الجزء الأول - كتاب الزمردة في المواعظ والزهد - القناعة

القناعة

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أصبح وأَمسى آمناً في سربه مُعَافي في بَدنه عنده قوتُ يومه كان كمن حِيزَتْ له الدُّنيا بحذافيرها‏.‏

والسِّرب‏:‏ المَسْلَك يقال‏:‏ فلان واسع السِّرب يعني المسلك والمذهب‏.‏

وقال قيسُ بيت عاصم‏:‏ يا بَنيّ‏:‏ عليكمِ بحِفْظ المال فإنه مَنْبَهةٌ للكريم ويُسْتَغْنى به عن اللئيم‏.‏

وإياكم والمَسْألَة فَإنها آخِر كسْب الرَّجُل‏.‏

وقال سعد ابن أبي وقّاص لابنه‏:‏ يا بُني إذا طلبتَ الغِنَى فاطلبه بالقَناة فإِنها مالٌ لا يَنْفَد وإياك والطمعَ فإنه فقْر حاضر وعليك باليأْس فإِنك لا تَيْأَس من شيء قطُّ إلا أغناك اللهّ عنه‏.‏

وقالوا‏:‏ الغَنيُّ من استغنى باللّه والفقيرُ ما افتقر إلى الناس‏.‏

وقالوا‏:‏ لا غِنى إلا غني النّفس‏.‏

وقيلَ لأبي حازم‏:‏ ما مالُك قال‏:‏ مالان الغِنَى بما في يدي عن الناس وَاليأسُ عما في أيدي الناس‏.‏

وقيل لآخر‏:‏ ما مالُك فقال‏:‏ التجمُل في الظاهر والقَصْد في الباطن‏.‏

وقال آخر‏:‏ لا بُد مما ليس منه بدّ اليَأْس حُرٌ والرجاءُ عَبْدُ وليس يُغْني الكَدَ إلا الجَدّ‏.‏

وقالوا‏:‏ ثمرةُ القناعة الرَّاحة وثمرةُ الحِرْص التعب‏.‏

وقال البُحْتريُّ‏:‏ إذا ما كان عندي قُوتُ يوم طَرَحْتُ الهمَّ عنّي يا سعيدُ ولم تَخْطرُ هُمِوم غدٍ ببالِيً لأنَ غَداً له رِزْقِّ جَدِيد وقال عُرْوَة بنُ أذَيْنَة‏:‏ وقد عَلِمتُ وخَيرُ القَوْل أصْدَقُه بأنَ رِزْقِي وَإنْ لم يَأْتِ يَأْتيني أسْعى إليه فيعييني تطلبه ولو قَعَدْتُ أتاني لا يُعَنِّيني وَوَفد عُروة بن أذَينة على عبد الملك بن مَرْوَان في رجال من أهل المدينة فقال له عبد الملك‏:‏ أَلستَ القائلَ يا عُرْوَة أسْعى إليه فَيُعْييني تَطلبه فما أراك إلا قد سعيتَ له فخرج عنه عُروة وشَخص من فَوْرِه إلى المدينة‏.‏

فأفتقده عبدُ الملك فقيل له‏:‏ توجّه إلى المدينة فبَعث إليه بألف دينار‏.‏

فلما أتاه الرسول قال‏:‏ قُلْ لأمير المؤِمنين‏:‏ الأمرُ على ما قلتُ قد سَعَيتُ له فأعياني تطلُّبه وقعدت عنه فأتاني لا يُعنيني‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِنّ رُوح القُدس نَفَثَ في رُوعِي‏:‏ إِنَّ نفساً لن تموت حتى تَسْتَوْفي رِزْقَهَا فاتَّقوا الله وأجملوا في الطَّلب‏.‏

وقالَ تعالى فيما حكى عن لُقمان الحكيم‏:‏ ‏"‏ يا بنيَّ إنّها إِنْ تَكُ مِثْقًالَ حًبّةٍ مِن خَرْدَلٍ فَتكُنْ في صَخْرَةٍ أوْ في السَّمَوَاتِ أوْ في الأرْض يَأْتِ بها الله إِنّ الله لَطيفٌ خبِير ‏"‏‏.‏

