‏:‏ ‏"‏ قل لَنْ يَنْفَعَكم الفِرَارُ إن فَرَرْتُم مِنَ المَوْتِ أَو القَتْل وإذَا لا تُمَتَّعُونَ إِلاّ قليلا ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ذلك القليلَ نَطْلُب‏.‏

العُتْبيّ قال‏:‏ وَقع الطاعونُ بالكُوفة فخرج صدِيق لِشُرَيح إلى النَّجَف فكتب إليه شُرَيح‏:‏ أما بعد فإنَ المَوْضع الذي هرَبْتَ منه لم يَسُق إلى أجلك تَمامَه ولم يَسْلُبْه أيّامَه وإنّ الموضع الذي صرت إليه لَبِعين مَنْ لا يُعجزه طَلَب ولا يَفُوتُه هرَب وأنا وإيّاك على بِسَاط مَلِك وإنّ النَّجَف لما وَقع الطاعون الجارفُ أطاف الناسُ بالحُسين فقال‏:‏ ما أحسنَ ما صنع بكم ربُّكم أَقْلَع مُذْنِبٌ وأَنْفَقَ مًمْسك‏.‏

وخرج أعرابيّ هارباً من الطاعون فَلَدغَتْه أفْعى في طريقه فمات فقال أَخُوه يَرْثيه‏:‏ طافَ يَبْغِي نَجْوَةً من هَلاكٍ فَهلَكْ لَيْت شِعْري ضَلّةَ أيًّ شيءٍ قَتَلك أَجُحَاف سائلٌ من جِبالٍ حَمَلك والمَنَايا راصِدَات للفتى حيثُ سَلَك كلُّ شيءٍ قاتِل حين تَلْقى أجَلك حُكِيَ أن ماء المطر اتصل في وقت من الأوقات فَقَطع الحسنَ بن وَهْب عن لقاء محمد بن عبد الملك الزيّات فكتب إليه الحسن‏:‏ يُوضِّح العذْرَ في تَراخي الِّلقَاءِ ما توالى مِن هذه الأنْوَاءِ فَسَلامُ الإله أهْدِيه منِّي كُل يوم لسيِّد الوزراءِ لستُ ادري ماذا أَذُمُ وأَشْكو من سَماءٍ تعُوقني عن سَماءِ غَيْرَ أَنِّي أدْعُو لهاتِيك بالثُّك ل وأدْعُو لهِذِه بالبَقاءِ أحْسَنُ مِنْ تِسْعِينَ بَيْتاً سُدىً جٍمْعُكَ معناهنَّ في بَيْتِ ما أحْوَجَ الناسَ إلى مَطْرَةٍ تزيلُ عنهم وَضَرَ الزّيتِ فبلغ قولُه محمداً فقال‏:‏ يا أيُّها المأْفُون رَأْياً لقَدْ عرِّضْت لي نَفْسَك للْمَوْتِ قَيًرْتُم المُلْكَ فلم نُنْقِهِ حتى قلَعْنا القارَ بالزَّيت الزيت لا يزري بأَحْسَابنا أَحْسَابنا مَعْروفة البَيْت وقيل لابن أبي دواد‏:‏ لم لا تسأَل حوائجك الخليفةَ بحَضْرة محمد بن عبد الملك فقال‏:‏ لا أُحب أن أُعْلِمَه شأْني‏.‏

