التهجد
المغِيرة بن شُعْبة قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى وَرِمت
قَدَماه.
وقيل للحَسَن: ما بال المتهجِّدِين أحسن الناس وجوهاً قال: إنَّهم
خَلَوْا بالرَّحمن فأسفر نورُهمِ من نُورِه.
وكان بعضهم يصلِّي الليلَ حتَى إذا نظرَ إلى الفَجْر قال: عند الصباح
يحْمَدُ القومُ السُرَى.
وقالوا: الشِّتَاءُ ربيعُ المؤمنين يطولُ ليلُهم لِلقِيام ويَقْصُر
نهارُهم للصيام.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطْعِموا الطَّعام وأفْشوِا السلامَ
وصَلُّو! بالليل والناسُ نِيَام.
وقال الله تبارك وتعالى: " وبالأسْحَارِ هُمْ يَسْتغْفِرُون ".
وهذا يُوَافق الحديثَ الذي رَوَاه أبو هُرَيرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم: إن الله تبارك وتعالى يَنْزِل إلى سماءِ الدُّنيا في الثُّلث
الأخير من اللَّيل فيقول: هل من سائلٍ فأعْطِيَه هل من دَاعٍ فأسْتَجيبَ
له هل من مُسْتَغْفِر فأغْفِرَ له هل من مُسْتَغيث فأغِيثه أبو عَوَانة عن
المغيرة قال: قلتُ لإبراهيم النَّخَعيّ: ما تقولُ في البكاء من خشية
الله عز وجل قال النبي صلى الله عليه وسلم: حَرَّم اللهّ عَلَى النار
كلَّ عَين تَبْكي من خَشْيَة اللهّ وكلَّ عَيْنِ غُصَّت عن محارم اللّه.
وكان يزيد الرَّقاشي قد بكىَ حتى سقطت أشفارُ عينيه.
وقيلَ لغالب بن عبد اللّه: أمَا تخاف على عَيْنَيْك من العَمَى من طُول
البُكاء فقال: شِفَاءَها أرِيد.
وقيل ليزيدَ بن مَزْيد: ما بالُ عَيْنك لا تَجفّ قال: أيْ أخي إن الله
أوعدني إنْ عَصَيْتُه أن يَحْبِسَني في النار ولو أوْعدني أنَ يَحْبسني في
الحمَّام لكنتُ حَرِيًّا أن لا تَجِفّ عيني.
وقال: عمر بن ذَرّ لأبيه: مالَك إذا تكلَّمتَ أَبْكَيْتَ النّاسَ فإذا
تكلَّم غيرُك لم يُبْكِهم قال: يا بني ليست النائحة الثَّكْلَى مثلَ
النائحة المُسْتَأْجَرَة.
وقال اللهّ لنبيّ من أنبيائه: هَبْ لي من قلْبِك الخًشوع ومن عَيْنَيك
الدُّموع ثم ادعني أسْتَجِبَ لك.
ومن قولنا في البكاء " من خشية الله تعالى ": مَدَامِعٌ قد خَدَّدَتْ
في الخُدُود وأعينٌ مَكْحولة بالهُجُودِ وَمَعْشرٌ أوْعدهم رَبُّهم
فَبَادَروا خَشْيَة ذاك الوعيد فَهُم عُكًوفٌ في مَحاريبهم يَبْكون من
خَوْفِ عِقاب المَجِيدِ وقال قيسُ بن الأصم في هذا المعنى: صلَّى الإله
عَلَى قَوْمٍ شَهِدْتُهُمُ كانوا إذا ذَكَرُوا أو ذُكِّرُوا شَهقُوا كانوا
إِذا ذَكَرُوا نارَ الجحيم بَكوْا وَإِنْ تَلاَ بعضُهم تَخْوِيفها صعقوا من
غير هَمْزٍ من الشّيطان يأخذهم عِند التِّلاوة إلا الخَوْف والشَفَق صَرْعى
من الحُزن قد سَجّوا ثِيابَهم بقيَّة الرُّوح في أوداجهم رَمَقُ حتى
تَخَالهم لو كنت شاهِدَهم من شِدَّة الخَوْفِ والإشْفَاقِ قد زَهِقُوا
النهي عن كثرة الضحك في الحديث المَرْفوع: كثرةُ الضَّحك تُميت القلب
وتُذْهِب بَهاء المُؤمن.
وفيه: لو علمتُمْ لَبَكَيْتُمْ كثيراً وضَحِكْتُمْ قَلِيلاً.
وفيه: إِنّ الله يكره لكم العَبثَ في الصلاة والرَّفَث في الصِّيام
والضَّحِك في الجنائز.