وقال الحسنُ‏:‏ ابن آدمَ لستَ بسابقٍ أجلَك ولا ببالغٍ أمَلَك ولا مَغْلوب على رِزْقِكَ ولا بمرزوق ما ليس لك فعلامَ تَقْتل نفسَك وقال ابن عبد ربه‏:‏ قد أخذتُ هذا المعنى فنظمتُه في شعر فقلت‏:‏ لستُ بقاض أملِى ولا بعَادٍ أجَلي ولا بمَغْلُوب عَلَى الرًّزْ قِ الذي قُدِّرَ لَي ولا بِمُعطًىً رِزْقَ غَي ري بالشقا والعَمَلَ فليتَ شِعري ما الذي أدْخَلني في شُغُلي وقال آخر‏:‏ سيكون الذي قًضي غضب المرءُ أَمْ رَضي وقال محمودٌ الورَّاق‏:‏ وقد كفل اللهّ الوَفي برزقه فلم يَرْضَ والإنسانُ فيه عجائب عليمٌ بأنّ الله مُوفٍ بوَعْده وفي قَلْبِه شَكٌّ على القَلْبِ دائب أبَى الجهل إلا أن يَضرُّ بعلْمِه فلم يُغنِ عَنْه عِلْمُه والتجارب وله أيضاً‏:‏ أتطلُبُ رِزْقَ اللهّ من عند غيْره وتُصْبِحُ من خوْفِ العواقِبِ آمنا وترْضى بعَرّافٍ وَإِنْ كان مُشرْكَاً ضَميناً ولا تَرْضى بربِّكَ ضامنا وقال أيضاً‏:‏ غِنىَ النَّفْس يغْنيها إذا كنْت قانِعاً وليسَ بمُغْنِيك الكثيرُ من الحِرْص وإنّ اعتقادَ الهمِّ للخير جامعٌ وقِلْةَ هَمِّ المَرْءِ تَدْعًو إلى النَّقص وله أيضاً‏:‏ مَن كان ذا مالٍ كثير وَلم يَقْنَعْ فَذَاك المُوسِرُ المعْسِرُ وكل من كان قَنُوعاًً وإن كان مقلاً فَهُو المكثر الفَقْرُ في النفْس وفيها الغِنىَ وفي غِنَى النَفس الغِنى الأكبر ومنْ قسِمَ الأرزاق بين عِباده وفَضّلَ بَعضَ النَّاس فيها على بعض فمن ظَنَّ أنّ الحِرْص فيها يَزيده فقُولًوا له يزداد في الطول والعَرْض وقال ابن أبي حازم‏:‏ ومًنْتَظِر للموت في كل ساعةٍ يَشِيدُ وَيِبْني دائباً ويُحَصِّن له حينَ تَبْلُوه حقيقةُ مُوقِنِ وأفعالُه أفْعَالُ مَن ليس يُوقِن عَيانٌ كإِنكارٍ وَكالجهْل عِلْمُهَ يَشُكّ به في كلِّ ما يتيقن وقال أيضاً‏:‏ اضرع إلى اللهّ لا تَضْرعَ إلى النَّاس واقْنَعْ بِيأسٍ فإنّ العِزَّ في اليَاس واستغنِ عن كل ذي قربى وذي رَحِم إنّ الغَنِيَّ مَنِ استغنى عن الناس وَله أيضاً‏:‏ فلا تَحْرِصَنّ فإنّ الأمور بكَفِّ الإله مقَاديرُها فليسَ بآتيك منْهيهاَ ولا قاصرٍ عنك مأمُورها وله أيضاً‏:‏ ما لما قد قَدَّرَ الل ه من الأمر مرد قد جرى بالشرِّ نَحْسٌ وجَرَى بالخير سعد وجرى الناسُ على جَر يهما قبل وبعد أَمِنوا الدهر وما للدَ هر والأيام عهد غالَهُم فآصطَلَم الجمْ ع وأفنى ما أعدوا إنّها الدنيا فلا تح فل بها جزرٌ ومد وقال الأضبَطُ بن قُرَيع‏:‏ ارْضَ من الدهر ما أتاك به مَنْ يَرْضَ يوماً بعَيشِهِ نَفَعَهْ قد يَجْمع المال غيرُ آكله وَيأكلُ المالَ غيرُ مَنْ جَمَعه وقال مُسلم بن الوليد‏:‏ لن يبطئ الأمرُ ما أمَلْتَ أوبتَه إذا أعَانَك فيه رِفْقُ مُتَّئِدِ والدَهْرُ آخِذُ ما أعطى مًكَدِّرُ ما أصْفي وَمُفْسِدُ ما أهْوَى له بيَد فلا يَغُرَّنْك من دهرٍ عَطيَّتُهُ فليس يترُكُ ما أعطى على أحد رَأتْ حولها النسوانَ يرفُلْنَ في الكُسَا مقَلَّدَةً أجيادُها بالقلائد يَسُرَكِ أني نِلْتُ ما نال جَعْفرٌ وما نال يحيى في الحياة ابن خالد وأنّ أمير المؤمنين أعضّني مُعَضهما بالمُرهفات الحدائد ذَرِيني تَجِئْني ميتتي مُطمَئنَّه ولم أتجشم هول تلك الموارد فإنّ الذي يَسْمو إلى الرتب العُلا سَيُرْمَى بألوان الدُّهى والمكايد وَجَدْتُ لَذَاذات الحياة مَشوبَةً بمُسْتودعات في بطون الأسَاوِد وقال‏:‏ حتّى متى أنا في حِلّ وتَرْحال وطُول شُغلٍ بإدْبار وإِقْبَال ونازح الدار ما ينفكُّ مُغتَرباً عن الأحَبِّة ما يَدْرُون ما حالي بِمَشْرق الأرض طوْراً ثم مَغْرِبَها لا يَخْطُر الموت من حِرْص على بالي ولوَ قَنعْتُ أتاني الرِّزْقُ في دَعَةٍ إنّ القُنُوع الغِنَى لا كثرةُ المال وقال عبدُ الله بن عباس‏:‏ القَناعة مال لا نَفَاد له‏.‏