وقد حدّث أبو القاسم جَعْفَر أن محمداً الحَسَنيّ قال‏:‏ أخبرنا محمد بن زكريا الغَلاَبيّ قال‏:‏ حدثنا محمد بن نجيع النُّوبَخْتي قال‏:‏ حدثنا يحيى أن سُليمان قال‏:‏ حدثني أبي وكان ممن لَحِقَ الصحابة قال‏:‏ دخلت الكوفة فإذا أنا برجل يُحدِّث الناس فقلت‏:‏ من هذا قالوا‏:‏ بَكْر بن الطِّرِمّاح فسمعتُه يقول‏:‏ سمعتُ زَيد بن حُسَينْ يقول‏:‏ لما قُتِل أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبى طالب عليه السلام أتى بنَعْيه إلى المدينة كُلْثوم بن عَمْرو فكانت تلك الساعة التي أتيَ فيها بنَعْيه أشْبَه بالساعة التي قُبضَ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من باكٍ وباكِية وصارخ وصاَرخَةٍ حتى إذا هَدأت عَبْرَة البُكاء عن الناس قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تعالوا حتى نَذْهبَ إلى عائشة زَوْج النبي صلى الله عليه وسلم فَنَنْظًرَ حُزْنَها على ابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقام الناسُ جميعاً حتى أتَوْا منزلَ عائشة رضي اللهّ عنها فاستأذنوا عليها فوَجَدوا الخبرَ قد سبق إليها وإذا هي في غَمْرَة الأحْزَان وعَبْرَة الأشجان ما تفتر عن البكاء والنَّحيب منذ وَقْتِ سَمِعَتْ بخَبره‏.‏

فلما نَظَرَ الناسُ إلى ذلك منها انصرفوا‏.‏

فلما كان من غدٍ قيل إنها غَدَتْ إلى قبْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يَبْق في المَسْجد أحدٌ من المهاجرين إلا استَقْبلها يُسلّم عليها وهي لا تُسَلِم ولا تَرُدّ ولا تُطِيق الكلامَ من غَزَارة الدَّمعة وغَمْرَة العَبرَة تَتخنق بعَبْرَتها وتتعَثر في أثوابها والناسُ من خَلْفها حتى أتت إلى الحُجْرةِ فأخذت بِعضَادة الباب ثم قالت‏:‏ السلامُ عليك يا نبيّ الهُدَى السلامُ عليك يا أبا القاسم السلام عليك يا رسول الله وعلى صاحبَيْك‏.‏

يا رسول اللّه أنا ناعيةٌ إليك أحظَى أحْبَابك ذاكرةٌ لك أكرمَ أودّائك عليك‏.‏

قُتل والله حبيبُك المُجْتَبَى وصَفِيك المُرْتَضى‏.‏

قُتِل والله مَن زوَجته خيرَ النِّساء‏.‏

قُتِل واللّه من آمَن ووَفى وإني لنادِبة ثَكْلَى وعليه باكيةٌ حرى‏.‏

فلو كُشِف عنك الثرى لقلتَ‏:‏ إنّه قُتل أكرمهم عليك وأحظاهم لديك‏.‏

ولو قُدِّر أن نَتَجَنَّب العِدَاء ما كان تعرَّضت له منذ اليوم واللّه يجري الُأمور على السَّداد‏.‏

قال المبرّد‏:‏ عزّى أحمد بن يوسف الكاتب ولدَ الرَّبيع فقال‏:‏ عُظِّمَ أجركم ورحم الله فقيدكم وجعل لكم من وَراء مُصيبتكم حالاً تجمع شَمْلكم وتَلُمّ شَعَثَكم ولا تُفَرِّق مَلأكم‏.‏

وقيل لأعرابية مات لها بَنُون عِدّة‏:‏ ما فعل بنوك قالت‏:‏ أكلَهم دهْرٌ لا يَشْبع‏.‏

وعزَى رجل الرشيدَ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين كان لك الأجر لا بك وكان العزاء لك لاعَنك‏.‏

ومما رُوى أن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما نُعيت إليه ابنتُه وهو في السفَر فاسترْجع ثم قال‏:‏ عَوْرَةٌ سترَها اللهّ ومَؤونة كَفاها الله وأَجْرٌ ساقَه الله‏.‏

وقالَ أُسَامة بن زَيد رضي الله عنهما‏:‏ لمّا عُزِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بابنته رُقيَّة قال‏:‏ الحمد لله دَفْن البنات من المَكْرُمات‏.‏