ومرَّ الحسنُ بقومٍ يَضْحكون في شَهْر رَمضان فقال: يا قوم إنّ الله جعل
رمضان مِضْماراً لِخَلْقِه يَتسَابقون فيه إلى رَحْمتِه فَسَبَق أقوامٌ
ففازُوا وتخلَّف أقوامٌ فَخَابوا فالعَجب من الضاحِكِ اللاّهي في اليوم
الذي فاز فيه السابقون وخاب فيه المتخلِّفون أما واللّهِ لو كُشِف الغِطاء
لَشَغَلَ مُحْسِناً إحسانُه ومُسِيئاً إساءتُه.
ونظر عبد الله إلى رجل يضحك مُسْتَغْرِقاً فقال له: أتضحك ولعلّ أكفانَك
قد أخِذَت من " عند " القَصَّار.
وقال الشاعر: وكم مِنْ فتًى يُمْسي ويًصْبِحُ آمِناً وقد نُسِجَتْ
أكْفَانُه وهو لا يَدْرِي النهي عن خدمة السلطان وإتيان الملوك " لقى أبو
جعفر سفيانَ الثوريّ في الطواف فقال: ما الذي يمنعك أبا عبد الله أن
تأتينا قال: إن الله نهانا عنكم فقال: " وَلاَ تَرْكَنُوا إلى الذين
ظَلَمُوا فَتَمَسَّكم النار".
وقدِمَ هِشامُ بن عبد الملك المدينة لزيارة القَبر فدخل عليه أبو حازم
الأعرج فقال: ما يمنعك أبا حازم أن تأتينا فقال: وما أصنع بإتيانك يا
أمير المؤمنين إن أدْنيتني فَتَنْتَني وإن أقصيتني أخزَيْتني وليس عندي ما
أخافك عليه ولا عندك ما أرجوك له ".
قال عمرُ بنُ الخطّاب رضي الله عنه: مَن دخل على المُلوك خَرج وهو ساخِطٌ
على اللّه.
أرسل أبو جعفر إلى سُفْيانَ فلما دَخل عليه قال: سَلني حاجتك أبا عبد
الله قال: وتَقْضيها يا أمير المؤمنين قال: نعم قال: فإنّ حاجتي إليك
أن لا تُرْسِل إليَّ حتى آتيك ولا تُعْطِيني شيئاً حتى أسألك ثم خرج.
فقال أبو جعفر: أَلْقَيْنا الحَبَّ إلى العُلماء فلَقَطوا إلا ما كان من
سُفيان الثَّوْرِي وقال زِيادٌ لأصحابه: مَنْ أغبطُ الناس عيشاً قالوا:
الأميُر وأصحابه قال: كلاّ إِنّ لأعْواد المنْبَر لَهَيْبةً ولقَرْع
لِجَام البريد لَفَزْعة ولكنَّ أَغبطَ الناس عيشاً رجلٌ له دار يَسْكُنُها
وزَوْجَة صالحة يأوي إليها في كَفَاف من عَيْش لا يَعْرفنا ولا نَعْرفه فإن
عَرَفنا وعرفْناه أَفْسَدْنا " عليه " آخرته ودُنياه وقال الشاعر:
إِنَّ الملوك بلاءٌ حيثُما حَلُّوا فلا يَكُنْ لك في أكنافِهم ظِلُّ ماذا
تُريد بقَوْمٍ إِنْ هُمُ غَضبُوا جارُوا عليك وإن أَرْضَيْتهم مَلُّوا
فاسْتَغْنِ باللّهِ عنَ إتْيَانهم أبداً إنّ الوُقوف على أبوابهم ذلُّ وقال
آخر: لا تصحبنَّ ذَوي السُّلطان في عَملٍِ تُصْبِح عَلَى وَجَلٍ تمسْي
عَلَى وَجَل كُل الترابَ ولا تَعْملِ لهم عملاً فالشرُّ أَجْمَعُه في ذلك
العَمَل وفي كتاب كليلة ودِمْنة: صاحبُ السلطان مثلُ راكب الأسد لا
يَدْرِي متى يَهيجُ به فَيَقْتُله.
دخل مالكُ بنُ دِينار على رَجُل في السِّجن يَزوره فنظر إلى رجل جُنْديّ قد
اتّكأ في رِجلَيه كُبُول قد قَرَنت بين سَاقَيْه وقد أتِي بسُفْرة كثيرة
الألوان فدعا مالكَ بنَ دِينار إلى طَعامه فقال له: أخشى إن أكلتُ من
طَعامك هذا أن يُطْرَح في رجليّ مثلُ كُبولك هذه.
وفي كتاب الهِنْد: السلطانُ مثلُ النار إن تباعدتَ عنها احتجتَ إليها وإن
دنوتَ منها أحْرقَتك.
أيوب السِّخْتياني قال: طُلب أبو قِلابة لِقَضاء البَصْرة فهَرب منها إلى
الشام فأقامَ حيناً ثم رَجع.
قال: أيوب.