وقال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ الرِّزق رِزْقان‏:‏ فرِزْقٌ تطلبه ورِزْقٌ يطلبك فإن لم تأته أتاك‏.‏

وفي كتاب للهند‏:‏ لا ينبغي للمُلتمس أن يَلْتمس من العيش إلا الكفَافَ الذي به يَدْفع الحاجة عن نَفْسه وما سِوىَ ذلك إنما هو زيادة في تَعَبه وغَمِّه‏.‏

ومن هذا قالت الحكماء‏:‏ أقلُّ الدنيا يَكْفي وأكثرُها لا يَكفي‏.‏

وقال أبو ذُؤَيب‏:‏ والنَّفْسُ راغبة إذَا رغبتها وإذا تُرَدُّ إلى قليل تَقْنَعُ وقال المسيح عليه السلام‏:‏ عجباً منكم إنكم تعملون للدُّنيا وأنتم تُرزَقُون فيها بلا عمل ولا تَعْملون للآخرة و ‏"‏ أنتم ‏"‏ لا تُرْزَقون فيها إلا بالعمل‏.‏

وقال الحسن‏:‏ عَيَرَت اليهود عيسى عليه السلام بالفَقْر فقالت‏:‏ مِن الغِنَى أتيتم‏.‏

أخذ هذا المعنى محمودٌ الورَّاق فقال‏:‏ يا عائبَ الفَقْرِ ألاَ تَزْدَجِر عَيْبُ الغِنَى أكثَرُ لو تَعْتَبِرْ من شرًف الفَقْر ومن فَضْله عَلَى الغِنَى إن صَحَ منك النظر أنك تَعْصى كي تنالَ الغِنَى وليس تَعصى الله كي تَفْتقِر سُفيان عن مُغيرة عن إبراهيم قال‏:‏ كانوا يَكرِهون الطلب في أطارف الأرض‏.‏

وقال الأعمش‏:‏ أعطاني البُنَانيُّ مَضَارِبه أخرُج بها إلى ماهٍ فسألتُ إبراهيم فقال لي‏:‏ ما كان يَطْلبون الدنَيا هذا الطلب‏.‏