وفي رواية‏:‏ من المكرُمات دفن البنات‏.‏

وقال الغَزَّال‏:‏ ماتت ابنة لبعض مُلوك كِنْدة فَوَضَعَ بين يديه بَدْرَةً من الذهب وقال‏:‏ مَنْ أبلغ في التَّعزية فهي له‏.‏

فدخل عليه أَعرابيّ فقال‏:‏ أعظم الله أجرَ الملك كُفِيتَ المؤونة وَسُتِرتَ العَورة ونعمَ الصِّهْر القَبر‏.‏

فقال له الملك‏:‏ أبلغْتَ وأوْجَزْت وَأَعْطَاهُ البَدْرَة‏.‏

من أحب الموت ومن كرهه في بعض الأحاديث‏:‏ لا يَتمَنَّى أحدُكم الموتَ فعسى أن يكون مُحْسناً فيزداد في إحسانه أو يكون مُسِيئاً فينْزع عن إساءَته‏.‏

وقد جاء في الحديث‏:‏ يقول الله تَبارك وتعالى‏:‏ إذا أَحَبَّ عَبْدي لِقائي أحْبَبْتُ لِقاءه وإذا كَرِه لِقائي كَرِهْت لقاءه‏.‏

وليس معنى هذا الحديث حُبَّ المَوْتِ وَكَرَاهِيَتَه ولكن مَعناه‏:‏ من أحبَّ اللهّ أحبَّه اللّه ومن كَرِه اللهّ كَرِهَه اللّه‏.‏

وقال أبو هُرَيرة‏:‏ كَرِه الناسُ ثلاثاً وأَحْبَبتُهنّ‏:‏ كَرهوا المرَض وأحببتهُ وكَرهوا الفقرَ وأحببتهُ وكَرِهوا الموتَ وأحببتهُ‏.‏

عبد الأعلى بن حمّاد قال‏:‏ دَخَلْنا على بِشر بن مَنْصور وهو في المَوْت وإذا هو من السُّرور في أمرٍ عَظِيم‏.‏

فقلنا له‏:‏ ما هذا السُّرور قال‏:‏ سُبْحان الله‏!‏ أخرُج من بين الظَّالمين والحاسدين والمَغْتابين والباغِين وأَقْدَمُ عَلَى أرْحَم الرَّاحمين ولا أُسَرّ‏!‏ ودخل الوليدُ بن عبد الملك المسجدَ فَخَرَج كلًّ من كان فيه إلاّ شيخاً قد حَنَاه الكِبَر فأرادًوا أن يُخْرِجُوه فأشار إليهم أن دَعُوا الشيخ ثم مضىَ حتى وَقف عليه فقال له‏:‏ يا شيخُ تًحِبُّ المَوْت قال‏:‏ لا يا أميرَ المؤمنين ذَهَبَ الشَّبَاب وشَرُّه وَأتى الكِبر وخيْرُه فإذا قمتُ حَمِدْتُ اللّه وإذا قعدتُ ذكرتُه فأنا أُحِب أن تَدُوم لي هاتان الخَلَّتان‏.‏

قال عبد الله بن عمر‏:‏ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه مالي لا أُحِبًّ الموت قال‏:‏ هل لك مال قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فقدِّمه بين يديك قال‏:‏ لا أطِيق ذلك فقال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ إن المَرْء مع مالِه إن قدّمه أحبَّ أن يَلْحَقَه وَإِنْ أَخَرَّه أحبَّ أن يتخلّفَ معه‏.‏

وقالٍ الشاعر في كراهية الموت‏:‏ لا والَّذِي مَنَعَ الأبصَارَ رُؤْيَتَه ما يَشْتَهِي الموتَ عِنْدِي من له أدَبُ وقالت الحكماء‏:‏ الموت كريهٌ‏.‏

وقالوا‏:‏ أشدُّ من الموت ما إذا نزلَ بك أحببتَ له الموتَ وأطيبُ من العَيش ما إذا فارقتَه أبغضتَ له العِيش‏.‏