فقلتُ له: لو وَليتَ القَضاء وعَدلْت كان لك أجران فقال يا أيّوب إذا
وقعِ السابحُ في البحر كَم عسى أَنْ يَسْبح وقِال بَقيّة: قال لي
إبراهيم: يا بَقِيّة كن ذَنبا ولا تَكن رَأْسا فإنّ الرأسَ يهلك والذَّنب
ينجو.
ومن قولنا في خِدْمة السلطان وصُحبته: تجَنَّب لِباس الخَزّ ِإنْ كنْت
عاقلاً وَلا تَخْتَتِمْ يوماً بفَصِّ زَبَرْجَدِ ولا تتطيَّب بالغَوالي
تَعَطُّرًا وَتَسْحَبَ أذْيَالَ المُلاَءِ المعضَّد وَلاَ تَتَخَيَّر
صَيِّتَ النًعْل زَاهِيًا ولا تَتَصَّدر في الفِرَاش المُمَهَّد وكُنْ
هَمَلاً في الناس أغْبَرَ شاعثاً تَرُوحُ وَتَغْدُو في إزارٍ وَبُرْجُد
يَرَى جِلْد كَبْشٍ تحتَهُ كلما استوَى عليْه سِريراً فَوْقَ صَرْحٍ
ممَرَّد ولا تَطْمَح العينَان منك إلى امرىءٍ له سَطَوَاتٌ باللِّسان
وباليَد تراءَتْ له الدُّنيا بزِبْرج عَيْشِهِا وقادَتْ له الأطماع من غيره
مقوَد فأسْمَنَ كَشَحَيْهِ وأهْزَلَ دِينه وَلم يَرتَقِب في اليوم عاقبةَ
الغد فَيُرْحَم تاراتٍ وَبُحْسَدُ تارةً فذا شرُّ مَرْحُوم وَشرُّ مُحَسَّد
القول في الملوك الأصمعِيّ قال: بَلغني أنت الحسن قال: يابن آدم أنتَ
أسيرُ الجُوع صرَيع الشِّبع إنّ قوماَ لَبِسوا هذه المَطَارفَ العِتاق
وِالعَمائم الرقاق وَوسَعوا دُورَهم وَضيَّقوا قُبورهم وأسْمَنوا دوابَّهم
وأهزَلوا دِيَبهم يَتّكِىء أحدُهم على شِماله ويأكل " مِن " غير مالِه
" فإذا أدركته الكِظّة " قال: يا جارية هاتي هاضُومَك ويلك! وهل
تَهْضم إلا دينَك.
يحيى بنُ يحيى قال: جَلسِ مالكٌ يوماً فأطرقَ مليّا ثم رَفع رأسَه
فقال: يا حَسْرةً على المُلوِك لأنهم تُركوا في نعِيم دُنياهم وماتُوا
قبل أن يَموتوا حُزْناً على ما خلَفوا وجَزَعاً مما استقبلوا.
وقال الحسن وذُكِر عنده الملوك: أما إنّهم وإنْ هَمْلَجت بهم البِغال
وأطافت بهم الرِّجال وتعاقبت لهم الأموال إنِّ ذُلَّ المَعْصِية في قُلوبهم
أبَى الله إلا أن يُذِلَّ مَن عَصاه.
الأصمعيًّ قال: خَطَب عبد الله بن الحسَن على مِنْبر البَصرة فأنشد على
المِنبر: أينَ المُلوك التي عَن حَظِّها غَفِلت حتى سَقاها بِكأْس
المَوْت ساقِيها بلاء المؤمن في الدنيا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:
المُؤمن كالخامَة من الزّرع تَمِيلٍ بها الرّيح مرة كذا ومرّة كذا والكافر
كالأرْزَة المُجْذية حتى يكون انجعافُها مرِّة.
ومعنى هذا الحديث: تردُد الرزايا على المؤمن وتجافِيها عن الكافر ليزدادَ
إثماَ.
وقال وَهْب بنُ مُنَبِّه: قرأتُ في بعض الكُتب: إني لأذودُ عبادي
المخْلصين عن نَعيم الدُّنيا كما يَذُود الرَّاعي الشَّفِيقُ إبلَه عن
مَوارد الهَلَكة.
وقال الفًضيل ابن عِيَاض: ألا ترَوْنَ كيف يُزْوِي الله الدنيا عمن يُحب
من خلْقه ويمرمرها عليه مرَّةً بالجوع ومرَّة بالعُرْي ومرَّة بالحاجة كما
تصنع الأُمّ الشَّفيقة بولدها تَفْطِمه بالصًبْرِ مرَّة وبالحُضَض مرَّة
وإنما تُريد بذلك ما هو خيرٌ له.
" وفي الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أخبرني جبريل عن
الله تبارك وتعالى أنه قال: ما ابتليتُ عَبْدي ببليّة! نفسه أو ماله أو
ولده فتلقّاها بِصَبْر جميل إلا استحييت يوم القيامة أن أرفَع له ميزاناً
أو أنشر له ديواناً ".