وبين ماهٍ وبن الكوِفة عشرةُ أيام‏.‏

الأصمعيُّ عن يُونس بن حَبيب قال‏:‏ ليس دون الإيمان غِنًىِ ولا بعده فقْر‏.‏

قيل لخالد بن صَفْوان‏:‏ ما أصْبرَك عَلَى هذا الثَوْب ‏"‏ الخَلَق قال‏:‏ رُبَ وكتب حكيم إلى حكيم يشكو إليه دهرَه‏:‏ إنه ليس من أحد أنْصَفه زمانُه فتصرفت به الحالُ حسب استحقاقه وإنك لا تَرَى الناسَ إلا أحدَ رجلين‏:‏ إمَا مُقدَّم أخّره حظه أو متأخِّر قدَّمَه جَدُّه فارضَ بالحال التِي أنت عليها وإن كانت دون أملك واستحقاقك اختياراً وإلا رضيت بها اضطراراَ‏.‏

وقيل للأحْنف بن قيس‏:‏ ما أصبرك على هذا الثوب ‏"‏ فقال‏:‏ أحقِ ما صُبِر عليه ما ليس إلى مُفارقته سَبيل‏.‏

‏"‏ قال الأصمعيُّ‏:‏ رأيت أعرابيةَ ذات جمال تسأل بمنى فقلت لها‏:‏ يا أمَة اللهّ تسألين ولك هذا الجمال قالت‏:‏ قدَرً الله فما أصنع قلت‏:‏ فمن أين معاشكم قالت‏:‏ هذا الحاج نَسْقيهم ونغسل ثيابهم قلت‏:‏ فإذا ذهب الحال فمن أين فنظرت إليّ وقالت‏:‏ يا صَلْت الجبين لو كنّا نعيش من حيث نعلم ما عِشْنا ‏"‏‏.‏

وقيل لرجلٍ من أهل المدينة‏:‏ ما أصْبرَك على الخُبْز والتَّمْر قال‏:‏ ليتَهما صبرَا عليّ‏.‏

الرضا بقضاء اللّه قالت الحُكماء‏:‏ أصلُ الزُهد الرِّضا عن اللّه‏.‏

وقال الفُضَيل بن عِياض‏:‏ استَخيروا الله ولا تتخيروا عليه فرُبما اختار العبدُ أمرًا هلاَكُه فيه‏.‏

وقالت الحكماء‏:‏ رُبَّ مَحْسود على رَخاء هو قد ينعِم الله بالبَلْوَى وإن عَظُمَت وَيبْتَلِى الله بَعْضَ القوم بالنِّعَم ‏"‏ وقال بعضُهم‏:‏ خاطَبني أخٌ من إخواني وعاتبني في طلب الرُتب فأنشدته‏:‏ كم افتقرتُ فلم أَقْعُد على كَمَدِ وكم غَنِيتُ فلم أكبر على أحدِ إنَي آمرؤ هانت الدنيا عليّ فما أشتاق فيها إلى مال ولا وَلَدِ وقالوا‏:‏ من طَلب فوق الكفاية رجع من الدَّهر إلى أبعد غاية ‏"‏‏.‏

من قتر على نفسه وترك المال لوارثه زِياد عن مالك قال‏:‏ مَن لم يَكًنْ فيه خَيْرٌ لنفسه لم يَكُنْ فيه خيرٌ لغيره لأنّ نفسَه أولَى الأَنْفُس كُلَها فإذا ضَيعها فهو لما سِوَاها أضْيَعِ ومن أحبَّ نفسَه حاطَها وأبقى عليها وتَجنَّب كل ما يَعيها أو يَنْقُصها فَجَنَّبها السَّرِقة مَخافةَ القَطْع والزِّنا مخافة الحَدّ والقَتْل خوفَ القِصاص‏.‏

علي بن داود الكاتِب قال‏:‏ لما افتتح هارون الرشيدُ هِرَقْلة وأباحها ثلاثة أيّام وكان بِطْرِيقها الخارج عليه بَسِيل الرُّوميّ فنظر إليه الرَّشيدُ مُقْبِلاً على جِدَار فيه كتابة باليُونانية وهو يُطِيل النظَر فيه فدَعا به وقال له‏:‏ ِ لمَ تركتَ النظرَ إلى الانتهاب والغَنيمة وأقبلت على هذا الجدار تنظر فيه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين قرأتُ في هذا الجدار كتابًا هو أحبُّ إليّ من هِرَقْلة وما فيها قال له الرَّشِيد‏:‏ ما هو قال‏:‏ بسم اللهّ المَلِكَ الحقِّ المُبين‏.‏

ابن آدم غافِص الفُرْصة عند إسكانها وكِل الأمور إلى وَليِّها ولا تَحْمِل على قلبك هَمَّ يوم لم يأتِ بعدُ إِنْ يَكُن من أجَلِكَ يأْتِك الله بِرزْقك فيه ولا تَجعَلْ سَعْيَك في طلب المال أسوة بالمَغْرُورين فرُبَّ جامع لِبَعْل حَليلته واعلم أنّ تَقْتير المرء على نَفْسه هو تَوْفيرٌ منه على غيره فالسعيدُ من اتعظ بهذه الكلمات ولم يُضَيِّعها‏.‏

قال له الرَّشيد‏:‏ أَعِدْ عليَّ يابَسِيل فأعادَها عليه حتى حَفِظها‏.‏

وقال الحسن‏:‏ ابن آدم أنتَ أسيرٌ في الدنيا رَضيتَ من لذّتها بما يَنْقضي ومن نَعِيمها بما يَمْضي ومن مُلْكها بما يَنْفد فلا تَجمْع الأوزار لِنَفْسك ولأهلك الأمْوال فإذا مِتّ حملتَ الأوزار إلى قَبْرك وتركتَ أموالَك لأهلك‏.‏

أخذ أبو العتاهية هذا المعنى فقال‏:‏ أبْقَيْتَ مالَك مِيراثاً لوارِثه فليتَ شِعْرِيَ ما أبقى لك المالُ القومُ بَعدك في حالٍ تَسرُّهم فكيفَ بَعدهم دارت بك الحال مَلُّوا البُكاء فما يَبْكيك من أحد واستَحْكَم القِيلُ في الميراث والقَال وفي الحديث المرفوع‏:‏ أشدّ الناس حَسْرَةً يوم القيامة رجلٌ كَسب مالاً من غير حِلِّه فدخلَ به النارَ وورَّثه مَن عَمِل فيه بطاعة اللهّ فَدَخل به الجنة‏.‏

وقيل لعبد الله بن عُمر‏:‏ تُوُفي زَيدُ بن حارثة وترك مائة ألف قال‏:‏ لكنّها لا تتركه‏.‏

ودَخل الحسن على عبد الله بن الأهتم يَعوده في مَرضه فرآه يُصَعِّد بصرَه في صُندوق في بَيْته ويُصَوَبه ثم التفت إلى الحسن فقال‏:‏ أبا سَعيد ما تقول في مائة ألف في هذا الصُّندوق لم أؤَدً منها زكاة ولم أصِل بها رحماً فقال له‏:‏ ثَكِلَتْك أمك‏!‏ ولمن كنت تجمعها قال‏:‏ لِرَوْعة الزمان وجَفْوة السلطان ومُكاثرة العشيرة‏.‏

ثم مات فشَهِد الحسنُ جِنازَته فلما فرَغ من دَفنه ضرَب بيده القَبْر ثم قال‏:‏ انظرُوا إلى هذا أتاه شيطانُه فحَذّره رَوْعة زمانه وجفوة سُلطانه ومُكاثرة عشيرته عما استودعه اللّه واستعمره فيه انظُروا إليه يَخْرُج منها مَذْمُوماً مَدْحُوراً‏.‏

ثم قال‏:‏ أيها الوارث لا تُخْدَعَن كما خدِعَ صُوَيْحبك بالأمس أتاك هذا المالُ حَلالاً فلا يكونُ عليك وَبالا أتاك عَفْوًا صَفْوًا ممن كان له جَمُوعا مَنوعا من باطلٍ جَمَعه ومن حقٍّ مَنَعه قطع فيه لُجَج البِحار ومَفاوِز القِفار لم تَكْدَح فيه بَيمين ولم يَعْرِق لك فيه جَبِين إن يوم القيامة يومُ حَسْرَة وندامة وإن منِ أعظم الحَسَرَات غداً أن تَرى مالَك في ميزان غيرك فيالها حسرةً لا تُقال وتوبةَ لا تُنال‏.‏

لما حَضَرَتْ هِشامَ بن عبد الملك الوفاةُ نَظر إلى أهله يَبْكون عليه فقال‏:‏ جاد لكم هشام بالدًّنيا وجُدْتم له بالبُكاء وترك لكم ما جَمع وتركْتُمْ له ما عَمل ما أعظمَ مُنْقَلب هشام إن لم يَغْفر الله له‏!‏ نقصان الخير وزيادة الشر عاصم بن حُميد عن مُعاذ بن جَبَل قال‏:‏ إنكم لن تَرَوْا من الدنيا إلا بلاءً وفِتْنة ولا يزيد الأمر إلا شِدة ولا الأئِمّة إلا غِلَظا وما يأتيكم أمرٌ يَهُولًكم إلا حقّرَه ما بعده‏.‏

قال الشاعر‏:‏ الخَيرُ والشرُّ مُزْداد وُمنتقصٌ فالخير منتقص والشرُّ مُزدادُ وما أُسَائلُ عن قَوْم عرَفْتُهُمُ ذَوِي فَضَائلَ إلا قيل قد بادوا العزلة عن الناس قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ استأنسوا بالوُحدة عن جُلساء السَّوء‏.‏

وقال‏:‏ إنَّ الإسلام بدأ غريباً ولا تقوم الساعةُ حتى يعود غريباً كما بدأ‏.‏

وقال العتَّابي‏:‏ ما رأيتُ الراحةَ إلا مع الخَلْوَة ولا الأْنسَ إلا مع الوَحشة‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ خَيركم الأتْقياء الأصْفياء الذين إذا حضروا لم يُعْرَفوا وإذا غابُوا لم يُفْتقَدُوا‏.‏

وقال‏:‏ لا تَدَعوا حَظَّكم من العزلة فإنَّ العُزْلة لكم عبادة‏.‏

وقال لُقْمان لابنه‏:‏ استعذ باللّه من شِرار الناس وكُن من خِيَارهم على حذَر‏.‏

وقال إبراهيم بن أدْهم‏:‏ فِر من الناس فِرَارَك من الأسد‏.‏

وقيل لإبراهيم بن أدهم‏:‏ ِ لمَ تَجْتنب ارضَ بالله صاحبَا وَذَرِ الناس جانِبَا ‏"‏ قَلِّب الناسَ كيفا شِئت تَجدْهم عَقارِبا ‏"‏ وكان محمد بن عبد الملك الزيَّات يأنَسُ بأهل البَلادة ويسْتوْحش من أهل الذكاء فسُئِلِ عن ذلك فقال‏:‏ مَئونة التحفُّظ شديدة‏.‏

وقال ابن مُحَيْريز‏:‏ إن استطعتَ أن تعْرِف ولا تُعرَف وتَسأل ولا تُسأل وتمشي ولا يُمْشى إليك فافعل‏:‏ وقال أيوب السخْتياني‏:‏ ما أحب الله عبداً إلا أحب أن لا يُشْعَر به‏.‏

وقيل للعتَّابي‏:‏ من تُجالس اليوم قال‏:‏ من أبصُق في وجهه ولا يَغْضَب قيل له‏:‏ ومَن هو قال‏:‏ الحائط وقيل لِدِعْبل الشاعر‏:‏ ما الوَحْشة عندك قال‏:‏ النظر إلى الناسِ ثم أنشأ يقول‏:‏ ما أكثر الناسَ لا بَلْ ما أَقلَّهم الله يَعْلَم أني لم أقُلْ فنَدَا إنِّي لأفْتَحُ عَيْني حين أفتَحُها على كَثير ولكن لا أرَى أحِدا وقال ابن أبيَ حازم‏:‏ طِبْ عن الإمْرة نفساً وارْضَ بالوَحْشَة أنساً ما عليها أَحدٌ يَسْ وى على الخِبْرة فَلْسَا وقال آخر‏:‏ صار َأَحلى الناس في الْع - ينْ إذا ما ذِيق مُرّا إعجاب الرجل بعلمه قال عمرُ بنُ الخطّاب‏:‏ ثلاثٌ مُهْلِكات‏:‏ شُحٌ مُطاع وهوًى مُتَّبع وإعجاب المَرْء بِنَفْسه‏.‏

وفي الحديث‏:‏ خيرٌ من العُجْب بالطاعة أن لا تأتي طاعةً‏.‏

وقالوا‏:‏ ضاحكٌ مُعْترف بذَنْبه خيرٌ من باكٍ مُدِلّ على ربه‏.‏

وقالوا‏:‏ سيّئة تُسيئك خيرٌ من حَسنة تُعْجِبك‏.‏

وقال الله تَبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ ألم تَرَ إلى الَذين يًزكَونَ أنْفُسَهم بَل الله يُزَكِّي مَنْ يشاء ‏"‏‏.‏

وقال الحسن‏:‏ ذمُ الرجل لنفسه في العَلاَنية مَدْحٌ لها في السريرة‏.‏

وقالوا‏:‏ مَن أظهر عَيْبَ نفسه فقد زَكاها‏.‏

وقيل‏:‏ أوحى اللهّ إلى عبده داود‏:‏ يا داود خالِقِ الناسَ بأخلاقهم واحتجزْ الإيمان بيني وبينك‏.‏

وقال ثابت البُنَانِيّ‏:‏ دخلتُ على داود فقال لي‏:‏ ما جاء بك قلت‏:‏ أزُورك قال‏:‏ ومَن أنا حتى تزُورَني أمن العُبّاد أنا لا والله أم من الزهاد لا واللّه‏.‏

ثم أقبل على نَفسه يُوبّخها فقال‏:‏ كنتُ في الشًبيبة فاسقا ثم شِبْتُ فَصِرْتُ مرائياً واللّه إنّ المُرائي شرٌ من الفاسق‏.‏

لقى عابدٌ عابداً فقال أحدُهما لصاحبه‏:‏ والله إني أحبُّك في الله قال‏:‏ واللّه لو اطلعت على سَريرتي لأبْغَضْتَني في اللهّ‏.‏

وقال مُعاوية بنُ أبي سُفيان لرجل‏:‏ مَن سيِّد قومك قال‏:‏ أنا قال‏:‏ لو كنتَ كذلك لم تَقُله‏.‏

وقال محمود الوراق‏:‏ تَعْصى الإله وأنت تُظْهِر حُبَّه هذا مُحالٌ في القياس بَدِيعُ لو كنتَ تضمر حبه لأطعته إنّ المُحِبّ لمن أحَبَّ مُطِيع ‏"‏ في كل يوم يَبْتليك بِنِعْمةٍ منه وأنت لشكر ذاك مُضِيع ‏"‏ وقال أبو الأشَعث‏:‏ دَخلنا على ابن سِيرين فوجدناه يُصلي فظَن أنا أعجبنا بصلاته ‏"‏ فأراد أن يَضع نفسه عندنا ‏"‏ فلما انفَتل منها التفت إلينا وقال‏:‏ كانت عندنا امرأة تضع يدها على فرجها وتقول‏:‏ حاجتكم تحت يدي‏.‏

الرياء زيادٌ عن مالك قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إياكم والشِّرْكَ الأصغر قالوا‏:‏ وما الشِّرك الأصغر يا رسول اللّه قال‏:‏ الرِّياء‏.‏

وقال عبدُ الله ابن مسعود‏:‏ سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ لا رِياءَ ولا سمعة من سَمَع سَمَّع الله به‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أسرًّ آمرؤٌ سريرةً إلا ألْبسه الله رِداءها إن خيراً فخير وإن شرًّا فشر‏.‏

وقال لُقمان الحكيم لابنه‏:‏ احذَر واحدةً هي أهلٌ للحذر قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ إياك أن تُرِيَ الناسَ أنك تَخْشىَ اللهّ وقَلْبُكَ فاجر‏.‏

وفي الحديث‏:‏ من أصلح سريرَته أصلح الله علانِيَته‏.‏

وقال الشاعر‏:‏ وإذا أظْهرتَ شيئاً حسناً فَلْيَكُن أحسَنَ منه ما تُسِرّ فَمُسِر الخير مَوْسومٌ به ومُسِرً الشرً مُوْسُوم بِشرّ صلّى أشعب فخفَّف الصلاة فقِيل له‏:‏ ما أخفَّ صلاتَك‏!‏ قال‏:‏ إنه لم يُخالِطْها رِياء‏.‏

وصلى رجلٌ من المُرائين فقيل له‏:‏ ما أحسنَ صلاَتك‏!‏ فقال‏:‏ ومع ذلك إني صائم‏.‏

وقال طاهرُ بنِ الحُسين لأبي عبد الله المَرْوزِيّ‏:‏ كم لك منذُ نزلتَ بالعِراق قال‏:‏ منذُ عشرين سنةَ وأنا أصوم الدهرَ منذ ثلاثين سنة‏.‏

قال‏:‏ أبا عبد الله سألتًك عن مسألة فأجبتني عن مسألتين‏.‏

الأصمعيُ قال‏:‏ أخبرني إبراهيمُ بن القَعقاع بن حَكيم قال‏:‏ أمر عمر بن الخطاب لرجلٍ بِكيس فقال الرجُل‏:‏ آخُذ الخَيْط قال عمر‏:‏ ضَع الكِيس‏.‏

قال رجل للحسن وكَتب عنده كِتاباً‏:‏ أتجعلني في حِل من تُراب حائِطك قال‏:‏ يا بن أخي وَرَعُك لا يُنْكر‏.‏

وقال محمود الوراق‏:‏ أظهرُوا للنَّاس دِيناً وعلى الدَينار دارُوا وله صامُوا وصلًّوا وله حَجوا وزَارُوا وقال مُساور الوَرَّاق‏:‏ شمر ثِيابَك واستعدَ لقائلٍ واحككْ جَبينَك للقَضاء بثُوم وعليك بالغَنَوِيّ فاجْلِسْ عنده حتى تُصِيب وَديعة لِيَتيمَ وإذا دَخَلْتَ على الرَّبيع مُسلِّماً فاخصُص سَيابةَ منك بالتَّسليم وقال‏:‏ تصوَّفَ كَيْ يُقال له أمين وما يَعْني التَّصوفَ والأمانَهْ ولم يُرِد الإله به ولكنْ أراد به الطريقَ إلى الخيانهْ وقال الغَزّال‏:‏ يقولُ لي القاضي مُعاذٌ مُشاوِراً ووَلّى آمرأً فيما يَرى من ذَوِي العَدْل قَعِيدَك ماذا تَحْسَب المرء فاعلاً فقلت وماذا يَفْعل الدَّبْر في النَّحْل يَدُقّ خَلاَياها ويَأْكُل شًهْدَها ويَترك للذِّبّان ما كان من فَضْل ‏"‏ وقال أبو عثمان المازنيّ لبعض من راءى فهتك الله عز وجل سِتره‏:‏ بَينا أنا في تَوْبتي مُستَعْبِرا قد شَبًهوني بأبي دُوَاد وقال ابن أبي العتاهية‏:‏ أرسلني أبي إلى صُوفيّ قد قَيّر إحدى عينيه أسأله عن المعنى في ذلك فقال‏:‏ النَّظرُ إلى الدنيا بكلتا عينيّ إسراف‏.‏

قال‏:‏ ثم بدا له في ذلك فاتصل الخبر بأبي فكتب إليه‏:‏ مُقَيرَ عينِه وَرَعَا أردتَ بذلك البِدَعا خَلَعْتَ وأخبثُ الثقلي ن صُوفي إذا خَلعا ‏"‏ يحيى بنُ عبد العزيز قال‏:‏ حدَّثني نُعيم عن إسماعيل رجل من ولد أبي بكر الصدِّيق عن وَهْب بن مُنَبِّه‏.‏

قال‏:‏ نَصب رجلٌ من بني إسرائيل فخًّا فجاءت عُصفورة فوقعت عليه فقالت‏:‏ مالي أَراك مُنْحنياً قال‏:‏ لكثرة صَلاتي انحنيتُ قالت‏:‏ فمالي أراك باديةً عِظامُك قال‏:‏ لكثرة صِيامي بَدَت عِظامي قالت‏:‏ فمالي أرى هذا الصوف عليك قال‏:‏ لِزَهادتي في الدُّنيا لَبِسْتُ الصُوف قالت‏:‏ فما هذه العصا عندك قال أتوكّا عليها وأقضي بها حوائجي قالت‏:‏ فما هذه الحبة في يَدِك قال‏:‏ قُرْبان إنْ مرّ بي مِسْكين ناولتُه إياه قالت‏:‏ فإني مِسْكينة قال‏:‏ فخُذيها‏.‏

فقَبَضت على الحبّة فإذا الفخ في عُنقها فجعلت تقول‏:‏ قَعِي قعِي‏.‏

قال الحسن‏:‏ تَفْسيره‏.‏

لا غَرني ناسكٌ مُراءٍ بعدك أبداً‏.‏